القسم الثاني . الفصل الخامس 2
لا تلجأ التجربة الجديدة عند أمين صالح وخلف أحمد خلف إلى الواقع مباشرة من أجل إعادة خلقه، وتركيب عالمه ورموزه في العمل القصصي ولكنها تلجأ إلى المنطق الداخلي الذي يدل عليه الواقع . ذلك المنطق الذي ينبني بحقيقة جوهرية تثير أسراراً وأبعاداً مترامية لهذه التجربة الجديدة، وهي أن الإنسان يعيش وسط تكوين اجتماعي خاطئ، وبين أنظمة وقوانين مضادة لأبسط رغائبه . ومتناقضة مع أكثر مظاهر وجوده حاجة للإشباع بالقيم والحقوق الإنسانية.
ومن أجل حقيقة كهذه يستعمل أمين صالح إمكانية ثقافية غزيرة، ويبعث كوامن حساسية فنية مرهفة لتعميق المعرفة بالخلل، والتناقض واللاإنسانية، ولتخليص النظر إلي الواقع من الانشغالات العرضية التي تعد نوعاً من الفتات اليومي المتبدد فوق السطح، فالكاتب لم يعد يشغله من الواقع سوى ظواهره الأساسية التي لا تفصح عنها التفاصيل الخارجية بل يتبطن بها الظرف التاريخي في حركة المجتمع . إذ أن هذه الأشياء الظاهرة، والعقل الواعي بوجودها تحتوي وهماً وخداعاً بتماسك المجتمع وانسجام الإنسان مع نظمه في حين أن المراد هنا هو ما لا يدل عليه الظاهر .
والتوجه إلى المنطق الداخلي أو الحقائق المتخفية يدل على ضخامة الصورة المتهرئة للقيم والقوانين التي تنمو بها سنوات هذه الفترة، حيث لم يعد المجال يسمح معها للانشغال أو الالتفات إلى الموضوعات اليسيرة الاتصال بذلك المنطق، أو التي تنتشر على هامش وجوده وتمثله . وليس هذا فحسب بل إن الواقع الظاهر أمام أعيننا لم يعد قادراً على استبطان حقائق بينة عن ديمومة التناقض والاستلاب لأنه راضخ لمشيئة القوانين وسلطة الأنظمة نفسها . ولكنها تلمسه في كوامن وعوالم أخرى، كالحلم
اليقظ أو اللاوعي، أو الخيال التركيبي لعلاقات غير مألوفة بين الإنسان والقوانين، أو بينه وبين الأشياء المحيطة -الطبيعة-، أو بينه وبين سائر الرموز التي تشف عن الباطن الداخلي للواقع . وكل هذه نواحي من شأنها أن تجرد الواقع وتبعد الكاتب عن مظاهره وتفاصيله، كما يعكسها الوعي بها . ويدل ذلك على أن هناك صلة وثيقة بين تجربة أمين صالح وخلف أحمد خلف وتجارب السرياليين، - فمما يوصف بالأثر الإبداعي أو الشعري عندهم ذلك الأثر الذي تخلص من تأثير ما يسمونه بالذات اليومية التي تعرفها، لأننا نشاهدها باستمرار، وهي تنفعل وتتنفس وتأكل --7- . فهم يقضون على هذه الذات في محاولة للوصول إلى الذات الحقيقية الأبعد والأكثر تخفياً .
ويعنينا مفهوم السرياليين في توجههم إلى الواقع من ناحية هامة، وهي تحليل مدى استجابة التجربة الجديدة في القصة القصيرة للنظريات الفنية المعاصرة، وكيفية استفادتها مما اصطنعته من وسائل سردية مبتكرة، من أجل مواصلة تشكيل الموقف الأيديولوجي السابق من التطورات الرأسمالية في الواقع . فإذا كان السرياليون قد اتجهوا إلى التخلص من الذات اليومية، فما ذلك إلا لأنهم يرون - أن العلاقات بين الصور التي تقدمها الحياة النفسية في الحالة الحرة تكشف لنا عن العلاقات الواقعية بين أشياء العالم المحسوس وظروفه --8-. ولذلك كانت الأحلام وانثيالات عالم اللاوعي، والفكر غير المنظم، والحركة اللامنطقية للأشياء هي وسيلتهم في استبصار الحقائق، لأنها تمنحهم حرية واسعة في تشكيل الإحساس، وتعميق المعرفة مجردين من ارتباطها بالواقع المحسوس .
وتتجه التجربة الجديدة في قصص أمين صالح وخلف أحمد خلف إلى معطيات هذا المفهوم من أجل مقاومة اللاعقلاني في النظم والقوانين، فتكتسب فضلاً عن دلالات رفضها وثورتها وعياً عميقاً بالتناقضات القائمة بين علاقات الواقع المحسوس . ذلك أن هذه التجربة جعلت من العلاقات غير المألوفة أو اللاعقلانية نسيجاً واحداً، أو وحدة جوهرية مشتركة بين الواقع الحقيقي والواقع في الفن، حتى لا يكون أمام القارئ مجالاً للإيهام بأن اللاإنسانية والعالم غير المنظم ضرب من التشويه لما هو حقيقي ومألوف بل إنهما يرتبطان بحقائق الواقع المادي مباشرة .
ولعل قصة - البحث عن .. في جنازة - -9- من القصص الأولى التي تجلى فيها اكتشاف أمين صالح لمصدر هام في تجربته الجديدة، وهو الحلم أو عالم اللاوعي بكوابيسه الغامضة وعلاقاته غير المنظمة، وحيث أنها تعد بداية تعرفه لما في هذا العالم من كثافة شعورية وغزارة ذهنية فإنه لم يتمكن فيها من تحقيق ملاءمة كافية بين نضج الموقف الأيديولوجي وإمكانيات الواقع الداخلي الجديد الذي يفتح مسامه من اللاوعي، فقبل أن ينشر هذه القصة كان موقف البطل في قصص - الحاجز - و - مهزلة تحت ستار ممزق - و - همسات الطيور المسافرة -.. واضح الامتداد مع مواقف القوى الاجتماعية من الاستغلال الاجتماعي والقهر السياسي، ولكنه في هذه القصة أصبح يحمل رواسب من أعماق داخلية ممزقة تذكرنا بقصصه المبكرة جداً . وما ذلك إلا أن الكاتب لم يستطع أن يوظف الواقع اللامحسوس في تشكيل موقف الإنسان من تجربة الاحتضار والموت في ذاته .. وفي وطنه .
