قال الشاعر أوكتافيو باث، ذات مرّة، أن "رجلاً مقيداً بالسلاسل لا يحتاج سوى أن يغمض عينيه ليجعل العالم ينفجر".
بصياغة أخرى أقول: "يكفي أن تعكس العين البيضاء للشاشة الضوء الخاص بها، على نحو لائق، لينفجر الكون. لكن، في الوقت الحاضر، نستطيع أن ننام بهدوء وأمان لأن الضوء السينمائي الذي يصلنا هو مرشّح بعناية ومحسوب بدقة.
ليس هناك فن، من الفنون الراسخة، يكشف عن ذلك التفاوت الهائل بين ما هو كامن وما هو منجَز، مثل السينما.
الفيلم يؤثر بشكل مباشر على المتفرج، إذ يقدّم له شخصيات وأشياء مادية وملموسة. وفي سكون وعتمة الصالة، يبدأ الفيلم في عزل المتفرج عن بيئته النفسية المألوفة. السينما قادرة على إثارة المتفرج وتحفيزه على نحو فعال أكثر من أي شكل آخر من أشكال التعبير الإنساني، كما أنها قادرة، أكثر من أي شكل آخر، على إفساده وتخديره. ويبدو أن أغلب الإنتاج السينمائي لا يؤدي غير هذه المهمة: الإفساد والتخدير. إذ أن شاشات صالاتنا السينمائية تقدّم كل يوم برهاناً على الخواء الفكري والأخلاقي الذي تتمرّغ فيه السينما.
الحقيقة أن السينما صارت تكرّس نفسها لمحاكاة الرواية أو المسرح، لكن مع هذا الفارق: هي كوسط موهوب بثراء أقل بوسائل التعبير السيكولوجي. إنها تكرر، حتى الغثيان، القصص القديمة نفسها التي سئم القرن التاسع عشر من روايتها.
إن شخصاً متوسط الثقافة سوف يقذف بازدراء أي كتاب يحتوي على أحد المواضيع التي تتحدث عنها أفلامنا الضخمة، غير أن هذا الشخص نفسه، الجالس براحةٍ في الصالة المظلمة، منبهراً بالضوء والحركة التي تمارس عليه قوة أو سلطة شبيهة بالتنويم المغناطيسي، مسحوراً بوجوه الأفراد والتغيّرات السريعة للمشهد، هذا الشخص سوف يقبل، بهدوء ورباطة جأش، موضوع الفيلم أو أفكاره مهما كانت تافهة ومبتذلة.
المتفرج، عبر هذا النوع من الكبح التنويمي، يفقد نسبة كبيرة من طاقته الفكرية أو النقدية. سأعطي مثلاً ملموساً، هناك فيلم بعنوان "قصة تحري" Detective Story. بناء القصة مثالي، المخرج ممتاز، الممثلون رائعون، الإنتاج مبتكر. لكن كل هذه المواهب والقدرات، كل الخطوات المركّبة التي يشتملها إنتاج الفيلم، هي مكرسة لخدمة قصة بلهاء ذات محتوى بائس. هذا يذكّرني بتلك الآلة في فيلم Opus 11: آلة ضخمة مصنوعة من الفولاذ، ذات تروس معقدة وصمامات وأقراص وأدوات لقياس الضغط.. إنها دقيقة مثل ساعة، وكبيرة مثل باخرة، لكن وظيفتها الوحيدة هي ختم طوابع البريد.
الغموض، ذلك العنصر الجوهري في أي عمل فني، هو بشكل عام غائب في الأفلام. المؤلفون والمخرجون والمنتجون حريصون جداً على عدم تعكير صفونا وإزعاج أمننا وطمأنينتنا، مصرين على أن تكون نافذة الشاشة المدهشة مغلقة بإحكام في وجه عالم الشعر المحرّر. إنهم يفضلون أن تعكس الشاشة موضوعات تشكّل استمراراً طبيعياً لحياتنا اليومية، وأن يكرروا، المرة تلو الأخرى، الدراما المبتذلة ذاتها، وأن يجعلوننا ننسى الساعات المشحونة بالضجر في عملنا اليومي.. هذا الموقف مسلّم به ومصدّق عليه من قِبل الأخلاقية التقليدية والرقابة الرسمية وتعاليم الكنيسة والذوق العام.
