بعد أن عجز فيسكونتي عن الحصول على تمويل لمشروعه الذي اشتغل على الإعداد له زمناً طويلاً، والمبني على رواية مارسيل بروست "تذكّر أشياء مضت"، اتجه إلى رواية الألماني توماس مان القصيرة "موت في فينيسيا"، التي تتناول، من بين قضايا أخرى، مسألة أفول مظاهر معينة من الثقافة البورجوازية، والوضع الإشكالي للفنان في المجتمع البورجوازي، قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وفيسكونتي يستخدم هذه الرواية كأداة لتصوير تفسخ أوروبا الفاتنة، المتمثلة هنا بالمدينة (فينيسيا) التي كانت ترمز إلى الفردوس المفقود بالنسبة لقطاع معين من الأرستقراطية الأوروبية.
العديد من المخرجين العالميين (ألان رينيه، جوزيف لوزي، فرانكو زيفيريللي، وغيرهم) رغبوا في تحقيق فيلم عن هذه الرواية لكنهم تراجعوا عن ذلك، فالنص لا يرتكز على حبكة وأحداث بقدر ما يقوم أساساً على التحليل النفسي والفكري والفلسفي.
في تحويله للنص الأدبي إلى السينما، حافظ فيسكونتي على خاصية النص، مجرياً بعض التغييرات التي لها ما يبررها، وفق مقتضيات الوسط السينمائي، معتمداً في تصوير تلك المرحلة، والتعبير عن الحالة المركّبة الصعبة، على قدرته المذهلة في التشكيل والتكوين والتحريك والإحساس الدقيق باللغة السينمائية.
موت في فينيسيا Death in Venice (1971) هو عن الأيام الأخيرة لمؤلف موسيقيّ كهل، هو غوستاف فون أشنباخ (يؤدي دوره الممثل الإنجليزي البارز ديرك بوجارد)، انتقل من ميونيخ إلى فينيسيا التماساً للراحة والسكينة، والتملص من العادي والمبتذل، ولشحن نفسه بدنياً وروحياً بعد مرحلة من المرض والإخفاقات. لكنه يجد نفسه محتجزاً في مدينة يحْدق بها الموت القادم في هيئة وباء الكوليرا الذي بدأ ينتشر ويتفشى ويهلك اعداداً كبيرة من الناس. فينيسيا هنا ليست تلك المدينة السياحية الخلابة، بل مكان بارد، كئيب، غير ودي.. ينقل الإحساس بمرور الزمن، بنهاية مرحلة تاريخية. هي مدينة يأكلها الماء، وفيها يلتقي أشنباخ بموته.
في هذا المناخ الكئيب، القاتم، السوداوي يفتتن بمراهق بولندي وسيم على نحو أخاذ، لملامحه وتكوينه سحر خاص وفريد. هذا الافتتان يجعل الموسيقار عرضة لاضطراب الروح والفكر، عاجزاً عن التعبير عن طاقاته الجامحة والمكبوتة، ومغموراً في حالة من الهذيان واللاتوازن.
عندما يتطلع إلى المرآة، يشعر بالخجل واليأس من منظر شعره الملئ بالشيب، وملامح وجهه المتغضنة. هذه الشيخوخة تثير اشمئزازه. لذا يقوم بمحاولات يائسة، فاشلة، لترميم أو تجديد شكله الخارجي، وطمس مظاهر الكهولة، بمساعدة حلاق الفندق. يصبغ شعره بالأسود، يجمّل وجهه بالكحل والمساحيق.
الفيلم يصور اللقاء الأول بين أشنباخ والفتى الوسيم تادزيو (الذي سيكون حضوره مهيمناً على أيام أشنباخ الأخيرة) من خلال سلسلة من حركات الكاميرا الوافرة عبر ردهة الفندق، حيث الفتى محاط بعائلته البولونية، ومن هذه اللحظة تبدأ روح أشنباخ في الاضطراب والانجذاب بقوة هائلة نحو ذلك الجمال المتجسد أمامه. إنها لحظة التحوّل والاهتزاز في حياته العادية وفي فكره. لقد عثر أخيراً على ما كان يبحث عنه منذ زمن طويل: الجمال المطلق، الخارق والمرئي في آن، الذي به "نتوجه إلى المحسوس" والذي هو "الطريق التي تقود الإنسان الحساس إلى الروح" (على حد تعبير مان في روايته).
لكنه لا يستطيع أن يلمس هذا الجمال، ولا أن يخاطبه، بل يكتفي بإرسال نظرات حنونة، وجلة، غيورة، إلى ذلك الكائن القريب منه لكن البعيد مثل الأفق.. وحتى نهاية الفيلم لا يتبادل معه كلمة واحدة ولا يلمسه سوى في لقطة واحدة حين يتجه إلى أم الفتى طالباً منها الرحيل بعد اجتياح الكوليرا للمدينة، وهنا يلمس شعر تادزيو بحنان وحب.. غير أن اللقطة هذه ليست واقعية إنما تدور في خياله، ومن ثم فإن العلاقة طوال الفيلم تظل روحية بحتة.