فالبطل هنا يعيش كابوساً مترامياً . يتراءى له فيه أنه يبحث عن جنازة أبيه المتوفى . ولأن هذا البحث مجرد رؤيا نابعة من معاناته وتجربته، وليس من الواقع الحقيقي فإنه لا يستطيع أن يحدد موقع الجنازة وكيفية سيرها فوق الأكتاف، فتبدو عملية البحث المجردة رمزاً أو ذريعة للبحث عن هوية محددة يقف بها البطل في مواجهة الواقع المحتضر . وكأن في العثور على الأب -الميت الغائب -، وصولاً للانتماء الذي يخلص الشخصية من مكابدة البحث، ويتجاوز بها إلى حسم نظرتها إلى العالم . فالبطل طوال المواقف المجردة يكشف لنا عن أنه يعايش تناقضات هائلة واستلاباً فظيعاً . فالحبيبة تتركه وتذهب إلى الغرباء، ويعاني العطش والجوع والمحاصرة والجنون والموت، ولكنه لا يستطيع أمام ذلك سوى أن يقول : - أنا قلق .. أنا صرخت كما صرخ بطل حليم بركات : أنا رافض مرفوض - إنه يكتفي برفض العالم الذي عبر عنه برفض خروجه من بطن أمه عندما كان جنيناً : - في بطن أمي .. كنت ألعب ككل رضيع بريء وعندما أمرتني بالخروج لكي ألعب مع أطفال الجيران هززت رأسي - لا أريد. أحب اللعب وحدي -، ولعل هذا الرفض الفردي هو الذي يجعله في موقف عاجز عن التعبير.. عن الوصف.. عن المشاركة حين يرى الثوار من رجال - الجبل الأخضر - يقتربون من موكب الجنازة . ولذا فإن الرفض وعدم القبول للعالم، لا يدلاّنه على موكب الجنازة، ولا يحميانه من معاني الضياع والتفتت التي تحفر له قبراً يرتمي فيه عارياً منتظراً مصيره من الأنظمة التي يرفضها .
وتقف المشاهد التجريدية في القصة لتجسيم مشكلة ذلك الرفض الفردي الذي لم يستطع أن يكون مواجهة أو موقفاً ثورياً من الواقع، وأكثر ما يدل على ذلك هو مشهد اندماج بطل القصة في شخصية الشاعر - امرئ القيس - باعتباره هو الآخر صاحب موقف فردي في رفض عالمه الخاص، والبحث عن ثأر أبيه . غير أن الخاصية البعيدة التي يهبها الكاتب لشخصيته هو أنه لا يجسم تجربة بحثها بالانتهاء، والسقوط لأن هذه التجربة تستقر في داخله مع استمرار إرادة البحث، ولعل مما يشف عن استمرارية البحث هذه عدم قدرة البطل على مواصلة الاندماج والتماهي في شخصية - امرئ القيس - لأنه يقول بعد أن ارتدى قناع وجهه :
- شعرت بغثيان فتقيأت . فغر امرئ القيس فمه وبلع القيء - ..
ومن هنا كان المرور بامرئ القيس موقفاً عابراً ازدادت بعده أزمة البحث حضوراً في أعماقه، ولم تنته بنهاية القصة . وأزمة البحث هذه تكشف عن وعي الكاتب النقدي بشخصية امرئ القيس، كما أنها - بلا ريب - تختبر انسياق الكاتب مع العالم الداخلي، واستغراقه مع مشاهد اللاوعي التي تعمق الإحساس بالمكابدة والاحتضار، ولكن من غير أن تكشف العلاقة بين هذا الإحساس وبين لا عقلانية الأنظمة .
وبعد القصة السابقة يتجاوز أمين صالح البناء الهلامي للشخصية التي تعاني من تأزم - تجربة البحث - أكثر مما تعاني من - المواجهة -، كما يتخلص من أثر الأعماق الداخلية المنفصلة عن العلاقات الاجتماعية والسياسية، بحيث تصبح القصة خاضعة لكافة المؤثرات الفنية والاجتماعية والنفسية ولكثير من النظريات والآثار الجمالية، ليس في القصة فحسب بل في الشعر والسينما، والمسرح، والفن التشكيلي، والرقص . أصبحت - الثقافة الواسعة المعرفة - لها جاذبية خاصة في تشكيل التجربة القصصية لأنها تحيلها إلى أدوات ورموز تغني العالم القصصي، وتخلصه من - الذات اليومية - التي رفضتها التجارب السريالية في القصة الحديثة، ولا تنحرف التقنيات الفنية الجديدة ومركبات الثقافة وعناصرها المتعددة عن الواقع، كما لا تحرِّف الموقف الأيديولوجي للواقعية لأنها تتجه إلى إغناء هذا الموقف الواقعي، وإظهاره في صورة متناغمة مع الأنظمة اللاعقلانية في الواقع . ونعتقد أن ذلك ثمرة الوعي باستمرار الانحياز للخلق الفني، ولكيفية توظيف أسراره في تجسيد الظاهرة الجوهرية، وهو الوعي الذي دعا إليه نقاد الواقعية المعاصرة كأرنست فيشر الذي يقول : - لماذا لا يتعلم الكاتب الاشتراكي من هوميروس والإنجيل، ومن شكسبير، وسترندبرج، ومن ستاندال وبروست، ومن برخت وأوكيزي، ومن رامبو ويتيس ؟ ليست المسألة هنا مسألة تقليد أسلوب من الأساليب، وإنما هي مسألة اندماج مختلف عناصر الشكل والتعبير في كيان الفن، حتى يمكن أن يتلاءم مع الواقع الذي تتعدد جوانبه إلى غير نهاية-10- بل إن جورج لوكاتش الذي عرف بأيديولوجيته الصارمة يؤكد - إن التجريب في الأسلوب حتى مع أشد الكتاب المضادين للواقعية إبهاما، ليس تحريفاً متعمداً للواقع تبعاً لنزوة ذاتية، إنه نتيجة مترتبة على الظروف السائدة في العالم الحديث --11-.
