أنجز أندريه تاركوفسكي فيلمه "نوستالجيا"، الذي أهداه إلى أمه، في إيطاليا العام 1983، بإنتاج إيطالي، وشاركه في كتابة السيناريو تونينو جويرا، الذي تعاون مع أنتونيوني وروزي وأنجيلوبولوس وغيرهم من كبار المخرجين.
سينما تاركوفسكي هي السينما في حالتها الصافية والنقية، المتحررة من ثوابت ومسلمات السينما التجارية، ومن تقاليد البناء الدرامي والسرد والمونتاج. لغته البصرية باهرة، أخاذة، وجريئة. عالمه مأهول بالأشياء والعناصر المألوفة التي يتكرر حضورها من فيلم إلى آخر لكن بتوظيفات مختلفة وبدلالات متعددة تتصل بالبعد الديني أو الميثولوجي أو السيكولوجي.. كالماء والنار والريح والسديم والخبز والشموع والطيور.. الخ.
الأزمنة والأمكنة، المتداخلة والمتشابكة، يمكن أحياناً تمييزها بواسطة التباينات اللونية أو التغيّرات غير المدرَكة على نحو مباشر في الإضاءة، محددةً التخوم الفاصلة بين عوالم الواقع والذاكرة والحلم، وأحياناً يحدث التداخل دون حيل بصرية أو مؤثرات خاصة، إنما تأتي فجائية وصادمة للوعي السلبي.
فيلم "نوستالجيا"، الحائز على جائزة خاصة في مهرجان كان، لا ينفصل عن عالم تاركوفسكي بل يتوحّد مع الأفلام الأخرى ضمن نسيج فني ورؤيوي ينسجه فنان مبدع ينظر إلى الفيلم كوسط شعري. هذا التوحّد ليس فقط على صعيد التوظيف أو الاستخدام التقني للألوان والإضاءة وحركات الكاميرا وحجم وزوايا اللقطات، أو في التخلي عن الحبكة بمفهومها التقليدي وتحطيم السرد القصصي بالتوكيد على الحالات والتداعيات وصور الحلم والذاكرة، إنما يتم التوحّد أيضاً على صعيد الرموز والمجازات، حضور العناصر، تداخل الماضي والحاضر، التحام الهمّ الخاص بالعام، البحث في معنى الخلق والوجود وعلاقة الذات بهذا الوجود.
شخصيات "نوستالجيا" – كما هي في الأفلام الأخرى – مأزومة، معذّبة، مترددة بين الشك واليقين. إنها لا تعيش محنتها فحسب، بل محنة عالم تجرّد من الإيمان والأمل ليتجه سريعاً نحو الكارثة الكبرى حيث الانحلال النهائي والتفسخ الشامل. شخصيات تجد نفسها أمام امتحان عسير وشائك، أمام أسئلة قاسية يطرحها الماضي والحاضر معاً. إنها تبحث بمشقة عن الخلاص، عن إقليم تتم فيه المصالحة بين المرء وذاته، ويتحقق فيه التوازن بين الذات والآخرين وبين الذات والطبيعة، لكنها لا تجد ما تسعى إليه لأنها تفتقر الإيمان بشيء ما، وهي لن تحرز الخلاص إلا بفعل التضحية والتطهر باستجواب شكوكها، بالانفتاح على ما يحيط بها من أفراد وأشياء وعناصر، برؤية الأشياء بعين أخرى.. جديدة وبريئة ونافذة.
نوستالجيا كلمة تعني الحنين، الاشتياق إلى مكان آخر وزمن آخر، وهذا الاشتياق الجارح والمستنزف يعادل السقم، الاعتلال حتى الموت. يقول تاركوفسكي: "نوستالجيا لا تعني مجرد الإحساس بالحزن. إنها مرض، ألم معنوي يعذّب الروح ويماثل فقدان الإيمان والأمل. أولئك الذين لا يستطيعون قهر هذا الإحساس.. يموتون".
