القسم الثاني . الفصل الخامس 3
بعد مجموعة قصص - هنا الوردة .. هنا نرقص - التي نشرها أمين صالح في الفترة ما بين 1971 - 1973 نشر قصصاً أخرى ضم معظمها في مجموعته الثانية - الفراشات - . ولا تختلف هذه القصص عن التصور الواقعي السابق في الظهور أمام الأنظمة بمواقف الاحتجاج والثورة. ولكنها تكشف عن تطور ملحوظ في تشكيل تلك المواقف على نحو فني غير مستقر، يتجه إلى استقطاب قوة الموقف الإنساني وعنفوانه عن طريق الاندماج أو التوحد في رموز الثقافة، أو في شخصيات التاريخ، أو عن طريق الإيغال خلف الحركة الدرامية المكثفة بالوسائل والتقنيات السينمائية أو المسرحية . وقد ساهم كل ذلك فضلاً عما اكتسبه الموقف من قوة وعنفوان على اكتناز العالم القصصي بالأسرار، وامتلائه بالحيوية الدرامية . ثم اطراد نمو الوعي الشعري بالتناقضات والمفارقات المقيمة في الواقع، حيث تضافرت الرموز المنحدرة من الراسب الثقافي والحركة الدرامية مع بناء العلاقات غير المألوفة وتحطيم الأبعاد المنطقية بانتزاع مواقف من اللاوعي، ووضعها وجهاً لوجه أمام لا عقلانية الواقع الراهن .. يتضافر كل ذلك من أجل خلق تشكيل قصصي وحساسية سردية أكثر استبصاراً للموقف الاجتماعي والإنساني .
ولأن العالم القصصي يتجه إلى الامتلاء بالقيم والصور الفنية المجسمة لظروف الواقع فإنه من الطبيعي أن يتخلص شيئاً فشيئاً من الوجود المباشر لبعض الشخصيات والرموز كالشرطي، والرجل، والمرأة . إذ أصبح الوجود الفني لهذه التحديدات العامة مندمغاً بالوعي الشعري، وبالعناصر الفنية الموظفة في تحديد خصائص إنسانية مقترنة بالموقف الاجتماعي . وأكثر ما يتمثل ذلك في القصص التي تستمد تحديدها للموقف ونزعتها في التجسيد من توظيف بعض الشخصيات والرموز التي يستوعبها الكاتب من التاريخ أو من آثار الفن الحديث، حيث يقوم بتفجير موقف جديد لها عن طريق إطلاق إمكانياتها الإنسانية التي شهد بها التاريخ والإبداع .
في قصتي - ايزادورا دعوة للمشاركة - و - نجنسكي .. حنجرة الرعد - يريد الكاتب أن يضعنا أمام ثقة بعيدة في الإنسان المحاصر بالزيف والاستلاب، وأن يجعله قادراً على اكتشاف موضعه .. وفعله .. وإمكانياته المتخطية للقيم اللاعقلانية بالتغلغل في أبعد ما تدل عليه الطاقة الإنسانية من فطرة وتلقائية منبثقة من الجسد .. أو اللاشعور . فيلجأ إلى شخصيتين اشتهرتا في فن الرقص الحديث - الباليه - .. الأولى راقصة أميركية وهي - ايزادورا دانكان - والثانية - راقص روسي وهو - فازلاف نجنسكي - .
