Article
- عشقي الأول للأفلام، كصبي، كان موجها نحو النوع الأمريكي: الأفلام الموسيقية، الويسترن، العصابات.. وبدرجة أقل، الميلودراما. أحببت، على نحو خاص، أفلام جون فورد ومايكل كورتيز وأعمال منيللي وستانلي دونان الاستعراضية. ما أحببته في هذا النوع (الاستعراضي) من الأفلام تلك الحرية في أن تكون مؤسلبة جدا، وتنطلق من الحياة اليومية لتصير شيئا آخر. تلك الأفلام الاستعراضية كانت تنتقل من الحس الواقعي إلى الحس المسرحي.. مثل جين كيلي في "غناء تحت المطر" (Singing in the Rain). أشعر بأن الشكل الاستعراضي يتيح لك أن تحوّل الحياة اليومية إلى شيء آخر. إن هذا التأثر بالأنواع الأمريكية مكث بداخلي على نحو خفي.. الأعمال الاستعراضية وأفلام العصابات في عصرها الذهبي: بيلي وايلدر، جون هيوستون، هوارد هوكس.
- خلال السنوات الأولى بعد التحرير، من 1944 فصاعدا، السينما الأمريكية كانت النوع الوحيد المتاح في اليونان، بالتالي كانت أول سينما يتمكن جيلي من مشاهدتها. إن تأثير السينما الأمريكية كان محسوسا في أوروبا، للمرّة الأولى، بعد الحرب. نزوعها إلى قصص التحري، والاستعراضات الموسيقية، والدراما الاجتماعية والميلودراما، إضافة إلى استخدامها لنموذج معين من السرد لرواية تلك القصص، كل هذا كان له حظوة عند الجماهير العريضة التي تفضّل مشاهدة تلك الأفلام، لذلك هي أثّرت في الجيل الأول الذي ظهر بعد الحرب، وربما في الأجيال اللاحقة.
مع نهاية الخمسينيات، تفجّرت الموجة الجديدة في فرنسا، ومثّلت لأفراد مثلي اكتشافاً لخيار آخر غير السينما الأمريكية. العمل الذي حرّك مشاعري حقا كان فيلم جودار الأول "على آخر نفس" Breathless (1959).. قصة بوليسية ظاهريا، مكتوبة بطريقة مختلفة تماما. كان ثمة تباين هائل في الكتابة بين قصص التحري الكلاسيكية التي قدّمها جون هيوستون، وتلك التي قدّمها جودار. لكن، بالنسبة لنا، جودار اقترح الحافز الملائم بالكشف عن نوع آخر من المعالجة. بالطبع هو لم يكن المبتكر الأصلي تماما لذلك النوع، وخياره لم يكن الخيار الوحيد، فقد سبقته الواقعية الإيطالية الجديدة التي قدمت طريقة مختلفة في المعالجة تتصل بـ "التوقيت"، كما في أفلام أنتونيوني. كذلك هناك السينما اليابانية. كل هذه النماذج من السينما كشفت لنا تشكيلة من البدائل أو الخيارات في كتابة الأفلام، وفي تحقيقها على نحو عام. - عندما ذهبت إلى فرنسا، كانت السينما آنذاك تعيش في عهد أنتونيوني، مع أفلام مثل: المغامرة، الليل، وغيرهما. أثناء دراستي في الإيديك، كنت أحرص يوميا على مشاهدة أحد أفلام أنتونيوني.
- أنا أستل التقنية من أي شيء أشاهده. لا زلت أحب كثيرا أفلام مورنو، ميزوجوشي، أنتونيوني. و مؤخرا فيلم تاركوفسكي Stalker، وفيلم جودار "كل إنسان لنفسه"، وبالطبع فيلم Ordet.. لكن التأثيرات الخاصة الوحيدة التي أعترف بها هي أفلام أورسون ويلز، في استخدامه اللقطة الطويلة وعمق المجال البؤري.. كذلك ميزوجوشي في توظيفه الزمن والمكان خارج الكادر.
- ليس صحيحا ما يقال عن تأثري بيانشو (المخرج الهنغاري ميلوش يانشو). استخدام اللقطة الطويلة، التي تستمر مدّة طويلة دون قطع، ليس سمة تميّز يانشو وحده، هذا التوظيف كان قائما طوال تاريخ السينما.. في أفلام مورنو، على سبيل المثال.
- أذكر عندما شاهدت فيلم كارل دراير Ordet (الكلمة)، انفعلت بشدة إلى حد الهذيان، والذي دام ثلاثة أيام. كنت في حالة صدمة.. كما لو كنت مريضا، لكنه مرض بسعادة. ذلك كان يشبه استماعي لأول مرّة لكونشرتو فيفالدي على آلتيْ المندولين.. كيف يمكن لهكذا كمال أن يوجد؟
- ليس بوسعك إلا أن تتأثر بالمكان وثقافته حين تنشأ وتترعرع فيه.. خصوصا في زمن معيّن، كما فعلت، عندما كانت الكنيسة جزءا مهما في حياتي الثقافية (وليست الدينية بالضرورة).
لا أستطيع أن أكون حياديا وغير مبالٍ تجاه ما يحدث من حولي. من جهة أخرى، أنا يوناني جدا في اهتماماتي. كل فنان يتأثر بعمق بالمكان الذي يعيش فيه، بحيث يمكن لعمله أن يصبح ضربا من السيرة الذاتية الروحية.
