كما الحال مع مخرجين آخرين مثل: بيير باولو بازوليني، جان كوكتو، ديريك جارمان وغيرهم من المخرجين الذين لا تقتصر تجاربهم الفنية على وسط معين بل تمتد لتشمل مجالات أو أشكال فنية أخرى، مثل التشكيل والشعر والموسيقى، وذلك من أجل إثراء وتوسيع نطاق رؤيتهم للعالم، لا يكتفي كيارستمي بالتعبير السينمائي بل يحلو له ارتياد مجالات أخرى.
إضافة إلى العمل السينمائي، هو يمارس كتابة الشعر، حيث أصدر مجموعة شعرية في 1999، ثم أصدر كتاباً شعرياً مطبوعاً بلغتين، الفارسية والانجليزية بعنوان "السير مع الريح" (مطبوعات جامعة هارفارد، 2002)، وقد ترجمت إلى لغات عديدة من بينها الفرنسية والإيطالية.
للشعر أهمية قصوى في حياته وأعماله. الشعر مصدر دائم، ثابت، ولا ينضب للمتعة والطمأنينة والاستلهام. في مهرجان تورينو الإيطالي في نوفمبر 2001، أثناء تقديمه للترجمة الإيطالية، قال: "في أوقات الصراع والقلق، يكون الشعر من الأشياء القليلة التي تستطيع أن تمنحنا درجةً من اليقين والثقة، وتوفر لنا شيئاً من السعادة. لا أعرف شيئاً آخر غير الشعر يستطيع أن يفعل هذا. طوال حياتي كنت ألجأ باستمرار إلى الشعر. في رأيي، الشعر عامل مساعد في أوقات الضيق والعسر أكثر مما هو في أوقات الهدوء واليسر. إنه يمكّننا من إيجاد استقرار معيّن، طاقة باطنية".
كيارستمي متأثر بشكل خاص بشعر الهايكو، في بنائه الشكلي وطبيعته البصرية. هذا الاتجاه الذي غلب على الطابع الذي اعتمده في الكتابة الشعرية، والبارزة في كتابه المذكور، الذي يتألف من 200 قصيدة يقول عنها كيارستمي بأنها نتاج خربشات وكتابات عجولة على زوايا الكتب والأوراق. وقد حقق الكتاب نجاحاً وأعيد طباعته، ويعلق كيارستمي على هذا مازحاً: " للمرة الأولى في حياتي، يحقق عمل لي إيرادات عالية".
في الشعر، يكتشف كيارستمي أن ثمة قرابة ثقافية يتقاسمها الشعر الفارسي والشعر الياباني، والتي تجعل الاختلافات والفوارق تتلاشى. هذا الاكتشاف أو الإدراك حثّ كيارستمي على الشروع في عزل قصائد تتألف من بيتين من شعر الرومي وسعدي وحافظ محولاً هذه الأعمال إلى قصائد هايكو سهلة الاستيعاب والهضم في المرحلة الرقمية (الديجيتال).
يقول كيارستمي: "نحن نعيش في عصر الـ SMS، رسائل الهواتف النقالة، وهذا سوف يغيّر زمننا لأنه سوف يغيّر نمط أو عادة المحادثة. الجمل أصبحت موجزة، مكثفة، وقصيرة. وأنت توصّل المعنى الذي تريد بشكل سريع جداً. بالهايكو، الذي يتألف من خمس إلى سبع كلمات، أنت تجرّد الشعر من زخارفه. إنه يدخل في صميم الموضوع، والناس سوف ينتبهون".
يرى كيارستمي بأن أحد المشاكل التي تواجه الإيرانيين في فهم الشعر يكمن في أنهم يوجهون الكثير من العناية إلى الإيقاع. إنه يعتقد بأن في قراءة قطعة من الشعر لا ينبغي للمرء أن يركّز بؤرته بإفراط على الأنماط المتسمة بالتكرار للأصوات لأن المرء بهذه الطريقة سوف يقصّر عن بلوغ إدراك وفهم المعنى.
لكن من جهة أخرى هو يتحدث عن هيمنة اللغة الشعرية، أكثر من الصور، على الحقل الثقافي في إيران، وعن الأهمية الاستثنائية للشعر في إيران، حتى بين المحرومين والأميين.. "الشعر يشكّل اللغة المنطوقة للشعب الإيراني.. ربما ليس بالنسبة للجيل الشاب، لكن بالتأكيد لكل الأجيال السابقة. هناك الكثير من الأفراد الأميين القادرين، رغم ذلك، على إلقاء قصائد شاعر أو آخر".
