(1)
في أواخر الخمسينيات (من القرن الماضي) في البحرين، كان الفيلم المصري "عنتر وعبلة" – الذي أخرجه نيازي مصطفى وشارك في تمثيله سراج منير وكوكا - من أنجح الأفلام العربية على الصعيد الجماهيري وأكثرها رواجا. كان الفيلم يعاد عرضه مرارا وعلى مدى سنوات دون أن يفقد حضوره وجاذبيته. وكان المتفرجون يواصلون مشاهدته المرّة تلو الأخرى دون أن يفقدوا إعجابهم به وحماسهم له. فقد كان حافلا بقصص المغامرات المثيرة والمعارك التي لا تنقطع، إضافة إلى بطولات عنترة الخارقة. كل عناصر الميثولوجيا الجذابة موجودة لتثير جوا من السحر والنشوة.
لكن من الأمور الطريفة التي تتصل بمشاهدة هذا الفيلم، أن أفرادا من الجمهور كانوا على قناعة تامة بأنهم (في كل مرّة) يشاهدون نسخة مختلفة من الفيلم، وأن الأحداث تتغيّر ليلة بعد ليلة، وأن عنترة يقتل من الأعداء عددا أكبر – أو أقل - مما فعل في الليلة السابقة، دون أن يساورهم الشك في الوهم الذي ابتكرته مخيلتهم (وصنعته لهم الشاشة) أو يعوا بأن ما يشاهدونه تكرارا ما هو إلا نسخة واحدة من فيلم ذي أحداث وشخصيات ثابتة تتكرر عرضا بعد عرض، وغير قابلة للتغيير. بل أنهم كانوا يتحدثون عن هذه التغيرات وعن نفسية عنترة المتحولة، في حماسة أو خيبة أمل – وفق ما تمليه تصوراتهم المتبدلة بدورها – غير أن حديثهم كان يتسم دائما بالثقة المطلقة.
الآن، عندما نتأمل هذه الظاهرة (الاعتقاد الراسخ عند البعض بأنهم يشاهدون في كل مرّة أحداثا مختلفة من فيلم واحد) والتي كانت – أي الظاهرة – مثار سخرية وتندّر عند البعض الآخر (العقلاني والواعي) نكتشف بأن المسألة، وإن كانت ترتبط بالسذاجة وبساطة الوعي التي تتسم بها المشاهدة السينمائية عند ذلك البعض (اللاعقلاني)، إلا أنها تتصل (عند تحليل علاقة المتفرج بالفيلم) بما هو أعمق وما هو جوهري في طبيعة المشاهدة السينمائية.. إنها تتصل بالبعد السيكولوجي والفسيولوجي (العضوي) في عملية المشاهدة أكثر من معيار الفطنة والإدراك والاطلاع (البعد الفكري).
السينما لا تحقق التأثير المباشر على المتفرج إلا إذا عزلته عن واقعه اليومي وأبعدته عن كل المؤثرات الخارجية التي قد تفسد أو تربك دخوله المطلوب في عمق الشاشة ليتعايش مع الشخصيات المتخيلة أو المخترعة هناك. ومن أجل ذلك، فإنها – السينما - تخلق، عن طريق الحيل البصرية الحسيّة، واقعا بديلا.. وهميا لكن أكثر سحرا وإثارة. وهي تحاول أن تقرّب هذا الواقع من نفسية وإدراك المتفرج عبر الإيحاء بحركة مماثلة لحركة الواقع الحقيقي، وعبر تقديم تماثلات مع مظاهر وعناصر الواقع.
إن معايشة الوهم تفرض انغمارا كليا، على المستوى الشعوري واللاشعوري، في الصور التي تبعثها الشاشة. فالصورة السينمائية، بإمكانياتها المتعددة وجاذبيتها التي لا تقاوَم، من حيث الحركة المتواصلة، تغيّر أشكال وأحجام اللقطات، تدفّق الأحداث والحوارات، تؤثر على نحو فعال في حواس المتفرج، تحرّك مشاعره، تخترق لاوعيه، تخلق لديه حالات من الاستثارة والتهيّج والاستجابات.. الواعية واللاإرادية معا.