إننا نسوق ذلك للتأكيد على أن الواقعية المعاصرة تقبل تحديات العصر ومغامراته، وتعترف بحق الفنان في مواكبة ما يطرأ على المجتمع من ظروف جديدة يتلاءم فيها بأدوات وتقنيات جديدة، وتجربة أمين صالح تستوعب مثل هذه القضية بصورة تميز موقفها الواقعي من الحقائق الجوهرية في المجتمع. فقصص مجموعة -هنا الوردة.. هنا نرقص..- التي نشرها بعد قصة - البحث عن .. في جنازة - تعبر - جميعها - رغم اختلاف تاريخ نشرها في الصحافة عن وحدة فنية مندمجة في الاعتقاد بأن تناقضات المجتمع المحلي تقوم على وحدة حقيقية، وهي أنه خاضع لأنظمة وقوانين لا عقلانية . وبهذا الاندماج تبدو المجموعة القصصية بمثابة عمل فني واحد مستقل بما يعبر عنه من مشاهد.. أو لوحات .. أو مقاطع منبثقة من أجواء المواجهة بين الإنسان واللاعقلانية في الواقع، ولعل مما يوحد أجواء المواجهة في هذه المجموعة هو أنها تشترك جميعاً في خلق اتحاد بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، عن طريق حرصها على تأكيد مظاهر تلك المواجهة بما فيها من تناقضات مدببة لا يقبلها العقل أو الموقف الواعي . وبما توظفه من وسائل تبني الواقع على نحو غير مألوف يثير أحاسيس عنيفة من جراء عدم قبول مظاهره العقلانية .
وربما لم يكن مصادفة أن يكون العمل القصصي الأول في هذه المجموعة - الزنزانة - معبراً عن إحاطة ساخرة لقوانين لا عقلانية يحاصر بها الإنسان ويطارد، ويضطهد، فالقصة تسجل المواجهة اليومية بين الإنسان -أي إنسان- وبين الشرطة وعالم السجن . وفي المقطع الثالث يصور الكاتب القوانين التي تحتكم إليها تلك المواجهة على هذا النحو :
- أ - في البدء خلقوا الجنود والشرطة والمباحث والزنازن والقيود .
ب - لتبرير وجودهم، خلقوا اللصوص والقتلة والعاهرات ومدمني الخمر والأفيون .
ج - صدرت الأوامر بمطاردة كل من :
- يقرأ كتاباً
- يخرج لسانه لشرطي
- لا ينزح سرواله بأمر مخبر - -12-
وبهذا الأسلوب النقدي الساخر تصم القصة أنظمة المجتمع بما يتناقض مع طبيعة قيامها بدور قيادته وسياسته . إذ أنها تفرض - الجهل - و - الصمت - و - العرى - على الإنسان لتخلق أمامه منطقاً لا يقوى على مواجهته بالثورة أو التمرد أو الرفض .
والدلالة الرابطة التي تعكسها العبارات السابقة هي الخاصية التي تعكسها قصة - الزنزانة - على القصص التالية في أنها وضعت منذ البداية ما سترتد إليه أو تحتكم به لا عقلانية الواقع من قوانين وأنظمة، بحيث ستكون الشخصيات والرموز القادمة في قصص المجموعة كلها نماذج للإنسان أو الموقف الإنساني أو المعاني الإنسانية المنتزعة لتعميق المعرفة بخطأ قوانين المجتمع وظلمها ولا إنسانيتها . كما اختزلت ذلك الفقرات الثلاث أ، ب، ج في قصة الزنزانة.
إن المظهر اللاعقلاني هو الذات الحقيقية البازغة في الحياة اليومية للإنسان، ومن هنا تنصب وسائل القصة القصيرة لتجلية هذا المظهر وتحديد أبعاده المأساوية، أما المظاهر والتفاصيل الخارجية فلا وظيفة لها إلا بقدر ما تساعد على تأطير واستجماع القوة والتأثير لذلك التحديد . ومن هنا لا تصور لنا التجربة الجديدة تفاصيل يومية رتيبة كما رأينا في القصة الواقعية النقدية، ولكنها تصور أبعاد استمرار المواجهة ودلالتها النضالية في المجتمع . وفي جميع قصص هذه التجربة سواء عند أمين صالح أو خلف أحمد خلف لا نواجه تحديداً مظهرياً للشخصية كإسباغ أسماء معينة أو أوصاف جسمانية أو سلوكية. بل إننا نواجه شخصيات يمكن أن نقول أنها ذات نمط كلي .. اطرادي .. كما أننا سنواجه أوصافاً غير مألوفة، كالطفل ذي اللحية البيضاء في قصة - الراية - والطفلة الوحشية في قصة - الضوء والزهرة والطفلة الوحشية - ونحو ذلك.
إن الشخصية المنظور إليها في التجربة الجديدة ليست فرداً معيناً، من الناس بل إنها نموذج إنساني شامل تنطبق عليه مواصفات الفرد في كل زمان ومكان لا يقرران للإنسان قوانين وأنظمة عقلانية، وهذا التحديد - الكلي - لا يبعد أجواء القصة عن طابعها المحلي لأنه مشتق من موقف اجتماعي مرتبط بظروف تاريخية لها خصوصيتها في تطور القوى الاجتماعية . والنظرة النقدية الفاحصة في مثل هذا التحديد أنه يكشف عن الجوانب اللاإنسانية في القوانين، والجوانب الإنسانية المضيئة في براءة النماذج الإنسانية المتهمة في وجودها ومثابرتها كما في قصة - مرثية لماسح الأحذية - وحلمها وتفكيرها كما في قصة - رصيف الأزهار والموت - .
