المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس يقدّم نوعا من السينما قد تثير إعجاب البعض (وهم يشكلون القلة من الجمهور) المؤهل لاستيعاب ما يطرحه، والافتتان بصوره المغايرة للصور السائدة في السينما العالمية، وقد تثير ضيق وانزعاج وضجر البعض (وهم يشكلون الغالبية) الذين يجدون صعوبة في هضم هذا النوع.
هو لا يسعى إلى صنع أفلام تحقّق إيرادات عالية، لذلك يرفض تقديم أي تنازل على حساب فنه. هذا الإصرار على النظر إلى الفيلم كشكل فني، ورفضه للمفهوم الغالب الذي يرى إلى الفيلم بوصفه حقلا ترفيهيا، أدى إلى محدودية توزيع أفلامه في أسواق يهيمن عليها النتاج أو الاتجاه التجاري.
لم يجد أنجيلوبولوس في بلده، اليونان، الحفاوة التي تضاهي تلك التي يتمتع بها خارج البلاد، في أوروبا بالتحديد.. إذ غالبا ما يجابه باللامبالاة والمعارضة.. وهو يعلّق مبتسما: "أعيش وضعا غريبا في اليونان.. لدي أنصار متعصبون وأعداء متعصبون".
ذلك لأنه يكشف الزوايا الأكثر إعتاما من التجربة اليونانية، وأيضا بسبب صعوبة أفلامه، وتحطيمها لكل ما هو مألوف ومعتاد في السينما، وخلوها من عناصر الترفيه والتسلية التي يطلبها الجمهور. أفلامه تستدعي تركيزا مكثفا ومرهقا.
أفلامه تندرج ضمن سينما التأمل. إن محاولته المدروسة للتحليق بعيدا عن الشكل والسرد التقليديين، ترغم المتفرج على انتحال دور المشارك في التأليف، والمشارك في رحلة الشخصيات على حد سواء، إذ يتعين عليه أن يتأمل الصور أو الأحداث التي تتجلى على الشاشة، بالتالي يتوجب عليه أن يتوسط بين مستويات الواقع والعرض، وهذه المستويات ليست مغلقة ولا منظمة كليا.
السينما السائدة مبنية على الأحداث، على "الأكشن"، بينما في أفلام أنجيلوبولوس لا "يحدث" إلا القليل. ونحن، كمتفرجين، نبدأ في اختبار موضوعات وقضايا وشخوص و"قصص" من منظور مختلف وجديد. إنه يأمل في خلق نوع جديد من الجمهور، لا ذاك المستهلك الذي يعتمد على انفعالاته وعواطفه فقط.
في أفلامه، الحالات الخفية، الأشياء التي لا يقولها ولا يعبّر عنها، تمتلك الأهمية ذاتها كما الحالات الظاهرة والأشياء التي يقولها أو يعبّر عنها. ثمة دائما أشياء لا يجدها المتفرج على الشاشة لكن يتعيّن عليه أن يكتشفها، أن يملأ الفراغات وفق هواه، وأن يضيف إلى الصورة التفاصيل الضرورية. وهو بذلك يسعى إلى جعل المتفرج مساهما في الخلق.
لكن هل الجمهور العريض يفهم حقاً لغة المخرج السينمائية والعناصر البصرية التي يوظفها؟ هل السينما – التي تكلّف الكثير من المال وتحتاج أن تكون مرئية من قبل العدد الأكبر من الناس - هي الوسط الأفضل لأولئك المخرجين الذين لا يلبون ما يطلبه الجمهور، والذين يريدون جمهورا خاصا، نوعيا، مثقفا؟
* * * *
يقول أنجيلوبولوس:
- غالبا ما يشاهد الجمهور فيلماً ويجدون ضرورة لفهم كل ما يقال بدقة، وشرح كل شيء لهم. شخصياً، أنا مع الفيلم الذي يحتفظ بمقدار معيّن من السريّة ولا يفشي سرّه بسهولة.
- للإيحاء قوة طاغية.. بعدم إظهار الحدث بل الإيحاء به فإنك تساهم بفعالية في تحرير مخيلة المتفرج، بحيث يكون بإمكانه أن يخلق لنفسه صورةً داخل الصورة المعروضة. عندما يضيف المتفرج مخيلته إلى مخيلة المخرج فإن حضوره يكون ديناميكياً وليس سلبياً.
