يشعر الإنسان بالرعب عندما يعيش في عالم لا عقلاني، مضطرب، عنيف، لا يوفر الأمان. عندما يجد نفسه محاصراً داخل دائرة من التناحرات والصراعات بمختلف أشكالها، والتي هي من صنع الإنسان نفسه، أو وسط سلسلة من الكوارث والأوبئة والأمراض التي لا يستطيع أن يتنبأ بها، والتي تهاجمه بغتة دون أن يتوقعها ودون أن يتمكن من صدّها ومقاومتها.
الإنسان يشعر بأنه مهدّد باستمرار، إن لم يكن من محيطه ومجتمعه فمن ذاته التي لا تمتلك حصانة كافية، وقد تدفعها الضغوطات والكوابح إلى اليأس والشلل أو الجنون. وكإجراء دفاعي أخير يُظهر ردود فعل تدميرية ضد الآخرين وذاته معاً. هو يحس دائماً بالخوف والشك، يعاني من فقدان الأمان، ينظر إلى المستقبل كشيء أو كمفهوم مبهم وغائم لأنه لا يعرف ماذا سيحدث في اللحظة التالية. وتأتي الحروب والمجاعات والكوارث لتعزّز المخاوف الفردية والجماعية.
الخوف غريزة قوية وفعالة. إنه متأصل في الإنسان وتمتد جذوره إلى الطفولة حيث تُختبر، للمرة الأولى، مشاعر الإثم والارتياب عبر سلسلة لا تنتهي من المحرّمات والمحظورات والكوابح، وما يرافقها من تخويف وتهديد بالعقاب في أشكال مادية وميتافيزيقية تتّخذ من الخرافة مرجعاً.
من هنا تنشأ العلاقة – المتسمة بالحذر والرهبة والارتياب – بين الطفل وواقعه، خصوصاً في مظاهر الرعب الموجودة في محيطه أو تلك الموجودة خارج نطاق إدراكه كقوى خفية تراقبه وتتربّص به دون أن يراها، منتظرة الهجوم عليه ما إن يرتكب إثماً أو فعلاً غير مقبول.
لأن المخاوف بحاجة إلى متنفس ومنافذ كي يتمكن المرء من اختبارها ومواجهتها، أو تهدئتها أو قهرها، فإن الوسائط التي تلبي هذه الحاجة نجدها في الحكاية الخرافية والميثولوجيا والقصص المرعبة وأفلام الرعب.
إن ولع الطفل بالحكايات الخرافية نابع أساساً من توفيرها لهذه الحاجة، فهي في جوهرها حكايات مرعبة لكنها مموّهة من طريق الدعابة وأجواء المغامرات والتخيلات الطفولية والمغزى الأخلاقي، إذ نجد فيها كل مظاهر وعناصر الرعب: السحر، الأشباح، الغيلان، الوحوش، الإنمساخ والتحوّل، القوى الخارقة والخفية. حكايات ألف ليلة وليلة أيضاً حافلة بالرعب.
المجهول هو المصدر الأساسي للخوف. المجهول الكامن في المحيط، المتنكر في أكثر من هيئة، أو ذاك المتجذر في اللاوعي الجماعي من خلال القصص الدينية والأساطير والخرافة والفولكلور، أو المجهول الكامن في أعماق الذات متمثلاً في الطاقات اللاشعورية التي غذّتها شتى أشكال الكبت والكبح، والتي تنتظر الفرصة للانفجار والتعبير عن نفسها بأكثر الطرق عنفاً وتدميرية.
إن قصص وأفلام الرعب تستغل هذا الخوف من المجهول، وتظهره بأشكال مختلفة ومظاهر متعددة.
المسوخ والحيوانات المتوحشة والمجانين القتلة ومصاصو الدماء ومخلوقات الفضاء، وغير ذلك من الكائنات التي تقطن عوالم القصص والأفلام المرعبة، ما هي إلا انعكاسات لمخاوفنا وتناقضاتنا وصراعاتنا. المسخ، أو أي مخلوق آخر عدائي ومهدّد، قد يمثّل – عبر التحليل السيكولوجي – الطاقة الغريزية في اللاوعي، أو الذات الأخرى المقموعة من قبل أعراف المجتمع ومؤسساته، هذه الذات التي تحاول الانعتاق من أسر هذه الأعراف والقيم والتعاليم، وفي الوقت ذاته تسعى إلى تدميرها.
من جهة أخرى، يجسّد المسخ – أو غيره – ذلك الخوف غير المبرّر أو اللاعقلاني المتواري في الأعماق، والذي ينعكس في صورة غريبة، بشعة، وغير سويّة.
في أحد جوانبها، وكتأويل محتمل، يمكن النظر إلى أفلام الرعب كتمثيل طقسي للرغبات المكبوتة.
أفلام الرعب تماثل الكوابيس في أجوائها وصورها، لكنها تختلف في البناء الذي – في الفيلم – يتّبع نظاماً عقلانياً خاضعاً للتحكم والتنظيم والتنسيق. إننا نجد الخاصيات ذاتها (في الرعب السينمائي وفي الكابوس) حيث انعدام الحصانة، قابلية الوقوع في الشَرَك، الشعور بالفزع، العجز التام إزاء قوى غير مفهومة لكن عدوانية وباطشة.
سينما الرعب، بالأحرى، تجسّد الكوابيس الجماعية، وتعيد إلى الوعي ما كان مكبوحاً. إن أساس اهتمام وافتتان الجمهور بأفلام الرعب – كما يقول الناقد والباحث روبن وود – أنها تحقّق الرغبة الكابوسية في تحطيم المعايير التي تقمعنا.
الحالة السويّة (بمعنى الامتثال إلى المعايير الاجتماعية السائدة) تتمثّل في العائلة، المؤسسات الاجتماعية والدينية، النظام برموزه وأجهزته. هذه الجهات تتعرض دوماً للتهديد ومحاولات الانتهاك والاختراق من قِبل الآخر، غير السوي، الذي يتمثّل في كل ما هو فوضوي وعدواني وغير ممتثل، والذي يتجسّد في أشكال وهيئات مختلفة: كالمسوخ، مصاصي الدماء، الحيوانات والطيور والكائنات المائية، الممسوسين، المجانين.. الخ.
بالنتيجة، هناك دائماً ذلك الصراع بين السويّ والآخر، الخير والشر، النظام والفوضى، الطهارة والدنس، الاكتفاء والشبق، الوعي واللاوعي، الضوء والظلام، الحياة والموت.
الهجوم على الحالة السويّة، برموزها ومظاهرها ومعطياتها، تضفي على سينما الرعب خاصية تدميرية استثنائية، وبعداً ثورياً قلما نجده في أنواع أخرى من السينما. وعند إخضاع هذه الأفلام – كمادة وشخصيات وعلاقات – للتحليل النفسي، سنصادف ثيمات ذات دلالة سيكولوجية تتصل بالتابو الجنسي والديني.
إن سينما الرعب تخترق الحدود وتهدمها، تصل الواقع والخرافة، الحقيقة والوهم، الممكن والمستحيل، المرئي واللامرئي، الحياة والموت، الحاضر والتاريخ.. هنا لا تخوم ولا حواجز.
الافتتان والنفور معاً
يرتاد الجمهور أفلام الرعب من أجل اختبار مشاعر الخوف والصدمة. الأفلام، كما أشرنا، هي مثل الحكايات الخرافية، وسيلة تنفيس للخوف الكامن. من طريق المشاهدة أيضاً يحصل المتفرج على قدر كبير من الإثارة المتصلة باللذّة، والتي تشبه لذّة الطفل الذي تتجاذبه مشاعر الإثارة والرعب فيما يصغي بشغف إلى حكاية خرافية.
الملاحظ أن أفلام الرعب تنتعش وتزدهر، وتلقى رواجاً شعبياً، في الفترات العصيبة التي تختنق بالأزمات والمواجهات الحادة، وتكون الكوارث بمختلف أشكالها محتملة ووشيكة الحدوث. عندئذ يكون هناك إحساس عام بالشلل والعجز والقلق، ولا يجد الجمهور تعبيراً عن مخاوفهم وهواجسهم إلا في أفلام الرعب التي تعيد تمثيل الكابوس الحقيقي في حالات متخيلة.
إذا كان الجمهور يقبل على هذه الأفلام ويدعمها، فإن أغلب النقاد ينظرون إليها في استخفاف وازدراء وسخرية، أو يتجاهلونها ويرفضونها باعتبارها تافهة ومبتذلة ومقرفة. لقد جوبه فيلم مثل "طارد الأرواح الشريرة" بنقد عنيف، لكن الجمهور تهافت لمشاهدته وحقق إيرادات عالية. إن قلةً من النقاد تناولوا هذه السينما بالدراسة والتحليل من موقع الاحترام والتقدير، ووجدوا فيها مظاهر وعناصر وخاصيات جديرة بالتأمل، واكتشفوا صلات قوية بين الثيمات المطروحة في هذه الأفلام والقضايا المدروسة في علم النفس والاجتماع.
من بين الكم الهائل من أفلام الرعب التجارية، ذات الموضوعات المتكررة المضجرة، المصنوعة على عجل تلبية لمتطلبات سوق استهلاكية، والتي تفتقر إلى الأصالة والجدّة، ولا تحمل قيمة فنية أو فكرية، وسط كل هذا تبرز أفلام جادة تحمل دلالات ومعان سيكولوجية وفلسفية، قابلة للعديد من التأويلات الاجتماعية والسياسية.
أفلام مثل: سايكو (هتشكوك)، نفور (بولانسكي)، الشياطين (كلوزو)، الأبرياء (جاك كلايتون)، اللمعان (ستانلي كوبريك).. هي أفلام راقية، مصقولة فنياً، ذات رؤية خاصة وأسلوب مبتكر، تطرح موضوعات مركّبة تحتمل وجهات نظر متعددة ومتباينة. إنها غير موجهة لإخافة الجمهور أو إثارته لغايات مجرّدة، بل أنها تعالج قضايا مهمة ومقلقة بشأن الذات والآخر والمكبوت.
استجابة الجمهور لأفلام الرعب هي مزدوجة: إنه يشعر تجاهها بالرعب والافتتان في آن. الحس الأخلاقي والمعايير الاجتماعية تجعله يشعر بالفزع والنفور من بشاعة المسخ، مثلاً، وما يمارسه من شرور، في حين يتعاطف، بل ويتماهى، مع ذلك الجزء الكامن في الذات والذي ينظر إلى أفعال المسخ كانعكاس للرغبة الدفينة في تحطيم ما هو كابح وقمعي.
