يلاحظ الناقد الأمريكي جودفري شيشاير بأن جميع شخصيات عباس كيارستمي هي في حالة حركة وانتقال من مكان إلى آخر، من بحث إلى آخر. وفي أثناء حركتها هي لا تكف عن طرح الأسئلة بشأن كل شيء.. هذه الأسئلة لا تهدف إلى الحصول على إجابات معينة بل، بالأحرى، تظل معلّقة مثل سلسلة لا نهائية من الأصداء.
* *
عباس كيارستمي (المخرج، كاتب السيناريو، المونتير) كان إسماً معروفاً وبارزاً في الأوساط السينمائية العالمية، حتى قبل أن يحرز فيلمه "طعم الكرز" (1979) الجائزة الكبرى – مناصفةً – في مهرجان كان. أفلامه لقيت الترحيب والاحتفاء في المهرجانات الدولية نظراً لقيمتها الفنية وعمق مضامينها وجدّة أشكالها.
أكيرا كوروساوا، عملاق السينما اليابانية، أشاد بأفلام كيارستمي لبساطتها وعمقها وروعتها، واعتبره واحداً من كبار المخرجين في السينما العالمية المعاصرة. قال عنه: "عندما رحل ساتياجيت راي شعرت بكآبة وإحباط تام. لكن بعد مشاهدتي لأفلام كيارستمي، اقتنعت بأن الله قد اختار الشخص المناسب ليحل محل ساتياجيت راي".
كوينتن ترانتينو، الكاتب والمخرج الأمريكي، اعتبره من المخرجين العمالقة في العالم.
جان كلود كارييه، كاتب السيناريو الفرنسي الشهير، قال عنه: "سينما كيارستمي مطرّزة بالبراءة. إنها مباشرة وبسيطة، وهي لا ترفع أي شعار، فلا مجال فيها للاستطرادات ولا لرفّات الجفن. الفيلم يعطي الانطباع بأنه يخلق نفسه تلقائياً دون أي أسلوب مقرّر سلفاً".
ميشيل بيكولي، الممثل الفرنسي، تحدث عنه فقال: " حين أشاهد فيلماً لعباس كيارستمي، ليس القرن الأول للسينما هو الذي أرغب في الاحتفاء به، بل بكيارستمي الذي يعرف الاحتفاء بالقرن الثاني للسينما. كيارستمي ينجز الأفلام بفضل مخترعي السينما، لكن هؤلاء المخترعين أنفسهم سيكونون معجبين باختراعهم عندما يشاهدون حكايةً يرويها كيارستمي".
* *
ولد عباس كيارستمي في طهران، العام 1940، ضمن عائلة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. والده مصمم ديكور منازل.
كان عباس مفتوناً بالفن منذ صغره، وقد درس الفن في الجامعة. وهو يشير إلى فيلم فلليني "الحياة الحلوة" الذي أثّر عليه كثيراً وحثّه على فهم رؤية المخرج وأعطاه فكرة دقيقة عن الوظيفة الحقيقية للسينما.
بعد الجامعة تخصص في تصميم وتصوير مقدمات الأفلام والعناوين، ثم عمل في المجال الإعلاني، إضافة إلى تصميم كتب الأطفال.
في العام 1969 طُلب منه المساهمة في إنشاء قسم للسينما في معهد التنمية الثقافية للأطفال والشباب. وقد أنتج هذا القسم العديد من أفلام كيارستمي وآخرين.. وهي أفلام قصيرة ووثائقية.
* *
من أفلام كيارستمي القصيرة والوثائقية والدرامية الطويلة:
- الخبز والزقاق (1970) أول أفلامه القصيرة. عن صبي يعود إلى البيت حاملاً الخبز. وفي الزقاق المؤدي إلى بيته، يعترض طريقه كلب. الكاميرا ترصد انفعالات وتصرفات الصبي في موقف كهذا.
