كل حوار مع السينمائي الإيطالي الراحل فدريكو فلليني كان دخولا في عالم جديد، رحب، غني، فيه نلتقط ثمار المعرفة والتجربة، نكتشف الجوانب الإبداعية وطرائق التفكير وزوايا الرؤية العميقة التي من خلالها يتعامل السينمائي مع مجاله الفني، مع واقعه وتاريخه الخاص والعام.
ها هنا ترجمة للقاء أجراه جيديون باكمان، ونشر في المجلة الأمريكية Film comment ، هذا اللقاء الذي يفضي إلى تحقيق فهم أعمق لمحرّكات ومصادر ودوافع الإبداع عند واحد من أهم السينمائيين في العالم.
* * *
* أنت تحب أن تروي قصصا.. من أين هي تنبع؟ ما الذي يسحرك أكثر؟
القصص تولد في ذكرياتي، أحلامي، تخيلاتي.. إنها ولادة طبيعية وعفوية. أنا لا أخترع شيئا. إنها سلسلة من إيحاءات الذهن، التفكير في أشياء قرأتها، تجارب شخصية عشتها، إضافة إلى منبهات اللحظة: مثل وجه رجل في محطة، أو رائحة عطر عابرة، أو صوت ما.. إنها أشياء تستحضر تلك الخيالات والأشخاص والحالات الموجودة بداخلي، التي تنتظم بذاتها في شكل معيّن، شريطة أن أهبها حرية التحرك في طريقها الخاص، مكتفيا بتعقبها ومصادقتها.
* أين ينشأ الدافع في روايتها، تمريرها إلى شخص آخر؟
أنا لا أطرح على نفسي مثل هذا السؤال، الذي لا أعتبره مهما بالنسبة لي. أظن أنني قد قررت منذ وقت مبكر أي عمل سوف أمارسه، وأية حياة سوف أعيشها، وأي طريق سوف أسلكه. لقد حددت لنفسي خط الرحلة، وفهمت أن هذا سيكون قدري: أن أروي قصصا.
لا أدري لماذا قررت هذا بدلاً من أن أصير قسيسا أو مهرج سيرك. أذكر أن أغلب رفاقي في المدرسة كانت لديهم فكرة واضحة عما يريدون تحقيقه. أحدهم كان واثقا من أنه سيصبح أميرالاً وقد نجح بالفعل في تحقيق ذلك. أفكارهم كانت واضحة ودقيقة، كانوا يعرفون كيف سينظمون حياتهم. أما أنا فقد كنت أعرف ما سوف لن أفعله. إذ لم أكن أرغب في ممارسة المهن التي كان يحلم بها رفاقي. كنت أعلم بأنني لن أصبح محامياً (تحقيقا لرغبة أبي) أو قسيسا (رغبة أمي) أو مهندسا (كما كان يحلم صديقي الحميم).
في الواقع كنت مشوشا بشأن المهنة التي أرغب فيها. فكرت أن أكون ممثلا أو صحفيا، كاتبا أو رساما، مغنيا أو محرّك عرائس.. مع كل هذه الخيارات المتشابهة والمتناقضة في آن، لم أستطع أن أحدد وجهتي. اليوم أشعر بأنني أمارس وظيفة توحّد، تقريبا، كل هذه الإمكانيات المتعددة.. مخرج الفيلم هو رسام، صحفي، نحات، ممثل.
* الصحفي يؤرخ ما يوجد أو يحدث، بينما أنت تسبر أعماق الشخصيات، إلى مدى أبعد ربما مما هي تستطيع أن تفعله.. ما الذي يضيء في داخلك تلك الومضة الأولى من الاهتمام؟
- عادة، ثمة شيء يباغتني أو يذهلني أو يثير عاطفتي أو يجعلني أبتسم. تستطيع أن تقول أنها الطريقة التي تعبّر بها المخلوقات البشرية عن نفسها، بكل أنماطها التي لا تـُحصى، بكل مكوّنات ودلالات السلوك. أحيانا، مجرد لباس شخص يمكن أن يحرّك مخيلتي. يصعب تحديد الأشياء بدقة.
يبدو لي أيضا أن الطريقة التي بها تتنامى القصة غالبا لا علاقة لها بالشخصية، أو على الأقل، لا تتحرك بشكل مباشر بواسطة الشخصية، إنما بواسطة المناخ. القصة بكل مركـّباتها وعناصرها هي استدعاء لأشياء موجودة في داخلي. أما إذا كانت موجودة خارج ذاتي فإن الاستحضار يكشف عن بعض المظاهر الباطنية. عبر هذا الكشف، غالبا ما أكون قادرا على النفاذ إلى داخل الأشياء.