أذواق الجمهور تتغيّر مع تغيّر الزمن وتحوّل المجتمع. فما كان مثيراً ومرعباً في مرحلة معينة قد لا يعود كذلك في مرحلة تالية. ولأن السينما باستمرار تلبّي رغبة الجمهور وتراعي ذوقه ومتطلباته، فإنها تسعى دائماً إلى ابتكار ما هو جديد ومختلف وصادم.
في أفلام الرعب، التفسيرات لما هو خارق وعجائبي من الأحداث والكائنات تقدّم في حدود ضيقة لا تشبع الفضول بل تضاعف الغموض، وتخضع المادة لتأويلات متباينة. الأفراد يتوارون خلف الأقنعة، الأشياء لا تبدو على حقيقتها، المظاهر تبدو خادعة ومضللة.
تحت السطح الخارجي الهادئ ثمة مظهر آخر، سرّي وخفي ومهدّد. لا أحد قادر أن يتحكم في مصيره وفي ما يحدث.. لا الآخر العدواني ولا الضحايا. والجنس البشري يمضي بلا حوْل، وعلى نحو متعذر اجتنابه، صوب التشوّش والفوضى الشاملة.
بدايات الرعب
كانت السينما في مهدها حين عرض الأخوان لوميير، في العام 1896، صوراً متحركة لوصول القطار إلى المحطة. قيل أن المتفرجين الذين كانوا يشاهدون القطار على الشاشة وهو يتجه نحوهم مباشرة، صاحوا في ذعر معتقدين أن القطار سوف يصطدم بهم، حتى أن بعضهم هرب من الصالة، وأصيب عدد منهم بالإغماء.. كما تشير بعض المصادر.
من ردود الفعل هذه، أدرك السينمائيون مدى قوة الصورة وفعاليتها وتأثيرها، وقدرتها على إثارة الخوف والصدمة، يساعدها في ذلك الظلام المخيّم في الصالة والذي يساهم في تصعيد الخوف، إضافة إلى مخاطبة الصورة لمشاعر ولاوعي المتفرج على نحو مباشر وعميق. وقد حاول السينمائيون استغلال ذلك، إضافة إلى الإمكانيات الأخرى، في التلاعب بالجمهور الباحث عن الإثارة وذلك بتقديم أفلام تحتوي على حكايات مخيفة.
كان الرائد الفرنسي جورج ميليه (1861 – 1938)، مكتشف الحيل البصرية، أول من عرض أفلاماً ذات طابع غرائبي مروّع، وقدّم أفلاماً مستمدّة من قصص جول فيرن و ويلز التي تنتمي إلى الفنتازيا والخيال العلمي. لكن ميليه كان يسعى إلى إثارة جمهوره أكثر من تخويفه، وكان يستكشف العناصر الفنتازية أكثر من العناصر المرعبة.
توالت أفلام الرعب الأولى، مع ترحيب الجمهور بها، وكانت تستمد مادتها من مصادر أدبية مثل: فاوست، دكتور جيكل ومستر هايد، فرانكشتاين. هذه الروايات كانت تحوي كل العناصر التي وظفتها أفلام الرعب وكرّرتها في ما بعد، من حيث وجود موقع رهيب كالقصر المعزول، وأجواء مخيفة، وشخصية غير متوازنة تحمل الكثير من العنف والقسوة.
الحرب العالمية الأولى أحدثت صدمة عنيفة، وخلّفت وراءها دماراً هائلاً وعدداً لا يحصى من الضحايا. الرعب الذي سبّبته هذه الحرب كان أشدّ تأثيراً وأكثر نفاذاً من ذلك الذي صورته الأفلام في تلك الفترة. ولم يجد الرعب تعبيره الحقيقي سينمائياً إلا من خلال الاتجاه التعبيري الذي ظهر في ألمانيا بعد الحرب عبر أفلام تعد من كلاسيكيات السينما ومن روائع أفلام الرعب مثل: مقصورة الدكتور كاليجاري للمخرج روبرت فينه (1919) نوسفراتو للمخرج فريدريك مورنو (1922)، التي صورت الجحيم الخاص والرعب الداخلي ليس من خلال المظهر الجسماني بل عبر: تحريفات الموقع والمنظور، التلاعب بعلاقة الضوء والظل، استخدام الإضاءة الاصطناعية، التركيز على الأجواء الكابوسية.. وهي أفلام لم تنجح جماهيرياً لأنها عرضت الخوف واليأس معاً.
من الإيحاء إلى التصريح
أفلام الرعب الأمريكية في العشرينيات استفادت من الأسلوب التعبيري في الإضاءة والديكور لكن دون أن تتخلى عن التوجه التجاري. لذلك لم تحمل هذه الأعمال الصبغة الفلسفية والسيكولوجية، أو تحاول تطوير الإنجازات الفنية والجمالية التي توفرت في السينما التعبيرية، إنما راحت تقدّم الرعب في إطار ميلودرامي معتمدة على شخصيات غريبة أو مشوهة تسعى إلى الانتقام أو انتزاع الاعتراف بحقها في العيش بكرامة ضمن المجتمع السوي. مثل هذه الشخصيات كانت تمتلك خاصيات إنسانية تثير تعاطف الجمهور معها. ومن نماذج تلك المرحلة: أحدب نوتردام (1923) المسخ (1925) لندن بعد منتصف الليل (1927) شبح الأوبرا (1927).
في الثلاثينيات والأربعينيات كان مصدر الرعب أجنبياً في الغالب. كانت الأحداث تدور في مناطق بعيدة كوسط أوروبا (دراكيولا، فرانكشتاين) أو في جزر ومواقع مجهولة (جزيرة الأرواح الضالة، كينج كونج). الرعب كان دائماً يأتي من خارج أمريكا التي تتعرّض لهجمات الوحوش مادياً، جسمانياً، لكنها تظل غير ملوّثة معنوياً.
في الخمسينيات، مصدر الرعب كان الفضاء الخارجي أو الحشرات العملاقة. في الستينيات، مع فيلم هتشكوك Psycho صار مصدر الرعب داخلياً، وتحديداً، ضمن العائلة الأمريكية.
قديماً كانت أفلام الرعب تؤكد على الأجواء أكثر من منبّهات الصدمة. تعتمد على الإضاءة أكثر من المكياج، على المؤثرات الصوتية والموسيقى أكثر من التلاعبات البصرية. الظلام، الليل، القمر، الرياح التي تعوي، الأبواب ذات الصرير، الردهات والممرات المعتمة، الضحكات الشيطانية، الآخر الذي يشكّل تهديداً وخطورة بالغة، الضحية الغافلة الجاهلة بما يكمن تحت السطح الآمن والبريء ظاهرياً.. كل هذا كان من العناصر والمظاهر الأساسية في أفلام تلك المرحلة.
النهايات السعيدة كانت توكيداً على إمكانية استعادة الحالة السويّة رغم التهديدات الجادة والخطيرة، وكانت تعبيراً عن الرغبة في المحافظة على المبدأ الأخلاقي الأساسي: الخير ينتصر دائماً.
أفلام الرعب كانت تعتمد على الإيحاء أكثر من التصريح. عبر الإيحاء يمكن تحريك مخيلة المتفرج، أما التصريح فيعمل على تعطيل المخيلة التي لا حاجة إلى تحريكها طالما أن كل شيء معروض على نحو مباشر ومكشوف. ولا شك أن الإيحاء بالشر والرعب هو أشد تأثيراً وفعالية لأنه الأكثر إقلاقاً وإثارةً للتوتر.
منذ السبعينيات بدأت الأفلام تلجأ إلى التصريح، وإلى عرض كل شيء دونما تردد. الكاميرا لم تعد تحجم عن تصوير كل ما يهز ويصدم من مشاهد تحتوي على عنف بالغ ولقطات عري متداخلة أو مقحمة في الحدث لدوافع تجارية. تحقيق الصدمة صار الغاية الأساسية. العنف غالباً ما يكون مجانياً. ابتكار مشاهد قتل بمختلف الأدوات. النهايات لم تعد سعيدة والشر ينتصر في صراع غير متكافئ. المسوخ القتلة لم تعد تثير التعاطف فهي مجرد آلة قتل تقتنص الضحايا بعشوائية. وأغلب هذه الأفلام تهدف إلى انتزاع استجابة غريزية عند المتفرج عوضاً عن التأثير العاطفي أو الفكري. إنها تتلاعب بالمتفرج من طريق تهييجه وإثارته بالكليشيهات المعروفة دون إعطاء أهمية إلى المحتوى والمعنى والخاصية.
تقنياً، صار الاعتماد الأساسي على المؤثرات الخاصة – البصرية والصوتية – والمكياج من أجل إحداث أكبر قدر من التأثير في تصوير الرعب والعنف، وإقناع المشاهدين بواقعية المشهد.. وذلك على حساب القصة والشخصية والجو العام. من طريق المؤثرات والمكياج أصبحت مشاهد القتل أكثر إثارة للفزع والاشمئزاز حيث تُعرض بسادية مفرطة.
ثمة إفراط في استخدام حركة الكاميرا دون أن تكون لها وظيفة درامية. الكاميرا الذاتية المتحركة حول الشخص أو المقتربة من المنظور لا تقدم معلومة سردية جديدة أو تفيد في إحداث التطابق مع وجهة نظر المتفرج، وإذا كانت أحياناً تعبّر عن وجهة نظر الوحش أو القاتل اللامرئي، فإنها أحياناً لا ترتبط بشخصية معينة ضمن المشهد ولا تعبّر عن وجهة نظر ما. إنها استعراضية، تلفت الانتباه إلى نفسها فقط. إنها تتلاعب بإحساس المتفرج وتوقعاته حيث يُعتقد بأنها تمثل حضور قوة لا مرئية وخارقة تراقب الشخصية لغرض شيطاني. إن غاية حركة الكاميرا هنا هي دفع المتفرج نحو حالة من الالتباس. في السابق، كانت الكاميرا ترغم المتفرج على تبني أو تقاسم وجهة نظر الضحية حيث القاتل أو الوحش يكون مرئياً، أما منذ السبعينيات فقد أصبح المتفرج مشاركاً في وجهة نظر القاتل حيث الضحية تكون هي المرئية.
آليات الرعب
في دراسة نويل كارول عن سينما الرعب (مجلة Film Quarterly، ربيع 1981) يتطرق إلى البنى الأساسية التي ترتكز عليها أفلام الرعب ومن ضمنها حبكة الاكتشاف والتي تتألف من أربع حركات أساسية:
الأولى: حضور الوحش يتأسس بواسطة الهجوم الذي يشنّه على أحد الضحايا.
