لو كانت السوريالية، كحركة، مقتصرة على مجال فني أو أدبي واحد، كما كان الحال مع التكعيبية، مثلا، التي ركزت على الفن التشكيلي فقط، لما مارست ذلك التأثير الواسع في النظرية والتطبيق.
لو اكتفت السوريالية بحصر نفسها بالأشكال الأدبية، بالاستخدام الحصري للغة اللفظية، فإن تأثيرها سيكون محدودا وضيقا في مجالات البحث النظري والفعل الإبداعي، حالها حال المدارس والتيارات الأدبية الأخرى التي يقتصر تأثيرها في نطاقها الخاص والضيّق.
من الحماقة النظر إلى السوريالية كمدرسة أدبية مؤثرة، على نحو أساسي، في حقل التعبير الشعري. كما لا يجوز تمثيل السوريالية التصويرية بوصفها "أدبية"، أي بوصفها تكييفاً أخرق لفن ذي معايير مصممة لتلائم الأدب على نحو أفضل. في الواقع، فيما الحركة السوريالية تستجمع القوى، أصبح من الجلي، على نحو متزايد، أن رفض الأدب صار الاستهلال الذي لا مفر منه إلى الخطوة الأولى المتخذة في اتجاهٍ كانت السوريالية قد أشارت إليه. من البداية، كان الأدب مترادفاً، في معجم السورياليين، مع كل ما يثقل الفنان ويرهقه، والذي يكبّل عمله في المحتوى والشكل ويشدّه إلى تقاليد بالية منها لا يتوقع المشارك في المغامرة السوريالية أي شيء ذي قيمة.
* *
قلنا أن الشعر ليس مقصورا على شكل ونوع خاص، بل هو مفهوم أرحب وأكثر شمولية من أن يكون مجرد صفة لشكل أدبي. إنه يشمل كل الأنشطة والفعاليات الإبداعية ضمن مجال المسعى الإنساني. الشعر رؤية شاملة للحياة والوجود، موقف من العالم والوضع البشري، تعبير عن التجربة الحياتية والروحية، طريقة خاصة في المعرفة.
وقد أشرنا إلى أن ثمة علاقة عضوية بين الشعر والأشكال الفنية، بل ومختلف أوجه الحياة والفعاليات الإنسانية. فالشعر نجده في السرد والدراما والتشكيل وكل طرائق التعبير المختلفة.
يقول بيير ريفردي: " على المرء أن يبحث في نفسه، وفي كل مكان، عن الجوهر الشعري الحقيقي، وهذا الجوهر هو الذي يفرض عليه الشكل الوحيد الضروري له".
في بداية القرن العشرين تأثر الشعراء الشبان بالتصوير الزيتي. وجيل ما بعد الحرب العالمية الأولى كان يبحث عن توجهاته عند الفنانين التشكيليين، متجهين نحو شعر بصري أكثر. وهؤلاء الشعراء الشبان أقاموا علاقات حميمة مع بيكاسو وبراك ودوران. بل أن بعض الشعراء، مثل ريفردي وسالمون وسندرار، شرعوا في كتابة مقالات عن أعمال التشكيليين. جان كوكتو، مثلا، كتب عن شيريكو وبيكاسو، وبروتون كتب عن ماتّا. أما الشاعر أبولينير فقد صار منظر التكعيبية والمدافع عنها بكتابه "الرسامون التكعيبيون" الصادر في 1913.
من جهة أخرى، أهدى إيلوار عددا من قصائده، في العشرينيات والثلاثينيات، إلى أصدقائه الرسامين، كذلك فعل بروتون.
الحركة السوريالية، منذ بدايتها، أكدت على حقيقة أن الشعر يمدّد تخومه وراء حدود الاتصال اللفظي ليشمل أشكالا وطرائق من التعبير الفني. لذا بدأوا، على نحو مقصود، في إلغاء التخوم بين الشعر والرسم، واختاروا أن يفعلوا ذلك بأساليب غامضة ومدروسة لإثارة الخيال عن طريق خلق التنافر والتعارض.