ونعتقد أن إدارة الصراع بين - إنسان مّا - وبين - أنظمة لا عقلانية مّا -، هو مناط وحدة الأجواء الدرامية والمصائر المأساوية في قصص - هنا الوردة.. هنا نرقص - فالإنسان لا يخرج عن كونه رجلاً أو امرأة أو طفلاً أو طفلة. والأنظمة لا تخرج عن وجود - الشرطي - و - المخبر - و - المسجون -. وربما اعتبر هذان الطرفان تمثيلاً لوحدة متكررة أو غير متنوعة، وخاصة لمن ينظر إلى قصص أمين صالح منفردة بعضها عن البعض . أو منعزلة عن التجربة اليومية النازفة والمستمرة التي تؤثر في ذهن الكاتب وفي حساسيته -الشاعرة-، في حين أن مدخل النظر إلى العالم القصصي للتجربة الجديدة ينبغي ألا يغفل عن الذات الحقيقية المقيمة في الواقع اليومي، التي لا يمكن بعثرة التصور الفني لها في التجربة الأدبية . فالموقف الناهض الذي تدل عليه المواجهة بين الإنسان والأنظمة السياسية والاجتماعية يعبر عن تجربة منفردة تتجسد على نحو فني بمعايشة همومها اليومية المستمرة وبحضورها ونبضها، وهذه المعايشة من شأنها أن تستمد الخصوصية الدرامية في - استمرار اللاعقلانية - لأنها تمثل حقيقة باطنية غير مكشوفة . من هنا يأتي اطراد بعض الشخصيات العامة والدلالات والرموز تعبيراً عن استمرار الواقع اللاعقلاني، واستشفافاً لمعايشة أحداثه، والاندماج في ظرفه التاريخي الذي يكون بطبيعة الحال ظرفاً عاماً لنضال القوى الاجتماعية في سنوات هذه الفترة .
إن وحدة البعد الدرامي في قصص أمين صالح، وخاصة في مجموعته الأولى، ليست ذات بداية أو وسط أو نهاية لأن اللاعقلانية لم تنته بعد ؛ بل إن صفاتها لازمة مع لزوم قوانينها، كما أن الإنسان لم يفقد إمكانياته وقدراته في المواجهة والرفض والثورة . من أجل ذلك تعبر التجربة الجديدة بالواقع اللامحدود والعلاقات غير المألوفة، والرموز والأدوات المتنامية في تشكيل موضوعاتها عن الجانب الاستمراري في المواجهة، والتمثل المشرق للموقف من الواقع، ففي قصة - الزنزانة - كان الرجل والمرأة يمران بتحقيق يومي من المخبرين لينتهيا إلى حالة العرى في موضع على الساحل ينظران فيه إلى مجيء الشرطة إليهم، والعرى هنا رمز للاحتجاج وبراءة المواجهة ومشروعية البحث عما يقي الإنسان من البرد والخوف والزمن . وفي قصة - الضوء والزهرة والطفلة الوحشية - .. نجد نفس المطاردة بين الشرطي وبين الرجل والمرأة، ولكن تبدو المواجهة هنا شوقاً إلى التفتح والإشراق وعدم اليأس والحزن، فالمرأة تقدم للرجل زهرة وتطلب منه أن يستقبل الضوء، ولكنه لا يرد عليها فقد كان يائساً وحزيناً وحين ينتزعه الشرطي منها، وتختفي عنه، يغادره اليأس والحزن ويقول : - اختفت . أمسكت الضوء . أمسكت الزهرة . نهضت . كان الشرطي يرمقني وهو يأكل أسنانه ببطء --13-. فالمشهد هنا تقطير وتكثيف لأعماق داخلية ترنو إلى المستقبل بمقاومة اليأس والحزن . والشوق إلى طهر العالم واشراقه كما تعبر عنه الصورة الشعرية في عبارة .. - إمساك الضوء والزهرة -، ومثل هذا المشهد إنما يعبر عن الوعي الشعري المقترن باكتشاف الموقف الإنساني، وهو الذي تكتسبه التجربة الجديدة لا من أجل أن تتجه به إلى المثالية أو تنحصر به في الذات المجردة، بل لكي تبث به حياة وثراء في الرموز والعلاقات والشخصيات، وتملي على الكاتب قدرة على تنمية البعد الدرامي القائم في عالمه القصصي . فالشرطة والمخبرون تنمو بوجودهم دلالات الاستلاب بالتوحد عن طريق الوعي الشعري بالأشياء -الطبيعة-، ففي قصة - الذوبان حباً ودهشة - يبحث الرجل عن وردة، ولكن - كانت الجدران والأشجار والطريق عيوناً وأيادي، انتزعته من الأرض فجأة ووضعته في زنزانته --14-، فقد كانت تهمته أنه كان يبحث عن وردة. وفي السجن - أخذته الجدران والعيون مرة أخرى واستجوبته - . - - دائماً تحمل وردة . لماذا ؟ - اليوم وجدت موتاً .. - فالقوانين اللاعقلانية إكتسبت بذلك التوحد في الأشياء وببناء العلاقات غير المألوفة في الواقع دلالة شعرية جديدة، وهي إحاطتها ومحاصرتها للإنسان . أي أنها لم تثبت مع رمزها المباشر . كالشرطي أو المخبر مثلاً، بل جسدت به وعياً جديداً تتنوع أجواؤه وتزداد حضوراً وتأثيراً في ذهن المتلقي، فكما توحدت الأنظمة - بلا عقلانيتها - في الجدران والأشجار .. أصبحت في قصة - رصيف الأزهار والموت - تتوحد في أجواء ومصائر معتمة من الموت والظلام والدم والجثث . لتفصح عما يقترن بها من أخطاء فادحة ومهولة . فالإنسان يتهم بالتفكير .. والحلم .. فيحاصر بالمكان المظلم، يتمنى