- وقت الراحة (1972)
- التجربة (1973)
- المسافر (1973) أول أفلامه الطويلة. عن صبي يفضّل أن يقضي أوقاته في طرقات القرية يلعب كرة القدم مع رفاقه على أن يبقى في البيت ليحلّ واجباته المدرسية. حين يعلم بأن الفريق القومي سوف يلعب في طهران فإنه يقرّر الذهاب إلى هناك. ولكي يحقق هذه الرغبة فإنه يضطر إلى سرقة والديه، والاحتيال على زملائه في المدرسة، والتلاعب بأشياء الفريق.
- أنا أيضاً أستطيع (1975)
- حلان لمشكلة واحدة (1975) وثائقي مدّته 54 دقيقة.
- ألوان (1976)
- بذلة الزفاف (1976)
- كيف تستفيد من وقت الفراغ: رسم (1977)
- التقرير (1977) فيلمه الطويل الثاني.
- تحية إلى المدرسين (1977)
- الحل (1978)
- حالة أولى، حالة ثانية (1979)
- النظام أو الفوضى (1981)
- الكورس (1982)
- المواطن (1983)
- وجع الأسنان (1983)
- تلاميذ الابتدائية (1985) وثائقي مدته 85 دقيقة. تدور أحداث الفيلم في مدرسة ابتدائية، عن التحقيقات التي تجريها إدارة المدرسة مع الطلبة المشاغبين. استجواب، اعتراف، إعلان التوبة. هذه الطقوس تتكرّر المرّة تلو الأخرى.
- أين منزل صديقي؟ (1987) فيلمه الطويل الثالث الذي لفت إليه الأنظار وحقّق له شهرة عالمية عندما عرض في مهرجان لوكارنو. وهو الجزء الأول من ثلاثية سوف تشمل: وتستمر الحياة، تحت أشجار الزيتون.
أحداث هذا الفيلم تدور في قرية بشمال إيران. صبي (أحمد) يكتشف أنه أخذ بالخطأ دفتر زميله في الصف. ولأن المدرّس هدّد الزميل بالطرد من المدرسة في الغد إن لم يكتب واجباته المدرسية، فإن أحمد يقرّر إعادة الدفتر على الرغم من تحذيرات أمه. هو يذهب إلى القرية المجاورة باحثاً عن مسكن زميله لكن لا يجد عند الكبار، الذين يسألهم، غير التجاهل واللامبالاة والنصائح العقيمة.. وبحثه هذا يصبح رحلة اكتشاف. - الواجب المدرسي Homework (1989) وثائقي مدته 86 دقيقة. يقول كيارستمي بأن هذا ليس فيلماً بل تحقيقاً سينمائياً استلهمه من المعضلات التعليمية التي واجهها أحد أبنائه والتي كان يسمعها كل ليلة. الفيلم يتألف من مقابلات مع التلاميذ، صوّرها في المدرسة، وفيها يتحدث هؤلاء عن الكم الهائل من الواجبات المدرسية المرهقة، وعن الإغواء الذي تمارسه أفلام الرسوم المتحركة، وعن العقاب.
الفيلم يوجّه نقداً صريحاً للنظام التعليمي في إيران، هذا النظام الذي يميل إلى العقاب أكثر من تغذية مخيلة الطفل. - لقطة قريبة Close Up (1990) وثائقي مدته 90 دقيقة. قال المخرج الألماني الكبير فرنر هيرزوغ عن هذا العمل "إنه أعظم فيلم وثائقي شاهدته عن السينما".
شاب عاطل ينتحل شخصية المخرج الإيراني الشهير محسن مخملباف، ويتمكن من إقناع عائلة غنية بتصويرهم في فيلمه الجديد مقابل مساعدته في إنتاج الفيلم الوهمي.
كيارستمي صور المحاكمة الحقيقية التي تحوّلت إلى جدل حول طبيعة السينما، والمظاهر التقنية والاجتماعية والرمزية للسينما، حيث اتضح أن جميع الأطراف، بمن فيهم القاضي، مغرمون بالسينما. كما صوّر مخملباف مع المتهم بعد إطلاق سراحه.