ذاك يشبه رؤية وميض من الضوء في الليل.. وفيما تدنو، تكتشف أنه ضوء صادر من نافذة منزل يقع في شارع حيث يعيش الناس، حيث توجد شوارع أخرى وشرفات وميادين.. وببطء تكشف عن خريطة كاملة للأماكن، الشخوص، العواطف، الحالات.
* أفلامك غالبا ما تنتهي بوميض من الضوء في البعد. ما الذي يثير اهتمامك أكثر: ذلك الذي قد حدث سابقاً – الماضي، الذكريات، النوستالجيا - أم ذلك الذي على وشك الحدوث، الذي إليه يتحرّك الأفراد الذين تكشف أسرارهم؟
ليست لدي إجابة مقنعة، ليس لدي نظام محدد ودقيق. بعيدا عن الإقرار بما في نفسي من ميل إلى تخيّل قصة أو ابتكار حالات، فإن كل فيلم يمتلك طقسه الخاص، ويعيّن مطالبه الخاصة، ويعرض طريقة الاقتراب منه وفهمه.. إنه مثل صداقة، مثل علاقة إنسانية، مثل حب.. ليس ثمة قوانين.
من جهة أخرى، يبدو أنني قد التقيت بكل أفلامي في أكثر السبل طبيعية، كما لو أنها كانت بداخلي منذ زمن.. ذلك أشبه بقطار ينطلق عبر خط ثابت والذي على امتداده تنتظر وتتهيأ محطات متعددة. عندما التفت إلى الوراء الآن، إلى الأفلام التي حققتها، أشعر بأنني لم أخلقها إنما كانت موجودة هناك تنتظرني، كل ما فعلته أنني حاولت تجنب الانحراف عن ذلك الخط الثابت، واتباع الطريق المرسوم بإخلاص ودقة، لكي أجدها هناك.
لكن لا ينبغي أن تصغي لما أقول بانتباه وتركيز، ففي المقابلات يتفوّه المرء بالكثير من التوافه والهراء، محاولا أن يعبّر عن ذلك البعد بين الفلسفة والروح الرومانتيكية، في حين تبدو الأشياء في الواقع أكثر بساطة.
*عندما لاحظت لأول مرّة ذلك الوميض في الظلام، ما الذي جذبك إليه؟ هل هو انجذاب جسماني، مجازي، فكري؟
أستطيع أن أتحدث فقط ضمن حدود ما أفعل. إن علامة الاتصال الأول، أي أن تكون قريبا من تلك البلدة المحجبة والمغلقة، التي سوف تصبح في النهاية فيلما، تلك العلامة تأتي من الاحساس بالبهجة، أشبه بدغدغة سارة تنسل عبر كل أعضائك. الشعور غير المتوقع بالدعابة والفرح، الذي هو بمثابة تحية أولى موجهة لي من قِبل هذا الشيء الجديد، علامة الإدراك بأن قصةً تبدأ في النمو.
*إذن هو أشبه بلقاء غير متوقع مع امرأة.. امرأة تلمحها في الشارع، في لحظة خاطفة، فتشعر بانجذاب غامض نحوها، ثم تبدأ في تطوير علاقتك بها في خيالك..
تشبيه مثالي. المرأة، في الواقع، هي ذلك الجزء من ذاتك والذي لا تعرفه، فتسلط الضوء عليه لتكشف ذاتك. العملية الإبداعية تشبه ذلك. صورة المرأة حاضرة دوما في أية محاولة إبداعية. حضورها العذري، أو غير العذري، ملموس في كل عملية سحرية أو سرية. هناك دائما امرأة إلى جوار الساحر. إنها العنصر الذي يجعل الاتصال بينك والجزء المجهول من ذاتك ينشأ ويتدفق بسهولة أكبر. إنها تجسّد الإسقاط على لاوعيك والذي بدوره يتمثـّل غالبا – في الفن- في شكل أنثوي.
أظن أن الإبداع نفسه، ذلك التعبير الإبداعي بكل أشكاله، سواء أكان رسما أو نحتا أو فيلما أو موسيقى، دائما يمتلك هذه العلاقة مع الجانب الأنثوي، الغامض، من ذاتك.