الكتب التي نقرأها، الأشخاص الذين نلتقي بهم، طفولتنا ومراهقتنا – أكثر سنواتنا أهمية - كلها تشق طريقها نحو أفلامنا، كما تفعل أمور مثل الحرب. كيف بوسعي ألا أتأثر بعمق بما يحدث حولي مثلما أتأثر بكل لحظات السعادة والحزن، اللغة، المنظر الطبيعي.. وغير ذلك. - العنف خارج الشاشة جزء من التقليد القديم للتراجيديا الإغريقية. نحن أبدا لا نرى مشاهد الموت أو العنف على خشبة المسرح. هذا يحدث دوما "خارج الخشبة". الشيء نفسه ينطبق على المسرح الصيني والياباني والكثير من أعمال بريشت أيضا.
- ينبغي القول بأن تجربتي الفكرية الأوليّة كانت مستمدة من الأدب. بالتالي كنت مهيأ للمعالجة السينمائية المختلفة تماما في ما يتصل بالنصوص. قرأت، في الأغلب، أعمال الكتّاب الأوروبيين العظام، وكنا في اليونان نعرف الكثير عن الأسماء الأمريكية، من والت ويتمان إلى إرنست همنجواي، شتاينبك، فولكنر، دوس باسوس. بالطبع، الأدب اليوناني والتراجيديا الإغريقية، التي تمثّل لقائي الأول بالمسرح، كان لهما تأثيرا هائلا عليّ.
- الأدب مارس تأثيرا على نموّي. بدأت بكتابة القصائد والقصص القصيرة، ثم انتقلت إلى السينما. لذلك فقد تأثرت بحيّز مختلف، حيث فعل الكتابة هي القاعدة الغالبة للّعبة. بناءً على ذلك، فقد سعيت للشيء ذاته في السينما.
- في صغري، كتبت قصائدي الأولى. ومنذ ذلك الحين، أعتقد بصدق أن الشعر كان المؤثر الأول والرئيسي في حياتي. أساتذتي الأصليين كانوا شعراء. كتابة الشعر كانت الفعالية الفنية الأولى.
- جورج سيفيريس هو الشاعر الحديث المفضّل لدي. قبل أن أصبح مخرجا سينمائيا بفترة طويلة، كنت مولعا بالشعر. بدأت في كتابة القصائد تحت تأثير كافافي ، سيفيريس، أوديسوس إيليتيس في اليونان. أيضا إليوت، ريلكه وآخرون. مع حلول 1950 كنت مغمورا بعمق بأشعارهم التي لم تكن واردة في المناهج الدراسية، باستثناء بعض قصائد كافافي.
في الرواية، تأثرت بعمق بـ جيمس جويس، ستندال، بلزاك، فولكنر. وفي اليونان أحببت أعمال بابديامانتيس الذي هو غير معروف حتى في اليونان.
لذا يمكنني القول أنني أمضيت شبابي مع هذه المؤثرات أكثر مما قضيتها مع الأعمال السينمائية. ربما كنت بطيئا في اكتشاف السينما، لأن في ثقافتنا، في أدبنا، الشعر خصوصاً له الحضور الأبرز.. حتى الموسيقى كانت متقدمة على السينما. - المسرح، بالنسبة لليونانيين، شيء أساسي. نحن نتعلمه في المدرسة، نعيش معه، نراه يؤدى بطريقة كلاسيكية أو يعاد تنفيذه في إطار مختلف وجديد. ثمة الكثير من التراجيديا الكلاسيكية تنفّذ في الأوبرا أيضا.
- التغريب البريشتي لا يعتمد فقط على وضع الكاميرا، لكن أيضا على بناء الفيلم. كل فيلم مؤلف من عدد من الكتل الفردية التي –وفق تعريف بريشت- هي مستقلة بذاتها، لكن جميعها تعتمد على بعضها البعض. الغاية، على نحو جلي، هي إتباع السياق أو المجرى الطبيعي تقريبا في سبيل توكيد واقعية كل مشهد.
- في الستينيات، كان للتغريب البريشتي صدى واسعا، كان مرجعا للكثيرين. في ذلك الحين، كانت السينما السياسية تنبثق وتفرض حضورها، وبريشت أظهر لنا الوسيلة، ليس فقط لتحقيق أفلام سياسية، لكن لتحقيقها سياسيا.. أي المضي خطوة أبعد من الكراس النضالي.
في فيلمي الثاني "أيام 36" لم يكن هناك بطل. الشخصية الرئيسية تقيم في زنزانة ولا تُرى إلا نادرا، والحدث برمته يدور حول هذه الزنزانة.
نظرا لأن تحقيق أي فيلم عن الديكتاتورية العسكرية كان محظورا، فقد كان عليّ أن أستخدم صيغ بريشت لتحقيق فيلم سياسي على الرغم من الرقابة المشددة. النتيجة كانت نوعا مختلفا من اللغة السينمائية، من المفهوم الجمالي، من الحديث بطريقة ملتوية، غير مباشرة، والتي قد تبدو، في البداية، ملغزة لكنها، مع ذلك، لا تستعصي على الفهم.
مرحلتي البريشتية وصلت إلى نهايتها مع فيلم "الممثلون الجوالون".
18-3-2009