أندريه جورشاكوف – بطل نوستالجيا – كاتب وشاعر من موسكو، أستاذ في تاريخ النهضة الإيطالية، يقوم برحلة إلى إيطاليا باحثاً ومتقصياً حياة موسيقار روسي يدعى بافل سوزنوفسكي، كان قد رحل إلى إيطاليا في أواخر القرن الثامن عشر. هذا الموسيقار كان يخشى العودة إلى وطنه (حيث تنتظره العبودية، لأنه كان عبداً لأحد الملاّك) لكنه لم يقدر على البقاء طويلاً في منفاه الاختياري. وعندما عاد إلى موطنه شعر بالاختناق فأدمن على الكحول ثم انتحر.
أندريه يحاول – ذهنياً – استعادة رحلة ذلك الموسيقار في أنحاء إيطاليا باستقصاء الأماكن نفسها، ترافقه مترجمة شابة، إيوجينا، لا تستطيع أن تنسجم مع مزاجه الحاد ونزوعه إلى الكآبة.
إنه يختبر المشاعر ذاتها التي اختبرها الموسيقار من قبل: الغربة والحنين إلى الوطن والعائلة من جهة، والخوف من العودة من جهة أخرى. الغربة التي يعيشها هنا هي ذاتها الغربة التي عاشها هناك. في المكانين لا يشعر بالتآلف والطمأنينة. ليست الفوارق الثقافية واللغوية وحدها هي التي تعمّق هذا الشعور بل افتقاده للغة الحيّة، الإنسانية، التي تربط البشر ببعضهم، تربط الخارج والداخل، الحاضر والماضي. إلغاء التخوم هو الشرط الأساسي للمعرفة ولإقامة علاقة سليمة يتحقق فيها الاتصال الحي والمباشر.
يقول تاركوفسكي: "الفيلم هو عن استحالة أن يعيش الناس معاً دون أن يعرف الواحد الآخر، عن المعضلات الناشئة من ضرورة أن يعرف الواحد الآخر. التعارف مسألة سهلة جداً، لكن يصعب جداً التوصل إلى معرفة أعمق للآخر. علاوة على ذلك، ثمة مظهر من الفيلم أقل بروزاً على السطح يتصل بمدى إمكانية استيراد وتصدير الثقافة، وانتحال ثقافة شعب آخر".
رحلة أندريه تكشف التفاعل اللانهائي للنقائض والأضداد التي تتعايش في داخله. في محاولة يائسة لفهم حاضره يقوم، عبر الذاكرة، بإعادة بناء ماض مراوغ يصعب الإمساك به. البيت ذو حضور مادي وروحي في آن. في أحلام يقظته يرى بيته في صورة مزدوجة: مكان يوفر الراحة والأمان، ومكان يولّد الاستلاب والعجز. في داخله يتزاوج اليأس والأمل، الرغبة والخوف، التوق والنفور، الانتماء والهروب.
في ساحة القرية الصغيرة التي تحتوي على بركة قديمة ذات مياه حارة، يقال بأن إحدى القديسات قد زارتها فصارت مزاراً يتوافد إليه الناس على أمل إطالة أعمارهم. في هذا الموقع يلتقي أندريه بشخص مضطرب عقلياً، منبوذ، انطوائي، متجهم، يدعى دومينيكو، كان قد حبس ذات مرّة نفسه وعائلته لمدة سبع سنوات، مسكوناً بهاجس أن نهاية العالم وشيكة. بواسطة العزل أراد أن يحمي عائلته من العالم المضطرب، المنقسم على نفسه، الذي يسعى إلى إنقاذه من مصيره المحتوم من طريق تغييره. إنه يؤمن بضرورة خلق عالم جديد. وهو يخبر أندريه أن بالإمكان إنقاذ العالم إذا قام شخص ما بعبور البركة، الضحلة المياه، مشياً وهو يحمل شمعة مشتعلة. ويرجو منه أن يفعل ذلك، فيعده أندريه لكنه يتجاهل الأمر.