- الفراغات بين اللقطات أو المشاهد تمنح المتفرج خيارا هائلا لأن يصبح شريك المخرج في العملية الإبداعية. هذا يعتمد على المتفرج وإلى أي حد هو راغب في المشاركة الفعالة في الفعل الإبداعي أثناء مشاهدته لفيلمي. الفيلم يزوّده بمقدار معيّن من المعلومات، وعندما يقوم المتفرج بنفسه بإكمال الفيلم، من خلال طاقته الخاصة، عندئذ يقدر هو أن يستمتع بالفيلم.
- في نوعية الأفلام التي أحققها، والتي هي دوماً عبارة عن بحث لغوي، أنت تصل إلى موضع حيث اللغة تصبح هي المضمون. محتمل أن يتمكن المتفرج من متابعة ذلك بصعوبة. إن ذلك يتصل بكمية الجرعات. أنا مع منح المتفرج فرصة أولى في التأويل، فيما أقوم ببناء المستوى الثاني والثالث، والذي قد يكون مفهوماً من قِبل متفرج أكثر تقدماً، لكنني أؤمن بالمستوى الأول الذي يمكن قراءته بطمأنينة نسبية. على الأقل، ذلك ما أحاول أن أفعله، لكن هناك دائما السؤال عن ما إذا كنت قد نجحت في تحقيق هدفي وإحراز غايتي. أنا لا أعمل مثل جهاز الكومبيوتر، ولا أستطيع أن أخطط لكل شيء. ثمة اعتقاد بأن المخرجين الذين يحققون أفلاما صعبة ومعقدة، يقومون ببرمجتها بعناية وبتفصيل دقيق. لكن بالنسبة لي هي مسألة تتصل بالغريزة. قد يكون للمخرج الذي يخطط بدقة تأثير أكبر على المتفرج.
المخرج يتغذّى بكل العوامل: شيئاً من الدعابة، شيئاً من الدراما. إنه يعد بالمزج كوكتيلاً إليكترونياً مناسبا، وتلقمه في آلات حاسبة، والتي عندئذ سوف تقدم وصفة لصورةٍ ما، قد تكون حسنة أو سيئة. لكنني لا أظن أن مخرجاً، مثل فلليني، يعمل هكذا. - في تحقيقي للأفلام لا أتوجّه إلى شخص معيّن.. بورخيس عبّر عن ذلك بشكل جيد حين قال: أكتب لنفسي، لأصدقائي – مهما كان عددهم - ولكي أعبر الزمن الذي يفيض.
- كل يوم يولد نوع جديد ومختلف من الجمهور. خارج دائرة الأفلام الأمريكية الضخمة التي تجذب وتفتن جمهورها بسبب قدرتها الهائلة على الاتصال، هناك جماعات أخرى، مختلفة، من الجمهور.. هي قليلة لكن تزداد كل يوم.
- هناك أشخاص يشترون أفلامي ويشاهدونها. العدد ربما ليس كبيرا، لكنه جمهور ذو نوعية خاصة. مع ذلك، لا أعتقد أن بمقدورك فعل شيء بشكل جيد إذا حاولت أن تحوّل وسطاً تعبيرياً إلى نداء يائس من أجل الاتصال.
- الفيلم يكون مقبولاً أو مرفوضاً ليس فقط بناءً على جدارته أو استحقاقاته، لكن أيضاً إذا كان يناسب أو لا يناسب مناخاً عاطفياً معيناً، والذي يتغيّر من مكان إلى آخر.
- اليوم هو زمن صعب جدا للفنانين من أي صنف، وللكتّاب أيضا في دول البلقان. لا أحد يريد أن يصغي، لا أحد. والفن، الفن الحقيقي، يحتاج إلى الإصغاء. إذن، في غمرة كل هذا، ماذا أستطيع أن أفعل؟ ببساطة، أستطيع أن أحقق أفلاما لأولئك الذين يحملون تقديراً لأعمالي.