في القصة الأولى - ايزادورا .. دعوة للمشاركة - لا يتجاوز الكاتب عملية التقمص، أو التداخل والتوازي بين شخصية أساسية وبين ايزادورا . حيث يكون الوعي بموقف هذه الراقصة بمثابة انفجار في أعماق الشخصية التي يجسم الكاتب لها دوراً في علاج محنتها مع الواقع . فالقصة تبدأ بوجود امرأة مع رجل في مكان تشحب فيه السماء، وتغيب منها الشمس .. يصمتان فيه ثم يغادرانه .. وفي الطريق حيث رذاذ المطر، وأضواء المصابيح تتجرد من ملابسها وترقص، في حالة من الغضب والرفض والاندماج عبر أسلوب المناجاة الداخلية مع مشاعر ايزادورا التي كانت - كما هو معروف - تظهر الجسد عارياً مع الرقص . غير أن عملية التقمص والاندماج في هذه القصة لا تكشف لنا عن توحد حقيقي بين المرأة المتطلعة إلى الحرية والفرح بالاحتجاج وايزادورا المتطلعة إلى الحرية والخلاص بتحطيم القيود في الرقص، وتحويل لغة الجسد إلى إمكانيات غير محدودة، تخلص صاحبها من الاحتراق بمحنة نفيه وغربته، وذلك لأن الكاتب لا يبحث في شخصية ايزادورا بل يجعل منها موقفاً موازياً منبثقاً وامضاً بمعاناة الشخصية الأساسية في لحظات من الاستجلاء والتضور بما يعتمل في الواقع من نفي وفقدان للحرية . وقد ساعد الكاتب على ذلك ما اشتهرت به الراقصة الأميركية من قدرة عبقرية في الرقص ثارت بها على المفاهيم السائدة في هذا الفن، حيث أتاحت لجسدها الذي كانت تظهره عارياً أن يكون لغة غاضبة يرتوي من عناصر الطبيعة، ومن تجربة النفي والغربة التي تعرضت لها من المجتمع الأميركي، فهي باعتبار هذه التجربة وباعتبارها متمردة على القيود، متطلعة إلى العالم بحرية عن طريق جسدها .. تستحيل إلى مادة سهلة الإيحاء والانضواء في تشكيل موقف احتجاجي من الواقع تماماً كما وجدنا الكاتب في هذه القصة يسبغ على شخصيته إمكانيات أعمق في الاحتجاج والرفض عن طريق دخولها وتقمصها لموقف ايزادورا .. وذلك عندما أصبح رقص الجسد العاري قاسماً مشتركاً للاتحاد في الحلم بالحرية والعالم الجديد، والاحتراق بالنفي والمحاصرة :
- ايزادورا . معاً سوف نخلق أطفالاً اسطوريين ينتشرون في الأحياء يبشرون بإعادة هذا العالم .. ها .. ومعاً سوف نضحك من أعماقنا لأن الحكومات تتنافس في بناء مخافر جديدة للمحافظة على الأمن كما يقولون عادة، ايزادورا نذرت نفسك للحب والفرح فكان نفيك، وأنا رفعت قامتي احتجاجاً فكان نفيي .. ها أنا .. ها أنت .. صرنا حلماً ومنفى، فتعالي - - 21 - .
وهنا يتضح أن الكاتب لا يقوم بعملية اكتشاف لتخوم جديدة في شخصية ايزادورا، أو أن القصة لا تحدث تثويراً لإمكانياتها وأبعاد شخصيتها الفنية، كل ما يفعله الكاتب أنه يفتح لشخصيته الأساسية روافد تصلها بالتماهي في موقف الاحتجاج . وهذا ما أحدث نوعاً من الفصل بين الشخصيتين من شأنه أن يضعف تكثيف إحداهما في الأخرى، بل إن انبعاث ايزادورا في اللاوعي عبر المناجاة الداخلية يجعل لتشكيل الموقف حركة داخلية تحيل تجسيم موقف الاحتجاج من الممارسة أو الفعل إلى التمثل والاستلهام العرضي .
وفي قصة - نجنسكي .. حنجرة الرعد - يختلف الأمر كثيراً عن القصة السابقة، ويبدو أن الكاتب أدرك بحسه المتطور أنه لم يفعل شيئاً أمام عبقرية ايزادورا، لذا نجده هنا يلقي بكل ما لديه من إمكانيات إدراكه وثقافته ووعيه الشعري فينتهي أولاً إلى ضرورة أن يخلص هذه القصة من تقنية المزاوجة بين شخصيتين تكتشف إحداهما موقفاً في الأخرى كما رأينا في القصة السابقة، إنه يحاول مع شخصية - نجنسكي - أن يكتشف جانباً مبهماً .. غامضاً .. ربما لم يدرك فيها نظراً لما يحيط بهذه الشخصية من أسرار وأشواق غامضة . وقد اعتمد أمين صالح على بعض مقولات لنجنسكي، ربما كانت من - مذكرات فازلاف نجنسكي - قام بإدخالها في سرده القصصي لتكون محتوى للوعي الداخلي المتدفق في أعماق نجنسكي .