*هل نستطيع أن تتحدث، للحظةٍ، عن الأسلوب؟ كيف تتحول التخيلات إلى صور على الشاشة؟ ما هي الخطوة الأولى؟
صعب عليّ أن أتحدث على نحو عقلاني عن العملية الإبداعية. إنها مسألة المحافظة دوماً على التوازن، المهدّد باستمرار، بين ذلك الذي كنت تنوي أن تفعله وفقاً لمخيلتك، وذلك الذي تنجزه فعليا.
لهذا السبب لا أحب أن أشاهد نسخة التصوير اليومية، مثلما يفعل أغلب زملائي، ومثلما كنت أفعل حين حققت أفلامي الأولى. أنا لا أرغب في مشاهدة ما صورته في اليوم السابق، ولا أهدف من وراء ذلك أن أخلق أسطورة عني ليقال أن فلليني لا يشاهد أبدا نسخ التصوير، إنما لأني أدرك ما يحدث حين يشاهد المرء تلك النسخ، إذ فجأة يرى الفيلم الذي يحققه وليس الفيلم الذي أراد أو حلم بتحقيقه، فالفيلم- الحلم يتغيّر ببطء ليصبح الفيلم- الواقع، والفكرة الأصلية تتعرّض للتعديل والتصحيح.
من جهتي، أحب أن أستمر في التشبث بوهم أنني أحقق الفيلم الذي يدور في ذهني. إن رفضي لمشاهدة ما أصنعه يجعلني أستمر في تحقيق فيلمي المثالي، وأدخّر الوهم للنهاية، حين لا يعود لدي شيء أستطيع أن أفعله.
*إذا أنت لا ترغب في مشاهدة ما تفعله، فهل هناك قواعد خارجية تسعفك في تحقيق الفيلم؟
سيكولوجياً، الفنان يحتفظ بعنصر أساسي وحيوي من المراهقة، من الطفولية، ويحتاج إلى زبون أو رئيس سلطوي ليجذبه إلى الأمام. وأنا إيطالي. الإيطاليون يشعرون دائما بالحاجة إلى البابا، الأمير، الإمبراطور، الملك، ليعطونا الأمر برسم سقف لهم، بخلق لوحة جدارية في الكنيسة، بكتابة قصيدة غزلية بمناسبة زواج أميرة. هذا التكييف السيكولوجي، الطلب بفعل شيء، هو مهم لنا في شخصيتنا الشابة، الطفولية، كفنانين. نحن نحتاج إلى انضباط خارجي.
*إذا تعيّن عليك أن تنظر إلى أفلامك كأشخاص، فكيف ستكون صلة القرابة.. أبناء؟ بنات؟ آباء؟ أمهات؟ عشاق؟
لا، لا أظن أني أشعر بمثل هذه الحميمية في علاقتي بها. إنها بالأحرى تبدو لي غريبة، ذات حضور مجهول، والتي لسلسلة من الأسباب الخفية، أجد نفسي على مسافة قريبة منها، وهي قد اختارتني وطلبت مني أن أعطيها شكلا وشخصية، أن أساعدها في أن تكون مميّزة ومعروفة حتى إلى نفسها.
ما إن يُنجز العمل حتى تتباعد طرقنا كليا. الفيلم يمضي في طريقه بالملامح التي أراد – كما أظن - أن أمنحها له، والهوية التي أراد أن أحددها له، وأنا أمضي في طريقي باحثا، أو منتظرا، حضورا شبحيا آخر والذي، على نحو غير منظور، يدفعني بالمرفق، يدغدغني، ويحثني على اعطائه، أيضا، وجهاً، شخصيةً، قصة.
هذا يبدو لي أشبه بسلسلة من العلاقات مع أشخاص مجهولين ما إن يتم التعرّف عليهم، وتتعيّن هويتهم، ويتخذوا شكلا مجسدا، حتى يبتعدوا ثانية دون كلمة وداع. ربما لهذا السبب أنا لا أشاهد أفلامي مرة أخرى. الالتقاء ثانية، ومن جديد، ليس جزءا من العملية التي عشناها معا، فمهمة الفيلم أن يظهر للعيان، ومهمتي أن أجعله ماديا وملموسا.. هذا كل شيء.
*ألهذا السبب يبدو أبطال أفلامك الذكور تائهين على نحو غامض؟
هذه الفكرة يمكن أن تكون متجذرة في الماضي حيث، ظاهريا، كانت الشخصية المحورية تتطابق إلى حد ما مع مؤلفها.
