(أجرى الحوار الشاعر والكاتب والمخرج الإيراني – الكندي شاهين برهامي، المولود في شيراز، والذي درس السينما في كندا، وأخرج عدداً من الأفلام القصيرة والوثائقية.
سُجلت المقابلة في أغسطس 2000، أثناء مهرجان مونتريال الدولي).
* لنبدأ مع تجاربك الأولى في حقل صنع الأفلام، على سبيل المثال، عملك في تصميم مقدمة فيلم "قيصر" (1969)، وهو أحد أفلام الموجة الجديدة في السينما الإيرانية. هل كنت تسعى إلى شق طريقك لتخرج الأفلام بنفسك؟
- لا، أبداً. في تلك الأيام كنت منهمكاً في الرسم، ثم في التصميم الجرافيكي للدعايات والإعلانات. آنذاك كان تصميم المقدمات (مع أسماء العاملين في الفيلم) شائعاً، وأعمال الأمريكي سول باس خصوصاً في هذا المجال كانت لافتة ومبتكرة. مقدماته أثّرت في العديد من فناني الجرافيك والمخرجين في ذلك الوقت. كنت في ذلك الحين أمتلك شيئاً من الخبرة من خلال عملي بكاميرا 35 ملي في بعض الإعلانات التلفزيونية التي قمت بتنفيذها.
من منظور فنان جرافيكي، كان ذلك يمثّل تحدياً جذاباً. "قيصر" كان عملي الثاني، وأعتقد أنني أنجزت بعد ذلك أربع أو خمس مقدمات أخرى إلى أن بدأت في إخراج أفلامي. لذلك أستطيع أن أقول أن، في حالتي، مقدمة الأفلام هي الجسر بين الفن الجرافيكي والسينما. في هذه الأيام أفضّل أن ينفّذ مقدمة أفلامي أشخاص آخرون نظراً لأنني لم أعد أمتلك القدرة على الصبر والاحتمال.
* هل يمكن لنا أن نقول أن فيلمك الأول "خبز وزقاق" (1970) يُظهر طريقة فهمك التقني والجمالي في صنع الأفلام؟ وهل ساهم سيناريو هذا الفيلم القصير، الذي كتبه شقيقك، في بنية الفيلم؟
- في تلك الفترة كنت أعمل في مركز التنمية الفكرية للأطفال والشباب في أواخر الستينيات، وقد قرأت العديد من السيناريوهات، لكن هذا النص بالذات لفت نظري.. خصوصاً الخط الزمني الموحّد كان جذاباً. القصة نفسها مدتها 12 دقيقة فقط، لذا لم تكن هناك حاجة لتفكيك الزمن. لكنني كنت أيضاً واعياً إلى أن تفكيك الإطار الزمني من أجل إظهار مرور الزمن يجعل المخرجين يستسلمون للأعراف والكليشيهات. هكذا كان العمل تحدياً مشوقاً بالنسبة لي في جعل الزمن السينمائي والزمن الحقيقي قريبين من بعضهما البعض قدر الإمكان بدون توظيف تلك الأعراف.
"خبز وزقاق" كان تجربتي الأولى في السينما، ولابد أن أعترف أنها تجربة صعبة. كان عليّ أن أعمل مع صبي صغير، وكلب، وطاقم فني غير محترف باستثناء المصور الذي كان يتذمر ويناكد ويشكو طوال الوقت. المصور، من بعض النواحي، كان محقاً لأنني لم أكن أتبع تقاليد صنع الفيلم التي اعتاد عليها. هو كان يصر على تقطيع أو تفكيك المشاهد. على سبيل المثال، هو أراد أن يصور في لقطة عامة الصبي وهو يقترب، ثم لقطة قريبة ليد الصبي، وعندما يدخل البيت ويغلق الباب، نرى لقطة للكلب وهو ينام عند الباب، الخ. لكنني كنت أرى لو أننا جمعنا الصبي والكلب في لقطة واحدة، بمعنى أن نجعل الصبي يسير داخلاً في الكادر ثم يدخل البيت والكلب يعود للنوم عند الباب، فسيكون التأثير أعمق.
أظن أنها كانت اللقطة الطويلة الأكثر صعوبة طوال عملي في الأفلام. من أجل هذه اللقطة كان علينا أن ننتظر أربعين يوماً. ثلاث مرات غيّرنا الكلب (أحد الكلاب كان مصاباً بداء الكلَب). لكن على الرغم من كل هذه المشاكل التي واجهناها، نجحنا في تصوير اللقطة التي أردتها. بطريقة ما، هذا الفيلم، في الجزء الأكبر منه، كان نتاج افتقاري إلى المعرفة في ما يتعلق بالتقاليد أو الأعراف السينمائية. الآن، عندما أفكر فيه، أتوصل إلى استنتاج بأنني اتخذت القرار السليم. أعتقد أن تفكيك المشاهد – مع أنها يمكن أن تسهم في إيقاع الفيلم – يمكن بسهولة أن تؤذي واقع ومحتوى الفيلم.