(2)
في صالة السينما، منذ اللحظة التي يختار فيها المتفرج مقعده وحتى اللحظة التي ينزلق فيها نحو القصة التي تتجلى وتتكشّف أمام عينيه، يمرّ المتفرج بمرحلة حرجة هي آسرة ويصعب الإمساك بها كما هي تلك المرحلة التي توحّد اليقظة والنوم (الكتاب والمسرحية هما، بالمقارنة، أبطأ في إحداث هذه الحالة).
يشير أندريه بروتون إلى أن المتفرج، في صالة السينما، بينما هو في حالة استئصال (من واقعه الحياتي)، يصل إلى مرحلة التطابق مع ما يحدث على الشاشة بقوة إلى حد أنه يبدأ في اختبار ذلك بإحساس سيكولوجي حقيقي، منتقلاً من حالته الواعية الاعتيادية إلى حالة من الثورة اللاواعية.
الأفلام تقترح تجربة متجاوزة نطاق الخبرة أو المعرفة، أشبه بالتجربة الدينية.. من هنا تشبيه بروتون فعل المشاهدة السينمائية بممارسة الشعائر الدينية.. "المرء يرتاد السينما بالطريقة نفسها التي يرتاد بها الكنيسة. وأعتقد أن، من زاوية معينة، هناك – في صالة السينما - يتم الاحتفاء بالطقوس العصرية".
(3)
يقول الناقد الفرنسي جاك برونيو:
"الفيلم كثيرا ما يصل إلى المحاكاة الإلزامية للحلم. ظلمة الصالة، معادل لإغماضة الأجفان على شبكية العين، وبالنسبة للفكر، معادل لظلمة اللاوعي. الحشد الذي يحيط بك ويعزلك. الموسيقى المخدّرة على نحو مبهج. تصلّب العنق الضروري لتوجيه تحديقة المرء.. كل هذا يثير حالة شبيهة بالنوم الجزئي. على الشاشة حروف بيضاء على خلفية سوداء، خاصيتها النعاسية واضحة. في الأخير، حين تُضاء الشاشة المبهرة، الشبيهة بالنافذة، التقنية الفعلية للفيلم تستحضر الحلم أكثر من اليقظة. الصور تظهر وتختفي، تتداخل، الرؤية تبدأ وتنتهي في الحدقة، الأسرار تُفشى من خلال ثقب المفتاح، الصورة الذهنية لثقب المفتاح. ترتيب صور الشاشة في الوقت المناسب هو مشابه تماما للترتيب الذي يمكن أن يبتكره الفكر أو الحلم. لا النظام الكرونولوجي ولا القيم النسبية للزمن هي حقيقية على نحو مخالف للمسرح. الفيلم مثل الفكر، مثل الحلم، يختار بعض الحركات، يؤجلها أو يوسعها، يقصي حركات أخرى، يجتاز ساعات وعصورا وكيلومترات عديدة في ثوان قليلة، يسرع، يبطئ، يتوقف، يعود إلى الوراء. من المستحيل تخيّل مرآة أصدق للفاعلية الذهنية".
(4)
المتفرج يلج واقع الفيلم مثلما يلج النائم حلمه، منتزعا نفسه (أو منتَزعا من قِبل الصور القوية والمؤثرة) من محيطه وواقعه اليومي، قابلا في استسلام وخضوع بكل ما يعرضه الواقع الوهمي على الشاشة.
إن صور الفيلم تخاطب أو تتوجه على نحو مباشر نحو مشاعر ولاوعي المتفرج قبل أن تصل إلى عقله، لذلك فإن استجاباته تكون عاطفية (أي انفعالية) قبل أن تكون عقلية (أي واعية ومتأملة).
إنه لا يحلل – أثناء المشاهدة – علاقة الصور ببعضها، مثلا، أو علاقة الشخصية بالمكان، ولا يدرس دوافع الشخصيات وبواعثها وأفكارها، في حينها، بل يخضع – في اندماجه الكلي مع الفيلم – لمؤثرات الصور ويدع نفسه تنجرف مع الأشكال والعلاقات، محاولا أن يعيش ما يراه وما يسمعه فحسب، أي أن يكون هناك. فالعين المسحورة، المبهورة بما يجري، تكون لها الأولوية، ثم في مرحلة تالية ربما تأتي العين الناقدة أو المتفحصة.