لقد نظر أمين صالح إلى هذا الراقص العظيم على أنه ذروة في الرقص والثورة على القيم اللاعقلانية - الحرب، الزيف، الشهوانية - معتمداً في ذلك على قوة خلاقة يجسمها في جسده الراقص الثائر على ما هو مألوف . وكأن الكاتب يحاول أن يقبض في هذه القصة على الجانب الفطري والجوهري الذي يمكن إدراكه في اقتران عبقرية الرقص وتلقائيتها مع تجربة الرفض لقيم الواقع التي قادته إلى الجنون في نهاية حياته . ومن أجل ذلك يستبعد الكاتب الجوانب العبثية أو العدمية التي تدخل في التكوين النفسي لنجنسكي - 22 - . فهو رغم ما حققه من شهرة ونجاح جعل النقاد يعتبرونه أعظم راقص باليه في العالم، ودعا لأن يلقب بإله الرقص غير أن المشاكل المرهفة التي واجهته طوال حياته انتهت به إلى العزلة والجنون .
إن الكاتب يستبصر في نجنسكي أنقى ما تصل إليه موهبته العظيمة من تعبير، وأكثر ما تجسده من غضب وعنف يواجه به القيم التي قضت على حياته . ويكتشف أبعاد الرفض والاحتجاج في هذه الشخصية من رقصتين تشكلان في الحقيقة بعداً احتجاجياً عنيفاً في جسد نجنسكي الراقص، وهما - أمسية الحيوان الخرافي - والرقصة الأخيرة في حياته التي سماها - رقصة الحرب - ... أما الجنون الذي انتهى إليه نجنسكي فقد استمد منه الكاتب حالة من حالات البحث عن خلاص للعالم بأسره، يجعلها خاتمة تستقر فيها رغبة داخلية في تغيير الواقع .
ولاكتشاف هذا البعد يلجأ الكاتب إلى توظيف أسلوب السيناريو أو التعبير السردي بوصف الحركة والتقاط الصور الداخلية لمضمون الرقصة، فيجسم لنا رقصة الحرب على هذا النحو :
- نجنسكي يركض وينزف ملحاً . الرعب في العيون الهاربة والصحراء غطاء للجثث، هذه يد مبتورة كانت تعمل، تتحسس، تداعب شعراً، الجثث تقوم وتقتل ثانية، يغادر نجنسكي خندقاً - قبراً - إلى خندق - قبر آخر - جندي يرتعش . ماذا تفعل هنا ؟ .. طابور طويل من الجنون، والقادة يخطبون بحماس : - إنه الوطن .. إنها الحرب - طابور طويل من القتلى، والقادة في الشقق الفخمة يعقدون صفقة الصلح وفك الحرب . ونجنسكي يسأل الجندي : لماذا ؟ فيجيب - إنه الوطن إنها الحرب - يصرخ نجنسكي، ويقفز إلى أعلى .. أعلى .. تخترقه رصاصة فيهبط .. يهبط .. الحركة بطيئة جداً . تنفقئ عيناه، تصطدم بالأرض تتدحرج وتسقط في الخندق، العين كرة أرضية تحترق - - 23 - .
وهذه الرقصة التي يرسمها الكاتب بصور تعبيرية مكثفة متلاحقة لاشك أنها تذكرنا بلوحة الفنان العالمي بيكاسو - جيرنيكا - التي صور فيها آثار الحرب الأهلية في قرية جرنيكا التي دمرتها الحرب في أسبانيا، وربما أدرك أمين صالح وجود علاقة معينة بين رقصة نجنسكي ولوحة بيكاسو دفعته إلى وصف تلك العيون المفقوءة، المتدحرجة التي ربما كانت أكثر ما يستلفت الانتباه لدى مشاهدة لوحة - جيرنيكا - . وهذا ما يدفع للاعتقاد أن هذه اللوحة تعتبر عاملاً ثقافياً مترسباً ومساعداً في تمكين الكاتب من خلق مظاهر حية لصورة الحرب في جسد نجنسكي .
أما الرقصة الثانية التي تعقب الأولى مباشرة في سياق القصة فالكاتب لم يعتمد فيها على تجسيم المضمون الحقيقي لأمسية - الحيوان الخرافي - - 24 - بل لقد جعلها بمثابة تداعيات مقترنة بالقوى الكامنة في جسد نجنسكي . وهي تبين لنا على أي نحو كان الإحساس الداخلي لجسد هذا الراقص العظيم يتناقض مع انهيار البراءة وأشكال الاستلاب في العالم الخارجي من حوله . - إن رؤى مفزعة تسكن جسدي، وهذا يعني أن العالم ليس طبيعياً .. وأظل أقاوم هذه الرؤى بالرقص حتى انهار وانزف - .