أشعر أن المؤلف- المخرج يمكن أن يكون مدركا في كل شخصيات فيلمه.. ليست الشخصيات فحسب، بل أيضا الأشياء والمواقع. يستطيع المرء أن يشعر بتعاطف أو تضامن أكبر مع شخصية أو أخرى، ويمكن أن يختارها ليقول من خلالها أشياء معينة يظن، بطريقة مضللة، أنها تعبّر عن الذات أكثر من غيرها.. لكن، على المستوى الطبيعي، ذلك لا يحدث أبدا.
أنت لا تستطيع أن تضع في فم إحدى الشخصيات طريقتك الخاصة في التفكير أو فلسفتك، ثم تأمل أن يكون هذا الشيء هو الأكثر تجسيدا وتعبيرا. على العكس، أجد أن الأشياء التي تعبّر على نحو أفضل عن المؤلف هي تلك التي لا تكون مقصودة، أو موجهة بوعي، وتلك الأقل عرضة إلى عملية العقلنة. أعتقد أن المؤلف يكشف نفسه بوضوح أكثر حين لا يعي ما يفعل.
أنا أحقق الفيلم لكي أحرر نفسي من حالة القلق التي تستبد بي. أنا أهرب. أصنع الفيلم كما لو أهرب من شيء ما. أريد أن أتخلص منه، أن أزيحه عن كاهلي.. إنه أشبه بالتخلص من مرض.
لا أريد أن أضخّم المظاهر الباثولوجية (المرَضية) للفعل الإبداعي لكن، عميقا، هذا ما أحسّه. هذا الشيء المجهول، الذي هو ليس بابن ولا أب، بل حضور يصير فجأة قريبا جدا مني ويلحّ عليّ أن أهبه الحياة، هو نوع من المرض المعدي. إنه غزو، انتهاك من قِبل شيء أستطيع بسهولة الاستغناء عنه.. لكن، مع ذلك، فتلك هي حياتي وقدري ومهنتي.
مؤخرا أصبح هذا الحضور المجهول مزعجا أكثر فأكثر لأنه يرغمني على الدخول في علاقة مقلقة ومشوّشة أكثر مما كان يحدث في السابق. لا أعرف كيف بدأ كل هذا، هذا الاحساس بالقلق والانزعاج والنفور. ربما لأن أفلامي في السنوات الأخيرة، قبل أن تحرز فرصة البدء والانطلاق، صار لديها كل الوقت لتسمح لي بأن أفقد حماستي. هذا الانتظار اللانهائي، بينما يتم صنع القرارات لإنتاج الفيلم والتحقق من التفاصيل، هو كافٍ لتبديد الاستثارة الأولية. وفي حين يعقد المنتجون صفقاتهم المبنية على الجشع والشراهة، أظل عالقا هناك، مثل غطاس يقف على حافة لوح، بيدين ممدودتين أمامي، متأهبا للقفز، لكنني أكبح نفسي على نحو متواصل، إذ لا يزال يتعيّن عليهم بناء البركة وملأها بالماء وتكديس المتفرجين حولها. في النهاية، لا تعود تمارس القفز من أعلى، إنما ترمي بنفسك لتنهي المسألة فحسب.
لكن شيئا آخر يحدث ما إن أصل إلى الأستوديو، فبالرغم من الحالة العصابية، أبدأ في الإحساس من جديد بسحر المكان، بجاذبيته وفتنته. أرى العاملين وهم على أهبة الاستعداد للعمل، الديكورات وهي مشيّدة وجاهزة، وحين تـُضاء الأنوار أستسلم إلى الروح الرومانتيكية الموجودة في كل هذه المظاهر.. أعود فنانا يحرّك الدمى. فجأة يصبح كل شيء سارا ومرضيا مرّة أخرى، وأعرف أن هذه هي حياتي التي أميّز وأتعرف فيها على نفسي.
*هل تشعر أن الجمهور الآن أقل حساسية تجاه الفن؟ هل تظن أن التلفزيون هو السبب؟
لا يمكنك أن تأخذ بجدية مقولة أن الجمهور لم يعد يحب السينما، وأنه يرغب في نوع من الفرجة ذات طبيعة حسيّة وفارغة وبلا معنى. إذا اتفقت مع هذا المفهوم فإنه يتعين عليك أن تعتزل وتغيّر مهنتك، تعود صحفيا أو تفتح دكانا لبيع الرسوم الكاريكاتورية على المارة.. مثلما كنت أفعل في السنوات التي تلت الحرب.