الثانية: يتم اكتشاف وجود الوحش من قِبل فرد أو مجموعة، لكن لسبب أو لآخر لا تعترف القوى المتنفّذة في المجتمع (السلطات المحلية، المحافظون، أجهزة الحكومة، الجيش، المؤسسات، العلماء، العائلة) بوجود مثل هذا المخلوق المتوحش ولا تدرك طبيعة التهديد، وهي تعتبر الادعاء بهذا الوجود من قبيل الوهم أو التخيّل أو الكذب.
الحركة الثالثة: المحاولات اليائسة والفاشلة التي يقوم بها المكتشفون أو العارفون لإقناع الجماعات الأخرى بوجود الخطر المهلك وحجمه. الوقت يضيع والوحش يزداد قوةً وبطشاً. في هذا الجزء تدور المناقشات حول الوحش ويجرى الكلام عن عدوانيته وقوته الخارقة وطبائعه البغيضة. هنا يُستعاض عن حضوره المادي بحضور اللغة التي تثير مخيلة المتفرج ورعبه. وكلما كان خفياً ولا مرئياً ازدادت فعاليته وأصبح أكثر إرعاباً.
أما الحركة الرابعة ففيها تتم المواجهة بين البشر والوحش، والتي تنتهي بانتصار الإنسان غالباً، وهزيمته أحياناً.
سينما الرعب مأهولة بالمسوخ والأشباح والشياطين والأموات الأحياء ومصاصي الدماء والمتحولين إلى ذئاب أو فهود والبيوت المسكونة ومخلوقات الفضاء الغازية وكائنات ما قبل التاريخ والمومياوات والحشرات والزواحف العملاقة والمضطربين عقلياً والعلماء المجانين والسحر الأسود.
في هذه الأفلام نرى الأشياء تتمرّد ضد الإنسان وتحاول تدميره (البيت، المصعد، السيارة..الخ). الطبيعة بأشيائها ومخلوقاتها تثور وتشن حرباً لا هوادة فيها ضد البشر. الحيوانات الأليفة لا تعود صديقة للإنسان بل تنقلب ضده وتتحوّل إلى كائنات فتاكة. المخلوقات الشمعية تبعث حيّة وتنشر الذعر. الدمى تتحرك بروح شيطانية وتقتل في خبث. النباتات تصير مفترسة. الأعضاء البشرية المبتورة (كاليد) تتحرّك من تلقاء ذاتها لتنتقم.
أفلام الرعب لا تتوقف عند حد معيّن، إنها تقتحم الواقع والخيال معاً لتستمد منهما المادة الأولية التي منها تشكّل حكاياتها المخيفة والصادمة.
الذات والآخر، السوي والشاذ
في يونيو 1816، كانت ماري شيلي في التاسعة عشرة من عمرها حين كتبت قصة قصيرة ابتكرت فيها شخصية العالِم فرانكشتاين الذي يقوم بمحاولة لخلق إنسان كامل واستثنائي تكتمل فيه صفات الجمال والقوة والنبل.
في معمله الغريب، وبأشلاء بشرية كان قد سرقها من المقابر، يجري تجربته الفاشلة والمروّعة، التي تنتج مسخاً مشوّهاً ومرعباً: بشرة شمعية، وجه شاحب، رأس كبير ذو حجم شاذ، عينان ناعستان، جسم ضخم وثقيل، مشية متردّدة وغير ثابتة.. إنه أشبه بجثة متحركة أو طفل وُلد مشوّهاً. وبسبب مظهره الشنيع يرفضه خالقه.
ماري شيلي حوّلت القصة بعد عامين إلى رواية طويلة في ثلاثة أجزاء، حقّقت نجاحاً كبيراً وأعيدت طباعتها مرات عديدة، كما تم إعدادها مسرحياً أكثر من مرّة. أما أول إعداد سينمائي للرواية ففي العام 1910.
البداية الحقيقية لسلسلة أفلام فرانكشتاين كان في العام 1931 من إخراج جيمس ويل. ظهر المخلوق هنا عملاقاً، خارق القوة، لكنه محدود الذكاء، ناقص الإدراك، لا يستطيع التمييز بين الطفلة والزهرة، والنار تربكه وتعميه. إنه متناقض الصفات: عاجز وقوي، ودود وعنيف، منفر وجذاب. اختلافه في المظهر والقدرة العقلية يحول دون تحقيق رغبته في الانتماء إلى البشر والاعتراف به. هذا الرفض وسوء الفهم يفضي به إلى التمرّد والكشف عن طاقة الغضب والتدمير التي يمارسها بطريقة طفولية. إنه ينقلب ضد خالقه، ويتحرّر من سلطته، منطلقاً عبر الأرياف حتى يلقى مصرعه في طاحونة تحترق.
الفيلم أظهر المخلوق في حالات عاطفية وإنسانية تثير تعاطف الجمهور معه، فهو يعاني ويتألم ويفتقد من يحبهم ويتوق إلى الارتباط بالبشر. حتى جرائمه تبدو غير مقصودة، وليست نابعة من شعور بالكراهية.
إنه يختلف كلياً عن خالقه فرانكشتاين الجامد الحس، المجرّد من العواطف الإنسانية. وبالرغم من أن هذا الخالق يستحق العقاب لانتهاكه الأخلاقيات واحتقاره للبشر وممارساته الوحشية وطموحه المدمّر، إلا أن مخلوقه البرئ يكون هو المستهدف للعقاب والتدمير.
في العام 1935 بعث المخلوق من جديد في فيلم "عروس فرانكشتاين" ثم في "إبن فرانكشتاين" (1939).. بعد ذلك توالت السلسلة عبر أفلام متشابهة ومتكرّرة، لا تخرج عن التركيبة الأصلية في الحبكة والبناء، ولا تختلف إلا في التفاصيل والحبكات الجانبية، فضلاً عن فشلها فنياً وتجارياً.
في أواخر الخمسينيات، عادت السينما البريطانية إلى النص الأصلي ومنه أعدّت فيلم "لعنة فرانكشتاين" (1957) الذي حقق نجاحاً تجارياً، ومهّد لسلسلة أخرى من الأفلام، وبمخلوقات مختلفة شكلاً، واستمرت حتى أوائل السبعينيات حيث لم يعد المسخ مخيفاً مقارنةً بالمخلوقات الجديدة التي ابتكرتها سينما الرعب. ولم يعد للمسخ حضور إلا في أفلام قليلة، متباعدة، تحمل طابعاً هزلياً أو رومانسياً.
الذي لا يموت
ظاهرة مصاصي الدماء لها جذور في الأساطير الشعبية والتاريخ، وقد تناولتها العديد من الروايات والقصائد والمسرحيات التي ظهرت في القرن الثامن عشر. كان الخوف من مصاصي الدماء شائعاً في العصور السابقة، ففي انجلترا كان ثمة اعتقاد بأن من ينتحر يتحول إلى مصاص دماء، لذا كانوا يغرزون وتداً في قلب المنتحر لضمان عدم انبعاثه، لكن هذه العادة تم منعها في العام 1823.
ظهر اسم دراكيولا لأول مرّة في رواية الكاتب الأيرلندي برام ستوكر، التي نشرت في لندن العام 1897. وتشير المصادر إلى أن ستوكر استمد الشخصية من قائد أرستقراطي يدعى فلاد حكم إحدى مقاطعات رومانيا في القرن الخامس عشر واشتهر بقسوته ووحشيته إزاء خصومه، حيث حارب الغزاة الأتراك واستخدم الخوازيق في تعذيب وقتل آلاف الأسرى. وتتعدّد الأساطير حول هذه الشخصية فيقال أن الأتراك قطعوا رأسه، وجثته دفنت قرب كنيسة، غير أن شائعات انتشرت عن خروجه من قبره واعتدائه على أهالي المنطقة بالاختطاف والقتل ومص الدماء.
دراكيولا كلمة ذات معان متعددة، فهي تعني التنين أو الشيطان أو ابن الشيطان. إنه الكائن الذي لا يموت، الذي عاش لقرون طويلة معتمداً على الدم البشري. إنه يخرج ليلاً من قبره، يتجول في الأنحاء، يختار ضحيته (غالباً من الإناث)، وبنظراته السحرية التي يصعب مقاومتها يغوي الضحية فتستسلم له في حالة شبيهة بالتنويم المغناطيسي، عندئذ يغرز أنيابه في عنقها ويمص دمها. هي تموت ثم تبعث لتكون تابعة له.. بالدم يحافظ على شبابه وقوته وهيمنته.
هو شخصية قوية جداً، سلطوية وعدوانية، تتسم بالدهاء والمكر والقدرة على التحول في هيئة حيوان (كالذئب) أو طائر (كالوطواط). لا يخرج إلا في الليل الدامس لذلك يلقب بأمير الظلام. لا ظل له، والمرآة لا تعكس صورته. خفيف الحركة، يظهر ويختفي فجأة. شهواني يعشق النساء، ومن أجل الإيقاع بالضحية فإنه يبدو بالغ اللطف والتهذيب، ويمارس إغواءه بأساليب لا تقاوم. هو لا يطالب أتباعه وعشيقاته إلا بالولاء والطاعة. إنه يمثّل قوة الشر المطلقة. أما نقاط ضعفه فتكمن في حساسيته من ضوء الشمس والصليب والثوم.
في التحليل السيكولوجي يمثّل دراكيولا الطاقة الجنسية المكبوتة التي يُنظر إليها كطاقة شاذة، منحرفة، مفرطة. كما يرتبط مص الدماء بالإغواء الجنسي. من جهة أخرى، يجسد الرغبة البشرية في عودة الأحباء الموتى من الأهل والأصدقاء.
دراكيولا أصبح أسطورة سينمائية منذ ظهوره على الشاشة في العام 1930، حيث توالت سلسلة لا نهائية من الأفلام التي تتناول هذه الشخصية أو غيرها من مصاصي الدماء. ولا يزال دراكيولا حتى يومنا يرتاد الشاشة في مظاهره وصوره المختلفة: المتعطش للدماء، الرومانسي، المعذّب، الشهواني، الملعون، الوحيد، الهزلي.. تنويعات لا حصر لها تحافظ على المقومات الجوهرية وعلى الكليشيهات الأساسية.
في خضم الكم الهائل من الأفلام التجارية التي تستغل جاذبية هذه الشخصية لتحقيق الرواج، أنتجت السينما العالمية بضعة أفلام تعد من كلاسيكيات السينما لما تحمله من قيمة فنية عالية، وما تطرحه من رؤية عميقة، مثل فيلم "نوسفراتو" (1922) للألماني مورنو، وفيلم "مصاص الدماء" (1932) للدنمركي كارل دراير. كذلك قدم الألماني هيرزوغ رائعته البصرية "نوسفراتو" في العام 1979.