إذن، في المشاهدة السينمائية، يصبح المتفرج فردا وحيدا، منسلخا عن محيطه وعن الحياة التي كان يعيشها في الخارج. حتى إحساسه بوجوده الخاص يتلاشى ما إن يضع قدمه على عتبة العالم الآخر (عالم الشاشة). وكالحالم يستسلم تماما لحلمه. في هذا الجو الطقسي لا يشعر المتفرج بحاجة إلى الربط المنطقي للأحداث المتلاحقة، أو بالأحرى لا تتاح له فرصة استحضار أدوات الرصد والنقد والتفسير.. فالسينما – كما يقول جان جودال - تقتضي منا فقط ذاكرة تكفي لربط الصور.
المتفرج أحيانا يجد نفسه في حالة بين اليقظة والنوم، أو يكون تقريبا أشبه بالخاضع للتنويم المغناطيسي. إنه، بالأصح، يتأرجح بين عالمين: الواقعي، المادي، الملموس.. والآخر الوهمي، المتخيّل، المحسوس.
والذي يساعد على تهيئة هذا المناخ، ما يرافق عملية المشاهدة من مظاهر وحالات طقسية تقريبا: الصالة المظلمة، الشاشة المضاءة بصور متحركة، العزلة المطلقة التي يعيشها الفرد حتى عندما يكون وسط حشد من الناس، حالة اليقظة الجزئية، الهذيان الواعي، هيمنة اللاشعور نتيجة الغياب النسبي للعقل الواعي، انبجاس المشاعر والرغبات الدفينة دونما كابح.
عبر هذه الحالات تصبح المشاهدة تجربة شخصية، خاصة بالفرد، وليست جماعية. الاستجابات وردود الفعل والآراء تختلف وتتفاوت من شخص إلى آخر. إنها تتقارب فقط في اللحظات الموجهة، المتحكم فيها من قِبل العاملين في الفيلم، كأن يهدف المشهد إلى الإضحاك أو إثارة الخوف أو تحريك الوجدان ميلودراميا. عندئذ نجد استجابة جماعية مؤقتة تتمثّل في الضحك أو الصياح في رعب أو ذرف الدموع. في ما عدا ذلك، تحتفظ تجربة المشاهدة بخاصيتها الفردية القائمة على التفاعل والمشاركة الحميمة بين ذات المتفرج وعالم الفيلم، بمعزل عن الذوات الأخرى المحيطة به والتي يشعر تجاهها بانقطاع تام، وبمسافة هائلة تفصله عن الكتل المجاورة له أو القريبة منه.
(5)
إذا كان الحلم في جوهره تعبيرا عن رغبات مكبوتة، كامنة في اللاوعي، وإذا كان الحلم الواعي، بالمفهوم الاجتماعي، وفي أحد أشكاله، يعد تعويضا عن قهر اجتماعي أو سياسي، حيث يجد فيه الحالم إشباعا سيكولوجيا يعوّضه عن الحرمان والقهر والإحباط الذي يعيشه في حياته اليومية، فإن السينما – في طبيعتها وخاصيتها – تقترب كثيرا من الحلم. إنها، بالأحرى، تصبح كالحلم.
التماثل، أو التطابق، بين الفيلم والحلم يبدأ منذ اللحظة الأولى. إن انطفاء الأنوار في الصالة وسيادة الظلام يماثل انطباق الأجفان، حيث يتم إقصاء المرئي، والانقطاع عن مؤثرات الواقع والمحيط، والشروع في الاستسلام للصور المتدافعة على نحو غير منظم أو منتظم، والتي لا يمكن السيطرة عليها أو التحكم في مجرياتها.