- أحتاج إلى رؤية عيون الآخرين. فقط في نظرة المتفرج أدرك ما صنعت. بدون تلك النظرة لا أعرف إن كان ما فعلت جيدا أم سيئا، لا أعرف إن كنت قد استطعت التعبير عما كان يجول في مخيلتي.
- بالنسبة لبعض السينمائيين، رواج الفيلم تجاريا، حسب شباك التذاكر، يرضي جشعهم.. لكن بالنسبة لنا، فإن تفاعل الجمهور هو البرهان الحي على أن أعمالنا ليست عقيمة، وأن من خلالها نستطيع أن نصل، عبر التخوم والمحيطات، إلى كائنات بشرية أخرى تشعر وتفكر مثلنا تماما.
- خلال فترة الحكم الديكتاتوري، كنت أتنقّل من بلدة إلى أخرى، في طول وعرض اليونان، ملبياً الدعوات الموجهة إليّ من الطلبة، من أندية السينما، في المدن الكبيرة وفي القرى الصغيرة، عارضا ومناقشاً أفلامي.
في هذه الأيام، لم أعد بحاجة إلى فعل هذا. أثناء الحكم الديكتاتوري كان ذلك نافعاً جدا وضروريا جدا. كان شكلا من أشكال الاتصال الحقيقي وراء نطاق ما هو ممكن عادةً في السينما. في ذلك الحين كنت أعرف جمهوري. الفيلم لم يكن بديلاً بل أداة نقل. - يتعيّن على صانعي الأفلام أن يبذلوا أفضل ما يستطيعون من أجل مساعدة أفلامهم على جذب انتباه أكبر عدد من الجمهور. أنا أفعل ذلك. إني ألتقي بالجمهور في كل مكان أذهب إليه.. وبالطبع، في كل ركن من اليونان، وأتناقش معهم حول أفلامي. لكنني أدرك أن ليس بوسع كل مخرج أن يفعل ذلك.
- السينما تتغيّر بسرعة فائقة. الاهتمام الرئيسي، والوحيد غالبا، لصناعة الفيلم الآن هو عدد التذاكر المباعة لكل عرض. هذا أمر متوقع، لكن لا ينبغي أن يشكّل الاهتمام الوحيد والحصري لها.
أفراد مثل أورسون ويلز وكارل دراير، على سبيل المثال لا الحصر، كانوا هامشيين طوال حياتهم. لكن هؤلاء هم الذين كتبوا تاريخ السينما.
شخصياً أعتقد أن كل التغيّرات والتحولات الحقيقية، في أي حقل، لا تحدثها الجماهير بل تصنعها قلة من الناس.. الأفراد الاستثنائيين، الرائعين.
يجب أن أقول أيضا بأنني لا أشعر بأن كل الأعمال التي تحطم الأرقام القياسية ينبغي أن تقلقنا كثيرا. بعض الأفلام ربما تكون ناجحة على نحو ساحق، لكن سرعان ما تتعرّض للنسيان. أفلام أخرى لا يشاهدها إلا القلة لكنها تترك بصمتها على تاريخ السينما. - شخصياً، لا أحبّذ أن يشاهد الجمهور أفلامي على أشرطة الفيديو وعلى شاشة التلفزيون، بل أتمنى أن يشاهدوها في صالات السينما. الشاشة الصغيرة تخرّب، إلى حدٍ ما، الإحساس بتكوين المناظر الطبيعية والمواقع في اتصال الشخصيات بها.