وفي هذه التداعيات الداخلية يتحول - دياكيليف - وهو رجل أعمال من متعهدي الحفلات كان يستغل جسد نجنسكي لإشباع رغباته الجنسية الشاذة . يتحول مع - أمسية الحيوان الخرافي - إلى رمز لحيوانية العالم وشهوانيته الزائفة التي تضطهد جسده وتعرضه للإذعان والمهانة . فيكون نجنسكي - كما يصوره الكاتب - ثائراً على شذوذية العالم المتمثلة في - دياكيليف - :
- ماذا يريد مني .. أن يلحس بلسانه أعضائي، ويمضغني كسحابة ميتة ؟ .. أيها الكلب تريد تقتلني لأني أرفض نزواتك وتطلعاتك .. الدنيئة .. لأنني ماء .. هل شممت رائحة الماء ؟ -
وحين يقف الكاتب خلف تجربة الجنون التي أحاقت بنجنسكي، يتمكن من خلق أجواء درامية عميقة في صراع جسد نجنسكي بالثورة على اللاعقلانية المتمثلة في أقنعة الزيف والحقد والنفاق التي أهدرت القيم الإنسانية النقية . فنجد هذا الراقص في أعمق المشاهد وأكثرها اقتراناً بالفطرة وقيم النقاء التي كان يبحث عنها . فيبدو أمام صيحات الاستنكار الذاهلة نازعاً ثيابه مندفعاً بجسده العاري - يرسم بجسده العرى النقي في مواجهة الصراعات والتناقضات - وتصرخ أعماقه الداخلية : - انزعوا أرديتكم أو أقنعتكم، كونوا حقيقيين، الحقيقة تكمن في العري كما يكمن الخلق في الجنون - .. وحين لا يستجيب له أحد حتى زوجته .. يحمل طفلته الصغيرة، ويقفز معها في الهواء ليجعل منها قوة أخرى، تتعاضد مع عريه في مواجهة التناقضات والقيم الملوثة.. - أفهمك يا طفلتي . أفهم جيداً ما تقولين : إن كل شيء ليس رعباً بل غبطة أتمنى أن يظل الأطفال أطفالاً حتى الممات، لأنه كلما كبر المرء يجد في جسده متسعاً للحقد والكذب والنفاق -.
وفي جميع هذه المشاهد تبدو مقدرة الكاتب على المواءمة في استجماع عناصر الاحتجاج من عري الجسد الذي عرف به نجنسكي في رقصه، ومن براءة الطفولة، حتى أنه ليستكمل الكلمات الأخيرة التي يرددها نجنسكي في مذاكراته عن طفلته : - إن كل شيء ليس رعباً بل غبطة - بأمنية نقية : - في أن يظل الأطفال أطفالاً حتى الممات - . تبدو وكأنها انبثاق للمعنى الشعري في - غبطة كل شيء - وهذا يعني أن الكاتب يقوم في هذه القصة بالتغلغل في جوانب كثيرة تكمن خلف تجربة نجنسكي في مواجهة قبح الواقع . وقد بلغت هذه الجوانب أقصى ما تصل إليه من اكتشاف حين لم ينظر الكاتب إلى جنون نجنسكي على أنه نهاية ومصير مأساوي . بل جعله انفصالاً من لا عقلانية الواقع وزيفه واتصالاً بحكمة الذات المعذبة وعقلانية الجسد . فالعري الذي يراه جمهور الصالة جنوناً يتمثله نجنسكي شوقاً إلى الحقيقة وانتزاعاً للأقنعة المزيفة . والصرخة التي عبر فيها عن الاتحاد بالألوهية - أنا الله ... والله أنا .. - هو رمز للاتصال بالحكمة التي غابت عنه في مواجهة التناقضات، ومن ثم تمكنه حالة الجنون التي توحده بالحقيقة - العري - والحكمة - الله - من الاتحاد بالصوت الداخلي الغامض الذي ظل طوال القصة ينادي : - نجنسكي .. نجنسكي .. أين أنت ؟ - .