لقد وضع بروتون الكلمات والصور (التشكيلية) على الأساس ذاته كوسيلة للاستقصاء السوريالي. هكذا ساهم الرسامون مع الشعراء والكتّاب في سبر ما فوق الواقع (السوريال)، وكانت العلاقة وثيقة بين الرسم والشعر، فالرسم هو "حقل الإيحاء الأكثر خصوبة للشعر" شرط أن يتحرّر من همّ استعادة الأشكال كما هي من العالم الخارجي.
لم يعد الرسم أداة تمثيل أو إيضاح أو تزيين للكتب الأدبية، وعندما أخذ الرسامون على عاتقهم مهمة رسم قصائد الشعراء، لم يحاولوا وصف الصور الشعرية، بل أبدعوا صورا أخرى تساعد في تمديد معنى الصور اللفظية.. كما في رسوم بيكاسو لقصائد ماكس جاكوب، ورسوم ماكس إرنست لكتاب بروتون "القصر ذو النجوم"، ورسوم تانغي لكتاب بيريه "النوم النوم في الحجارة"، وكما في صور دالي للوتريامون.
الرسم ليس مدينا للأشكال الأدبية بل للروح الشعرية التي تبعث الحياة في أشكال الفن كلها. يقول أندريه بروتون: "يبدو أن الشعر قد اكتشف في الرسم أوسع حقل لممارسة تأثيره، والإقامة فيه على نحو يستطيع الرسم معه أن يكشف للوعي عن قوى الحياة الروحية. في الوقت الراهن، ليس هناك فارق في أساس الطموح بين قصيدة لبول إيلوار أو بيريه ولوحة لماكس إرنست أو ميرو أو تانغي".
يقول أندريه لوت: "القصيدة واللوحة تتكاملان" وأن "الشعر والرسم السورياليين يحتملان، موضوعيا، تمثيل موضوع غير عقلي قابل للتوسيع".
لقد شهدت الحركة الدادائية، وبعدها السوريالية، تعاونا فذا بين الشعراء والرسامين والموسيقيين، ولم يسبق للشعر والتصوير أو التشكيل أن تضامنا وتفاعلا مثلما حدث في ذلك العهد، حيث كان الشعراء يرسمون والرسامون يكتبون القصائد. عندما نستعرض أسماء التشكيليين، سواء ضمن الحركة السوريالية أو غيرها، نلاحظ بأن عددا منهم كان يمارس الرسم إلى جانب كتابة القصيدة، مثل: وليام بليك، هوغو بال، تريستان تزارا، إل جريكو (الذي اعتبره إيلوار "رسام الجوانية الميتافيزيقية للعالم")، جان آرب، ماكس جاكوب، فرانسس بيكابيا، ماياكوفسكي، بول إيلوار، أندريه بروتون، بيكاسو، جان كوكتو، جاك بريفير، مارسيل دوشان.. وغيرهم.
كما أن ثمة مسحة شعرية تغلّف أعمال العديد من الرسامين. وقد أشاد بول إيلوار بالصور الشعرية عند بعض الرسامين.
في حديث بودلير عن يوجين ديلاكروا قال عنه بأنه قد سما بفنه إلى الشاهق من الشعر العظيم.
إيلوار اكتشف شعرية بصرية في لوحات خوان ميرو وآخرين. وقد علّق ميرو، ذات مرّة، قائلا: " المادة الغنية والنشطة تبدو لي ضرورية لتوجيه ضربة إلى المتفرج بين عينيه، من الوهلة الأولى، والتي يجب أن ترتطم به قبل أن تتمكن أفكار أخرى من التدخل. بهذه الطريقة، الشعر المعبّر عنه بصريا يتكلم لغته الخاصة".
في كتابه "الحبل والفئران" قال أندريه مالرو: "أشياء شاردان وفرمير ليست شاعرية، ولا مناخات لوحاتهما.. رسمهما هو الذي يكتسب الشعر".