أن يرى فيه ضوءاً، ولكن تطارده سوائل لزجة تلتصق بقدميه العاريتين. فيتقدم خطوة ويرتفع السائل حتى يغمر نصفه السفلي، ويكتشف أنه يسير وسط المدينة، وأن السائل دماء غزيرة لجثث طافية تصطدم بجسده، وأن الأهالي ينتظرون المطر .. - فيأتي الموت راكضاً في الشوارع يدخل النوافذ يدوس على الزرع يخنق الزهرة -، إنه نظام المدينة الذي قتل امرأة حاولت الحفاظ على شرفها من غريب ورمت جثتها، وجاء التحذير : - يجب أن تظل الجثة ثلاثة أيام لتكون عبرة للآخرين -، ولكن - الإنسان - بطل القصة لا يفقد قدرة المواجهة لأنه يتسلل في الليل ويدفن الجثة فيتهم بذلك ويلقى به في السجن، وفي الزنزانة يقول - الآن في إمكاني أن أفكر دون أن أخشى شيئاً - . إن الكاتب هنا يبقي الشخصية على موقفها النضالي رغم الأجواء المعتمة، وهذه من أكثر الامشاج التي تربطه بالرؤية الواقعية، فالشخصية تقبض زمام موقفها من اللاعقلانية، وتتمكن من مواجهته بالتمرد على التحذير، ومواصلة التفكير .. واستمرار الحلم داخل السجن . وهذا ما يجعل من التجربة الجديدة أبعد ما تكون عن اليأس والعدمية التي وصمت بها بعض التجارب السريالية أو الطليعية في القصة العربية الحديثة، لأنها تبقي الموقف الواقعي النقدي وتفتح له مداخل جديدة بالخيال المركب الذي اعتمدت عليه القصة السابقة وغيرها . فجعل لحصار العنف والعتمة مصادر تبدو أنها نابعة من اللاوعي في حين أنها أقرب ما تكون إلى الوعي الشعري بعناصر الواقع . لقد اندفع هذا الوعي بالكيفية التجريببية الجديدة في التعامل مع الوسائل الفنية ورموز الواقع بحيث أصبح الكاتب قادراً على بناء موقف متجسد من خلال تركيب العلاقات غير المألوفة . وهو ما أكسب وحدة البعث الدرامي اشتقاقات عنيفة .. وأجواء متعددة متنامية وآفاقاً مفتوحة وغير متوقعة للقارئ . ويقابل الثراء الدرامي الذي استمده وجود الشرطي في قصص أمين صالح من الوعي الشعري والتركيب غير المنظم ثراءاً آخر في وجود الشخصية الإنسانية المستلبة، أو في وجود الطفل، أو عناصر الطبيعة، وذلك حتى يبدو العالم القصصي الجديد متنامياً في مجموعه، متصاعداً بأجوائه المتلاحمة من أجل بعث طاقات شعرية خلاقة للموقف من - اللاعقلاني - . ويعد ذلك وعياً حقيقياً بفلسفة التجربة السريالية في - إيقاظ الإنسان على رؤية جديدة للأشياء بعدم تنظيم الفكر، وتكون نتيجتها الأنعام على الحياة بمجموعها بموقف جديد --15- واهتمام التجربة الجديدة في القصة القصيرة بهذه الفلسفة إنما يدل على ارتباط بالظروف والأحداث المتمثلة في الواقع المحلي الذي عبرت عنه الواقعية السابقة، لأن الاستيقاظ على موقف جديد والدعوة لمعايشة المحنة التاريخية بهمومها الراهنة يعتبر أحد الإمدادات العميقة للروية الواقعية النقدية، حيث يكون النقد هنا مقترناً بفعل من الأفعال المنبثقة عنه .. كالحلم أو الاندماج في مواقف النضال والاحتجاج، أو البحث عن رموز مشرقة - الوردة، الضوء، القمر ونحوها - .. لتضيء الأعماق الداخلية التي تكابد شتى أنواع الاستلاب . ونلمح هنا جانباً هاماً في نمو الأجواء الدرامية، وتنوعها عن طريق الوعي الشعري والتركيب غير المنظم للواقع في دفع الشخصية وتحريضها على المقاومة بموقف جديد . فالشخصية في القصص الأولى من المجموعة وخاصة - الزنزانة - و - الضوء والزهرة والطفلة الوحشية - و - رصيف الأزهار والموت - كانت تعايش محنة المواجهة حقاً ولكنها كانت تعوِّل على الاندماج بأسلوب شعري في رموز مضيئة مضادة لآثار العنف والقمع واللاعقلانية . في حين يختلف الموقف في قصص - هنا الوردة .. هنا نرقص - و - الراية - و - لحظة التفرس يكون الاختباء - و - مرثية لماسح الأحذية - و - الرقص تحت أضواء الصمت - حيث تكون المواجهة منبثقة عن ممارسة صدامية للفعل الواعي أو اللاوعي -الحلم -.. ففي قصة - هنا الوردة .. هنا نرقص - نجد البطل متهماً في ميلاده وهويته الإنسانية . فالقوانين - اللاعقلانية - تنظر إليه إنساناً مزيف الهوية فيقف في مواجهتها ليجسد لحظات الميلاد بكل عنفوانها وحضورها، وليخرج لنا من رحم الأم إنساناً -تجري عليه أوصاف الكاتب أمين صالح نفسه- ولكن رغم التجسيد العنفواني للميلاد يظل مطارداً من الشرطي الذي يريد انتزاع هويته عن الوطن . فهو يتمثل الوطن في الحلم شجرة أو حبيبة تتشابك أصابعه مع أصابعها، بينما الشرطي يثير القتل من حولهما . ومن هنا يختار بطل القصة ميلاده الحقيقي في الاندماج مع مشهد من حركة مارس 