وقد جعل الكاتب من هذا الصوت الداخلي رمزاً للحقيقة القادمة من العالم الخارجي الذي لم يجد فيه نجنسكي سوى الاستلاب والرؤى المفزعة التي كانت تمزق عقله وجسده، فهو مع استبطان مظاهر الغضب في جسده الراقص وفي تجربته المأساوية بانهيار قيم السلام والحق، يجعلنا منذ بداية القصة على وعي بوجود حقيقة دامغة تبحث عن محتواها في إنسان يشبه نجنسكي، وفي ذلك يعبر عن ثقته البعيدة في مستقبل الإنسانية، حيث يجسم في العالم الخارجي حقيقة بازغة متمثلة في - الرعد - ، باعتباره من أكثر قوى الطبيعة إيحاء بالانفجار وميلاد الخصوبة للعالم، هذا الرعد يقول لنجنسكي في بداية القصة : - أنا الرعد، فقدت حنجرتي .. أناديك نجنسكي من يرقص في حفلة عرسي الأول - .. وحين يصل الكاتب بمصير نجنسكي إلى الجنون في نهاية القصة يدفعه إلى إدراك حقيقة هذا الصوت فيتوحد به في مشهد - الرعد يلتقي بحنجرته - وكأن الكاتب يريد أن يقول أن الحقيقة مهما اعتراها من زيف وقيم لا عقلانية، فإنها تفقد قواها الكامنة في بقاء الجوهر الإنساني بكل ما ينزع إليه من فطرة وبراءة ونقاء .. ومن هنا يكون نجنسكي - حنجرة - لهذه القيم في مواجهة اللاعقلانية . كما أنه يكون جسداً نابضاً باحتوائها وحضورها، لأنه يعود في ذلك المشهد الأخير ليرقص عارياً مرة أخرى .
إن المحتوى الذي تحولت إليه شخصية - نجنسكي - يرجع بلا ريب إلى الموقف التقدمي والحس التجريبي اللذين أعملهما الكاتب في اكتشاف أبعاد جديدة لتجربة ذات عناصر مأساوية، عرفت في حياة راقص الباليه - نجنسكي - ، والجانب المتميز الذي نشير إليه لا يقتصر على زاوية الموقف، ذلك أن القصة تقوم بإدماج تقنيات سردية وفنية متعددة من أجل الإيغال إلى أعماق جديدة في جسد نجنسكي، فهناك الأصوات الداخلية المتعددة كالصوت الخارجي الغامض، وصوت الوعي الداخلي، وهناك الصور الداخلية المتعددة كالتجسيد الصامت لحركة الرقص أو للمشهد - البانتوميم - كما رأينا في وصفه لرقصة الحرب. أو تجسيد الرؤى الداخلية بأسلوب المنولوج .. وكل هذه تقنيات تتناسل في الكشف والتصوير، وتساعد الكاتب على استبصار متماسك لنجنسكي .
وقد استمر أمين صالح في كثير من قصصه التجريبية الأخيرة كاتباً لا يرتضي الهزيمة والانهيار أمام لا عقلانية الواقع، لأنه يبحث في الواقع عن الجوهر لا عن فتات التجارب اليومية برتابتها وسكونيتها . ومن ثم لم تصل تجربة نجنسكي إلى نهايتها بل إنها فتحت آفاقاً جديدة . وقد نظر أمين صالح إلى شخصيات من التاريخ بذات الفلسفة، فقد وظفها بتقنياته الجديدة، وبحث بلا هوادة عن جوهرها الإنساني المتأصل ليكون شهادة تحرر ميلاد الإنسان أمام لا عقلانية الواقع الراهن. نجد ذلك مثلاً في قصتي - انفعالات طفل محاصر - و - ارتجافات عناقيد الماء في الهواء - ، حيث تبحث الأولى في شخصية أبي ذر الغفاري وتبحث الثانية في شخصية أسماء بنت أبي بكر، وربما لا تختلف قصة - انفعالات طفل محاصر - عن قصة - ازادورا .. دعوة للمشاركة - في تقنية البحث والاستكشاف إذ نجد فيها أبا ذر شخصية جانبية وموازية . تتجه انفعالات وتأملات الشخصية الرئيسية التي يتعدد ظهورها بين مقاطع القصة إلى الاندماج والتماهي في تلك الشخصية الموازية أو الجانبية . أو التشبع بحالتها وتجربتها في البحث عن عالم جديد للفقراء . وقد خلقت عملية الاتجاه أو الانفعال الصادرة من الشخصية الأساسية عالماً فسيحاً من التأمل والاستغراق مع صور الاستلاب وصور المجالدة . ممّا أحال بعض المقاطع إلى جمل شعرية مكتنزة الشعور والاحتراق بالواقع . ولكن مفرغة من الحيوية الدرامية التي يتوقع أن تقترن مع البعد الثوري في تجربة - أبي ذر - .