* كيف تنامى أسلوبك المميز في السرد، تحديقتك السينمائية، وإحساسك بالإيقاع، مع مرور الوقت؟
- حقاً لا أعرف. هذا النوع من الأسئلة تتطلب قدراً كبيراً من التأمل ولا أظن أن لدينا الوقت الكافي لذلك. لكنني أعتقد أن كل ما ذكرت هو نتاج الخوف: الخوف من العجز، اللاكفاءة، عندما تكون في الموقع مع الكاميرا والطاقم الفني كله، عندما ترتاب في معرفتك التقنية وقدراتك. في مثل هذه اللحظات من الشك والخوف تقوم بتحدي نفسك، وهذا يجعلك تنمو وتنضج.
بعد أن تحقق فيلمك، تستطيع أن تجلس وتسترخي، تشاهده كأي متفرج، وتحكم على قدرتك في التعبير عن قصتك أو مضمونك. تحديقة المرء تحتاج إلى وقت حتى تصبح أسلوباً. لا أعتقد أن بإمكان أي شخص أن يقرر سلفاً أسلوباً محدداً قبل أن يختبر فعلاً الوسط الفني. وفي ما يتعلق بإحساسي بالإيقاع، أقول أنني لم أكن يوماً معجباً بالسينما التجارية بإيقاعاتها السريعة ونزوعها إلى الإثارية. حياتي الخاصة لا تتسم بالإيقاع السريع جداً، فأنا أعيش ببطء، على مهل، وأفلامي تعكس إيقاعي في الحياة.
* من خلال مرحلة إنتاج، وما بعد إنتاج، أفلامك، في أي مرحلة تقوم ببلورة استخدام عناصر الصوت، مثل الموسيقى؟ هل أثناء مرحلة المونتاج أم أنها مقررة سلفاً؟
- أبداً لا أفكر في الصوت أثناء مرحلة المونتاج. قد تكون هناك بعض التغييرات الثانوية خلال المونتاج، لكن الأصوات تتبلور قبل تلك المرحلة.
* حتى الموسيقى؟
- بالطبع حتى الموسيقى. أنا لا أستخدم مؤلفات موسيقية لأفلامي. إذا اقتضت الضرورة أن أستخدم الموسيقى فذلك في النهاية، وفي هذه الحالة أعرف أية آلة موسيقية أحتاج أن أستخدم, لو اخترت مقطوعة أو كلّفت موسيقياً بتأليف قطعة، فلابد أن تكون لي سلطة كاملة. أنا لم أجرؤ أبداً على إعطاء فيلمي إلى مؤلف موسيقي والطلب منه بأن يؤلف الموسيقى له. هذا أكثر خطورة من الزواج عبر البريد. عندما تشتغل على مونتاج أبسط الأصوات، مثل صوت حشرة أو طائر يحوم فوق الميكروفون، كيف يمكنك أن تدع شخصاً آخر يفرض على فيلمك مقطوعات موسيقية كاملة؟
* من الصفات المميزة لأفلامك – الحاضرة حتى في أفلامك الأولى مثل "المسافر" – نجد استخدامك الفعال للأصوات خارج الكادر، خصوصاً المونولوجات والحوارات. شخصياً أعتقد أنك في "الريح سوف تحملنا" استخدمت هذه التقنية على نحو مفرط. هل يمكن أن تذهب أبعد من ذلك في توظيف مثل هذه الوسيلة في توصيل القصة؟
- بالطبع، أنا في الواقع أنوي فعل ذلك. أعتقد أننا عندما لا نرى الأشياء في تفاصيلها الكاملة فإن تأثيرها يكون أقوى، انطباعاتها تستمر لفترة أطول. هذا أيضاً يمنح الجمهور الفرصة لاستخدام مخيلتهم: بمجرد سماعهم الصوت، يمكنهم رؤية الصور في أذهانهم الخلاقة حتى دون رؤيتها فعلياً على الشاشة. هذه في الواقع دعوة إلى المتفرجين للمشاركة في خلق العمل.