1965، ومشهد من انتفاضة 1972؛ وبذا يكون متهماً بالإضراب وشتم الحكومة، وفي تعبير الكاتب عن التجسيد الأول والاندماج الثاني ثم في هتافه داخل الزنزانة وأمام الشرطي - حبيبتي الشجرة .. المرأة .. - ما يشير إلي أن البطل هنا يعايش مواجهة يومية للواقع المكبل بالقوانين اللاعقلانية تعكس من وجهة التصور التقدمي للكاتب مواقف نضالية مستمرة متواصلة مع الظروف التاريخية المتطورة داخل المجتمع . ولعلنا هنا نلاحظ التقاء أمين صالح مع محمد عبدالملك وعبدالله خليفة عند نقطة مشتركة في ذلك التصور وهو استلهام الأحداث الوطنية المتصلة بماضي حركة القوى الاجتماعية -مارس 1965 مثلاً- الأمر الذي يؤكد بأن حيِّز الذاكرة الإنسانية والثقافية لأبطال القصص في التجربة الجديدة يشكل منطقة تستثير جيلاً كاملاً من كتاب القصة القصيرة دون استثناء، وبصرف النظر عن الموقع أو الزاوية التي يتخذها كل كاتب في النظر إلى المجتمع والحياة السياسية . أما مواقف اللاوعي أو الحلم فإن الكاتب يوظفها في كثير من القصص لتجسيد استمرار المواجهة أيضاً . وكأنه يؤكد دوماً على أن مظاهر الاستلاب والعنف لا تستطيع أن تحدث انهياراً وخلخلة في الأعماق الداخلية للإنسان المطحون من اللاعقلانية . ففي قصة - مرثية لماسح الأحذية - تنتشر في أجواء القصة شظايا عديدة من الرمز والعلاقات غير المألوفة لتفصح عن أن الإنسان يواجه أحداثاً وقوانين مفتعلة، فماسح الأحذية متهم بالتعاضد مع رجل متهم في وجوده، تطارده الشرطة منذ ولادته، وعندما صرع اختفت جثته فووجه بهذا السؤال : - أين الجثة ؟ - ولم يكن يعرف عن الجثة شيئاً لأنه كان فاقد الوعي، ومع ذلك فقد وضع في السجن . وداخل الزنزانة كان يرى كوة بعيدة يحاول أن يصل إليها فيفشل في كل مرة، وحينئذ يجد في الحلم الاستمرار الحقيقي لموقفه : - في الحلم تسلق الجدار بسهولة ورشاقة .. احتضنته الشمس هناك .. داعبت شعره .. انسل من حضنها ثم جرى كحيوان بريء.. وعندما غاب الحلم صحا من نومه وقرر أن يعيد المحاولة مرة أخرى --16-. وتكثر مواقف اللاوعي وصوره الكثيفة في قصص الكاتب حتى فيما نشره مع مجموعته الثانية - الفراشات- . ولا يكتفي بها في تجسيد الاستمرار والمثابرة في الموقف بل إنه يجعلها مصدراً هاماً في إعادة خلق الواقع حسب ما يمليه عليه وعيه الباطن -الأحلام-، إيماناً بمنطلقات التجارب السريالية من أن هذا الوعي الباطن في حقيقته مظهر للواقع، وكشف عن صوره الدقيقة التي تجري فيها بسجيتها، ومن ثم كان الحلم في تجاربهم - ليس هرباً، ولا ملجأ لقد أعيد السحري إلى الواقعي، وما الحلم سوى مظهر للواقعي . وليس للشاعر أن يهرب في حلمه لينجو من الواقعي، ولا أن يخترع السحري لينقل القارئ إلى عالم جديد --17- . وهذه ناحية هامة يتمكن أمين صالح من الإمساك بها في تجربته الجديدة في القصة القصيرة، حيث لا تكون الأحلام ومشاعر العقل الباطن هروباً إلى عوالم الذات المنغلقة في أعماق الكاتب بل تكون مصدراً في إثراء التجربة بالأجواء الدرامية التي لا تنتظم علاقاتها في منطق محسوس، عاكسة بذلك مالا ينتظم من علاقات الواقع الحقيقي في منطق مقبول . ونعتقد أن جميع رموز الكاتب وشخصياته اللامحدودة قد أثرت كثيراً في إعادة تشكيل العالم القصصي بانتزاعها من الأحلام . وعالم الطفولة فقد أكسبته مادة شعرية خاصة عن طريق بناء مشاهد كابوسية، وعلاقات غير منطقية، لا يحتفظ لها الكاتب بمصدرها الحقيقي في لا وعيه، لأنه يصوغها على نحو قائم في الواقع، ويجعل منها نسيجاً في عالمه الفسيح الأرجاء الذي لا ينتهي بمشارف أو قيود محددة، ومن أجل ذلك تتعدد دلالات عالم الطفولة حيث يستعملها الكاتب ليبين على أي نحو يتجه فيه الواقع إلى التناقض، بين الضعف والاستلاب . وبين الطهر والبراءة، ويستعملها للدلالة على أن الإنسان متهم في إنسانيته منذ الولادة، كما يستعملها للكشف عن الجذور الإنسانية في موقف الشخصية من - اللاعقلانية - وللتعبير عن إمكانيات غير محدودة للمستقبل . وتنمو دلالة عالم الطفولة في قصص - هنا الوردة .. هنا نرقص - مع ما يفجره حولها من قيم شعرية ضافية يوظفها في دفع الواقع اللاعقلاني بالموقف الاجتماعي الناهض . وفي قصة - وكان الحلم بنفسجياً - يمكن القول أن الطفل الذي يحلق في الهواء يحمل في قلبه قمراً أخضر . ينثر البنفسج على الأبواب . وفي الطرقات والينابيع . هو رمز للحلم المشرق بالثورة والتغيير، لذا كان الشرطي يقلق الرجل، ولا يدعه يحلم