وقد نشر أمين صالح قصة - ارتجافات عناقيد الماء في الهواء - قبل القصة السابقة ومع ذلك فهي أقرب في استبصارها للموقف الثوري إلى قصة - نجنسكي حنجرة الرعد - ، ولعل ما نميزه في قصة - ارتجافات.. - . عن غيرها هو أن الكاتب يختزل زمن التاريخ فيما يجسد من لحظات راهنة متمثلة في الواقع . إنه لا يفصل بين الماضي، والحاضر .. بين أسماء بنت أبي بكر وعبدالله بن الزبير، وبين أسماء - أي أسماء - وعبدالله - أي عبدالله - .. لقد أصبحت أسماء هنا امرأة عادية تنشر الغسيل فوق سطح منزلها، وتغادره في الصباح لتشتري رغيفاً وفولاً، وترضع ابنها غبطة، ونكهة قمر في ليلة شتائية . وأصبح عبدالله عاملاً بأجر ضئيل يستاء مع غيره ممن يستاؤون من وضع العمل، فيعلن الإضراب معهم، ولكنه يتعرض للقمع الشديد فيكاد ينتهي بالخيبة لولا أنه يكتسب الوعي الجديد من أمه - أسماء - . وبين موقف أسماء ووعي ابنها عبدالله نلمح ما يتذبذب في هذه القصة من الأبعاد النضالية التي تشف بها التجربة التاريخية الماضية . ويمكن أن نقف مع إضاءة منها في هذا الحوار :
- - جننت يا عبدالله .
- أمي .. لا جدوى . أرهقتنا منحدرات الفضاء الملفوفة نتحلق ثم نسقط فما الفائدة ؟
- هل رأيت مرة عندليباً يشق بثغره تلاً من الغبار ؟ .. أنا رأيت، لقد كان على يقين من أن خلف التلة نبعاً يشع نقاوة وأنا رأيتك في صورة عندليب، فلماذا هشمت المرآة ؟
- عند كل التفاتة أبصر شخصاً يتدلى من أحشائه بفعل الرصاص . لقد أدركت بأننا نهب أنفسنا للموت بمجانية تامة .
- موتكم ابتداء . أجسادكم النازفة بارتخاء تصبح جسوراً تصل الانتهاء بالبدء، أما تعلمون .. أما تعلم ؟ - - 25 -
وهنا ندرك أن الكاتب لم يبحث في شخصية تاريخية .. أو حقبة تاريخية لتكون محتوى نقدياً للواقع، أو لكي يجعلها تتقاطع بتقنية الإسقاط على وقائع الحاضر، وتكون لبوساً لتناقضاته الجديدة .. إن الموقف السابق لا يرتكز على دلالة من هذا القبيل . وإلا كان الكاتب مطالباً بقدر معين من الحفاظ على الوقائع التاريخية، ولكنه في الحق يرتكز على عملية إيداع الجوهر الإنساني لثورة أسماء وابنها عبدالله في موقف القوى الاجتماعية الناهضة . بحيث تستقطب القصة الموقف الذي يبقى ويعزز الخصائص الإنسانية والنضالية، ويدعو في الوقت نفسه إلى الثقة والإيمان باستمرارها ومستقبلها . ولعل بإمكاننا أن ندرك جانباً هاماً من هذا الارتكاز حين نقارن بين العبارة المشهورة لأسماء بنت أبي بكر عندما رأت جثة ابنها عبدالله معلقة وهي : - أما آن لهذا الفارس أن يترجل - والعبارة التي تقولها أسماء في هذه القصة حين تقف قبالة جثة ابنها عبدالله وتقول - ارفع رأسك يا ولدي.. موتك ابتداء.. ها قد تعلمت.. - . إن المقارنة هنا تكشف عن العلاقة بين العبارتين . فكلتاهما تؤكدان جانب الإصرار والاستمرار في الموقف، وتفصحان عن عنصر التنبوء والاستشراف . وهذا هو منتهى الجوهر الإنساني المتأصل الذي يتجه الكاتب إلى إبقاء عناصره وشحنها بالثورة في صراع القوى الاجتماعية .