نحن نراه، على الشاطئ، يتأمل الفتى وهو يلهو مع رفاقه أو يخاطب عائلته أو يركض مع الأمواج "ككائن حي، لطيف وقاس معاً في رجولته الأولى، يشبه أسطورةً شعرية" (كما يقول مان في روايته). وأشنباخ، الذي نذر نفسه لخلق الجمال، يتأمل من يمتلك ذلك الجمال، كأنما يحرسه ويرعاه. تتوالى اللقاءات السريعة بينهما، حيث يتبادلان النظرات فقط، لا الكلمات.
عبر ذاكرته، من خلال لقطات الفلاش باك التي يلجأ إليها فيسكونتي في عدد من المشاهد الموزعة في ثنايا الفيلم، يتصل أشنباخ بمهنته كموسيقيّ، بحياته الزوجية التي اختبر فيها السعادة أحياناً مع زوجته وطفلته. يتذكر حواراته ومجادلاته مع صديقه عن الموت والجمال والفن، ذهابه ذات مرة إلى مبغى وتقززه ثم هربه من المكان، جنازة ابنته الصغيرة، قيادته للأوركسترا وسخط الحاضرين عليه.. إنها مشاهد سريعة تتداخل مع لحظات الحاضر بصورة مركّزة ودقيقة وموحية جداً.
لقد استطاع فيسكونتي أن يجعلنا نعيش تجربة ومعاناة الشخصية بكل ترددها وتوترها وعذاباتها، ومعها نتابع بحثنا ورصدنا لذلك الفتى الذي خلق انعطافاً في حياته والذي سبّب له إرباكاً وتمزقاً في نفسه. إنه لا يستطيع الفرار منه، وحتى عندما أراد السفر حالت الظروف دون ذلك، وفهم آنذاك أن تادزيو هو الذي جعل رحيله على تلك الدرجة من الصعوبة. تادزيو، الذي هو موضع الوله والاستحواذ، يمثّل عنصر الجذب المهلك الذي يشدّ أشنباخ ويجبره، دون أن يعلم، على البقاء في المدينة الموبوءة. إنه يعود مغتبطاً ليتأمل من جديد جوهر الجمال.
في أحد المشاهد تلتقي نظراتهما، فيبتسم له الفتى ابتسامة أليفة، فاتنة، لكنه يستقبلها بانفعال وألم، قائلاً في توبيخ مشحون بالحنان "لا ينبغي أن تبتسم هكذا.. لا ينبغي أن تبتسم هكذا لأي إنسان"، ثم يشهق "أحبك".
عندما يحاصر وباء الكوليرا المدينة، السلطات تحاول التستر وإخفاء الحقيقة خشية فرار السياح. أما عندما يعلم هو بالأمر، يعجز عن تحذير عائلة الفتى. إنه يتخيّل التحذير فحسب، أما في الواقع فهو يخاف أن يواجه الفتى، وأن يخاطبه، فينخرط في البكاء. وهو يقرر البقاء مادام الفتى سيبقى.
عندما يلاحق الفتى عبر طرقات المدينة، بأجوائها الكئيبة التي توحي بروح عدائية، غير ودّية، كما تعزّز الإحساس باليأس والعزلة، ينهار أشنباخ. يسقط على الأرض. الشيخوخة تقطن في جسده وروحه.
في النهاية، تقرر العائلة الرحيل. هو يمضي إلى الشاطئ، يجلس على الكرسي في تعب، ليراقب – للمرة الأخيرة – تادزيو وهو يخوض في المياه مبتعداً.
الفيلم، كما الرواية، تأمل فلسفي وشعري في الجمال (الحسي، التصوري، والمادي) ومحاولة لسبر حالة الفنان في مواجهته الجمال والموت معاً. أشنباخ يدرك أن سعي الفنان وراء الجمال الأزلي يصبح الشكل الأسمى للمعرفة الحقيقية التي فيها يضع الفنان نفسه داخل لعب محفوف بالمخاطر مع حساسيته كلها. إنه يفهم أن الفنان هو المخلوق الأكثر حساسية تجاه الجمال، والذي يخضع له كما لو إلى قوة قاهرة لا يستطيع مقاومتها. كما يفهم أن الموت هو ضرب من التحقق والتسامي. إنه يرصد عزلته النامية وموته الموحش من خلال موشور توقه إلى السمو. الجمال هنا يندمج مع الإحساس العام بالقلق، التوعك، الوهن، الريح الحارة التي تحمل بوادر مرض سوف يصبح جلياً على نحو متزايد مع اكتشاف أشنباخ أن الوباء بدأ في قهر العديد من بقاع العالم، وأنه الآن يدور حول هذا المكان الشبيه بالحلم، حيث هو يمكث، في هدوء ورباطة جأش، منتظراً مجئ الموت.