الانشطار والتحول
الانشطار يعني تواجد شخصيتين أو أكثر داخل الكينونة الواحدة، وهي تمثّل الأوجه والمظاهر المختلفة من الذات. الشخصية تتعدّد، تصبح مزدوجة (شيزوفرينية):
وجه يمثّل الذات الظاهرة، العلنية، المعترف بها والمتوافقة ظاهرياً مع الأعراف والقيم الموجودة..
ووجه يمثّل الآخر أو البديل. وهو محجوب، مهمَل، مكبوح، لأنه لا ينسجم ولا يمتثل بل يدنّس وينتهك ويخرج على الأعراف والقوانين.
التآصل يعني تواجد شكلين مختلفين أو أكثر داخل المادة أو العنصر. أي أن الشكل يتعدّد ويتحوّل فيما يبقى الجوهر ثابتاً.. كما في تحوّل دراكيولا من شكل بشري إلى حيواني. إنه تحوّل إرادي، واع، ولا يستلزم صراعاً لعدم وجود التعارض والتنافر.
في حالة الانشطار هناك تعارض حاد وصراع ضار بين الداخل والخارج، بين البشري والحيواني. هذه التعارضات والصراعات تتصل بالهوية والبواعث الجنسية والعاطفة والنزعات العدوانية. وهي تتجسد على المستوى البصري في التحول الجسماني ضمن عملية خارقة، كما في حالة المستذئب (الرجل الذئب) أو د. جيكل ومستر هايد. الشخص هنا لا يتحول شكلياً أو جسمانياً فحسب بل في طبيعته أيضاً. إنه ينقلب إلى كائن آخر مناقض تماماً. التحوّل لا يكون إرادياً ولا يعيه الشخص، وربما لا يتذكر ما يفعله ويرتكبه في حالته الأخرى، لكن حين يدرك ذلك يبدأ في المعاناة ومقاومة مصيره. يحاول أن يقنع الآخرين بمحنته وأن ينقذ نفسه لكن دون جدوى، إذ يشعر بأن ثمة بواعث لا يستطيع التحكم فيها أو السيطرة عليها، تفضي به إلى التشوش والألم، لذا يستبدّ به الخوف من الجنون أو تدمير نفسه ومن يحب.
ثيمة التحول قدمها في إطار عصري الكاتب روبرت لويس ستيفنسون في روايته الشهيرة "د. جيكل ومستر هايد" المكتوبة في أواخر القرن التاسع عشر، معتمداً على الخيال العلمي والإثارة المرعبة. الرواية تمثّل المحاولة المبكرة لتحديد طبيعة الشيزوفرينيا، حيث تتعايش الحالة السويّة مع الحالة الشاذة في ذات واحدة. يمثّل هايد الجانب الشرير والحيواني من شخصية جيكل، وبينهما، أو بالأحرى بين المرء ورغباته اللاواعية، يبرز صراع رهيب من أجل السيطرة على الذات. وقد قُدّمت هذه الرواية في عدد كبير من الأفلام، ابتداءً من 1908.
السينما عالجت كذلك موضوع التحوّل في أشكال متعددة، كأن يتحوّل الإنسان إلى قرد أو فهد أو قط أو ذبابة أو أفعى، أو تتحوّل الشخصية ذاتياً سواء بالتقلّص أو بالتضخم.
الأساطير الشعبية، إضافة إلى حكايات ألف ليلة وليلة، حافلة بظاهرة الانمساخ أو تحوّل الإنسان إلى حيوان من جراء لعنة سحرية أو كعقاب إلهي.
الخوف من التحوّل مترسّب ومتجذّر في الاعتقاد الخرافي بإمكانية امتلاك الجسد من قِبل قوى أخرى، كذلك ينبع من فكرة وجود وحش كامن تحت السطح الهادئ والوديع للإنسان. ظاهرة كهذه لم تحدث واقعياً وتاريخياً إنما عولجت مراراً وبأشكال مختلفة في الحكايات الخرافية والروايات. وهي تمثّل، سيكولوجياً، تأصل الحاجة الحيوانية في الذات البشرية، وتحرّرها كغرائز منفلتة من أي ضابط أو رقيب لتمارس عنفها وفوضويتها.
ظاهرة المستذئب أو الرجل الذئب عالجها الكاتب جاي أندروز في روايته "مستذئب من باريس" العام 1932، والتي صارت مصدراً للعديد من الأفلام دون أن تلتزم بها، رغم أن السينما في بداياتها الصامتة شهدت حفنة من الأفلام التي تتناول عملية التحوّل إلى ذئب، كما في فيلم "المستذئبة" (1913) الذي ينتمي إلى نوع الويسترن، حيث تتحول فتاة من الهنود الحمر إلى ذئبة وتثأر لموت والدها، وأيضاً فيلم "كان في الأصل ذئباً" (1913). غير أن الانطلاقة الحقيقية لسلسلة أفلام هذا النوع بدأت بفيلم "مستذئب لندن" (1934).
في الأفلام التي تعالج أسطورة المستذئب نلاحظ أن أسباباً وتفسيرات متعددة ومتباينة تقدم بشأن عملية التحوّل من إنسان إلى ذئب، فكل فيلم تقريباً يقدم تفسيره الخاص للظاهرة، مما يعني عدم وجود اتفاق عام في ما يتصل بهذه المسألة. التحول يحدث بسبب لعنة امرأة غجرية (مستذئب لندن) أو بسبب الإشعاع الذرّي (المستذئب، 1956) أو نتيجة مصل يفضي إلى التحول (كنت مستذئباً مراهقاً، 1957) أو بسبب القسوة والإذلال والإهمال الذي يتعرّض له المرء، ونتيجة عزله لسنوات طويلة ومعاملته كحيوان، يبدأ في اكتساب خاصيات وصفات الحيوان المتوحش، وعندما يغتصب امرأة خرساء تنجب المستذئب (لعنة المستذئب، 1960) أو يكمن السبب في الطبيعة العدوانية والمتمردة للفرد، وفي كثير من الأفلام يتحول الشخص عندما يعضه مستذئب.
في كل الأحوال، نجد السمات والعناصر ذاتها: شخص برئ يصاب بالعدوى، وفي ليلة اكتمال القمر يشعر بتحوّل جسماني وبامتلاك قوة غريبة، وتستبد به رغبة لا يمكن السيطرة عليها في قتل من يصادفه، وغالباً ما يوجه عدوانيته نحو أقرب الناس إليه، ولا يمكن القضاء عليه إلا بالرصاصة الفضية.
بعد سلسلة طويلة من الأفلام التي تتناول شخصية المستذئب، فقدَ الجمهور اهتمامه نتيجة بلادة الحبكة وتكرارها من فيلم إلى آخر، وتشابه القصة إلى حد الإملال، وسهولة التنبؤ بالأحداث.. فقد كانت دوماً تمرّ عبر المراحل التالية: التحول، هجمات المستذئب، مطاردة الأهالي للمخلوق، القضاء عليه حيث يعود إلى طبيعته الأصلية لكن بعد أن يكون جثة هامدة.
هكذا خفت حضوره في الستينيات. وعندما تطورت تقنيات المؤثرات الخاصة وإمكانيات المكياج في الثمانينيات، عاد المستذئب في مظهر جديد أكثر جاذبية وإثارة. في السابق كان التحول إلى ذئب يتم عبر تقنيات متواضعة تبدو فقيرة ومضحكة مقارنةً مع أفلام الثمانينيات وما بعدها، حيث كانت الصور الساكنة تتراكب وتتداخل، ولم يكن التحول مقنعاً ومثيراً. أما في الأفلام اللاحقة، فإن عملية التحول صارت تصور على نحو مفصل ودقيق وبإتقان شديد. بالنتيجة شهدنا موجة أخرى من سلسلة أفلام المستذئب عبر تنويعات مختلفة، وكان من أهم أفلام هذا النوع وأكثرها جدّة فيلم "في صحبة الذئاب" (1984) حيث مخرجه نيل جوردان يمنح الحكاية الخرافية "الفتاة ذات القلنسوة الحمراء" (أو المعروفة لدينا بقصة ليلى والذئب) أبعاداً سيكولوجية، مقدماً الحكاية في مجاز سوريالي ليعبّر عن التحوّل من البلوغ إلى النضوج، من المراهقة إلى الأنوثة، من الجهل إلى المعرفة.
حضور المسوخ
ثيمة رجل العلم المجنون الذي يدفعه طموحه اللامحدود إلى محاولة تغيير القوانين الطبيعية بخلق كائن أكثر سمواً واكتمالاً لكنه لا ينتج غير مسخ أو وحش مدمّر يصعب ترويضه أو ضبطه والتحكم فيه.. هذه الثيمة كانت أثيرة في سينما الرعب منذ بداياتها وحتى فترة الستينيات، وتكرّرت بتنويعات مختلفة، متبعة في بنائها وحبكاتها وشخصياتها نمطاً صارماً يتخّذ من فيلم فرانكشتاين نموذجاً، باستثناء أعمال قليلة لا تلتزم بالنمط ولا تستعير الكليشيهات المألوفة.
في 1908 قدمت السينما فيلم "تجربة طبيب" عن طبيب يزرع غدّة قرد داخل رجل مريض مما يجعله يتصرف كالقرود. في فيلم "أرض الرعب" (1913) يجري عالِم تجاربه على ثلاثة أشخاص لكنهم يثورون ضده ويقتلونه حرقاً. في فيلم "جزيرة الدكتور مورو" (1932) يخلق العالِم مسوخاً تتمرد عليه.
رجل العلم لا يكتفي باختراع وحوش ومسوخ من البشر والحيوانات والحشرات، إنما يحاول أيضاً التحكم في عقل إنسان آخر وإخضاعه لإرادته. أحياناً يعرّض نفسه للتجربة (كما في فيلم "الذبابة") فيتحوّل من طريق الخطأ إلى ذبابة هائلة ومفترسة. ونجد نموذجاً آخر لرجل العلم المجنون في شخص د. جيكل الذي يفضي به عطشه إلى المعرفة وعبثه بالطبيعة البشرية إلى تدمير الآخرين ثم ذاته. وبسبب دوافعه الإجرامية يبتكر العالِم مصلاً يؤدي إلى تضخيم الكائنات، كالعناكب والنحل، ومحاولة تسليطها على خصومه غير أنها تهدّد بإفناء البشرية بأسرها.