- ذات مرّة حاولت أن أشاهد فيلم سيرجي إيزنشتاين "المدرعة بوتمكين" على شاشة التلفزيون، لكن ذلك كان مستحيلا تماماً. أعتقد أن مشاهدة فيلم لبيرجمان ستكون صالحة أكثر، ذلك لأن العواطف القوية وغزارة اللقطات القريبة من المقومات التي تنجو عادةً عند انتقال الفيلم إلى الشاشة الصغيرة. لكن حين يستخدم الفيلم لحظات الصمت على نحو مفرط، وحين يستدعي الفيلم التأمل، والمناظر الطبيعية تكون مساوية في الأهمية للكلمات المنطوقة، فإن التلفزيون سوف لن يكون منصفاً على الإطلاق. أنا لا أتحدث فقط عن أفلامي، فالأمر ينطبق أيضا على أفلام الويسترن الملحمية. خذ كمثال لقطات الزفاف في فيلمي "خطوة اللقلق المعلقة": ليس في المشهد سطراً واحداً من الحوار، وفعاليته تتوقف كلياً على سكون الصالة المطلق. أقل ضجيج، أي حركة تصدر من الجمهور، أي إزعاج من أي مصدر في الصالة، سوف يفضي إلى انهيار المشهد.. إذ من المتوقع منك كمتفرج أن تصغي جيداً إلى الصمت، الذي هو حافل بالمعنى كما الحال مع أي حوار. لكن كيف تستطيع أن تتخيّل صمتاً مطبقاً في البيت أمام جهاز التلفزيون وحولك أطفال يتصايحون أو يبكون، وتليفون لا يكف عن الرنين؟
- ثمة أزمة في أوروبا في ما يتصل بالجمهور، فالأفلام الأمريكية تحتل أكثر من ثمانين في المائة من الشاشات في بلدان معينة. إنها أشبه بالإمبراطورية، بالتالي نحن نتلقى الثقافة والتربية الأمريكية من نواح عديدة. أنا لست ضد هذا، لكنني ضد الاحتكار. اختلافاتنا هي التي تثير الاهتمام، ولو أصبح العالم كله متشابهاً لبدا الأمر مضجرا.. مضجرا جدا.
- نحن نعلم أن السينما الأوروبية لا تحقق نجاحا تجاريا في السنوات الأخيرة. صالات السينما اليوم لم تعد تمثّل ذلك المكان المثالي لعقد لقاء بين الفنان المبدع وجمهوره. ثمة أقلية نخبوية صغيرة لا تزال تنشد ذلك اللقاء، لكن الأغلبية العريضة تفضّل مشاهدة الأفلام الأمريكية التي هي، من وجهة نظري، ليست أفلاما بل مجرد صور مطبوعة على السيلولويد.
- الجيل اليوناني الشاب، مثل أي جيل شاب في أي مكان، حسب اعتقادي، صار يهتم الآن بالأفلام والأساليب والموسيقى التي تنتمي إلى الخمسينيات والستينيات. هذا، بالطبع، يعبّر عن التوق إلى البراءة المفقودة، ويمثّل حركة نوستالجية.
في اليونان، الشبان ينظرون إلى تلك الأزمنة الماضية بوصفها "سحرية" وبريئة. الحياة تبدو بسيطة وطيبة جدا في تلك الأفلام الكوميدية والميلودراما الرومانسية. لكن المسألة هي أكثر تعقيدا، إذ يجب أن تدرك بأن الناس في كل مكان يشاهدون الآن التلفزيون على نحو مفرط، إضافة إلى الإعلانات التجارية التي لا تحصى، والكثير من أفلام هوليوود. ليس ثمة وسيلة حقيقية للتحكم في هذا الشيء. يبدو لي من العبث محاولة وضع حصص نسبية بشأن عدد أفلام هوليوود التي يمكن أن تعرض في السنة. لا تستطيع، أو لا ينبغي، أن تفرض على الناس نوعية معينة من الأفلام أو تقرر ما يجب أن يشاهدوه، لهذا فإن ولع الجيل الشاب بالأفلام القديمة هو أمر مثير للاهتمام.. إنه يوحي بأنهم، إلى حدٍ ما، سأموا من أفلام هوليوود ومن التلفزيون. إن عودتهم إلى تلك الأفلام نابعة من منطق رومانسي. - أريد من أفلامي أن تعطي المتفرج الإحساس بكونه ذكياً ومتقّد الذهن، أن تساعده على فهم وجوده الخاص، أن تمنحه الأمل بمستقبل أفضل، أن تعلّمه كيف يحلم ثانيةً.
- العالم يحتاج إلى السينما الآن أكثر من أي وقت مضى. هي ربما الشكل الهام الأخير من أشكال مقاومة العالم المتدهور الذي نعيش فيه.
(هذه المادة مترجمة من مصادر متعددة من الكتب والمجلات)