ترجمة: أمين صالح
في بداية الفيلم الوثائقي الرائع "عباس كيارستمي: فن العيش" (2003) للمخرجين فيرغوس دالي و بات كولينز، يقول المبدع السينمائي الإيراني:
" بالنسبة لي، الكاميرا هي تماماً كالقلم. هذا القلم يمكن أن يستخدمه الشخص العادي، أو يمكن أن يستخدمه بودلير ليبدع قصيدة عظيمة. لدينا في إيران مَثَل يقول: إذا أردت أن تصبح كاتباً جيداً، يتعيّن عليك فحسب أن تكتب وتكتب وتكتب. لذا، رداً على السؤال بشأن كيفية تنمية رؤية جمالية واضحة، يمكنني القول أن عليك أن تستمر في المشاهدة والمشاهدة والمشاهدة".
لكن تحديداً ما هي هذه المشاهدة في أعمال عباس كيارستمي؟ قبل بضع سنوات، في استفتاء أجرته مجلة Film Comment قمت شخصياً، وبلا تردد، في اختيار كيارستمي بوصفه السينمائي الذي حدّد، على نحو أفضل وحاسم، السينما في التسعينيات. وقد أضفت بعض الكلمات قائلاً: "المخرج السينمائي الذي استخدم العناصر الأكثر تواضعاً، الأكثر تقشفاً، من الحياة والمنظر الطبيعي والسينما من أجل توليد الإيماءات الفنية الأكثر راديكالية وعمقاً وتحريكاً للمشاعر في زمننا".
لكن الطبيعة الدقيقة للطريق من البساطة إلى التعقيد في سينما كيارستمي تظل غامضة، ملغزة، ويصعب تركيز البؤرة عليها. ثمة مشكلة في الإفراط في توكيد البساطة – كما لو أنه ببراءة "يجد الواقع" ثم يدع الكاميرا تدور فيما هو يغيّب نفسه كقوة خلاقة أو سلطة حاسمة – وثمة مشكلة مساوية في التوكيد على التعقيد، كما لو أن وحدها الأفلام الجيدة اليوم يجب أن تمرّ من خلال مرشح (فلتر) من الحيل المزخرفة (الباروكية) وتلتف حول التناقضات الظاهرية التقويضية. في أعماله العظيمة، الرائعة، هناك شيء يراوغنا ويستعصي علينا.
الأرض لا توجد فحسب في أفلام كيارستمي، إنها ترتعد. إنه ذلك الاهتزاز – في أثر الصدمات الضئيلة جداً، غير المدرَكة، للزلزال في "وتستمر الحياة" – المقترن بسكونية اللقطة أو حركات السيارة المطردة، المنسلة بسلاسة، إلى دوام الصور وإيقاعها، إلى الحوارات المتقلبة بين الشعور الداخلي والوضعية الخارجية في ممثليه، التي تخلق التأثير البارز لهذه السينما.
فيلمه "عشرة" فاجأ العديد من جمهوره وأعلن عن انقلاب أو انعطاف جذري جديد في مسيرته الفنية. الفيلم هو، إلى جانب أشياء أخرى، مكهرب شكلياً. مختزلاً السينما إلى عنصر أساسي مطلق من الميزانسين ذي الموضعين، ومن المونتاج الأساسي، هو يحوّل السيارة إلى جهاز سينمائي حقيقي: ثمة زاوية من الرؤية (هامة جداً لفن السياقة) و "قطع" ملقّن بواسطة كل انفتاح وانغلاق للباب.
نحن ننسى رائحة الخطر، الخوف من المجهول، تهديد الموت الذي ينشّط عمل كيارستمي، مثل مجرى سرّي. إنه هناك في رحلة الصبي في "أين منزل الصديق؟"، هناك في الأرض الهشة، المنهارة، في "الريح سوف تحملنا". إنه قبل كل شيء هناك حيث يرقد بديعي في قبره المؤقت في "طعم الكرز".. ذلك المشهد المضاء بوميض من البرق في ظلمة الليل، بهدير الرعد، باللغز اللاذع على نحو لا يحتمل بشأن مصير هذا الرجل وما إذا سيعيش أو يموت. المشهد يقرّبنا من التجربة المطلقة للإنكار الوجودي.
كيارستمي، في أفلامه، لا يهتم إلا بما هو حاضر في العالم، العالم بوصفه كينونة يومية وفلسفية، وكيفية تسجيل ذلك الوعي، ثم تفاعلات "القصص" الكيارستمية التي تنبثق من هذا الوعي.
إنه يصوغ حكايات عن تفاعلات بفعل الصدفة، لقاءات غير متوقعة، أحاديث عشوائية والتي تغيّر، على نحو دقيق، مجرى مصائر الناس.
لقد لاحظ الناقد الفرنسي البارع ألان برغالا أن كل أفلام كيارستمي هي عن التدبير الغريب: شخص لديه مشكلة يعثر صدفة على شخص آخر يتضح - عادةً دون أن تكون لديه المعرفة أو الدراية – بأنه يحتفظ بالمفتاح الذي سوف يحل تلك المشكلة. في فيلم "عشرة"، للمرة الأولى، عملية التدبير هذه تتخذ وجهة كئيبة، لأن الفيلم يخاطب الحالات الأبوية (البطريركية) في الثقافة الإيرانية.
في فيلم "عشرة"، المرأة (مانيا أكبري) تقود سيارتها إلى الموضع الذي فيه سوف تأخذ ابنها الصغير أمين. عندما توقف سيارتها، نحن نرى من خلال باب سيارتها شاحنة منها يخرج أمين ليعبر الطريق. هناك حوار زاعق، متوتر، بين المرأة وزوجها السابق بشأن عدد الساعات التي يتوجب عليها خلالها أن تحتفظ بابنها ومتى وأين ينبغي إرجاعه. المرأة تقود سيارتها مغادرةً. بعد لحظات، نرى الشاحنة تحاذي السيارة، ونسمع كلمات ساخنة يتم تبادلها بينهما.
هذا المشهد ينسجم مع القيود الشكلية، الخاصة، التي اختارها كيارستمي في تنفيذه لفيلم "عشرة": المشاهد لا تدور خارج سيارة المرأة. كذلك يعبّر عن دور السيارة بوصفها "حيّزاً خصوصياً" تؤدي وظيفة البيت أكثر من أي مكان آخر.
إن وضع الكاميرتين داخل السيارة ليس فقط لأسر حميمية الحياة في السيارة بل أيضاً للإيحاء بحضور العين الباردة للكاميرا المراقبة.. أي نقطة التقاء العوالم الخاصة والعامة.
"المصدر: 16:9, February 2004"