الوحوش العملاقة، من حيوانات وحشرات، التي احتلت الشاشات في فترة الخمسينيات، مفترسة البشر ومخرّبة منشآت المدن، كانت نتاجاً مباشراً للتجارب الفيزيائية والكيميائية، وللتجارب الذريّة اللامسؤولة. إن قهر الطبيعة وتشويهها والعبث بها أدى إلى خروج كائنات عملاقة من مكامنها في الغابات وأعماق البحار والمناطق المجهولة لتغزو المدن وتدمر المباني والجسور، وتثير الفزع، محققةً انتقام الطبيعة.
هكذا شاهدنا الجراد العملاق في "بداية النهاية" (1957)، الزنبور الهائل في "الوحش من الجحيم الأخضر" (1958)، الإخطبوط العملاق في "جاء من أعماق البحر"، إضافة إلى النمل والسراطين والعقارب وحيوانات وطيور ما قبل التاريخ.. وكلها كائنات عدوانية ومفترسة.
أفلام متشابهة في الخط العام تفتقر إلى حس الابتكار والأصالة، تستخدم دمى بلاستيكية لحيوانات أو حشرات أو طيور تتحرك بتقنية متواضعة. وجميعها تقريباً ذات تركيبة معروفة وحبكة أساسية واحدة: حوادث غامضة، اكتشاف الخطر، محاولات يائسة لإقناع رموز السلطة، غزو المدينة، وفي النهاية يتم القضاء على المخلوق.
أفلام الخمسينيات كانت تعبّر عن الخوف المتعاظم آنذاك من الطاقة النووية والإشعاعات الذريّة. كان ثمة إحساس عام بنهاية العالم نظراً لسباق التسلح المجنون وامتلاك أسلحة الدمار الشامل.
في السبعينيات شاهدنا أفلاماً مثل: غزو العنكبوت العملاق (1972)، ليلة الأرانب العملاقة (1972)، إمبراطورية النمل (1977) والفك المفترس.. وأغلبها تتبع الصيغة أو التركيبة الأساسية القديمة.. الاختلاف فقط في الاستغلال المفرط للمؤثرات الخاصة، والتركيز على مشاهد العنف.
بين الإنساني والحيواني
لا توجد حدود بين العالم الإنساني والحيواني. إنهما متداخلان على نحو لا ينفصم، والتعايش بينهما ليس ودّياً وآمناً في كل الأحوال، بل ثمة إحساس مشترك، تعزّزه حوادث كثيرة، بأن كل طرف يشكّل تهديداً – ظاهراً أو كامناً – للآخر. لقد استطاع الإنسان أن يروّض الكثير من الحيوانات ويسكنها في بيته لتخدمه أو تسلّيه، أما الحيوانات المفترسة فقد اصطادها وحبسها في أقفاص ليعرضها في الحدائق الخاصة للفرجة. مع ذلك فثمة خوف دفين من الحيوان تمتد جذوره إلى الإنسان الأول. ويتزايد الخوف كلما واجه الإنسان نظرة الحيوان المتحدية، المتحفزّة والعدوانية، وكلما سمع أو قرأ عن اعتداءات الحيوانات على البشر.
السينما عبّرت عن هذا الخوف في أفلام لا تُحصى. الكلب الأليف، صديق الإنسان، يتحوّل فجأة إلى عدو خطر يفترس من يصادفه دون تمييز. في فيلم "القطيع" The Pack نرى مجموعة كبيرة من الكلاب الضالة المسعورة التي تثير الرعب في سكان جزيرة، حيث تهاجم المنازل والسيارات، الكبار والصغار، على نحو منظم وفي حالات غير متوقعة. الأمر نفسه يتكرر في فيلم "كلاب". وفي فيلم "يوم الحيوانات" تشترك الكلاب مع حيوانات أخرى متوحشة في الهجوم على المتنزهين. وفي فيلم "زولتان مصاص الدماء" فإن الكلب هنا حيوان غرائبي، مسكون بروح شيطانية. أما في فيلم "كوجو" فإن الكلب يهاجم كل من يقابله في ضراوة بالغة.
القطط من الحيوانات التي ترتبط في الذاكرة الشعبية بالسحر والأشباح وما هو خارق للطبيعة. إنها محاطة باللغز والغموض وتشكّل تهديداً. هذا المظهر معروض في أفلام رعب عديدة مثل: زحف القط، ظل القط، القط الأسود، عين القط. وفي فيلم "الرجل المتقلص" يبدو القط هائل الحجم قياساً إلى البطل المتقلص، وهو يطارد البطل بغية افتراسه.
الفئران كان لها نصيب في إرعاب المشاهدين في أفلام مثل: ويلارد (1971)، بن (1972).. كذلك الضفادع والأرانب والقرود والذئاب.
أما الزواحف والحشرات، بكل أنواعها، فقد اجتاحت الشاشات بأسرابها وأعدادها الكبيرة لتنهش اللحم البشري وتشيع الخراب في المناطق المغزوّة. العناكب السامة، أكثر الحشرات إرعاباً، كانت الأكثر حضوراً. كذلك النحل القاتل والعقارب والنمل والديدان والبق والذباب والجراد والصراصير. وبالنسبة للزواحف، فقد كانت الثعابين الأكثر خطورة وتهديداً.
الكائنات المائية، مخلوقات البحر، شكّلت بدورها تهديداً واسعاً. أسماك القرش والبيرانها والحيتان، كلها زرعت الرعب في قلوب الصيادين والسابحين ومرتادي الشواطئ.
الخطر يتجاوز الأرض ليأتي محلقاً في هيئة طيور تخلّت فجأة عن طبيعتها المسالمة، الوديعة، وانقلبت لسبب أو لآخر إلى كائنات متوحشة تهاجم البشر بشراسة غير مبرّرة. النموذج البارز والأقوى نجده في فيلم هتشكوك "الطيور" (1962) حيث تشن الطيور، من غربان ونوارس وأنواع أخرى، سلسلة من الهجمات الضارية ضد المقيمين في بلدة ساحلية من كبار وصغار دون مبرّر أو تفسير منطقي. إن براعة هتشكوك في عرض التهديد بشكل واقعي، والتوكيد على الإثارة والتشويق، ولجوئه إلى الإيحاء، قد ضاعف من تأثير الرعب والإحساس بالخطر الذي يمكن أن يحدث واقعياً. والفيلم مقلق وصادم بسبب نهايته التي تُظهر انتصار الطيور وخروج العائلة وسط نظرات ازدرائية وعدائية.
غزو الآخر
أفلام الرعب التي تحكي عن مخلوقات الفضاء الغازية للأرض، والتي تهدّد بإفناء البشرية أو استعبادها، هي انعكاس للمخاوف الكامنة داخل الكائن البشري من المجهول، من معرفته البسيطة والقاصرة، من إحساسه بالضآلة في هذا الكون الشاسع.
المخلوق الفضائي الغريب يمثّل الآخر، الأجنبي، الغريب، الخارجي، المنتهِك، الذي يسعى إلى تدمير الحضارة الإنسانية. إنه كائن متحوّل، خارق الذكاء، متفوق تكنولوجياً، لكن الإنسان – برغم المستويات الأقل من الإمكانيات والقدرات العقلية والتكنولوجية – قادر على مواجهته وقهره في أغلب الأحيان لأنه يمتلك شيئاً ثميناً يفتقر إليه المخلوق الفضائي: العاطفة.. إنها الخاصية التي يستثمرها صانعو الأفلام من أجل تغطية العجز والنقص والضآلة، ومن أجل تهدئة المخاوف.
في بداية السينما، كانت الأفلام التي تستمد مادتها من قصص الخيال العلمي، خصوصاً مؤلفات هـ. ج. ويلز، خالية تقريباً من عنصر الرعب، تتسم بالانبهار والفضول تجاه العالم الخارجي، وتتوق إلى اكتشاف العوالم المجهولة في الكون.. كما في أفلام الفرنسي جورج ميليه في بدايات السينما.
لكن لم يتم الكشف عن خوف الإنسان من الفضاء الخارجي، ومن إمكانية غزو كائناته للأرض، إلا في أكتوبر 1938 حين أرعب أورسون ويلز (وكان مغموراً آنذاك) سكان أمريكا بصوته المنطلق عبر الإذاعة معلناً أن الأرض قد تعرضت لغزو من سكان الكواكب الأخرى.. آنذاك خرجت الجموع إلى الشوارع مذعورة معتقدةً أن الغزو حقيقي، ولم تدرك أن أورسون ويلز كان يقدّم عملاً إذاعياً مأخوذاً عن رواية "حرب العوالم" للكاتب ويلز.
استعمار الروح والجسد
بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مرحلة الحرب الباردة في الخمسينيات بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، انتشرت موجة من أفلام الرعب الفضائي التي تعرض التهديد المحتمل وضرورة مواجهة الخطر القادم من العالم الآخر.
كانت هذه الموجة انعكاساً مباشراً للهواجس والمخاوف من التهديد الشيوعي والمؤامرة المتخيلة التي تبغي القضاء على الأمة وتحويلها إلى مستعمرة، حيث يجسّد سكان الفضاء الأشرار الخطر الشيوعي.. من هذه الأفلام: يا أهل المريخ أرحلوا عنا (1950)، الشيء (1951)، حرب العوالم (1953)، غزاة من المريخ (1953)، الوحش الآلي (1953)، الكتلة الجيلاتينية (1958).
كانت هذه الأفلام، وعشرات غيرها، تُظهر المخلوقات في صورة بشعة، منفرة، مؤذية. أحياناً يكون غزوها مباشراً وصريحاً، أحياناً يكون مموّهاً ومخادعاً، كأن ينتحل المخلوق، أو الشيء الفضائي، العقل والجسد البشري، حيث يتحوّل ويتناسخ في أشكال بشرية، بحيث لا يبدو مختلفاً في المظهر والسلوك، ويصعب تحديد الفوارق والتخوم بين البشر والغرباء.
في فيلم "غزو ناهشو الجسد" Invasion of the Body Snatchers (1956) لا ينشأ الرعب من كون الآخر مرئياً في صورة مختلفة، بل على العكس تماماً، الرعب ينشأ بسبب كونه لا مرئياً في حقيقته، ولتماثله الخارجي مع الإنسان وقابليته لمحاكاة الشكل الإنساني بدقة شديدة، لذلك يستحيل تحديد هوية البشري والغريب الذي جاء ليغزو الإقليم الإنساني ويدمّر حضارته، وليستعمر الجسد الإنساني تمهيداً لاستعمار العالم الأرضي. في الغالب لا تكون دوافع الغزو واضحة، ولا يحقق الغزاة سوى انتصارات محدودة ومؤقتة.