الرسام مارك شاجال صرّح بأنه يسعى إلى خلق وحدة لا تنفصم بين الشعر والرسم.
الرسام الشاعر أدريان هنري أراد أن يوجد لغة مشتركة بين الشعر والرسم.
الرسام ماكس إرنست أنتج "قصائد مرئية" من مقتطفات من صحف قديمة وكتب، صورها بالحفر على المعدن.
وكان كاندنسكي من المتحمسين لصهر الفنون التشكيلية والموسيقية والأدبية في بوتقة واحدة، وكان يطمح إلى توزيع الألوان توزيعا أوركستراليا.. وعنه قال جوزيه بيار: "من 1910 إلى 1919 أطلق كاندنسكي عالماً تمطر منه الرؤى وكأنها صور من الغيب".
وقبله تحدث ديلاكروا عن توزيع الألوان والظلال بلغة موسيقية. كما كان جوجان أول من استعمل اصطلاح التوزيع الأوركسترالي في ما يتعلق بالألوان.
* *
العلاقة الجدلية بين التشكيل والشعر نجده في لجوء الشعراء إلى استخدام شكل طباعي جديد ومغاير، فبدلا من الكتابة الأفقية والمتتالية، يتم اللجوء إلى وسائل طباعية وبنائية (تشكيلية) بحيث ينحو الإخراج الطباعي إلى تنظيم القصيدة كلوحة في فراغ الصفحة. وكان القصد صدم حاسة البصر، وليس الذهن فقط، بتنظيم أو تنسيق عناصر القصيدة على الصفحة مثلما يفعل الرسام عندما يملأ قماش لوحته.
إنها تقنية بصرية تعتمد رسم القصيدة على الصفحة. ومثل هذه الأشكال والتخطيطات تتيح العرض المتزامن للعناصر إلى القارئ وليس التقديم المتعاقب. العناصر هنا، من كلمات وأجزاء جمل وفراغات، تكون متجاورة ومتداخلة ومتوحدة.. تماما كما الحال مع التكوينات والكتل والبقع اللونية في اللوحة. هذه التقنية مستمدة، في جانب منها، من رؤية الرسامين التكعيبيين: تفكيك عناصر الواقع من أجل تجميعها في نظام جديد.
كان أبولينير يسعى إلى التحرر من النطاق اللغوي للشعر فوجد في الرسم وسيلة تعبيرية أخرى. لقد أخذ ينضد حروف الكثير من قصائده ويرسمها على هيئة أشكال موحية: قصيدته "تمطر" كتبها على هيئة مطر يتساقط، قصيدة "الرباط" رتبها على شكل رباط، وقصيدة أخرى رصف حروفها على هيئة ساعة جيب.
قبله، استعمل مالارميه في قصيدته "رمية نرد" أسلوبا طباعيا متنوعا، فالقصيدة هنا "انتقال من القيم الموسيقية إلى القيم الهندسية".
كذلك أكد إزرا باوند على العلاقة بين الكتل، قاصدا الجانب التصويري للكلمات والسطور والفراغات التي تتخللها، فالترتيب يعطي انطباعا إيقاعيا يختلف عن ترتيبها بشكل آخر.
في الواقع، الاهتمام بهذه التقنية في الطباعة كان قديما، حيث لقي الجانب التشكيلي والهندسي عناية الكتّاب والشعراء، إذ تحفل بعض الصفحات بالخطوط والإشارات والصور، أو خطوط مبهمة لا تعبّر عن أي معنى، أو فراغ أبيض خال. كما أن هناك قصائد رتبت كلماتها على شكل قارورة أو ما شابه. أيضا هناك الكتابة الشرقية الزاخرة بالصور والرموز التشكيلية. ويمكن ملاحظة الانشغال بفن الطباعة عند المستقبليين الإيطاليين. بالطبع، لهذا الشكل من تكوين الصور من الكلمات تقليد عريق نجده عند الصينيين والإغريق والبيزنطيين.