إن أمين صالح في قصصه الأخيرة لا يقف عند حد اكتشاف شخصياته لموقفها الاجتماعي والإنساني، بل إنه يجعلها متطلعة إلى المستقبل القادم . إنها تكابد بموقفها لا عقلانية الواقع، وتتجاوز بأشواقها إلى ما يعقب عناء المكابدة ومحنتها . وربما كان ذلك جانباً مما يربط تجربة الكاتب بالواقعية الاشتراكية التي تتطلع إلى المستقبل، كما يرى أرنست فيشر و - لا تكتفي بالنظر إلى ما يسبق لحظة محددة من لحظات التأريخ بل تمد بصرها أيضاً إلى ما سيعقبها - - 26 - . وقد كانت جميع رموز أمين صالح تستمد ظلالاً بهيجة نقية من إيمان الكاتب بالمستقبل، كما أن شخصياته التي تتبعناها مع ايزادورا، ونجنسكي، وأبي ذر، وأسماء بنت أبي بكر تتطلع بمواقفها النضالية إلى عالم جديد . وتضج أعماقها بأعنف الآمال والأشواق، التي تحرقها باستمرار اليقين والمواجهة . وهذا ما ينطبع أيضاً في شخصيات خلف أحمد خلف حيث تتطلع إلى المستقبل بالحلم الذي يجدد عزيمتها ويضيء ما يعتم به واقعها من لا عقلانية، بل إن بطل قصة - أحد وجوه الحلم - يردد : - من الحلم نخلق الغد الذي نريد - - 27 - وهذه عبارة نستطيع القول أنها تؤلف حيِّز القص بأكمله على نحو مباشر أو غير مباشر في قصص خلف أحمد خلف وأمين صالح .
لقد أصبحت التجربة الحديثة في القصة القصيرة تنظر إلى التجارب التأريخية الماضية لا باعتبارها وقائع تستعيد حضورها في العصر، بل باعتبارها أداة لاكتشاف الواقع المتغير ووسيلة للاتصال بالموقف الجديد . أي أن دلالة المادة التاريخية لا تأتي بالإسقاط والتلازم بين الماضي والحاضر كما رأينا في بعض نماذج من القصة الواقعية النقدية، وإنما تأتي علامة من علامات البحث عن الحقائق الجوهرية التي تهدف القصة الحديثة إلى صياغتها والتجريب على أرضيتها . ولهذا فإن المادة التاريخية مع المضمون الراهن يخضعان لإعادة خلق الواقع بصورة لا تنفصل فيها مادة التاريخ عن صراعات العصر . بحيث لا يكون الماضي محتوى للحاضر بل إن كل ما يشف أو يقترب من جوهر الأشياء وحقائقها يكون محتوى لإعادة الخلق، ويعتبر ذلك من أثر التجارب السريالية والطليعية التي تكتسبها القصة الحديثة في الخليج العربي، لا ينفرد بها أمين صالح وحده، وإن كان الاهتمام الفني الكبير الذي يقيمه لتوظيف ما يترسب في أعماقه من ثقافات وقراءات ومتابعات يومية تميز إنتاجه القصصي بخصائص تعبيرية جديدة في القصة العربية الحديثة، وليس في القصة القصيرة في الخليج العربي فحسب .
ونعتقد أن قصة - آه مرثية - لخلف أحمد خلف من الأمثلة التي تؤكد أن الخصائص الجديدة في توظيف رموز التاريخ لا تقتصر على ثقافة كاتب معين ووعيه ؛ بل إنها تنبعث من مؤشرات ظرف تاريخي يتجه إلى خلق تجربة جديدة في الحركة الأدبية، تتخذ لها وسائل ووجهات نظر جديدة في واقعها الاجتماعي والسياسي المتغير . فالنزعة التي تستبصر اكتشاف الموقف من واقع تتوحد فيه تجربة الماضي مع الحاضر لا يمكن إلا أن نعتبرها أكثر مظاهر التطلع والشوق إلى حقائق لا تستكن في واقعنا النفسي والاجتماعي القريب فحسب بل في وجداننا التاريخي البعيد .. حتى يكون لميلاد الموقف التقدمي الناهض جذوره النابضة المتحررة من أي شكل زائف .