أنا أحسد أولئك الذين يقرأون الروايات بسبب امتلاكهم مساحة من الحرية في استخدام مخيلتهم أكبر من جمهور السينما. لو أمكن بناء الفيلم مثل النسق الطباعي للكتاب لكان ذلك مثالياً. على سبيل المثال، الأسطر الأربعة الأخيرة من الفصل يمكن أن ينتهي في أعلى الصفحة بينما بقية الصفحة تكون خالية وبيضاء، والصفحة التالية تكون مجاورة لها. عندئذ الفصل الجديد يبدأ بعنوان قصير. هذا النوع من التصميم يمنحك الفرصة لأن تتوقف برهة وتفكر. غالباً ما أتفاجأ عندما أسمع البعض يقول: "لقد تناولت الكتاب وقرأته، ولم أستطع أن أتركه حتى أنهيته تماما". كيف يمكن اعتبار هذا خاصية إيجابية للعمل الفني؟ إنها الإثارة السطحية ذاتها التي تفرضها السينما السائدة على جمهورها.
ينبغي على السينما أن تكون قادرة على توفير هذا النوع من الحرية للفنان والجمهور معاً. أثناء اشتغالي على "الريح سوف تحملنا"، كنت مدركاً لحجم الضجر الذي قد يسببه رؤية الشخص نفسه وهو يتسلق التلة على نحو متكرر. لكن ما وجدته باعثاً على التحدي هو اكتشافي أنني حقاً أريد أن أخلق ذلك الضجر، أريد أن أثير ضجرك. الشخصيات في الفيلم هي أيضاً ضجرة. لا شيء يحدث، مجرد بعض الأشياء العادية وبعض المناظر الجميلة. حتى الشخصية الرئيسية في الفيلم، كل ما يفعله هو انتظار حدوث شيء. واقع أن لا شيء يحدث يخلق نوعاً ما من الترقّب. بالتالي فإن حادثة صغيرة، مثل انهيار البئر، تصبح شيئاً هاماً في هذه القصة. أحياناً أنت تحتاج إلى تلك المساحات الفارغة لتجعل جمهورك أكثر تفتحاً وحساسية. هذا ربما يشبه تلك الفصول المختلفة في الروايات.
من يكتب الرواية قد يكتبها من الحرف الأول إلى النهاية، ثم يقوم بتقسيمها إلى فصول مختلفة في سبيل خلق حالات وأجواء مرغوبة. لكن السينما التقليدية لا تفعل ذلك بما أنها تريد أن تأخذ الجمهور رهائن وتملي عليهم ما تراه. بتعبير آخر، هي تقدم لهم صفقة معلّبة سلفاً مع رسالة محددة ونهاية مغلقة. لهذا السبب هي لا تستطيع أن تحتمل اللحظات المفتوحة، البسيطة، الخالية من الأحداث الهامة. والجمهور تكيّف مع هذا النوع من السينما. يصيبهم الارتباك، ويصبحون تائهين ومشوشين، عندما يواجهون النهاية المفتوحة. أحياناً تسمع متفرجاً يقول: "بوسعي أن أفهم الفيلم حتى النهاية، لكنني لم أستطع أن أفهم مشهد النهاية".
مع ذلك، أعتقد حتى لو لم تستطع أن تشاهد الفيلم حتى النهاية، لسبب ما، ينبغي أن تشعر بالاكتفاء. يتعيّن على المشهد أن يكون متمتعاً بالاكتفاء الذاتي. في الماضي، عندما كنت أشاهد الأفلام، اعتدت أن أغادر صالة السينما بعد رؤيتي لمشهد مؤثّر أو محرّك للمشاعر. تلك اللحظات الخاصة كانت تشبعني وتملأ يومي، ولم أكن أشعر برغبة ملحة في أن أكمل الفيلم وأشاهد النهاية. لم أكن أترقب أي استنتاج أو حكم نهائي بشأن الشخصيات، ما إذا هي خيّرة أو شريرة.
* لا أعتقد أنك تؤمن بالسينما التي تتضمن رسالة معينة..
- تماماً. السينما ليست مكاناً لرسائل تُذاع وتُبث. الفنان يصمّم ويخطط ويخلق عملاً فنياً يأمل من خلاله أن يجسّد بعض الأفكار أو المفاهيم أو المشاعر. مصداقية الشعراء الفارسيين العظماء، مثل الرومي وحافظ، تنبع من حقيقة أن أشعارهم مؤلفة بطريقة تجعلها جديدة، طرية، حافلة بالمعنى، بصرف النظر عن الزمان والمكان والحالات التي فيها أنت تقرأها. هذا ينطبق أيضاً على بعض شعرائنا المعاصرين مثل فروغ فروخزاد.