أنا لا أفكر بهذه الطريقة. يجب أن أكون واعيا لما يحدث حولي، فليس من المجدي تحقيق أعمال ذات طبيعة نوستالجية أو وجدانية أو أخلاقية. الجيل الحالي يشتـّت ويبدّد قيم الجيل السابق، ويمضي بتهور وراء قيمه الخاصة.
لكل جيل رؤاه. هذا يحدث منذ ملايين السنين. ومع أن هذه حقيقة معروفة، إلا أننا نشعر بالقلق والانزعاج عندما يحدث هذا معنا.. ذلك لأننا نكتشف فجأة أن ثمة أفقا أمامنا، لكننا لا نرى يابسة نرسو عليها.
*يقينا كلامك لا يعني أنك تعتزم التكيّف مع متطلبات التلفزيون؟
ما أحاول قوله أن من المستحيل تقريبا تفسير رغبات جمهور هو نتاج التلفزيون وأسلوبه، والذي يمطره بوابل من الصور التي فيها يظن الإنسان أنه يستطيع أن يتعرّف على نفسه. لمدة 24 ساعة في اليوم، نكون مكشوفين ومباحين أمام شيء نحسب أنه مرآة، وبنرجسية نمكث هناك، نراقب ما نفعل، أو ما نعتقد أننا نفعله، والقصص التي نعيشها، في حين أننا نرى فحسب شكلا يسلب حقيقة وواقعية الأشياء.
إنه شكل عالق بين لقطات الواقع وأشياء مكتوبة ومؤداة للتلفزيون، بين الوهم والدعاية. هذا أدى إلى خلق متفرج نافد الصبر، قليل الاحتمال، عصابي، وخاضع للتنويم. ونحن، الذين نخلق السينما، لا نستطيع الزعم بأننا نفهم الرغبات التي قد يضمرها. في الحقيقة، أعتقد أنه لا يضمر أية رغبات. هو يريد فحسب أن يشاهد صورا تتحرّك مع تسجيل صوتي، ينز قعقعة وصخبا، معتقدا أنها موسيقى.
لا أريد أن أجازف بالمثول في مظهر من يمتلك آراءً متخلـّفة، لكن يجب أن أعرض الأمور كما هي، أن أفهم بأن التلفزيون نظام، منهج، شكل بيننا والواقع، والذي ينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار، و به نواجه أنفسنا. على المرء أن يقوم بمحاولة لقهر هذا الشكل وامتلاكه، بدلا من السماح له بامتلاكنا.
التلفزيون قد أصبح قوة طبيعية: مثل جاذبية الأرض، أو التأثيرات القمرية، أو الزلازل.. بالتالي فإن صراعنا هو مع هذا الشكل الذي اخترعناه لكننا لم نعد نسيطر عليه ونتحكـّم فيه. إنه القوة التي تستمر في الوجود بالرغم منا ومن كل نوايانا.
صانع السينما لا يستطيع أن يأخذ في الحسبان متفرجا قد تعرّض هكذا للتحوّل والتشوّه حتى أصبح غريبا، معزولا ومستلبا.. لكنه أيضا لا يستطيع أن يتغاضى عنه ويتجاهله. من هذه المعضلة أستمد – شخصيا - التحفيز والإثارة. لست من أولئك الذين يكتفون بالصياح: السينما ماتت والتلفزيون قتلها، أو أن جهاز التحكم من بُعد (ريموت كونترول) قد دمّر قدرة المشاهد على متابعة مسار القصة، أو أنه لم يعد هناك مكان لتصوير خصائص الشخصية.. وغيرها من الأقاويل والاحتجاجات التي تبدو صائبة. علينا أن نعيش في العالم كما هو أو، على الأقل، كما يبدو عليه. أنا لا أظن أن التلفزيون شيء سلبي تماما. أعتقد أنه قد ساهم في تدمير بنى ونظم ونظرات وطرائق تفكير.
لا أحسب أن هذه هي النهاية، فمن كل هذا التدمير ربما تنمو علاقة جديدة مع الواقع، وبالتالي طريقة جديدة في التفكير والسلوك البشري. من المثير أن تكون شاهدا على هذا التطور، أن تحاول إيجاد طريقة لكيفية رواية الأشياء وفق تقاليدنا لكن في أسلوب وضمن متطلبات جديدة.