لقد استحالت مأساة استشهاد الإمام الحسين بن علي في قصة - آه مرثية - إلى ميثولوجيا متدفقة في الوعي الداخلي لشخصية القصة . تجري في مساحاته نموذجاً للاستشهاد في العصر الحديث . ويسعى الكاتب هنا للوصول إلى صورة يتوحد أو يندمج فيها ذلك الاستشهاد الملحمي - إن صح التعبير - باستشهاد شخصية القصة بوسائل قمع السلطة السياسية . فيجمع لنا بأسلوب تيار الوعي صورة مزدوجة للاستشهاد، يعبر بالمنولوج الداخلي عن طقوس استشهاد الشخصية الراهنة بالرصاص : - وما عدت أحمل رأسي إلا وفيه ثقوب الرصاص وريش أجنحة متكسرة تعوم في دماء متخثرة .. - - 28 - ويعبر عن طقوس استشهاد الحسين بصوت خارجي ينقل لنا رثاءً وعزاءً جماعياً لمصرع الحسين . وقد جعل الكاتب كلا الصوتين بضمير المتكلم حتى يتجه بنا إلى الإحساس المباشر بأنهما يتشكلان من مصدر واحد، وتتوالى مشاهد المواجهة اليومية لشخصية القصة، حيث تمر باليأس ثم الأمل ثم تحول الاستشهاد إلى إيمان بالثورة .. وحينئذ يندغم الصوت الخارجي المتناغم مع مأساة استشهاد الحسين في المناجاة الداخلية للشخصية الأساسية أو الراهنة، لنكون أمام رغبة عنيفة تندفع بثبات وثقة للاندماج في تجربة المواجهة التي عاشها الإمام الحسين.
- دعني أهجس أنني أنت.. دعني لا أكون إلا أنت.. أنا أنت . أنت .. أنت .. - .
لقد جعلنا الكاتب رغم تباعد تجربتي الاستشهاد تحت سيطرة إحساس يتعاظم في داخلنا من أن الصوتين المزدوجين المنبثقين من الوعي الداخلي ما هما إلا صوت شخصية واحدة، يندرج الوعي في داخلها زمنياً ومضمونياً من طقوس المواجهة اليومية للاستلاب إلى معايشة طقوس الاستشهاد، حتى يكون هذا الصوت متقارباً في نهاية القصة من تقمص تجربة الاستشهاد التاريخية، ونعتقد أن الكاتب يوظف ويستبصر الراسب الثقافي الخاص به حقاً - طقوس العزاء - ، لكنه لم يتجاوز في استبصاره لشخصية الإمام الحسين ما وجدناه في قصتي أمين صالح - ايزادورا.. دعوة للمشاركة - و - انفعالات طفل محاصر - . حيث تكون تجربة الشخصية التاريخية المنظور إليها في القصة بمثابة وعي جانبي أو تصور موازٍ .. يصب في الوعي الكلي بالموقف الاجتماعي أو الإنساني الذي تتبناه الشخصية الأساسية ليكون أصلاً لوجود أو نبضاً لحياة في صيرورته واستمراره مع ظروف القوى الاجتماعية الراهنة . وهذه التقنية كما أوضحت أقل تمثلاً وانصهاراً بالرموز الثقافية المترسبة مما وجدناه في قصص .. نجنسكي.. وارتجافات عناقيد الماء في الهواء.*
وأيا ما كان الأمر فإن التجربة الجديدة في القصة القصيرة استطاعت أن تكتسب وعياً مغايراً بالتاريخ وسائر الرموز المنحدرة من رواسب الثقافة الفنية الواسعة، فقد جعلت من التجارب الماضية وسيلة للبحث عن الذات الحقيقية بين تراكمات الواقع وتناقضاته . ومجالاً لاكتشاف العنصر الجوهري في الإنسان وتفجيره، في هذا الظرف - اللاعقلاني - الحالك الذي تمر به القوى الاجتماعية .