عندما نكون أمام لوحة تجريدية، يجوز لنا تأويلها بأي طريقة نشاء. أو الموسيقى.. الموسيقى وسط فني قد لا نفهمه، لكننا نشعر به ونستمتع به. لكن عندما نأتي إلى السينما، يتوقع الكثيرون أن يتلقوا رسالة موحدة وواضحة، لكن ما أقترحه هو أن الفيلم يمكن اختباره كقصيدة أو لوحة أو مقطوعة موسيقية.
* كمبدع، إلى أي مدى تكون منفتحاً على التأويلات المختلفة بصدد أعمالك؟ كمثال، بوسع المرء أن يقرأ اللقطات الافتتاحية لفيلمك "طعم الكرز" بوصفها تتضمن معان إضافية تشير إلى المثلية الجنسية. كيف ترى هذا الأمر؟
- أعرف أشخاصاً قرأوا الفيلم بأسره من الزاوية المثلية. أعتقد أن أي شخص له الحق في أن يقرأ فيلمي بأي طريقة يفهمها أو يحب أن يفهمها. أذكر بعد عرض فيلمي "أين منزل الصديق؟" شخص ما أخبر صديق لي بأن هذا الفيلم سياسي جداً. وعندما سأله عن السبب، قال له لأن اسم الشخصية محمد رضا نعمت زاده، وأن محمد رضا اسم الملك الإيراني الأخير، أما اسم العائلة (نعمت زاده) فيعني "نعمة أو هبة الله". في ما بعد اكتشفت أن هذا الرجل كان يعمل للتلفزيون الإيراني وفُصل من عمله بعد الثورة.
ينبغي للفيلم أن يكون متعدد الأبعاد، ذا طبقات عديدة، يقدر أي متفرج ينتسب إلى أي خلفية أو توجّه، أن يتصل بها. من له الحق في أن يقول "لا" ويحرم نفسه من الطريقة التي بها يحب أن يرى أو يقرأ الفيلم؟
* الآن، عندما تنظر إلى أفلامك القديمة، كيف تشعر بشأنها؟ لنقل، فيلمك الأول "المسافر"..
- قبل سنوات قليلة، بعد عشرين سنة من تحقيقي للفيلم، شاهدته في مهرجان ما في اليابان. وجدته لا يزال جديداً وناضراً، والجمهور لا يزال قادراً أن ينسجم معه. لكن، لا. أفلامي لا تكون أبداً كاملة. هي دوماً تواجه مشاكل وصعوبات. وينبغي أن أقول بأن هذا لا يتصل فقط بأفلامي القديمة، بل أن النواقص والشوائب محتومة ولا سبيل إلى تجنبها، وهذا ليس بسبب افتقارك إلى الإلمام التام بعملك. خصوصاً عندما تعمل مع اللاممثلين، وفي بيئتهم اليومية، فإنك لا تستطيع أن تمتلك سيطرة تامة على كل شيء.
هذه الشوائب يمكن اعتبارها نواقص أو فضائل للفيلم. لو تعيّن عليّ أن أحقق "المسافر" اليوم، فلربما تمكنت من تصحيح بعض اللحظات، لكن، من غير ريب، سيفقد الفيلم بعض اللحظات العظيمة أيضاً. هذه الأفلام صُنعت في الماضي وهي تنتمي إلى تلك اللحظات أو المراحل.
* كم تستلزم العملية الإبداعية عندك من فن وفلسفة وعلم اجتماع ونظرية سياسية؟
- كل ما يمكن أن توفره لي النظريات، ينبغي أن توفره قبل أن أقف خلف الكاميرا بزمن. في ذلك الحين ينبغي على المرء أن يهضم ويستوعب ما قرأه وتعلمه قبل البدء في مشروع فني. لو فهم المرء حقاً بعض النظريات أو المفاهيم أو الموضوعات الفلسفية فسوف تظهر في عمله بطريقة دقيقة وماهرة. رد الفعل السريع والعاطفي تجاه قضايا اجتماعية وسياسية يحيل الفيلم إلى جريدة قديمة. وعندما تتغيّر أو تنتهي تلك التعقيدات الاجتماعية المتضمنة في الفيلم، يصبح الفيلم عديم القيمة. إذا المخرج يخلق عملاً محمّلاً بأفكار فجة وغير مهضومة ضمن أجندته، فإن الفيلم يصبح شعاراً متحركاً.
* إذن الفنان يعيش على نحو لا شعوري متقدماً على زمنه؟
- لابد أن يكون كذلك. إنها مهمة الصحفي أن يجمع الأخبار حتى الساعة الرابعة صباحاً من أجل أن يطبعها في جريدته في اليوم التالي. لكن بالنسبة للفنان، تلك الأخبار كان ينبغي تلقيها قبل شهور أو سنوات.