يقول تاركوفسكي: "أندريه جورشاكوف يبحث عن الحقيقة، أحياناً يشعر أن من العبث تعليم شيء لا يعرفه. في المجنون يجد شخصاً مقتنعاً بما يفعله، فهو يزعم معرفته بكيفية إنقاذ العالم ويتصرف وفقاً لذلك. دومينيكو أشبه بطفل بلا دفاع ولا حماية، وهو يتصرف بدون تفكير، بالتالي هو يمثّل – بطريقة ما – ما هو مفقود في جورشاكوف".
ثمة مصاهرة معينة، صلة روحية، تجمع بين الاثنين. في أوجه عديدة، يعبّر دومينيكو عن الذات الأخرى لأندريه. في حلم يقظة، يرى أندريه نفسه يهيم عبر شوارع خالية مكسوة بأشياء مبعثرة: جرائد، نفايات، أثاث قديم. عندما يفتح خزانة ثياب فإنه لا يرى انعكاسه في مرآتها بل انعكاس دومينيكو. أما كلب دومينيكو، فإنه يرافق الاثنين معاً، إذ يظهر على نحو مفاجئ وغامض في غرفة أندريه بالفندق كما لو كان رفيقه منذ زمن طويل، كذلك يقطن في أحلام يقظته وذكرياته، في أماكن وأزمنة أخرى. ليس هذا فحسب، بل أن الكلب يتواجد مع الاثنين لحظة موتهما.
في الواقع، التماثلات والتطابقات لا نجدها بين شخصيات الفيلم فحسب (أندريه، دومينيكو، الموسيقار) بل أيضاً بين أندريه وتاركوفسكي نفسه: بالإضافة إلى الإشارات الذاتية، التلميحات الضمنية، تشابه الاسم، اشتمال الفيلم على أصداء من تجارب تاركوفسكي في طفولته وشبابه، فإن هناك الحالة المتشابهة في الغربة والحنين وصعوبة العودة بسبب المرض. المرض يفضي إلى موت أندريه. المرض يباغت تاركوفسكي ويرغمه على البقاء في إيطاليا ليموت بعدها بسنوات قليلة في باريس.
أمام جمهور من المجانين يلقي دومينيكو موعظته الأخيرة. أمام عالم مجنون، لا مبال، جامد، يحرق دومينيكو نفسه في احتجاج صارخ، مقدماً نفسه قرباناً من أجل خلاص العالم، ترافقه موسيقى بيتهوفن. في هذه الأثناء، يحقق أندريه رغبة دومينيكو ويفي بوعده: في البركة التي جفّ ماؤها تقريباً، يحمل أندريه شمعة ويذرع البركة ماشياً في جهد وإعياء حتى تخذله قواه. وتاركوفسكي يصور مشهد الذروة هذا، حيث يتّحد الماء والنار، في زمن حقيقي وبلقطة طويلة متواصلة دون قطع.
تاركوفسكي لا يكترث بالمحاولات اللحوحة والعقيمة، التي قد يقوم بها المتفرج أو الناقد، لتفسير وتسويغ شظايا أو أجزاء مما يراه هو كوحدة كلية غير قابلة للتجزئ والتحليل. إنه لا يوجّه مسار المتفرج إلى نقطة معينة، ولا يجد على الإطلاق أية جدوى من الإشارة إلى معنى ما، أو حلّ ما، لصوره وألغازه. هو ينقل الحالات والمشاعر والعواطف على نحو مباشر، وبحس جمالي وشعري، تاركاً للمتفرج حرية إيجاد طريقه الخاص والتوصل إلى استنتاجاته أو اكتشافاته الخاصة.