التركيبة الأساسية والمتكررة في قصص هذه الأفلام: حدوث ظواهر غريبة وحالات اختفاء أو قتل لبضعة أشخاص، اكتشاف السر، المناقشات الحامية بين العلماء الذين يحاولون دراسة الظاهرة والعساكر الذين يرون ضرورة مواجهة الخطر، وفي النهاية تحدث المواجهة المحتومة وينتصر البشر.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الأفلام لم تكن تعبّر جميعها عن البارانويا والهستيريا الجماعية إزاء التهديد الشيوعي، بل يمكن تأويل بعضها كتحذيرات موجهة ضد الامتثالية وفقدان الإرادة، حيث كانت تعكس القلق والتوجس إزاء الحملة المكارثية في الخمسينيات ضد اليساريين والمتعاطفين مع اليسار، وما فرضته هذه الحملة من إرهاب وإذلال.
أفلام الرعب الفضائي في الخمسينيات لم تكن في جوهرها إلا امتداداً لثيمة الوحش الأرضي الذي يهدد البشرية، حيث التطابق في أنماط الحبكة والبناء والشخصيات مع اختلافات شكلية تتعلق بهوية المخلوق ومظهره وطبيعته. وبخلاف أفلام الخيال العلمي، فقد كانت هذه الأفلام تفتقر إلى الخيال والتفكير المستقبلي.
قليلة هي الأفلام – في تلك الفترة – التي عرضت صورة مناقضة لما هو سائد، حيث يأتي الفضائي كزائر طيب ومسالم يدعو إلى السلام ويحذر من عواقب الحماقات التي يرتكبها البشر.. كما في فيلم "اليوم الذي ثبتت فيه الأرض" (1951).
لكن منذ الستينيات، ومع حدوث انفراج في العلاقات الدولية، تغيرت صورة المخلوق الفضائي البغيضة ولم يعد مهدداً. منذ السبعينيات وحتى الآن شاهدنا أفلاماً متفرقة عن هذه المخلوقات لكن في صورة مرعبة مرة أخرى، بعضها إعادة تصوير لأفلام قديمة بمؤثرات متطورة وميزانيات كبيرة، وأخرى ذات موضوعات مبتكرة.. وهي جميعها تهدف إلى إرعاب المشاهدين دون أن تحمل دلالات وغايات دافعة إلى التأمل.
الموتى الذين يعودون
الخوف الدائم من الموت وما بعد الموت قوي وفعال، وكان ملازماً للإنسان منذ بداية الخليقة. وقديماً كان هناك اعتقاد بفكرة عودة الأموات للانتقام من الأحياء بواسطة قوى خارقة للطبيعة تدخل أجساد الموتى فتحييها. ولقد استثمرت قصص وأفلام الرعب هذا الخوف في إنتاج عدد كبير من الأعمال التي تتناول ظاهرة الأموات الأحياء عبر أشكال مختلفة: المومياء (حارس القبور الفرعونية الذي ينتقم من أي منتهك ومدنّس)،مصاصو الدماء، الزومبي (الموتى الأحياء)، شعائر السحر الأسود.
مصاص الدماء غالباً ما ينتمي إلى الأرستقراطية، يمتلك جاذبية وقدرة فذّة على الإغواء، وهو يلجأ إلى الحيلة ويتصرف بدهاء في الإيقاع بضحيته. أما الزومبي فينتمي إلى طبقات مختلفة، مظهره منفر ومقزّز، حركاته آلية وبطيئة، يتصرف بحماقة وعلى نحو أخرق. إنه كائن متوحش، شره، يقتات من اللحم البشري.
أفلام مصاصي الدماء خلقت نجوماً لأن الشخصيات تتجسد عبر القدرات الأدائية، بينما أفلام الزومبي لا تعتمد على التمثيل بل على المكياج، إذ ليس مطلوباً من الشخصيات أن تعبّر عن حالات متعددة إنما تتحرك بصورة لا إرادية لتؤدي وظيفة واحدة: أن تفترس ضحاياها.
الزومبي في أفلام الرعب القديمة كانوا كائنات غير ضارة أو مؤذية، ولم يكن سلوكهم مرعباً. في فيلم "الزومبي الأبيض" (1932) كانوا يتجولون في الأنحاء بلا غاية، ويتم استخدامهم كأيدي عاملة رخيصة في أحد المعامل في هاييتي. فيلم "مشيت مع زومبي" (1942) يعرض طقوس السحر الأسود وتحويل البشر إلى مخلوقات مسلوبة الإرادة والعقل. في الفيلم الكوميدي "مطاردو الشبح" (1946) كان الزومبي مثار ضحك وسخرية.
تغيرت صورة الزومبي واتخذت مظهراً مرعباً للغاية، عندما قدّم جورج روميرو فيلمه "ليلة الأموات الأحياء" (1968) الذي صار من كلاسيكيات هذا النوع. أهمية الفيلم تكمن في أسلوبه القريب من الوثائقية، في جوّه الكابوسي ومضمونه الهجائي، في اختراقه للقواعد المعروفة في سينما الرعب حيث لا ينتصر الخير ولا يصل أبطاله إلى النهاية السعيدة. ويرجع روميرو سبب انبعاث الموتى إلى تسرّب الإشعاع الذرّي.
منذ هذا الفيلم صار الزومبي مرتبطاً بالكانيبالية (أكل لحوم البشر).. فالأموات يخرجون من قبورهم جائعين ليفترسوا الكائنات الحية، ولا يمكن إيقافهم إلا بتفجير أدمغتهم بالرصاص. وقد قدّم روميرو جزءاً ثانياً من الفيلم باسم "فجر الأموات" (1979) معللاً حدوث الظاهرة هذه المرّة بأنه لم يعد في الجحيم متسع لمزيد من البشر الخطاة.
في فيلم "كائنات خارقة" نشاهد انبعاث جثث جنود جنوبيين – من أيام الحرب الأهلية الأمريكية – للانتقام من قاتليهم. في فيلم "موت الليل" يعود الجندي من فيتنام ميتاً ليفترس من يصادفه. في فيلم "قوة الحياة" يعود رواد الفضاء بفتاة جميلة لكنها تحوّل الناس إلى زومبي بامتصاص قوة الحياة منهم. في "الشر مات" نرى أفراداً يلقون حتفهم بطرق بشعة لكنهم يعودون إلى الحياة.
الحضور الشيطاني
منذ أن تمرّد الشيطان على المشيئة الإلهية، وأعلن عصيانه، واتخذ من الإنسان هدفاً أساسياً يسعى إلى إفساده وتلويثه وتدميره روحياً، صار الشيطان مصدر الرعب الأعظم للإنسان، الذي يشعر بحضوره ماثلاً في كل لحظة وفي كل مكان، فهو الذي يجعله – حسب ادعاءاته - يرتكب الآثام ويتفوّه بما لا يليق ويزيّن له المعاصي. صار الذريعة التي يلجأ إليها الفرد كلما أخطأ أو أذنب محمّلاً إياه المسؤولية.
الحضور الشيطاني تجسد على الشاشة في بدايات السينما. فيلم "طالب من براغ" (1913) يحكي قصة طالب يحتل الشيطان صورته المنعكسة في المرآة وروحه أيضاً. هذه القصة قُدمت على الشاشة عدة مرات. كذلك أسطورة فاوست التي صُوّرت سينمائياً ثمان مرات في مرحلة السينما الصامتة، كان أشهرها فيلم الألماني مورنو في العام 1926، كما صُوّرت مرات عديدة منذ أن نطقت السينما. وفاوست، حسب الحكاية المرعبة التي ظهرت في القرن السادس عشر، هو المنجّم الذي باع روحه إلى الشيطان لقاء امتلاك قوى سحرية.
سينمائياً بدأ اهتمام الشيطان بالتحكم في العالم من خلال ولادة ابن له من أم بشرية، وذلك في فيلم رومان بولانسكي "طفل روزماري" (1968). الفيلم لم يلجأ إلى التصريح بالحضور الشيطاني أو إلى العنف، بل أن قوته تكمن في واقعيته وطبيعيته والطاقة الإيحائية حيث أننا لا نرى طفل الشيطان إنما نشعر بوجوده.
في العام 1972 قدّم وليام فريدكن "طارد الأرواح الشريرة" الذي لقي إقبالاً هائلاً، وكان بداية لموجة من أفلام الاستحواذ الشيطاني، حيث يسكن الشيطان جسد ضحيته ويجعلها تمارس أفعالاً شنيعة. كان فيلما مرعباً وعنيفاً وصادماً، يتلاعب بأكثر المخاوف بدائية عند الجمهور: الاعتقاد بهشاشة الهوية الذاتية، وإمكانية فقدانها بسهولة، والإحساس بوجود الشيطان أو القوى اللاعقلانية داخل الذات البشرية.
التوجه الديني، في هذه الأفلام، صريح ومباشر، فتخليص النفس والجسد لا يتم إلا من خلال الإيمان. العلم يعلن عن عجزه أمام ظاهرة غير طبيعية، خفية، خارقة، ويشجّع اللجوء إلى الطقوس الدينية من أجل إنقاذ النفس. بهذا تتم إعادة تثبيت وضع الكنيسة والدولة والعائلة كقوى ثابتة، مطلقة، أزلية، تمثّل الخير.
في الأفلام التالية لم يعد الشيطاني يسكن الجسد البشري فحسب، بل الأشياء أيضاً.. مثل السيارة والمصعد وغيرهما. وإذا كانت هذه الأفلام تظهر انتصار قوى الخير بعد تجربة قاسية ومعاناة مريرة في جحيم الاستحواذ الشيطاني، وإنقاذ النفس البشرية بفضل الإيمان والقوى الروحية، فإن أفلاماً أخرى مثل The Omen (1976)، مع أجزائه اللاحقة، تؤكد على انتصار الشر وحتمية المواجهة بين المسيح والمسيح الدجال الذي ينشأ في كنف أعلى سلطة سياسية في أمريكا، ويكبر ليصبح على وشك الاستيلاء على العالم بحكم عمله في السلك الدبلوماسي. إن تدمير العائلة هنا يكون تمهيداً لتدمير أمّة أو عالم سيكون مأهولاً بالشياطين فقط.
الأشباح والقوى الخفية
بيت قديم، موحش، معزول، في موقع ناءٍ ومعتم. إنه منظر يثير الرعشة ويوحي بوجود شيء شرير. يضاعف هذا الإحساس صرير الأبواب الحاد، الدهاليز المظلمة، الظلال الغريبة، الضوء الملتمع فجأة بفعل البرق والذي يخترق النافذة، إضافة إلى عواء الريح. وعندما نسمع وقع أقدام وضحكات غريبة وهمسات مبهمة، عندما تحدث أشياء خارقة للطبيعة، نعرف أن ثمة قوى خفيةً، غامضة، شريرة، تسعى إلى إرعاب وإيذاء القاطنين، ونعرف أن البيت مسكون بالشياطين أو الأشباح أو المجانين.. وأنه يتحول إلى جحيم.