إن لقطات الفيلم تشبه لقطات الحلم.. فهي مختزلة، سريعة، مجهولة المصدر، متعاقبة وفق نظام ومنطق خاصين بها. الأزمنة تكون مكثفة ومتداخلة، الأمكنة سريعة التحوّل. وفي كلا الحالين (الفيلم والحلم) تدخل إقليما غامضا لا تعرف إلى أين يفضي بك. إنك تجد نفسك مستسلما كليا لصور تتدفق على نحو حر، مؤجلا – أو بالأصح عاجزا عن – إصدار أي تقييم أو حكم نقدي واع.
الحلم نتاج الذاكرة والطاقة اللاواعية الكامنة في الذات. الفيلم نتاج مخيلة الآخر (الفنان)، لكنه يستغل بمهارة عناصر الحلم من أجل السيطرة على حواس وعواطف المتفرج، وتحريكه بدنيا وذهنيا، وبالتالي تحقيق أقصى ما يمكن من تأثير.
سواء في الحلم أو في صالة السينما، المرء يكون مستسلما لغزو الصور، عاجزا عن صدها أو تغيير مسارها، قابلا بما تعرضه حتى لو كان صادما ومنتهكا.
الدخول في الشاشة دخول في الحلم، وقبول بالوهم. والتطابق الفعلي يحدث عندما يضع المتفرج نفسه محل الشخصية (أو البطل). إنه يصبح جزءا من ذلك العالم الوهمي، ومشاركا في ما يحدث (ليس كليا ولكن جزئيا، إذ يعود إلى حالته الأولى كمتفرج ما إن يتم تحطيم الوهم بشكل من الأشكال.. كأن يزعجه متفرج آخر، مثلا).
عند حدوث التطابق، تتعرّض التخوم – التي تفصل بين الواقع والحلم أو الوهم _ إلى المحو، ويفقد المتفرج ذاته في الآخر (الوهمي)، ويصبح متأرجحا بين ما هو واقعي (حالته كمتفرج) وما هو وهمي (حالته كشخصية).
مثلما يجد المرء في الحلم نوعا من التعويض، فإنه يجد في الفيلم أيضا تعويضا وحلولا (وإن كانت وهمية ومؤقتة) لمشاكله ومعاناته وحالات الحرمان والقهر التي يعيشها. الفيلم يخلق حالات تطلق طاقة التخيّل – عند المتفرج – من أسرها، وتجعله يعيش في جو حافل بالإثارة. الصور تستثير ذلك النطاق الذي يكمن فيه ما هو مكبوت وممنوع، وهو يطلق أحاسيسه ورغباته عبر الآخر (بطل الفيلم) الذي يصبح ذاتا أخرى. إنه يجد في ما تفعله الذات الأخرى إشباعا وإرضاءً للنوازع المقموعة في واقعه اليومي.
(6)
بسبب العزلة التامة التي يعيشها المتفرج داخل الصالة المظلمة، وتوجّه الفيلم على نحو مباشر وفوري إلى اللاشعور لتحريك الطاقات الكامنة، وخصوصية تجربة المشاهدة، واستسلام المتفرج لقوة الصور والحيل البصرية الأخرى التي يبتكرها صانعو الفيلم من أجل التأثير على حواسه ومشاعره، وخضوعه لتلاعبات العناصر الفنية الموجهة بصريا وسمعيا على نحو مفاجئ.. فإن المتفرجين لا يشاهدون الفيلم المعروض ذاته (كما لاحظ الشاعر والسينمائي الفرنسي جيرار ليجران) إنما يشاهدون ما تعكسه استجاباتهم (الشعورية واللاشعورية، السيكولوجية والفسيولوجية) تجاه الفيلم، وما تعكسه مستوياتهم الثقافية ودرجات إدراكهم ونوعيات الاهتمام والتذوق والحس الجمالي.
بالرغم من أن الفيلم عبارة عن حركات وأصوات ومؤثرات محددة ومصورة على أشرطة ومعروضة على الشاشة كما هي – دون أن تتغير – إلا أن كل متفرج ينظر إلى الفيلم من زاوية مختلفة تماما عن الزاوية التي يرى منها زميله الجالس إلى جواره.. إن ذلك أشبه بالنظر إلى المرايا المحرّفة أو المشوهة التي تعكس مظاهر مغايرة ومتعددة لصورة واحدة.