السينما الجيدة نادراً ما تأتي من خلال النتاجات ذات الميزانية الضخمة، أو تلك التي نالت إطراءً نقدياً أو قبولاً جماهيرياً واسعاً. القصة الشخصية، الدراما الفردية الخاصة، لا تستطيع، في رأيي، أن تثير اهتمام أي شخص حي في العالم المعاصر. إذا كان المتفرج يشاطر شخصيات الشاشة أفراحها وأحزانها فلأنه يرى في تلك الشخصيات انعكاساً لأفراح وأحزان المجتمع بأسره. البطالة، القلق الاجتماعي، الخوف من الحرب، هذه هي الأشياء التي تحرّك مشاعر كل الأفراد في يومنا. أما التحدث عن شخص تعيس في بيته ويبحث عن صديقة تؤاسيه أو تسليه، وفي النهاية يهجرها ليعود نادماً إلى زوجته، فذلك يتركنا في حالة لا مبالاة تامة.
جوهر السينما، أحياناً، ينبجس على نحو غير متوقع من فيلم تافه، غير ممتع، سواء أكان من نوع الكوميديا التهريجية أو رومانسياً مبتذلاً. بهذا الصدد قال مان ري شيئاً ذا دلالة ومغزى: "أسوأ الأفلام التي شاهدتها في حياتي، تلك التي جعلتني أستغرق في نوم عميق، كانت تحتوي على خمس دقائق مدهشة. بينما أفضل الأفلام، وأكثرها إحرازاً للإطراء، بالكاد تحتوي على أكثر من خمس دقائق جديرة بالاهتمام وذات قيمة". هذا يعني أن في كل الأفلام، الجيدة أو السيئة، وعلى الرغم من نوايا صانعي الفيلم، تكمن روح شعرية تناضل من أجل بلوغ السطح والكشف عن نفسها.
السينما سلاح رائع وخطير حين تستخدمه روح حرّة. إنها الوسط الأمثل للتعبير عن عالم الفكر والشعور والغريزة. المعالجة الخلاقة للصور السينمائية هي هائلة إلى حد أن من بين كل وسائل التعبير الإنساني، طريقتها في العمل هي الأكثر تذكيراً بعمل العقل خلال النوم. الفيلم أشبه بمحاكاة لا إرادية للحلم. لقد أشار جاك برونيو إلى أن الظلام، الذي يجتاح ببطء صالة السينما ويستوطنها، هو مرادف لفعل إغماض العينين. عندئذ، على الشاشة كما داخل الكائن البشري، تبدأ الرحلة الليلية نحو اللاوعي.
الصور، كما في الحلم، تظهر وتختفي من خلال إحلال مشهد محل آخر بطريقة تدريجية dissolve)) والتضاؤل التدريجي عند الانتقال من صورة إلى أخرى ((fade out. الزمن والمكان يصبحان مرئيين وقابلين للتكيّف. الزمن يرتد ويمتد، ينكمش ويتمدد ساعة يشاء المرء. النظام الكرونولوجي (المتسلسل زمنياً) والقيم النسبية لا تعود تنسجم مع الواقع. الحدث الدائري يمكن أن يدوم لدقائق قليلة أو لعدة قرون. الانتقالات من حركة بطيئة إلى حركة سريعة تصعّد وتضاعف تأثير كل منها.
يبدو لي أن سبب اختراع السينما هو للتعبير عن حياة ما تحت سطح الوعي، التي جذورها تتغلغل بشكل عميق جداً في الشعر، لكن لم يتم استغلالها على الإطلاق لتحقيق هذه الغاية.
من بين اتجاهات الفيلم الحديث، أشهرها أفلام ما تسمى "الواقعية الجديدة". هذه الأفلام تقدّم إلى المتفرج ما يبدو أنها لحظات من الحياة الواقعية، مستخدمة أفراداً حقيقيين ومظاهر خارجية وداخلية حقيقية. لكن الواقعية الجديدة، باستثناء أفلام قليلة من بينها "سارق الدراجة"، لم تفعل شيئاً لتنتج ما هو سينمائي على نحو لائق ومميّز.. أعني ما هو غامض وملغز وخيالي.