هذه الظاهرة مصوّرة في أفلام عديدة مثل: البيت المظلم القديم (1932)، بلا دعوة (1944)، موت الليل (1945)، بيت على التل المسكون (1959).
إذا كانت الألغاز تحل في النهاية، وتجد الظواهر الغريبة تفسيراتها المنطقية في أغلب تلك الأفلام، فإن في أفلام لاحقة يتضاعف الغموض، وتدوم الألغاز المحيرة والمقلقة، ولا يتم تقديم أي تفسير لما حدث.. كما في فيلم "المبنى المحترق" (1977) حيث لا نجد البيت المسكون بالأشباح أو القوى الروحية، إنما البيت الذي يمتص حياة قاطنيه ليجدّد نفسه. في "سفينة الموت" تتحول المدرّعة النازية إلى قوة مدمرة غير مرئية. في "رعب أميتيفيل" تسيطر القوى الشريرة على عقول ساكني البيت وتدفعهم إلى ارتكاب جرائم بشعة. في "اللمعان" Shining لستانلي كوبريك، يستحوذ الفندق المهجور على روح وعقل حارسه ويجعله يحاول قتل زوجته وابنه.
ظاهرة القوى الخفية تعكس الإحساس بهيمنة قوى خارجة عن الذات، لا يمكن إدراكها والسيطرة عليها، بالتالي تعكس الخوف من المجهول ومن الأشياء المستعصية على الفهم.
الأشباح لم تؤخذ بجدية في بدايات السينما، ولم تكن تثير الفزع، بل أنها أحياناً كانت ترتاد على نحو ودّي ومضحك بعض الأفلام الكوميدية مع لوريل وهاردي، بوب هوب، أبوت وكوستيللو. في ما بعد، صارت الأشباح تأخذ مظهراً جاداً ومخيفاً، فبداية الستينات شهدت أحد أكثر أفلام الأشباح إثارة للرهبة هو "المسكون" The haunted (1963) للمخرج روبرت وايز، عن فريق من الباحثين في القوى الروحية أو الخارقة يتحرون حقيقة منزل غريب يسبّب بقواه الخفية الموت لساكنيه. إن مصدر الرعب هنا لم يكن مجسداً بصرياً، ولم يكن هناك حضور جلي لقوى الشر، بل اعتمد الفيلم على الإيحاء بذلك الحضور والقوة اللامرئية في خلق الخوف والإثارة عند الجمهور. هذه القوى تمتلك سلطة مطلقة نظراً لكونها غير مرئية بالدرجة الأولى، بالتالي فهي عصيّة على الإدراك والتخيّل. هذه الخاصية هي التي تعمل على تصعيد الخوف والرهبة عند المتفرج العاجز عن الرؤية ومعاينة مكامن التهديد والخطر.
إن قصص الأشباح في السينما ذات حبكات ومعالجات متعددة، ففي فيلم "الضباب" (1980) تتعرض مدينة ساحلية لغزو ملاحي سفينة موتى في هيئة ضباب كثيف ومميت. في "قصة شبح" تعود فتاة ميتة بعد سنوات طويلة لتنتقم من أولئك الذين تسببوا في موتها. وفي الأجزاء الثلاثة من "الأشباح الضاجة" تختبر العائلة الحضور الشبحي وتحاول إنقاذ الابنة الصغيرة من القوى التي أخذتها إلى عالم الأرواح.
أحياناً يعبّر الحضور الشبحي عن تحذير ما أو دعوة للأحياء للكشف عن سر جريمة غامضة. في فيلم "استبدال" Changeling تستحوذ روح صبي معوق على موسيقار للكشف عن حقيقة موته على يد والديه واستبداله بطفل آخر هو الآن يمتلك سلطة ونفوذاً في الوسط السياسي.
إقليم الجنون
لقد لاحظنا كيف استثمرت أفلام الرعب غريزة الخوف من المجهول في إثارة مشاهديها وإرعابهم، ورأينا مظاهر وأشكالاً متعددة للمجهول الذي يتمثّل في الآخر، الحيواني، الفضائي، الوحشي، الشبحي. كما أنه يتمثّل أيضاً في الدماغ البشري وذلك عندما يضطرب ويتشوش ويختل ويختبل.. أي يغادر إقليم العقل ليسكن إقليم الجنون، عندئذ يتحول المجنون إلى آخر، مختلف، يفتقر إلى التفكير المنطقي ولا يمكن التنبؤ بما سيفعله.
إنه يصبح مجهولاً لأن أحداً لا يستطيع أن يفهمه، ولأن الإنسان يخاف غريزياً من الشيء أو الكائن الذي لا يفهمه، فإن المجنون يصبح كائناً مخيفاً ينبغي احتجازه أو نفيه خلف أسوار عالية وحصينة لا يمكن اختراقها.
خوفنا من المجنون هو انعكاس لخوفنا من أو على عقولنا المهدّدة بالاختلال في أية لحظة ولأي سبب خارجي أو ذاتي. إنه الإحساس المرعب بأن العقل معرّض للعطب أو الاضطراب، وأن الجنون شيء ضار ومدمر. لكن ماذا يحدث عندما ندرك، نحن العقلاء والأسوياء، بأن الشخص المجنون طليق، يتجول في طرقاتنا وأمام بيوتنا، وأنه لا يستطيع أن يميّز بين الخير والشر، بين ما هو مسموح وما هو محظور، بين البراءة والإثم؟ ماذا يحدث عندما نكتشف بأن هذا المجنون ممسوس بفعل القتل، يرتكبه تحت ضغط نفسي وعقلي لا طاقة له على احتماله، كما لو أن الفعل يمليه باعث داخلي لا يقوى على عصيانه، أو كما لو أنه يمارس القتل كلعبة طفولية؟
الشخصية السايكوباتية (المضطربة عقلياً) ارتادت عوالم السينما منذ البدايات، ليس في أفلام الرعب فقط بل في الأنواع الأخرى كالأفلام البوليسية والحربية والويسترن. إنها الشخصية التي تتصرف على نحو غير سويّ وغير منطقي، وتمارس عنفها الجنوني بلا رادع ولا ضمير.. بالأحرى، بلا عقلانية. أعماقها غامضة وشديدة الاضطراب، تصرفاتها غير مبرّرة، دوافعها مبهمة. لكن هذه الشخصية لم تحقق حضورها المطلق والمهيمن والأكثر رعباً وعنفاً إلا في فيلم هتشكوك "سايكو" Psycho (1960) الذي يعرض شخصية نورمان بيتس، المختل عقلياً والمصاب بالشيزوفرينيا، الذي يقتل ضحاياه مرتدياً ثياب أمه المحنطة.
هذا الفيلم أصبح مادة للمحاكاة – موضوعاً وأسلوباً – في العشرات من أفلام الرعب اللاحقة، وكان بداية لموجة من الأفلام التي تتخذ من الشخصية السايكوباتية محوراً رئيسياً.
استخدمت هذه الشخصية في الأفلام عبر تنويعات وحبكات مختلفة:
سلسلة من جرائم القتل تحدث ولا أحد يعرف مرتكبها. المعلومة الوحيدة المتاحة هي أن القاتل شخص مريض عقلياً. الشبهات تحوم حول مختلف شخصيات الفيلم إلى أن تتضح هوية القاتل في النهاية مع تقديم تفسير سيكولوجي للدوافع الجنونية، بدرجات متفاوتة من الإقناع. مثل هذه الأفلام تتلاعب بفكرة الجنون والعقل، والتخوم التي تفصل بينهما، بحيث تجعل المتفرج يختبر حالة من التشوش وعدم الفهم فيرتاب في المظاهر وفي حقيقة ما يراه، ولا يعود يميّز بين البرئ والمذنب، فذلك الذي حسَبَه بريئاً يتضح في النهاية أنه القاتل.
في أفلام أخرى تكون هوية القاتل، المختل عقلياً، محددة منذ البداية، والمتفرج يتابع، في قلق بالغ، عنفه وعدوانيته وأفعاله المجنونة. مثل هذا السلوك لا يأتي بشكل فجائي ومباشر بل على نحو تصاعدي وتدرجي، حيث نرى تلميحات أو إشارات إلى جنونه الكامن إلى أن يصبح هذا الجنون كاملاً ومطلقاً في النهاية. وبما أن القاتل المجنون مكشوف ومرئي فإن الفيلم عادةً لا يركّز على التدمير الذي يلحقه بالآخرين فحسب، إنما أيضاً على التدمير الذاتي، كما في فيلم "نفور" Repulsion للمخرج رومان بولانسكي، وفيلم "لابد أن يحل الليل" Night must fall .. وغالباً ما تثير هذه الشخصيات تعاطف المتفرج معها (حتى وإن كان مؤقتاً) ذلك لأنها معروضة كضحية للوضع الاجتماعي والعائلي والنفسي المحيط بها. القاتل في فيلم Twisted nerve يبدو أشبه بطفل في تفكيره وسلوكه. أما في "بيت الرعب المسكون" فيركض القاتل في الليل صارخاً وباكياً، مرعوباً من الظلام المحيط به.
ثمة أفلام تعتمد في بنائها وحبكتها على الاشتباه والمخاوف العامة من الجنون. البطلة، على سبيل المثال، تتعرّض لمحاولات لحوحة، مصحوبة بدلائل تبدو مقنعة، لإيهامها بأنها مجنونة فعلاً وأنها قاتلة، وذلك بغية التخلص منها. هي تجد نفسها وحيدة، بلا دفاع ولا حماية، في مواجهة شكوك وأوهام تدفعها نحو حافة الجنون. الشرير أو القاتل مجهول هنا، ومن يبدو بريئاً يتضح في النهاية أنه آثم.
فيلم "عشية عيد القديسين" Halloween (1978) للمخرج جون كاربنتر يعتبر بداية لموجة مختلفة من أفلام الشخصيات السايكوباتية، حيث يتم الاستغناء عن التحليل السيكولوجي، وتفسير الحالة العقلية للقاتل، لتتخلل البناء الإثاري والتشويقي مشاهد عنف بالغ، وصار الهجوم يتركز، بمساعدة المكياج والمؤثرات البصرية والسمعية، على الجهاز العصبي للمتفرج بتوجيه صدمات متوالية عبر كميات هائلة من الدماء وجرائم القتل البشعة بمختلف الأدوات والوسائل، فالقاتل المختل لم يعد يحتاج إلى دوافع لأفعاله الإجرامية، بل صار يكتفي باصطياد ضحاياه، الغافلين أو اللامبالين أو المختبئين في أماكن يسهل كشفها، أو الذين يتصرفون بحماقة وغباء، ليمزّق أجسادهم بآلية وسادية بالغة.