بما يتضوع في أرجاء المدينة . فالطفل وما ينشره في هذه الأرجاء من بنفسج هو الدعوة إلي اكتشاف الموقف الداخلي المشرق أو الرغبة الكامنة من أجل التغيير لتكون نقيضاً ومواجهة لعنف الواقع وعتمته . وفي قصتي - الراية - و - لحظة التفرس يكون الاختباء - تزدهر الأجواء الدرامية المستنبطة من عالم الطفولة، وتزدهر ملامح إيقاظ الموقف النضالي من خلال الالتقاط الحر لتلقائية ذلك العالم وبراءته . فصورة الطفل في قصة - الراية - تجمع بين ما تحدثه القوانين من تشويه وامحال للحياة الإنسانية وبين ما يتمسك به الإنسان من دلالات الجوهر الإنساني، فيكون رمزاً للبراءة المضطهدة والمقاومة المرعبة . إن الطفل في هذه القصة ذو ملامح مشوهة من أثر الحدث الكبير الذي يتعرض له الإنسان من الأنظمة اللاعقلانية فهو ينطح الجدار، يغطي الدم عينيه ولحيته الطويلة البيضاء، ويجهش في البكاء، ويحاول الموت فلا يستطيع، ويحاول السفر فيمنعه الشرطي عند باب المطار، ويُرغم على اللعب مع الأطفال الآخرين فيرفض ويضربه الشرطي على أنفه، ويسيل منه الدم بغزارة، فيبحث عن عصا طويلة ويخلع قميصه الملوث بالدم ويربطه بطرف العصا، ويخرج حاملاً رايته مازجاً الجنون والموت في موقف احتجاج يذعر له الجميع، متقدماً نحو الرصاص الذي يمزق صدره، ويسقط من غير أن تسقط الراية . وينهي الكاتب موقفه بهذه الجملة : - وفي لحظة سقوطه تألم لأن اللعبة قد انتهت - . فنجد أنفسنا في حالة استيقاظ على ما يدل عليه الجوهر الإنساني الأول - الطفولة - من معاني المقاومة والاحتجاج . إذ أن اللعبة السابقة تستمد نقطة التقاء بعيدة بين ممارسة الطفولة، وممارسة الثورة، وهي الفطرة الإنسانية المدركة لصحة الحياة وبراءتها ومقاومتها للزيف والتشويه . وفي القصص التي نشرها أمين صالح بعد المجموعة الأولى تندمج دلالات عالم الطفولة فيما تتألف به المواقف الإنسانية إزاء الواقع اللاعقلاني، ولا تبدو عالماً مستقلاً بوعيه، بل منضوياً فيما تكتشفه الشخصية من مظاهر الزيف والتشويه التي تجرد الواقع بما تبحث عنه تلك الشخصية من نقاء وبراءة. ويمكن القول أن القصص الأخيرة لخلف أحمد خلف وهو الذي يساهم مع أمين صالح في خلق واقعية تجريبية جديدة للقصة القصيرة لا تختلف مصادرها ووسائلها كثيراً عن قصص أمين صالح، وقد كانت قصة - عودة الرؤيا - بدءاً حقيقياً للتجربة الحديثة في القصة القصيرة، وخاصة في نزعتها لخلق امتداد عميق للموقف النقدي من الواقع، فالقصة عبارة عن مجموعة مقاطع تجري بأسلوب تيار الوعي لبطل القصة ولحبيبته . يحاصر البطل بمطاردة السلطة السياسية وأنظمتها فينفى خارج البلاد وتودعه الحبيبة بيأس وانهيار لأنها تظل بعده وحيدة، قشة يجرفها التيار، تصفعها أقدام الزمن فتترك آثار مخالبها على الخدين، في حين أنه لم يكن قد انتهى . لقد كان يبحث وينقب عن بداية، ومن ثم نجده في زنزانة - حجرة عارية - يضطهد من أجل أن يفقد رؤياه . ولكنه يظل مقاوماً لحظات الانهيار والهزيمة عبر الحلم الذي يجسد منه عودة رؤياه للبريق في عيني حبيبته . وكأنَّ الكاتب يبقي صمود شخصيته عبر الاتصال الوجداني بالوطن الذي يرمز إليه بالحبيبة، فهو يسقط منتشياً بنور ضئيل في الزنزانة ومن نوافذ عالية يتمثل حلمه في الصورة التالية : - زارتني .. توسدت ذراعي الممدودة .. دفنت في شعرها وجهي بكيت الفراق، شكوت مرارة الحرمان وأني بدونها لا أعيش وإني لأول مرة أرتشف النور بشفتها .. تباركت الليلة هذه، فقد عادت الرؤيا - -18-. وكذلك كانت الحبيبة بعد أن كانت في وحدتها . تحترق الجدران وتضمه وتقول: - إنني أشعره هنا .. وهنا .. وهناك .. يملأ ذرات الهواء - فالحلم في كل ذلك ؛ ورغم ما فيه من مشاعر رومانسية يعيد الشخصية إلى حضورها وتماسكها ومقاومتها لليأس وقهر الأنظمة، ويوقظ في داخلها انتماءاً مستمراً للقضية أو الموقف، وهو ما لجأ إليه أمين صالح في قصة - مرثية لماسح الأحذية - التي نشرها بعد قصة خلف أحمد خلف السابقة، فقد جعل شخصيته تستعيد خروجها من الزنزانة في حلم مستمر لا يخفق فيه بمشاعر رومانسية بل يخفق برغبة داخلية في استمرار المواجهة . وفي كلا الحلمين يبدو لنا حرص الكاتبين على ضرورة إخراج الشخصية من عزلتها وعدم قصرها على أن تقف موقفاً نقدياً من الواقع، بل لابد من استشراف ما في أعماقها من طاقات تعزز موقف الاحتجاج وتقربه من آمال جديدة . والعالم القصصي عند خلف أحمد خلف يبدو أكثر تعتيماً وغموضاً رغم أن شخصياته لا