ما جدوى كل هذا الغطاء البصري إذا الحالات والدوافع التي تحرّك الشخصيات وردود أفعالهم، وحتى الحبكات نفسها مأخوذة أو منسوخة من أعمال أدبية مفرطة في الوجدانية والامتثالية؟
الإسهام الإبداعي الجدير بالاهتمام – والنابع ليس من الواقعية الجديدة بشكل عام بل من كاتب السيناريو سيزار زافاتيني – يكمن في رفع الفعل الرتيب إلى مرتبة الفعل الدرامي. في فيلم دي سيكا "أمبرتو دي"، أحد أكثر نتاجات الواقعية الجديدة إثارة للاهتمام، نرى خلال عشر دقائق كاملة، الخادمة وهي تقوم بسلسلة من الأفعال العادية التي كان الجميع في السابق يرى أنها ليست جديرة بأن تظهر على الشاشة. إننا نشاهد الخادمة وهي تدخل المطبخ، تشعل الموقد، تضع المقلاة، ترشّ الماء على سرب من النمل يدبّ على الجدار، تقيس درجة حرارة كهل مصاب بالحمّى.. وغير ذلك. وعلى الرغم من الطبيعة العادية للحالة، إلا أننا نتابع حركات المرأة باهتمام، بل وحتى بشيء من التشويق.
الواقعية الجديدة أدخلت عناصر قليلة لإثراء لغة التعبير السينمائي، ولا شيء آخر. إن واقعها ناقص، تقليدي، وعقلاني. بينما الشعر، واللغز، وكل ما من شأنه أن يتمّم ويوسّع الواقع الملموس، هو مفقود كلياً في هذه الأعمال.
في حديث لي مع زافاتيني، قبل بضعة شهور، قلت له بأنني لست متعاطفاً مع الواقعية الجديدة. وبما أننا كنا نتغدى معاً، فقد أشرت إلى كأس النبيذ التي أمامنا وقلت له، بالنسبة لأي واقعي، هذه الكأس مجرد كأس، ولا شيء آخر. أنت تراها تؤخذ من نضَد المائدة وهي مليئة بالنبيذ، ثم تؤخذ إلى المطبخ كي تغسلها الخادمة أو ربما تكسرها، الأمر الذي قد يؤدي إلى طردها أو عدم طردها.. وهكذا. لكن هذه الكأس نفسها، التي يراها عدة أشخاص مختلفين، يمكن أن تكون أشياء كثيرة ومختلفة، لأن كل شخص يسكب جرعة معينة من الشعور الذاتي في ما ينظر إليه، ذلك لأن أحداً لا يرى الأشياء كما هي، وإنما حسب ما تمليه رغباته وحالته الذهنية.
أنا أناضل من أجل السينما التي سوف تجعلني أرى هذا النوع من الكأس، لأن هذه السينما سوف تمنحني رؤية شاملة عن الواقع، وتوسّع معرفتي بالأشياء والناس، وتكشف لي عالم المجهول المدهش وكل ما لا يمكن العثور عليه في صحيفة أو في شارع.
لا تحسبوا أنني أدعو إلى سينما مكرسة فقط للتعبير عن الفنتازي والملغّز، ذلك لأن السينما التي تتفادى الواقع اليومي وتزدريه، قد تسعى إلى إقحامنا في العالم اللاواعي للأحلام. ومع أنني قد أشرت لتوي، وعلى نحو مختصر جداً، إلى الأهمية القصوى التي أعلقها على الفيلم الذي يتناول المعضلات الأساسية للإنسان المعاصر، إلا أنني لا أنظر إلى الإنسان كحالة خاصة، أو حالة معزولة، وإنما في سياق علاقته بالآخرين.
لقد حدّد فريدريك إنجلز، في رسالة إلى مينا كاوتسكي، وظيفة الكاتب (وبالتالي صانع الفيلم) في قوله: "الكاتب سوف ينجز مهمته بشكل مشرّف، من خلال التصوير الصادق للعلاقات الاجتماعية الحقيقية، حين يدمّر الفكرة التقليدية حول طبيعة تلك العلاقات، ويرجّ تفاؤلية العالم البورجوازي، ويرغم القارئ على استجواب دوام النظام السائد، حتى لو لم يقترح الكاتب – بشكل مباشر – أي حلول، وحتى لو لم يتحيّز على نحو واضح وصريح".
(نص قدمه بونويل في جامعة مكسيكو، في 1953.. ونشر في كتاب بعنوان "The World of Luis Bunuel"، تحرير: جوان ميلين، 1978)