أيضا نجد هذه العلاقة الجدلية في تعاون التشكيليين مع الشعراء في إخراج الدواوين وتصويرها جماليا حيث تضفي، بصريا، معان جديدة إلى جانب صورها اللفظية. كذلك نجده في التعاون بين الشاعر والتشكيلي في إصدار كتاب مشترك يضم اللوحة والنص، كما فعل بروتون وميرو في كتاب "كواكب" Constellations .
ليس هذا فحسب، بل وجدنا تأثر عددٍ من الشعراء بالرسامين، مثل تأثر ريلكه بسيزان، وتأثر بيير ريفردي ببيكاسو وخوان جري (في المرحلة التكعيبية)، حيث أنتج قصائد في "لوحات" متحركة أو ساكنة، كما قدم بعض القصائد باعتبارها لوحات.
* *
أندريه بروتون، الشاعر الأكثر ارتباطا بالخلق الفني- التشكيلي، رأى في أولئك الفنانين التشكيليين، القادمين إلى باريس من بقاع مختلفة من أوروبا، لينضموا إلى الكتّاب السورياليين، عناصر فاعلة، قادرة على المشاركة بنشاط وفعالية في إحداث ثورة فنية من خلالها سوف تعمل على تنمية وتطوير العقل البشري: امتلاك القدرة على توسيع مدارك الإنسان الحسيّة.
مع انطلاقة الحركة السوريالية، وجد الرسامون سهولة وسلاسة –أقل من الكتّاب- في دخول عالم السوريال، بالرغم من التشكيك الذي طرحه بعض الكتّاب في نقاوة العين (التي يعوّل عليها التشكيلي وإليها يحتكم) والارتياب في قدرتها على التقييم، بالقياس إلى الذهن.. فالصور الأدبية تخضع للفحص والاستنطاق عبر مرورها في الذهن، حيث تلقى المعلومة القبول أو الرفض، بينما العين تفتقر إلى القدرة الشمولية على التقييم. لكن مثل هذا الارتياب لم يصمد طويلا مع بروز التجارب التشكيلية المتميزة التي أغنت المجال السوريالي.
في كتابه "السوريالية والرسم"، أعلن بروتون أن أي لوحة تقرّ بمبادئ الآلية وصور الحلم تعتبر سوريالية، ودافع عن ضرورة استلال الإلهام من الواقع المتحوّل أو التخيلات الباطنية وليس مما يوجد في منظر بسيط وجلي.. ويضيف بروتون: "أجد استحالة في النظر إلى لوحة ما إلا باعتبارها نافذة، واهتمامي الأول بشأن النافذة هو اكتشاف ما الذي تطلّ عليه... وليس هناك ما أحبه أكثر من الشيء الذي يتمدّد بمنأى عن الأنظار".
لقد آثر بروتون "النافذة" ليكشف عما يمكن أن يكون مرصوداً في الحال، الصور المنبثقة من العالم النفسي، الباطني، أكثر من صور العالم الخارجي. إذ لا ينبغي النظر إلى العالم الخارجي، كما يتراءى للجميع، بل ينبغي قراءة الذات عبر العالم.
التشكيلي السوريالي رفض أن يحاكي الطبيعة، مركّزا قواه على "المثال الداخلي"، راغباً في أن تكون لوحته كشفا للعوالم التي لا تبصرها العين رغم وجودها، كشفا للمجهول القائم في الواقع اليومي، وعوضا عن محاكاة المظهر المباشر، يحاول الكشف عن سر ذلك المظهر. في هذا، تبتعد السوريالية عن الفن "الواقعي" من جهة، وعن الفن "التجريدي" من جهة أخرى.
من خلال تحرير النشاط اللاواعي، أراد الفنان التعبير عن العالم الداخلي، عن الرغبات المكبوتة والسرية، محاولا قراءة الذات بواسطة الرموز التي فيها يعبّر عن لاوعيه، بحيث ينتقل من معرفة الذات إلى معرفة الكون.