هكذا يجعلنا نشهد، في انبهار، انبثاق سرب من الطيور الصغيرة من تمثال مريم العذراء في الكنيسة، أو يجعلنا نتأمل دخول شخصيات أخرى، على نحو غامض، عالم الذاكرة أو الحلم الخاص.. أي عالم لا تنتسب إليه في الأصل، كما في دخول إيوجينا، المترجمة، ذكريات أندريه أوفي حضور الكلب. إنها حالات سحرية، فاتنة، غير خاضعة للتفسير المنطقي، وينبغي تأملها أو فهمها ضمن المنطق الداخلي للفيلم ككل.
الفيلم عبارة عن سلسلة من المشاهد المتعاقبة، ذات الخاصية التشكيلية، التي تبهج الحواس وتحرّك المشاعر بفيض من الصور الحيّة، المركّبة بشكل جميل، والتي تمثّل تجارب وأحلام وذكريات الشخصيات. الكثير من المشاهد ساكنة، ولا شيء يحدث فيها، مع ذلك هي تحمل كثافة شعرية، وتخلق حالة من التوتر والتنويم عند المتفرج.
الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر، الحقيقة والخيال، الواقع والوهم، تتعرّض للمحو والإزالة، أو تبدو ضبابية وغير واضحة. العوالم الداخلية والخارجية تتشابك بحيث يصعب التمييز بينها.
الأصوات مركّبة بعناية، وعلى نحو مدروس، حيث تمتزج أصوات الحاضر والذاكرة، وتختلط الأصوات القريبة والبعيدة، رابطة مجالي الواقع والرؤية. وأحياناً لا يعبأ تاركوفسكي بالمؤثرات الصوتية الواقعية المتزامنة مع الحركة، مجرّداً بذلك المشهد من الحس الواقعي، ومصعّداً الحس الشعري أو الرؤيوي.
الموسيقى (بيتهوفن، فيردي، الأغاني الروسية الفولكلورية) مستخدمة باقتصاد شديد دون إفراط، ليس كخلفية أو لتعزيز الأجواء، إنما كتلميحات خاصة يفرضها المشهد.
أما الألوان بتدرجاتها فتتغيّر وفق تباين العوالم المصورة.
حديث: أندريه تاركوفسكي
ترجمة: أمين صالح
تاركوفسكي يتحدث عن: نوستالجيا
"نوستالجيا" هو فيلمي الأول الذي حققته خارج بلادي.. روسيا، وكان ذلك طبعا بموافقة رسمية من المسئولين عن شؤون السينما هناك.. هذه الموافقة التي اعتبرتها في ذلك الوقت محتمة الحدوث بما أنني كنت أحقق الفيلم لمواطني بلدي، وعلى افتراض أنه سوف يعرض في روسيا. مع ذلك برهنت الأحداث اللاحقة، مرة أخرى، إلى أي مدى أهدافي وأفلامي هي غريبة أو مخالفة بالنسبة لبعض الرسميين القائمين على شؤون السينما في روسيا.
لقد أردت أن أحقق فيلما عن النوستالجيا الروسية، عن الحنين الروسي إلى الوطن، عن تلك الحالة الذهنية الخاصة بأمتنا والتي تؤثر في الروس البعيدين عن وطنهم. كان ذلك بالنسبة لي واجباً وطنيا. أردت للفيلم أن يكون عن الارتباط القدري للروس بجذورهم الوطنية، بماضيهم وثقافتهم، بأماكنهم الأصلية وعائلاتهم وأصدقائهم.. الارتباط الذي يحملونه معهم طوال حياتهم، أينما حلّوا، وأينما زج بهم القدر.