تخرج عن كونها صياغة لمواقف تقدمية من الأنظمة الاجتماعية والسياسية، أي أن موقع غموضها الفني مستمد من التشكيل الفني أكثر مما هو مستمد من الموقف الاجتماعي للكاتب، ونعتقد أن أكثر ما يدعو إلى إعتام الخطوط الداخلية في أجواء القصة عند خلف أحمد خلف هو أنها تجمع العناصر المركبة، ذات البناء غير المألوف في أسلوب تيار الوعي، كما نلمس ذلك في قصص - عودة الرؤيا - و - الحلم وجوه أخرى - و - آه مرثية -. فالمقاطع المتلاحمة في - عودة الرؤيا - تخرج عن التحديد - المكاني - والتحديد الاجتماعي، وتجتمع المشاهد البعيدة والقريبة، الماضية والحاضرة في أسلوب منبثق من الوعي الداخلي يجري بتعبير مكثف شديد التركيز والتحديد في اختيار اللفظة حتى كأنه ينحو إلى خلق إيقاع داخلي في التئامها، ونفاذها إلى المعنى باقتضاب ودقة، وفي قصة - الحلم وجوه أخرى - يختلط مصدر تشكّل تيار الوعي مع تعدد الأصوات، وتكاتف الرموز ليصل بنا إلى موقف ممتلئ بدلالات الامتداد للتصور الواقعي . حيث تندفع الشخصية في حلمها - ببلاد لقمحها قلب رحيم - للعبور إلى الرصيف الآخر . فتكون في لحظة مقاومة - للأيدي الثقيلة - التي تمزقها . وفي لحظة استجلاء لحلم يعيد القمح للبلاد . إن كلاً من أمين صالح وخلف أحمد خلف يتفقان على خلق موقف إنساني جديد عن طريق الوعي الشعري بالحياة، ويجدان وسيلتهما إلى ذلك في اكتشاف أسرار جديدة للعالم القصصي تحقق استبصاراً عميقاً لما يجوس في الواقع من تناقضات جوهرية، ومن أجل ذلك استمدت التجربة الجديدة لدى الكاتبين كثيراً من الوسائل التي تساعد على تعميق الوعي الشعري، حتى لقد مزجت القصة القصيرة عند خلف أحمد خلف مثلاً بين أسلوب تيار الوعي، وتقنية بناء علاقات غير مألوفة، وتجريد المشاهد، وكل ذلك يعتبر من آثار التجارب السريالية والطليعية في الأدب الجديد، وهو استجابة موازية لكشوف العصر وتحديثاته، وعلامة على أن القصة القصيرة في الخليج العربي تربط تجاربها بالتجارب المتطورة في الآداب الأخرى، بل إننا نعتقد أن القصة الحديثة عند أمين صالح وخلف أحمد خلف ما هي إلا امتداد للقصة العربية الحديثة التي يمثلها جيل إبراهيم أصلان ومحمد خضير، وزكريا تامر، ومجيد طوبيا وغيرهم .. هذا الامتداد الذي يلقي ظلالاً من الالتحام الشديد في تأليف الموقف الأيديولوجي من العالم عن طريق الاندماج بالعناصر الحرة في الفن، ونستطيع مثلاً أن نلمس أثراً من رموز زكريا تامر في قصص أمين صالح التي ضمتها مجموعة - هنا الوردة .. هنا نرقص -، وخاصة في نسيج المواجهة المقيمة بين الشرطي أو - اللاعقلاني - والإنسان اللامحدد.. أو الإنسان المندمج في شخصيات تاريخية.. أو الأطفال. ومجموعة قصص - الرعد --19- لزكريا تامر تصوغ مواجهة من هذا القبيل، حيث تكون الشخصيات ملاحقة من قبل الشرطي بتهم لا عقلانية -لا يعتد بها في حساب المنطق -.. كالخروج من القبر في قصة - السجن - أو العبوس، وتقوس الظهر والتثاؤب في قصة - الصقر - كما نجد الأطفال في قصص تامر رموزاً مشرقة ولكنها مهانة ومشوهة كأطفال أمين صالح . ولا نرجع مثل هذه الملامح إلى التقليد أو النقل، بل إننا نرجعه إلى أن القصة الحديثة بدأت تستوعب من التجارب الأخرى من أجل أن تصقل نظرتها إلى الواقع المتغير، فالقصة عند أمين صالح لا تشعرنا بالرتابة والجمود لأن الرموز والشخصيات متنامية، متطورة نظراً لصدورها عن معايشة، ومكابدة يومية للواقع . فالأطفال تنمو عوالمهم وتكتنز أجواؤهم مع ما ينمو في حركة القوى الاجتماعية من ظروف وتطلعات جديدة . وتنمو طرق احتجاج الشخصيات وثورتها مع نمو وعي الكاتب بالعالم، وانفجار هواجسه بثقة بعيدة في الإنسان . إن هناك محركاً داخلياً في تجربة الكاتب يدفع إلى تطور حركة الرموز والشخصيات أو الأخذ بها واستلهامها، وربما كانت المعايشة للواقع بحساسية متوقدة ووعي شعري نافذ من أكثر ما يدل على أن كل ما يطرأ على تجربة الكاتب من تقنيات جديدة يخضع لعملية استيعاب شاملة تخرج منها المؤثرات الخارجية العديدة بقيم مختلفة . وتصور قصص - هنا الوردة .. - جانباً من المكابدة اليومية التي يمر بها الكاتب .. حيث جعلت - أمين صالح - في قلب مواقفها متهماً بهويته -20-. وجميع حدود التوقع والتفسير والقراءة مفتوحة لأن ينظر إلى الإنسان الذي يواجه لا عقلانية الواقع على أنه الكاتب نفسه . فهو محدد في العالم القصصي بنقاء موقفه الإنساني وشفافيته، ومع ذلك يكون مطارداً من الأنظمة والقوانين . |