الفيلم ذو أوجه وأشكال متعددة ومختلفة. إنه يتشكّل حسب ما يراه المتفرج، ذلك لأنه يُخضع الفيلم لتصوراته وتخيلاته ورغباته الخاصة، مسقطاً عليه مشاعره وعواطفه وانفعالاته ومواقفه وتفسيراته طبقا لقدراته الإدراكية وذوقه وميوله. أي أن كل متفرج يستمد من المادة المعروضة (الفيلم) العناصر والمصادر والأشكال والأحداث والكائنات التي بها، أو من خلالها، يستطيع أن يحقق فيلمه الخاص به. لهذا نجد شخصية ما – على سبيل المثال – تثير التعاطف عند متفرج بينما تثير النفور عند آخر في الوقت ذاته، أو نجد حركةً ما تحمل مدلولا عند متفرج بينما تبدو خالية من المعنى عند متفرج آخر. هكذا تتباين وتختلف معاني الفيلم الأصلي ومدلولاته وإيحاءاته ورموزه، مع تباين واختلاف وجهات النظر إلى العمل الفني. وبسبب هذا التباين والتعدد يستحيل أن تلتقي كل الآراء في تقييم العمل بالدرجة ذاتها من التوافق والدقة، كما يصعب الحكم بالإجماع على قيمته الفنية إيجابا أو سلبا.
حتى عندما يشاهد المتفرج فيلما للمرّة الثانية فإنه يراه على نحو مختلف وبعين مختلفة.. إذ قد يكتشف جوانب لم ينتبه لها، أو يستوعب ويفهم أمورا لم يحسن التقاطها والتركيز عليها في المرّة السابقة، وربما يعيد النظر في تقييمه للعمل.. أي أنه لا يعود المتفرج الذي كانه، بل يصبح متفرجا آخر.
من هنا يمكن أن نفهم لماذا يكون عمل ما مبهرا ومثيرا للإعجاب في المرّة الأولى، وعندما تشاهده في فترة لاحقة ربما تشعر بخيبة أمل لأن العمل فقد جاذبيته ولم يعد يبهرك. والعكس صحيح أيضا، فثمة عمل لا تشعر بميل نحوه، وربما ترفضه، وفي ما بعد تكتشف فيه خاصيات مميزة أو رائعة.
هذا التحوّل في المزاج أو الذوق أو الإدراك قد يتعلق بتنامي الوعي والقدرة على التركيز والرغبة في الفهم، أو بالوقوع تحت تأثيرات خارجية (تحليل نقدي أو ما شابه)، لكن لا يمكن إنكار علاقة ذلك بطبيعة المشاهدة ذاتها والتي تفرض – كما ذكرنا – تحولات في زوايا النظر وتعدد مجالات الرؤية واختلاف حالات التفرج.
(7)
بعد مشاهدته لأحد الأفلام الهندية، في صالة سينما بإحدى المدن الهندية، أبدى المخرج الأسترالي باز لوهرمان – مخرج الفيلم الشهير "مولان روج" - دهشته وانذهاله من الطريقة التي يستقبل ويتفاعل بها الجمهور الهندي مع الفيلم المعروض على الشاشة.. هذه الطريقة التي اعتبرها تجربة فريدة واستثنائية، أتاحت له فرصة اختبار فهم جديد ومختلف للعلاقة بين المتفرج والفيلم.
إذا كان المتفرج الأوروبي، مثلا، يفضـّل مشاهدة الفيلم في صالة ساكنة تماما، في صمت مطبق، دونما أي إلهاء من أي نوع، وفي خشوع وتبجيل.. كأنه في كاتدرائية، فإن المتفرج الهندي يذهب إلى السينما كما لو يذهب إلى نزهة. وهو لا يعبّر عن تقديره واحترامه للفيلم بالتزام الصمت، كما يفعل زميله الأوروبي، بل عبر الضجيج والتفاعل الحر، الفوضوي.. إن شئت.