الروس نادرا ما يكونون قادرين على التكيّف بسهولة، والانسجام مع طريقة جديدة في الحياة. إن تاريخ الهجرة الروسية كله يؤكد ما تقوله النظرة الغربية بأن "الروس مهاجرون سيئون"، أي أقل الشعوب تآلفا مع الغربة. الجميع يعرف عن عدم قابليتهم المأساوي للتكيّف والإنسجام، وفشل جهودهم في تبني أسلوب حياة مغاير. كيف كان بوسعي أن أتخيّل، فيما كنت أحقق "نوستالجيا"، أن الإحساس الخانق بالشوق، الذي يملأ فضاء الشاشة، سوف يصبح قدري حتى بقية حياتي؟.. من الآن وحتى آخر أيام عمري، سوف أحمل هذا المرض الموجع – الحنين - داخل نفسي.
على الرغم من تنفيذ الفيلم كله في إيطاليا، إلا أنه كان روسياً حتى النخاع، ومن جميع النواحي: أخلاقيا ومعنويا وسياسيا وعاطفيا. إنه عن شخص روسي يسافر إلى إيطاليا، في زيارة غير محددة الأمد، لإنجاز مهمة معينة.. وعن انطباعاته عن ذلك البلد. غير أنني لم أكن أهدف إلى تقديم بيان سينمائي عن جمال إيطاليا الذي يذهل السياح، كما في الصور المرسلة إلى جميع أنحاء العالم في شكل بطاقات سياحية منتجة على نطاق واسع. إنه عن هذا الروسي الذي تسبب له، تلك الانطباعات المحتشدة حوله، إرباكا وتجعله يفقد الإحساس بالمكان والزمان. في الوقت نفسه، الفيلم هو عن عجزه المأساوي عن مشاطرة هذه الانطباعات مع أقرب الناس إليه، واستحالة توحيد تجربته الجديدة مع الماضي الذي يكبله منذ ولادته.
أنا نفسي مررت بتجربة مماثلة حين كنت بعيدا عن الوطن لفترة من الوقت: إلتقائي بعالم آخر وثقافة أخرى، وبدايات الارتباط بها قد أحدث لدي تهيجاً لا يمكن إدراكه بسهولة، لكنه غير قابل للشفاء.
إنه بالأحرى أشبه بحب يُبذل بلا جزاء, أشبه بأمارة يأس من محاولة الإمساك بما هو لا نهائي, أو توحيد ما لا يمكن توحيده. إنه تذكير بحقيقة تجربتنا على الأرض التي هي محدودة ومبتورة.. مثل إشارة تحذير بالقيود التي تقرر سلفا حياتك, والمفروضة ليس من قبل الظروف الخارجية (التي يسهل التعامل معها) لكن من قبل "المحرمات" القاطنة في داخلك.
جورشاكوف, بطل "نوستالجيا", شاعر يذهب إلى إيطاليا لجمع مادة عن الموسيقار الروسي ماكسميليان بريوزوفسكي, الذي كان عبدا مملوكا لإقطاعي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وقد أظهر موهبة موسيقية دفعت بسيده إلى ابتعاثه إلى إيطاليا لدراسة الموسيقى, وهناك بقي لسنوات طويلة قدّم خلالها حفلات موسيقية ناجحة وأحرز الإعجاب والإطراء. لكنه في النهاية, مدفوعا بلا شك من قبل تلك النوستالجيا الروسية التي لا مفر منها, قرر العودة إلى روسيا, إلى العبودية, حيث - بعد فترة قصيرة - انتحر شنقاً.
إن قصة هذا الموسيقار موضوعة بالطبع في الفيلم على نحو مقصود كنوع من إعادة صياغة لحالة جورشاكوف الخاصة, الحالة التي فيها يعي على نحو حاد وضعه كشخص غريب, لا منتم, ولا يستطيع إلا أن يراقب حياة الآخرين عن بُعد, مسحوقا بذكريات ماضيه, بوجوه أحبائه الأعزاء, بأصوات وروائح بيته وموطنه, هذه الأشياء التي تهاجم ذاكرته بعنف.