لم يكن التشكيلي السوريالي ينشد فن العقل والتوازن، بل يسعى وراء ما هو خارق وإعجازي وملغز. من الغايات التي كان السوريالي ينشدها: إثارة دهشة المتلقي وإذهاله. وهدفه من ذلك ليس إرضاء العين بل "تقديم خطوة إلى الأمام نحو المعرفة المجردة".
الرسم السوريالي يمتنع على أي تعريف جمالي وتقني، فالفنان ليس عبدا لقواعد جمالية مفروضة سلفا ولا خاضعا للأشكال السائدة، إنما هو حرّ في توظيف ما يحلو له من صيغ وما يشاء من أساليب. لهذا نجد تنوعاً هائلا، وتشكيلة غنية، في المحتوى والتقنية. لكن دون أن يهيمن أسلوب على آخر.
السورياليون شجعوا على وجود مثل هذا التنوع في التعبير ضمن الجماعة الموهوبة، على نحو استثنائي، من الرسامين. وبخلاف نتاج حركات فنية سابقة –الانطباعية، الفوفية، التكعيبية- التي يمكن بيسر تعيين هوية فنانيها كما لو كانوا أشبه بأفراد عائلة واحدة، فإن أعمال الفنانين السورياليين كانت، من البداية، متميزة في ما بينها ومتخالفة إلى درجة يستحيل فيها الخلط، ولو إلى حين، بين ماكس إرنست وخوان ميرو، على سبيل المثال، أو بين إيف تانغي وماجريت. إن ما يجمع بين هؤلاء الفنانين هو الرغبة في الإطاحة بكل الحواجز والعوائق للوصول إلى "ما يوجد وراء نطاق اللوحة".. حسب تصريح ماكس إرنست.
ثمة وحدة غالبة للفن السوريالي لم تفككها ارتحالات الفنانين من قطر إلى آخر. كما أن الختم السوريالي لم يكن متصلا بمزاج أو حالة نفسية معينة أو تقنية تشكيلية محددة، بل هو متصل باقتراب ميتافيزيقي من الواقع، قابل للترجمة بطرق عديدة لا تحصى، والنفاذ إلى أكثر الطبقات الذهنية عمقا.
وراء التجاور، الصور المحفزّة، التحريف، التخريب، خلق الأشياء التي تستوطن عالم الكانفاس، هناك إسقاط للموقع الداخلي على العالم المادي.
على صعيد التقنية، أظهرت السوريالية ثلاث نزعات رئيسية: استخدام التقنيات الآلية حيث استثمار الصدفة من أجل إثارة الرؤية وتحفيز المخيلة واستنباط الإلهام.
رسم عالم مماثل لعالم الحلم بوضوح ودقة بالغة في التفاصيل، حيث سطح اللوحة يميل إلى أن يكون منبسطا وصقيلا، لكن التأثير الهذياني معزّز.
النزعة الثالثة تجذب انتباها أكثر إلى المواد المستخدمة من قِبل الفنانين. هي بدأت مع تقنية الرسم "الآلي" التي مارسها ميرو، بول كلي، أندريه ماسو، هانز أرب وآخرون. كان مسموحا لخط القلم، أو أية أداة أخرى، أن تجول ساعة يشاء الفنان دون أي تخطيط واع.
يقسم النقاد السوريالية، في ما يتصل بالتشكيل، إلى أنواع أو اتجاهات تعبيرية.. فهناك السوريالية الكلاسيكية التي تنتزع صور الأحلام من اللاوعي وتدعها تتدفق على الكانفاس بلا تأويل ولا إصدار حكم، وبهذه الوسيلة تتيح لكل شيء أن يتواجد ويتعايش معا كما لو في حلم.