فكرة تحويل مهنة الشخصية الرئيسية من كاتب بارز وشهير، كما في الرواية، إلى مؤلف موسيقيّ، بررها فيسكونتي بأن النص يزخر بالأفكار الأدبية التي يصعب تصويرها، كما أن توماس مان كتب الرواية في العام الذي شهد موت الموسيقار غوستاف ماهلر.. سنة 1911، مستوحياً العمل من حياة وأفكار ماهلر، الذي التقاه مان قبل سنة في ميونيخ أثناء تقديم السيمفونية الثامنة، متخذاً من شخصية ماهلر نموذجاً من خلاله رسم شخصية الكاتب، وقد اعترف مان بهذا التماثل والتأثر.. أشنباخ هو مثل ماهلر الذي عانى الحرمان من الحنان العائلي في صغره، والذي استقبلت أعماله الموسيقية بالفتور وسوء الفهم والتقدير، والذي – مثل ماهلر أيضاً – كان يرى أن الجمال هو نتاج مسعى واع أكثر مما هو نتاج الغريزة والمصادفة. بل أن فيسكونتي يستفيد من مراسلات ماهلر في اقتباس آرائه في الفن والحياة، حيث عبّر عن شغفه بالفن المثالي الخالص.
إن تصرّف فيسكونتي، في هذا المنحى، جاء واعياً للمرحلة التي كتب فيها مان روايته، ومدركاً لكل أبعاد النص.
من ماهلر، بالذات من السيمفونية الثالثة والخامسة، يستعير فيسكونتي بعض الحركات، تحديداً في اللحظات الحاسمة من الحبكة، والحالات التي تعبّر عن التوق والحنين المعذّب. الموسيقى هنا تكون انعكاساً حميمياً للفيلم. وفي الواقع، للفيلم بنية سيمفونية – على حد تعبير الناقد جورجيو بيرتلليني – حيث الحركات والإيقاعات تحل محل المشاهد واللقطات المتعاقبة، وتقرّر إيقاع ومغزى التجلي البصري.
في حوار مع مؤلف الموسيقى فرانكو مانينو، هو يصف الاستخدام غير المسبوق للموسيقى في "موت في فينيسيا" فيقول: "الدليل على أن فيسكونتي لم ينظر إلى موسيقى ماهلر كشيء مرافق فحسب هو أنه جعلني أشتغل على الموسيقى بدون حتى أن أشاهد الفيلم. لقد أراد مني أن أعمل في وجهتي حراً من الكوابح أو التشوّش، بعد ذلك هو تبنّى "النظام البصري" للإيقاعات البصرية. هذا مثال نادر، في السينما، للاحترام الذي يوجهه الفنان إلى عمل فني".
هذا يفسّر سبب وجود مشاهد معينة في الفيلم، غير متصلة بصرياً بواسطة وحدات المكان أو الزمن، لكنها مترابطة معاً بواسطة الموسيقى.
إن إعداد فيسكونتي لرواية توماس مان نتج عنه فيلماً هو من أقل أفلامه استغراقاً في القضايا السياسية، دون أن يعني ذلك اهتماماً أقل بالتطورات الهامة في الحياة الثقافية الإيطالية. لقد حقق فيسكونتي فيلماً شخصياً عن الهواجس الثقافية، متحرياً علاقة الفنان بعمله وحياته. وليعبّر أيضاً عن قلق عصر تعيش فيه البورجوازية مرحلة انحطاط بينما هي مشرفة على حرب عالمية أولى، وعن تحولات قيم ومفاهيم تفرضها المرحلة الانتقالية.
لقد كان فيسكونتي حريصاً هنا على إبراز طبيعة وخاصية تلك المرحلة بدقة تامة سواء في اختيار المواقع أو الديكور أو الملابس أو الإكسسوار، بحيث استطاعت هذه العناصر الداخلة ضمن اللوحات البديعة أن تكون موحية ومعبّرة.
ديرك بوجارد أدى أقوى وأصعب أدواره، معتمداً على تعابير وجهه ونظراته المعبرة وحركات يديه وشفتيه المدروسة بدقة وعناية، ففي غياب الحوار – هو لا يتبادل سوى أحاديث وجيزة – كان عليه أن يعبّر عن مختلف الانفعالات المتباينة بجسمه كله، وأن يجعلنا نسمع ما يريد قوله دون أن يفتح فمه. إنه الممثل الذي يمتلك ذلك الحضور القوي والمشع، وتلك الحساسية المرهفة القادرة على الاتصال بالمتفرج دون استخدام اللغة.