* وتستمر الحياة (1992).. مخرج فيلم "أين منزل صديقي؟" – ليس كيارستمي بل ممثل يؤدي دور المخرج – يسافر مع ابنه إلى شمال إيران، بعد الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة في 1990، محاولاً اكتشاف مصير الصبيين – بطلي فيلمه – وما حلّ بهما بعد الزلزال. - تحت أشجار الزيتون (1994).. هذا الفيلم كان منافساً قوياً على جائزة مهرجان كان الكبرى، ورشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي. وقد احتج المخرج الفرنسي جان لوك جودار على حصول كيشلوفسكي على جائزة الأوسكار عن فيلمه "ثلاثة ألوان.. الأزرق" مفضلاً فيلم كيارستمي.
طاقم فني يصور فيلم "وتستمر الحياة" في قرية في شمال إيران تعرّضت لهزّة أرضية مدمرة. حسين وطاهره يؤديان دورين ثانويين. ونكتشف بأن حسين يحب طاهره غير أن أهلها رفضوا طلبه الزواج منها بسبب الفوارق الاجتماعية والثقافية.
يقول كيارستمي: "أفلامي السابقة استقبلت على نحو سيء في إيران من قبل الجمهور والنقاد. النقاد لم يفهموا شيئاً من فيلم "وتستمر الحياة"، واغتاظوا من نجاحه، واعتبروا الاعتراف العالمي بالفيلم إهانةً شخصية. لكن مع "تحت أشجار الزيتون" تصالحت مع النقاد، والجمهور الإيراني أحب الفيلم كثيراً. - طعم الكرز (1997) حاز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان.
- الريح سوف تحملنا (1999)
- ABC Africa (2001)
- عشرة ( 2002 )
- خمسة (2003)
- أكبر بعشر دقائق (2003)
- 10 on Ten (2004)
- طرق كيارستمي (2005)
- تذاكر (2005)
- شيرين (2008)
- نسخة مصدّق عليها (2009)
* *
تجدر الإشارة إلى أن كيارستمي كتب سيناريوهات كل أفلامه، كما تولى عملية المونتاج.
إلى جانب كتابة سيناريوهات لمخرجين آخرين، ومن هذه الأفلام: المفتاح (1986) الرحلة (1995) البالونة البيضاء (1995).
سيناريوهات كيارستمي تتألف عادةً من 15 صفحة، وفي أثناء عملية تحقيق الفيلم يبدأ في شحن القصة وتدوين اكتشافاته التي تحدث مصادفة في الموقع. أما الحوار فيكتبه قبل التصوير بفترة وجيزة.
وهو يعمل غالباً مع ممثلين غير محترفين والنتائج تكون مذهلة.
من الناحية التقنية، يهتم كيارستمي بالتصوير في المواقع الخارجية، مستخدماً اللقطات الطويلة التي تستغرق دقائق دون قطع. وهو لا يلجأ إلى التلاعبات أو الحيل البصرية أو حركات الكاميرا الاستعراضية.
إستخدام الموسيقى محدود، وثمة اختزال في الحوار.
* *
سينما كيارستمي تولي عالم الأطفال اهتماماً كبيراً وأساسياً، وعبر ذلك تكشف التعارض الحاد بين الأطفال والكبار في فهم الواقع، والنظر إلى الأشياء، وما ينتج عن هذا التعارض من سوء فهم وسوء تأويل.
يقول كيارستمي: " أحب أن أعمل مع الأطفال لأن لهم نظرة حرّة شبه صوفية. الحكماء الكبار القدامى هم أطفال اليوم. الأطفال يحبون الحياة بدون شعارات. وفي الصباح لا يشعرون بالحاجة إلى القهوة لاستعادة البشاشة".
سينما كيارستمي ذات نزعة إنسانية. حكاياتها بسيطة لكنها مليئة بالمجازات، مفعمة بالشاعرية، وحافلة بالمشاعر المركّبة. لا تفسّر الواقع بل تحاول الإمساك باللحظة، بالشيء الحقيقي الذي يحدث أمام الكاميرا.. وهي كذلك تبحث في لغة السينما نفسها.