جوهريا, أردت لفيلم "نوستالجيا" أن يكون حراً من كل ما هو غير متصل بالموضوع, وما هو عرضي وتصادفي, والذي يعترض طريق هدفي الرئيسي: تصوير شخص في حالة عزلة عميقة عن العالم وعن ذاته, غير قادر على إيجاد توازن بين الواقع والتناغم الذي يتوق إليه.. شخص في حالة حنين لا يثيرها بُعده عن وطنه فحسب بل أيضاً توقه الشامل لوحدة الوجود الكلية.
إيطاليا تدخل وعي البطل – جورشاكوف - في لحظة قيامه بقطع الصلة بالواقع. تمتد إيطاليا فوقه في شكل خرائب عظيمة ومهيبة، والتي تبدو كما لو أنها تنبت من اللاشيء. هذه الشظايا من حضارة عالمية وغريبة في آن هي أشبه بنقش على ضريح يبيّن عبث المسعى الإنساني، وهي علامة على أن البشرية قد اختارت طريقا لا يمكن أن يفضي إلا إلى الهلاك. يموت جورشاكوف وهو غير قادر أن ينجو من أزمته الروحية، عاجز عن تقويم هذا الوقت الذي هو متنافر ومضطرب.
شخصية دومينيكو، التي تبدو للوهلة الأولى محيّرة إلى حد ما، لها تأثير خاص على حالة البطل الذهنية. هذا الرجل الخائف، الذي لا يوفر له المجتمع أية حماية، يجد في نفسه النبالة والقوة الروحية التي تجعله يعارض واقعاً يراه مهيناً للإنسان.
كان دومينيكو ذات مرة مدرس رياضيات، وهو الآن "اللامنتمي" الذي يسخر من "ضآلته" ويقرر أن يعبّر عن رأيه بحرية ومن غير تردد بشأن الحالة المأساوية التي وصل إليها عالم اليوم، مناشدا الناس أن يتخذوا موقفا إزاء ما يحدث. في نظر "الأسوياء" هو مجرد مجنون، لكن جورشاكوف يستجيب إلى فكرته - النابعة من معاناة حقيقية - التي ترى أن إنقاذ الناس من جنون الحضارة العصرية لا يجب أن يتم على نحو مستقل وفردي بل بتكاتف الجميع.
إن جورشاكوف يصبح مرتبطا بدومينيكو لأنه يشعر بحاجة عميقة إلى حمايته من النظرة العامة للأغلبية العمياء، القانعة والفاقدة للحس. مع ذلك فإن جورشاكوف عاجز عن إنقاذ دومينيكو من الدور الذي اختاره لنفسه بعناد، دون أن يطلب من الحياة شيئا في المقابل.
جورشاكوف يتفاجأ بتطرف دومينيكو الطفولي، ذلك لأنه هو نفسه، مثل سائر البالغين، مذنب لقيامه بسلسلة من التسويات والتنازلات. غير أن دومينيكو يعقد العزم على حرق نفسه حياً في رجاء جنوني بأن هذا الفعل الأخير، العلني والفظيع، سوف يجعل الناس يدركون بأنه لم يهتم بنفسه قدر اهتمامه بهم وقلقه عليهم، ويجعلهم يصغون إلى صرخة التحذير الأخيرة. جورشاكوف يتأثر بنبل واستقامة هذا الرجل وأفعاله. وإذا كان جورشاكوف يظهر مدى اكتراثه بنواقص وشوائب العالم فحسب، فان دومينيكو يأخذ على عاتقه فعل شيء إزاء هذه الشوائب، والتزامه يكون كاملا: الفعل النهائي يوضح بأن ليس هناك أبداً أي عنصر من التجريد في إحساس دومينيكو بالمسؤولية. وعند المقارنة، نجد أن عذابات جورشاكوف بسبب افتقاره إلى الاستقرار والجلد، لا يمكن إلا أن تبدو عادية وبسيطة بالقياس إلى عذابات دومينيكو.