في كتابيه "سعدي وفقاً لعباس كيارستمي" و"حافظ وفقاً لعباس كيارستمي"، هو يكتب من أعلى إلى أسفل ليشجّع القراء على التركيز على المعنى أكثر من الأنماط الموسيقية للقصائد.
يقول كيارستمي: " لا أعرف كيف خطرت لي فكرة كتابة هذين الكتابين، فقد وجدت نفسي أنفّذ العمل فحسب. لقد حاولت أن أختار المقاطع الشعرية التي لا تعتمد على الأبيات التي تليها. بعد جمع الأبيات أو المقاطع، قمت بتغيير أسلوب الكتابة وكتبت من الأعلى إلى الأسفل بدلاً من اليمين إلى اليسار. أيضاً لم أستفد من علامات الترقيم. يتعيّن عليّ أن أوضح بأنني استخدمت قصائد سعدي وحافظ فقط كمادة أوليّة لعملي، ولم أقم بإلغاء أو إزالة أي جزء.
وقد بدأت في تطبيق طريقة العمل نفسها على قصائد خاقاني، لكن محاولاتي لم تنجح. يبدو أن سعدي كان ودوداً أكثر معي.. ربما لأن هناك الكثير من القطع الحوارية في شعر سعدي. حالياً أنا عاكف على العمل في (ديوان الشمس) لمولانا جلال الدين الرومي.
ذات مرّة نصحت أبنائي أن يقرأوا أعمال سعدي لأن ذلك أشبه بفتح نافذة على عالم جديد، لكنهم طلبوا مني أن أذهب إلى نافذة الإنترنت لأفهم الكثير عما يجري في العالم".
كيارستمي يحذّر من الاستخدام الفج للشعر في السينما، ويشدّد على خطورته.. "لكن في صياغة الحوارات، بإمكانك أن تستفيد من الانطباعات والأفكار التي تحصل عليها من أعمال شاعر معيّن.. هذا ما فعلته في فيلميّ: الريح سوف تحملنا، وعبر أشجار الزيتون".
إن لديه قدرة فذّة في الإمساك بجوهر الشعر الفارسي، وخلق لغة مجازية شعرية ضمن المواقع الطبيعية في أفلامه. إنه يجد في أشعار الكلاسيكيين العظماء قرابة فكرية وروحية. كما يشعر بارتباط عميق بحركة الشعر الإيراني الحديث. في عدد من أفلامه يقتبس قصائد أو أبياتاً من الشعر الفارسي القديم (عمر الخيام كمثال) والمعاصر (سُهراب سيبهري، فروغ فروخزاد كمثال) إما كتضمين أو كتلاوة، ومن خلال هذه القصائد يسعى كيارستمي إلى الربط بين الماضي والحاضر، الاستمرارية والتغيير. إن تكييفه للمقاطع الشعرية تمدّد حقل التحوّل النصي، التحوّل من نص سابق إلى جديد، موظف سينمائياً.
تأثره بالشاعر عمر الخيام نجده جلياً أكثر في فيلمه "طعم الكرز". يقول كيارستمي: "هل قرأت عمر الخيام؟ رباعيات هذا الشاعر والعالِم الفارسي العظيم، كُتبت في نهاية القرن 11 وبدايات القرن 12، وهي تأبين متواصل للحياة إزاء ما هو حاضر دائماً، إزاء الموت. في فيلمي (طعم الكرز)، وبالطريقة ذاتها، كان بوسعنا أن نتحدث عن الموت ونترك فكرة الانتحار".
وفي موضع آخر يقول: "بالإضافة إلى ذكاء وحسيّة قصائد الخيام، أحب خصوصاً بساطتها، دقتها، براعتها في الإيجاز. لقراءة شعره، بالنسبة لي، التأثير ذاته الذي تمارسه صفعة في الوجه. هو باستمرار يذكّرنا بحضور الموت والحاجة للتعايش معه. قصائده تجعلنا نقف مباشرة أمام الموت، وتحثنا، دون أن تكون متشائمة، على أن نصبح واعين لوضعنا الإنساني.. لكن هذا فقط في سبيل تمجيد فضائل ومزايا الحياة".