فيلم "هالووين" أسّس بنية نموذجية، أو بالأحرى أسّس كليشيهات، التزمت بها الأفلام اللاحقة على نحو صارم. منذ هذا الفيلم برز نسل جديد من القاتل المختل عقلياً: إنه خارق، يتحرك خارج قوانين الطبيعة والوجود الإنساني، ذو حضور شيطاني، قادر على الظهور في عدة أماكن في وقت واحد، خالد حسب الأجزاء المتوالية إذ ما إن تنتهي حياته بالرصاص أو بالأدوات الحادة المميتة حتى يبعث ثانية في الجزء التالي دون أن يتأثر بالإصابات، ليرتكب جرائم أخرى بالطرق نفسها، وليلق المصير ذاته عبر أحداث يمكن بسهولة التنبؤ بمجرياتها.
ثم يأتي فيلم "الجمعة 13"، وما يليه من أجزاء متتابعة، ليركّز على العنف الصارخ ويحوّل الشاشة إلى مسلخ مغمور بالدماء الغزيرة المنبثقة من ضحايا يصعب التعاطف معهم. القاتل المجنون ذاته، الذي ينتحل إسماً وهيئة مختلفة، يقتحم المعسكرات الصيفية الغاصة بالمراهقين ليستعرض مهاراته في القتل.
الإيرادات العالية التي حققتها هذه السلسلة من الأفلام أدت إلى إنتاج العشرات من الأفلام التي تتمحور حول الشخصية السايكوباتية، وتحاكي البناء والحبكة نفسها، متجاهلة الأبعاد الدرامية والسيكولوجية، معتمدة على المؤثرات والمكياج وحركات الكاميرا الاستعراضية، مستعينة بممثلين عاديين ومخرجين يفتقرون إلى الخيال وحس الابتكار، مع إقحام لقطات جنسية لضمان الرواج التجاري.
السرد في هذه الأفلام مجرد ذريعة لربط سلسلة من الجرائم البشعة. الحبكة المألوفة، المستهلكة، تظهر مجموعة من المراهقين في موقع ناء ومعزول أو مهجور، قاتل مختل ومشوّه أو هارب من مصح عقلي، حالات متكررة من القتل.
ثمة توجّه آخر ومختلف، أكثر جديّة وطموحاً، لتناول الشخصية السايكوباتية في السينما، نجده في فيلميْ: "زوج الأم" Step father (1986) ، صمت الحملان.
هنا يتم استبعاد عناصر الرعب التقليدية والصدمات المجانية، والتركيز على الدوافع السيكولوجية وانحرافات النفس البشرية في أوضاع مدروسة بوعي وعمق. كما يتسم الفيلمان بخاصيات فنية تعبّر عن الحالات الدرامية، بأدوات متطورة ومبتكرة، تحت إدارة مخرج متمكن ومتحكم في مادته وعناصره السينمائية، بممثلين قادرين على نقل أعماق الشخصيات بقوة وصدق وإقناع.
العائلة كمصدر للرعب
حرصت أفلام الرعب، لسنوات طويلة، على توكيد – أو إعادة توكيد – القيم العائلية التقليدية، والانحياز إلى العائلة الطيبة في مواجهتها مع الشر، بتصوير انتصارها المحتوم على الآخر الذي يمثّل المنتهك والغازي، والذي ينوي أن يدمّر قيمها ويحطم وحدتها ويفترس أفرادها.
الرغبة في المحافظة على العائلة ككيان اجتماعي يوفّر الحماية والأمان والاستقرار للفرد، جعلت هذه الأفلام تنأى عن استجواب وحدة العائلة والكشف عن مظاهر القمع والانحراف المتوارية تحت السطح الهادئ والآمن ظاهرياً، وأخذت تروّج للفكرة القائلة بأن مصدر الرعب خارجي وأجنبي، وأن الخطر يأتي دائماً من الخارج: من المواقع النائية، أو من الفضاء المسكون بقوى الشر، محاولةً بذلك المحافظة على الصورة البريئة والنقية للعائلة.
جاء فيلم هتشكوك "سايكو" ليحطم هذا الوهم ويكسر الصورة الزائفة، مصوراً العائلة – ربما للمرة الأولى – كمصدر للرعب.. هذا الكيان الذي كان عرضة لهجمات شرسة ومتلاحقة من الوحوش صار منتجاً للوحوش والمسوخ. الشخصيات الشيزوفرينية، والسايكوباتية (المضطربة عقلياً)، والأطفال المتوحشون، بل وحتى المسيح الدجّال، هي شخصيات معروضة كنتاج للعائلة.
في هذا المحيط يتم اختبار المخاوف الأولى للطفولة، الكوابح الدينية والجنسية، مشاعر الإثم والإحساس بالذنب، التعرّف على أشكال السلطة في صورتها الأوليّة.
الفضاء الداخلي للبيت يصبح مشحوناً بالأسرار والتوترات والمخاوف والمشاعر المنفلتة التي لا يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها. وعندما يُنظر إلى العائلة بوصفها عالماً مصغراً أو نموذجاً للأمة فإن هذه المظاهر تكتسب أبعاداً اجتماعية وسيكولوجية أشمل، ويصبح التهديد أعم.
صارت الأفلام تهتم بتصوير الجانب المظلم من الحياة العائلية، وتبرز بجرأة أشكال الانحرافات المخيفة وانفلات الغرائز البدائية وانبعاث المسوخ من حضن العائلة. وغالباً ما تنتهي الأفلام بانهيار العائلة كنظام مؤسس، وبهزيمة تعاليمها وقيمها المتوارثة.
في فيلم "ليلة الأموات الأحياء" (1968) تقتل البنت الصغيرة أبويها وتفترسهما. في فيلم "موت الليل" Dead of night (1972) يعود الابن الشاب من فيتنام في هيئة زومبي ليثأر من العائلة ورموز السلطة. في "إنه حي" It's alive (1974) يكون الطفل المسخ نتاج العائلة. في زوج الأم Stepfather نرى رجلاً ممسوساً بصورة العائلة المثالية وما إن تتعرّض هذه الصورة لنوع من الخلخلة والاهتزاز حتى يظهر كقاتل وحشي فيتخلص من العائلة التي خيّبت أمله ويبحث عن عائلة أخرى تتوافق مع الصورة.
في أفلام أخرى تصبح الكانيبالية (أكل لحوم البشر) وسيلة العائلة للبقاء وتغذية نفسها: في Frightmare لا تستطيع الأم الطيبة أن تستمر في البقاء إلا بأكل اللحم البشري. في "مجزرة تكساس المنشارية" (1973) و"للتلال أعين" (1977) تتغذّى العائلة من اللحم البشري. فيلم Parents يصور معاناة صبي يكتشف أن والديه من أكلة لحوم البشر. أما فيلم Near dark فيُظهر عائلة شاذة وبدائية تتجول ليلاً لتصطاد ضحاياها وتمتص دماءهم.
الطفولة ليست بريئة دائماً
في سينما الرعب يفقد عالم الأطفال براءته وطهارته المعهودة، ويتحوّل إلى عالم مخيف مأهول بالرغبات المدمرة، المجنونة، اللاعقلانية. الأطفال هنا يشعرون بخيانة الكبار لهم، وبأن هؤلاء الكبار يسعون إلى تلويث براءتهم وتقييد حرياتهم، لذا يجابهونهم بالتدمير والعنف الدموي.. حتى الأب والأم والأقارب لا يسلمون من العنف.
أحياناً يمارس الأطفال القتل كنوع من اللعب، وذلك عندما يحدث الالتباس بين الوهم والحقيقة. ربما لا تكون الدوافع مبرّرة، لكن الضغوط تصبح – من وجهة نظرهم – صعبة الاحتمال، وينظرون إلى أفعالهم كضرب من الدفاع عن النفس.
الرضيع المسخ الذي يفتك بمن يصادفه، في فيلم "إنه حي"، هو نتاج العائلة. إنه الضحية والوحش معاً. الأب ينكره فيعود من أجل إحراز الاعتراف به.. وبدلاً من تدمير الوحش، تحاول العائلة حمايته.
في فيلم "أطفال القمح" Children of the corn يرتكب الأطفال، بدوافع شيطانية، أبشع أنواع القتل والعنف ضد سكان البلدة.
الشيطان يجد مأواه المثالي في أجساد الأطفال، إنهم يصبحون مسكونين به، ومن خلالهم يتجسّد مهدّداً العائلة ومن ثم العالم.. كما في "طارد الأرواح الشريرة". وفي فيلم The omen يكتشف الأب – السفير الأمريكي – بأن الطفل الذي يربيه ليس ابنه بل هو ابن الشيطان.
الرعب مادةً للإضحاك
في الثمانينيات، ومن أجل ترويج الأفلام وجعلها مقبولة لدى الجمهور الشاب، حاولت سينما الرعب أن تدمج عنصرين متنافرين: الرعب والفكاهة. أي إضفاء لمسات هزلية ولحظات دعابة على الأجواء المخيفة والشخصيات المرعبة. لكن أغلب هذه المحاولات لم تستطع أن تحقق التوازن بين العنصرين نظراً لعدم تماسك واتساق الأسلوب، كما أخفقت في إثارة استجابة محدّدة من المتفرج الذي احتار في كيفية التعامل مع الفيلم.
هذه الظاهرة (دمج الرعب والفكاهة) ليست جديدة، بل تعود إلى سنوات الأربعينيات حيث ظهرت الشخصيات المخيفة (دراكيولا، مخلوق فرانكشتاين، المستذئب، الأشباح) في مواقف ضاحكة مع نجوم الكوميديا. لكن تلك الأفلام كانت كوميدية خالصة، تطوّع الجانب المرعب لصالح الهزلي.
في فترات متقطعة شاهدنا أفلاماً تتخذ من أجواء وشخصيات الرعب مادةً للإضحاك، أو تقدم محاكاة ساخرة لتلك الأجواء والشخصيات والحبكات.
* * *
ما تريد أفلام الرعب تأكيده هو أن الآخر، المتمثّل في أشكال بشعة ومخيفة، هو دائماً مجاور للفرد، قريب جداً منه، وربما يوجد بداخله. إنه يسكن الأحلام والكوابيس والدواخل الأكثر عمقاً وظلمةً. إنه يمثّل الصورة الأخرى من الذات، تلك التي تعكس المخاوف.