وهناك السوريالية الاجتماعية التي تعمل من خلال صور رمزية تمثّل الرؤى الباطنية ضمن سياق اللاوعي الجمعي. هذا الاتجاه يكشف الغطاء عن المسوخ المخلوقة، المعاناة والمكابدة التي يسببها سوء تأويل الفرد للواقع. كما أنه يستجوب ويفضح ويهجو رياء المجتمع.
وهناك السوريالية الرؤيوية التي تعبّر عن كل ما هو إيجابي في التجربة الإنسانية، والإدراك الحدسي بما هو فوق أو متخط للوعي، بوصفه العقل الموجّه وراء الوعي وما دون الوعي. الغرض هو الوصول إلى ذات الإنسان الحقيقية عبر تحقّق الوعي الكوني.
* *
السوريالية، كما أشرنا، لا ترفض كل ما سبقها في الحقل الأدبي أو الفني. مثلما في الشعر، كذلك في الرسم، بحث السورياليون عن أسلاف لهم. لقد وجدوا في أعمال جويا عناصر سوريالية، كذلك في أعمال هيرونيموس بوش، بروغيل، ، وليام بليك.
في اللوحات الأوروبية هم نظروا خلف التقليد الكلاسيكي بحثاً عن هواجس وغرابة في الرؤية واكتناز في المخيلة: رؤى العالم السفلي أو الجحيم بوحوشه ومسوخه الهجينة كما رسمها هيرونيموس بوش (1453-1516)، السجون الغريبة والمهددة التي قدمها جيوفاني بيرانيسي (1720-1778)، كوابيس هنري فوسيلي (1741-1825)، المرحلة السوداء في مسيرة فرانشسكو دي جويا (1746-1828)، اللوحات الرؤيوية عند جوستاف مورو (1828-1898)، الرؤى البدائية لـ هنري روسو (1844-1910).
لم يحب السورياليون المدرسة الانطباعية التي وجدوها طبيعية أكثر مما ينبغي (لكنهم أكملوا خط الانطباعيين الحاد الذي يتعلق بالموضوع الخارجي ليدخل أكثر إلى العمق الداخلي)، ولم يحبوا التكعيبية التي وجدوها عقلانية ومنطقية أكثر مما ينبغي (رغم أنها أوحت لهم بالكثير وذلك من خلال تجردها من الوسائل المادية إلى الضرورات العملية، محررة الإنسان من رتابته)، مفضلين صور الرمزيين الشبيهة بالحلم في القرن التاسع عشر، كما رفضوا المستقبلية مفضلين الرسامين الميتافيزيقيين، خصوصا ألغاز جورجيو دي شيريكو. كذلك أعجب السورياليون باللغز البدائي الذي تقترحه لوحات جوجان، التي رسمها في تاهيتي، والنحت الأفريقي. وتأثروا بسيزان "شقيق رامبو بالروح" و "أبو السوريالية التصويرية" على حد تعبير أندريه لوت.
إلى جانب البحث عن إرث الماضي، نلاحظ اهتمام التشكيليين بمظاهر أخرى أساسية: المساءلة الدائمة للفلسفة، البحث عن السيكولوجيا، وروح التصوف.
* *
اهتم كل تشكيلي سوريالي بخلق عوالمه الخاصة، مبتكراً تقنياته المميزة التي من خلالها يكشف عن رؤاه وتخيلاته ومكتشفاته.
سلفادور دالي، أكثر السورياليين شهرة، جاء إلى باريس العام 1928، قادما من اسبانيا، وسرعان ما وجد في السوريالية طريقا يتيح له وسائط عديدة لكي يهجّن عالم الواقع، فوجد عند فرويد تبريراً لتعلّقه الشديد بطفولته، وتعمّق في دراسة النوم والحلم، وأضاف إلى اللغة السوريالية اصطلاحا جديدا يعبّر عن منهجه الخاص الذي سماه "البارانويا النقدية" أو "النقد المبني على الهلوسة"، وكان دالي يزعم أن المعاني الخفية التي يجدها في الظواهر تأتيه من حالات جنون مؤقت، فالإنسان المُهْتَلَس يبدو في ظاهره معافىً وسلوكه سويّاً، غير أنه في داخله يحوّر الكون وفق ما تقتضيه رغباته. على نحو مدروس، قام دالي بصقل الأوهام المماثلة لتلك التي يراها الفرد المصاب بالبارانويا في انتزاع الصور الهذيانية من عقله الواعي.