مع هذا الفيلم بدأت ثيمة الوحدة والعزلة تهيمن على أفلام فيسكونتي. ها هنا كائن يعذّبه إحساسه بالعزلة. والمرء يشعر بأن تجاربه الشخصية هي التي تشكّل الأساس العاطفي وليس مادة النص.
عمل بطئ ودقيق، ويتسم بجمالية عالية. في الواقع هو من بين أهم أعمال فيسكونتي.
يقول فيسكونتي:
- منذ زمن كنت أرغب بشدة في تحقيق هذا الفيلم، المبني على قصة توماس مان الجميلة. لكنني كنت باستمرار أرجئ ذلك. لم أكن أشعر بأني مستعد وجاهز لمثل هذا المشروع، وأظن أنني كنت محقاً في هذا. قبل عشر سنوات لم يكن بإمكاني تصوير فيلم عن هذه القصة.. إنه العمل الذي يستدعي نضوجاً، أن تبلغ سن الرشد.
- لقد أردت أن أبقى أميناً قدر الإمكان للنص الأدبي. الشخصية الرئيسية، جوستاف فون أشينباخ، هو في الخمسين من عمره، غني بالشهرة والتألق والسمعة الحسنة، مطمئن إلى منجزاته، لكنه يعي لحقيقة أفول الطاقة وتناقص البهجة في العمل.
- في اندفاع هو يغادر بيته في ميونيخ ويقضي عطلته في فندق بفينيسيا. هناك يلتقي بأحد نزلاء الفندق: تادزيو، فتى بولندي في الرابعة عشرة. جمال الفتى المدهش يسحر أشينباخ الذي يرى في هذا الجمال كمالاً جمالياً منجزاً على نحو طبيعي، الجمال الذي لا يحققه أشينباخ في أعماله الفنية إلا أحياناً، ودوماً بجهد قاس. إنه يفتتن بالفتى على نحو لا يقاوَم. هو يغادر الفندق ليعود سريعاً ويراقب تادزيو في انجذاب وهيام. لكنهما لا يتبادلان كلمة واحدة. تادزيو يصبح رمزاً لكل ما يتوق إليه الفنان.
لم يكن بينهما غير اتصال واحد، وهو متخيّل. فينيسيا واقعة في قبضة الوباء وأشينباخ يريد أن يخبر أم الفتى عن الخطر الذي يحْدق بابنها. لكنه لا يقول شيئاً بل يمكث مكانه، مفتوناً بالفتى في صمت، مستسلماً للوباء الذي يجتاح المدينة. ويموت يوم يغادر الفتى فينيسيا.
- ما إن اتخذ المشروع شكله النهائي حتى بدأتُ، قبل كل شيء، في البحث عن ممثل يؤدى شخصية تادزيو. كان عليّ، مهما كلّف الأمر، أن أجد الفتى حسب وصف توماس مان له. فتى، هو في آن، طبيعي وإسقاط فكري. بالنسبة لأشينباخ، هو مغامرة فكرية بين الحقيقة والخيال.
لم أرد شخصاً لاتينياً، سيكون حسياً ومادياً أكثر مما ينبغي. لقد بحثت عنه في كل مكان في بولندا، لكن الشباب هناك فقدوا شيئاً من تلك الرهافة والبهاء التي كانت موجودة سابقاً.
في ستوكهولم وجدت تادزيو: فتى سويدي يدعى بيورن أندرسِن. أمه ستكون سيلفانا مانيانو، وديرك بوجارد في دور أشينباخ.
- في الرواية، أشينباخ كاتب.. لكن في الفيلم يصعب وصف معضلات الكتابة، وتقديم عمل وسيكولوجية الكاتب. لذلك جعلت أشينباخ مؤلفاً موسيقياً، والشخصية الفنية التي ألهمتني هو جوستاف ماهلر.
في الواقع، توماس مان كان حاضراً، في العام 1910 في ميونيخ، أثناء التقديم الأول لسيمفونية ماهلر الثامنة، وقد سحرته شخصية ماهلر، وكتب عنه يقول: "هو الرجل الذي أعطى فن زمننا الشكل الأكثر عمقاً وقداسةً". كما أكدّت إيريكا مان أن شخصية جوستاف فون أشينباخ لا تحمل الاسم الأول للموسيقار فحسب لكنها أيضاً تحمل العديد من سمات ماهلر النفسية والبدنية. إذن تغيير مهنة الشخصية لم يكن خياراً اعتباطياً. من جهة أخرى، كنت دوماً أرغب في تحقيق فيلم يتألف موسيقاه كلها من أعمال ماهلر.
- ما يثير اهتمامي دوماً هو استنطاق مجتمع مريض.