قليلة هي الكتب المترجمة إلى العربية والتي تعنى بالتعريف بخبرات مخرجين سينمائيين كبار. بعض هذه الكتب المترجمة تقدم معارف عامة حول المخرج المستهدف وأفلامه، بعضها الآخر، يتضمن ترجمات لآراء وسير ذاتية للمخرجين، وثمة أيضاً بعض الكتب التي لا تكتفي بالتعريف بسيرة وبأفلام المخرج وخصائصها الأسلوبية الفنية ومواضيعها وآرائه في السينما، بل تضم إضافة إلى ذلك ما يقدم للقارئ المهتم ثقافة سينمائية حقيقية تعرفه الى مختلف نواحي الممارسة الإخراجية من خلال تحليل الخبرة الشخصية للمخرج.
أحدث ما وصلني من كتب تعنى بتقديم ثقافة سينمائية ومعارف متخصصة، إنما مقدمة لعموم المهتمين، كتاب بعنوان “عالم ثيو أنجيلوبولوس السينمائي” وتحته عنوان فرعي “براعة التحديقة الأولى” الصادر عن وزارة الثقافة والإعلام في البحرين هذا العام.
يعتبر ثيو انجيلوبولس بحق واحداً من كبار المخرجين في السينما المعاصرة ممن يملكون أسلوباً مميزاً وأصالة ذات هوية حضارية وطنية، وهو اشتهر عالمياً من خلال الجوائز الرئيسية التي حازها العديد من أفلامه في المهرجانات السينمائية ذات السمعة العالية، بخاصة “مهرجان كان السينمائي” الذي منحه في دوراته المتعاقبة الجوائز المختلفة ومن أواخرها جائزة لجنة التحكيم وجائزة النقاد العالميين في العام 1995 عن فيلمه “تحديقة يوليسيس”، وكذلك الجائزة الكبرى في العام 1998 عن فيلمه “الأبدية ويوم واحد”، كما فازت أفلامه المترابطة على شكل ثلاثية والمعنونة “المرج الباكي” بجائزة النقاد في العام 2004 لأفضل فيلم أوروبي، وهذا كله على الرغم من أن هذا المخرج العالمي، وكما يشير أمين صالح في مقدمته للكتاب “لا يبدو معروفاً جيداً لدى الجمهور العريض، وحتى في بعض الأوساط السينمائية”.
يتألف الكتاب من ثلاثين فصلاً، بينها أحد عشر فصلاً مخصصة لعرض وتحليل أفلامه الروائية الطويلة كل على حدة. يتضمن الثلثان الأولان من الكتاب فصولاً من السيرة الذاتية بارتباطها خاصة بالتجربة السينمائية، أي أن السيرة الذاتية الشخصية تتجاور مع السينمائية في تفاعل وتأثير متبادلين، وضمن ذلك نعثر على تحليل دقيق لأسلوب المخرج حول طريقة تعامله مع مختلف عناصر أو وسائل التعبير السينمائي والإخراج، وهذا ما تدل عليه عناوين بعض الفصول مثل “الإخراج- الفعل السينمائي”، “الأسلوب والتقنية”، “السيناريو”، “التمثيل”، “المونتاج”، التصوير”، “الموسيقا” وغير ذلك من عناصر الإخراج، هذه الفصول هي بمثابة كشف للمختبر الإبداعي لدى المخرج والذي نكتشف فيه التفاعل المتبادل بين الجانبين النظري والعملي اللذين يحكمان مسيرة المخرج منذ المشروع الأولي داخل الذهن مروراً بتفاصيل تنفيذ العمل، وصولاً إلى إنجاز الفيلم في صيغته النهائية.
تكتسب أهمية خاصة الأفكار المتعلقة بخبرته في مجال إدارة المشهد “الميزانسين”، حيث من المعروف أن أنجيلوبولوس يشتغل دائما وفق طريقة اللقطة/ المشهد التي تستفيد من عمق المجال البؤري لتقدم حدثاً متواصلاً متحركاً يرى بوضوح في المقدمة والخلفية بما يتيح المجال للتأمل في المحتوى والإحساس بروح الحدث. لتفسير أهمية اللقطة/ المشهد يقدم الكتاب أمثلة مختلفة أحدها يضع اللقطة/ المشهد في تعارض مع أساليب المونتاج المعاصرة التي تعتمد على الإثارة: “الفيديو كليب والإعلانات التلفزيونية مكرسة تماماً للصور المتشظية التي تنطلق صوب المتفرج بسرعة قصوى، وأفلام هوليود أيضاً تخضع لمعايير معينة في المونتاج حسب ما تظن الاستوديوهات أنه الإيقاع الذي يأسر الانتباه ويستحوذ على اهتمام المشاهدين. أفلام انجيلوبولوس تعمل ضد كل هذا، سواء في الإيقاع أو في مقاومة التشظي الذي يقتضيه المونتاج”.
يبدأ الفصل المعنون “الأسلوب والتقنية” بمقطع يفسر خاصية اللقطة/ المشهد في أفلام انجيوبولوس: “انجيلوبولوس، شاعر السينما، بارع جداً في تكوين المشاهد والصور، لديه تلك العين النافذة جمالياً والتي بها يرى المتحرك في الساكن، الغريب والمدهش في اليومي، الخارق في العادي”.
يظهر على غلاف الكتاب اسم الكاتب الروائي والناقد السينمائي البحريني أمين صالح باعتباره مترجماً ومعداً للكتاب، وهذه الصفة المزدوجة تدل على مدى جدية وصعوبة الجهد الذي بذله صالح لإصدار هذا الكتاب، الذي من الواضح انه جمع مواده من مصادر مختلفة، لكنه لم يفعل ذلك بطريقة عشوائية، بل بطريقة منهجية، جعلت من الكتاب إضافة نوعية للكتب السينمائية المترجمة للعربية، خاصة مع الأخذ في الاعتبار وضوح النصوص على ما فيها من أفكار وتأملات عميقة، وهذا الكتاب يضاف إلى سلسلة كتب سينمائية مترجمة مهمة جداً سبق له أن أصدر بعضها وفق الصيغة نفسها، أي الترجمة والإعداد معاً، وأبرز هذه الكتب التي سبق لي الاطلاع عليها وتقديمها كتابان هما “السينما التدميرية” عام 1995 و”الوجه والظل في التمثيل السينمائي” ،2002 وللناقد أيضا كتاب سينمائي صدر حديثاً من تأليفه بعنوان “الكتابة بالضوء في السينما”.
الخليج- 24/10/2009