لقد فقد دالي ثقته بالواقع اليومي، وراح يحاكي صور الحلم لقلب القوانين الفيزيائية، مستخدما في لوحاته كل ما ينقلنا إلى عالم آخر. كذلك هو تجنّب وضع الأشياء المتقاربة في لوحاته، جاهدا إلى خلق لقاءات هذيانية صادمة.
في أعماله التي أنتجها قبل الحرب العالمية الثانية، أظهر رغبته في ملاقاة الملموس، وصولا إلى حل تناقض الحلم والواقع. وكان يعبّر عن اللا منطقي، ليس بصور وأشكال خارجة عن المألوف، بل بتمثلات أشياء واقعية. هكذا تكتسب لوحاته قوة صادمة مفاجئة لأنها تتوجه مباشرة إلى عالم الواقع لتستعير منه العناصر الأوليّة.
كان دالي يهتم بالتأليف بين الأحياء والأشياء الجامدة، لذا حين صوّر فيرمير، الرسام الهولندي الذي أعجب به دالي بلا تحفظ وحاكى تقنيته بدقة، أظهره في شكل شبح يمدّ ساقا طويلة تتحوّل إلى طاولة.
كما تتألف أعماله من ترجمة تصويرية، مباشرة، للأحلام، مستمدا إلهامه من لوحات دي شيريكو المبكرة، الشبيهة بالأحلام.
جورجيو دي شيريكو ابتكر "الاتجاه الميتافيزيقي" حيث التوكيد على الإدراك الداخلي عند الرسام، وعلى اهتمامه بما وراء الطبيعة. لقد خلق شيريكو في لوحاته جوا سحريا فيه يتعايش المعبد الإغريقي مع خزانة الملابس، وفيه أيضا تتحول قواعد المنظور وأساليب خداع النظر والعالم الأليف إلى عالم سرّي.
لوحات البلجيكي ماجريت السوريالية تضم التصوير المقنع لأفراد وأشياء في تجاورات غريبة، مع تقنية رسم فيزيائية. النتائج عادةً تستجوب الواقع اليومي، توقفه على رأسه، وتقدم سوريالية جديدة.
في سوريالية البلجيكي أيضا بول ديلفو، النساء يظهرن في بيئة فاترة ومنها تنضح إيروسية هذيانية.
في أعمال إيف تانغي، الرؤى الشبيهة بالحلم ، التي أنتجها من الطبقات اللاواعية للعقل، تتضمن أشياء مرسومة بدقة بالغة، مع ذلك، هي متخيلة. ليس ثمة أي تجاورات غريبة. عالمه منسجم مع نفسه ومقنع بشروطه الخاصة كما في حلم.
لوحات تانغي تدخلنا إلى العالم العجيب ذاته، حيث لا حيوان مألوف ولا شجرة مألوفة. إنه يرسم عالما تنقلب فيه مقاييس عالمنا حيث كل شيء يطير أو يهرب، وللريش وزن الرصاص.
الإسباني خوان ميرو أظهر تقديرا بالغاً لإصرار السورياليين على تحقيق الانصهار بين الشعري والبصري، وإيمانهم بضرورة بذل كل الجهد في توسيع مجال الإدراك الحسي عند الإنسان، وهذا يتأتى من القيام ، بأية وسيلة ممكنة، بسبر واستكشاف العوالم، التي يتعذر فهمها ولم يُسبر غورها بعد، في ما تحت الوعي.