الجمهور الهندي في الصالة يأخذ حريته المطلقة في تبادل الأحاديث الصاخبة، في الرد على المكالمات الهاتفية عبر الموبايل، في الرقص والغناء الفردي أو الجماعي مع الأغنية المعروضة على الشاشة، في الخروج من الصالة لتدخين سيجارة.. إنها أمسية مخصصة للترفيه البحت، والفيلم في بؤرة الاهتمام لكن ليس إلى حد الاستحواذ.
الشاشة المستطيلة، البرّاقة، تصبح فضاءً مأهولاً بكائنات بشرية في مظهرها الخارجي لكنها لا تنتسب إلى البشر الذين نصادفهم في حياتنا اليومية. إنها أشبه بمخلوقات كوكب آخر تنتحل أحزاننا وأفراحنا، آلامنا ومباهجنا، لكنها غريبة عنا، أجنبية ودخيلة.
من هذا الفضاء (الشاشة) تخرج الأشكال والمناظر والصور لتخلب لبّ المتفرج وتأسر عينيه، لتمارس عليه فعل التنويم المغناطيسي، ولتمنحه مادة خصبة لأحلام يقظته.
هو يذهب إلى الشاشة (العالم الآخر) طواعية، وبلا إكراه، ليعيش حالة من الغشيان، حالة هي بين الصحو والنوم. وهو يدفع نقودا ليتعاطى جرعات من الوهم، ليرى مشاكله وأزماته محلولة. يريد أن ينسى نفسه ويغيب عن عالمه الحقيقي المليء بالمآسي والبؤس والشقاء.
إنه يحقّق سمّوه بواسطة الصور المتحركة التي تغزو حواسه ومشاعره، وما إن تحتل الصور كيانه حتى يفقد ذاته. هكذا، في صالة معتمة، معزولا عن محيطه وأقرانه، مستسلما كليا للصور المهيمنة، يبتعد المتفرج عن عالمه الحقيقي ليدخل في عالم زائف، مصطنع، يتشكل في فضاء الحلم. ويزداد اندماجه وانفعاله وهيجانه - فسيولوجيا وسيكولوجيا - كلما ازدادت جرعات التوابل والمنبهات التي يضيفها صانعو الفيلم، وأيضا كلما بلغ التلاعب بالمشاعر والغرائز مستويات أعمق.
استجابات المتفرج هنا صريحة وظاهرة وهذيانية. إنه يتفاعل بحماسة عفوية، وإزاء كل حالة يعبّر بردّ فعل متلائم ومختلف. اللاوعي يتحرر من الكوابح والموانع. عملية المشاهدة تنتفي منها صفة النقد والتحليل لتتسم بالتنفيس والتعويض والتطابق أو التماهي. الإحساس بالعنف والغضب والرغبة الجنسية والعاطفة الرومانسية.. كل هذه الأحاسيس وغيرها تتملك المتفرج طوال مدة العرض.
الأفلام التي تتناول حقائق حياته وتناقضات واقعه وقضايا مجتمعه بالتحليل والنقد، بدافع التغيير أو التحريض على التغيير، لا تلقى دائما قبولاً واستجابة إيجابية من القسم الأكبر من الجمهور. فالمتفرج، من جهة، يختبر هذه الحقائق، يعيشها ويعانيها يوميا، فلا يشعر بحاجة إلى رؤيتها ثانية وقد أعيد تمثيلها على الشاشة. إنه يأتي باحثا عن الحلول أو الاكتفاء بالفرجة لا المشاركة في إيجاد الأجوبة.
من جهة أخرى، السينما بالنسبة إلى المتفرج هي المفسّر الوحيد للعالم وظواهره. إن ما تظهره الأفلام يصبح حقائق ثابتة. والواقع السينمائي يتحول مع مرور الوقت ليصبح الواقع الذي يتوق إليه المتفرج ويرغب في الانتماء إليه والإقامة فيه، يصبح الواقع البديل الذي يمثل الخلاص. ويبدأ في النظر إلى واقعه كحالة مؤقتة، زائلة، سوف يغادره يوما لينتقل ويعيش في الواقع الآخر.. واقع الشاشة.