الأحلام، الهلوسات، وحتى الهستيريا والجنون، كانت الطرق الجليّة التي ينبغي سلوكها في سبيل تغلغل، لا يمكن إيقافه أو إعاقته، إلى ما وراء التخوم المدرَكة والمعترف بها.
يقول ميرو: " أحببت السوريالية لأن السورياليين لم يعتبروا الرسم غايةً. في الواقع، مع الرسم لا ينبغي أن نهتم بمسألة ما إذا هو سيظل كما هو، بل بقدرته على وضع بزرة النمو، وما إذا هو يبذر البذور التي منها سوف تنبثق أشياء أخرى".
وعن ميرو تحدث أندريه بروتون فقال: "ميرو هو الأكثر سوريالية بين جميع أقرانه في استسلامه الكلي إلى الآلية. وهو مدهش في جمع ما لا يُجمع، والفصل بين ما لا يجسر أحد سواه على الفصل فيه... هو استمد عدّته من القوى العليا التي التجأ إليها كبار البدائيين. وإلى هذه القوى يعود الفضل في معرفته أن الأرض تمد نحو السماء قرنيّ حلزون، وأن الهواء شباك مفتوح على صاروخ أو على شاربين، وأن فم المدخّن هو جزء من الدخان، وأن الطيف الشمسي يعلنه طيف آخر بجلبة القيود".
* *
المعرض السوريالي العالمي الثاني، الذي تم افتتاحه في باريس العام 1947 بإشراف مارسيل دوشان وأندريه بروتون، كان منظما بطريقة تبيّن مراحل الحركة السوريالية. كان الدور الأرضي مخصصا لأعمال تمثّل فترات ماضية، من بينها أعمال "سورياليين على الرغم منهم" مثل: بوش، أرسمبالدو، بليك، كارول. إلى جانب أعمال رسامين معاصرين التقوا بالسوريالية في مرحلة ما من حياتهم الفنية مثل: شيريكو، بيكاسو، أندريه ماسو وآخرين.
من بين "السورياليين على الرغم منهم" كان بيكاسو هو الأبرز. لقد أبدى بروتون إعجابا بالغاً ببيكاسو إلى حد أنه لم يتردد في ضمه مع الجماعة السوريالية متمنياً أن ينزع عنه صفة التكعيبي (إذ مثلما كانت هناك فجوة بين السوريالية والدادائية في الشعر، كذلك كانت هناك فجوة مماثلة بين السوريالية والتكعيبية في الفن التشكيلي).
بيكاسو، من وجهة نظر بروتون، كان أول من فرض على الفن وجهاً "خارج المألوف"، في محاولته لتغريب الأشياء وسلخها عن معانيها المألوفة. لوحاته، التي تمثّل ثورة على النظرة المسطحة للواقع الخارجي، تستعيد رؤى الطفولة حيث العالم نضر وجديد دوماً. لبيكاسو الفضل في "مصادقة الموجود مع الممكن وجوده" وقد بحث –كما يرى بروتون- عن "جوهر الزائل والوقتي المعكوس في ما يكوّن عادة موضوع اللذة الفنية". ومع بيكاسو "يجب تناسي كل رأي جمالي مسبق، وكل عقلي ومنطقي، وصولا إلى جوهر لوحاته".
في قصائده التي استلهمها من رسوم بيكاسو، وجّه بول إيلوار إلى بيكاسو تحية إجلال وتقدير، وميّزه بوصفه الشخص الذي يحرّض على الرؤى، ويمنح الآخرين طاقة الرؤية، جاعلا من فعل الرؤية حدثاً أكثر أهمية من الشيء المرئي أو الذي ينبغي النظر إليه.
إذن الصورة السوريالية لم تكن من خلق السورياليين وحدهم ، بل أبدعها رسامون كبار لم تتمكّن أي مدرسة أو تيار أو حركة من احتوائهم. هؤلاء حققوا أعمالا سوريالية دون أن يكونوا منخرطين (تنظيميا) في الحركة.
(المادة معدّة من مصادر عديدة ومختلفة)