عباس كيارستمي، الذي هو من أكثر المخرجين حضوراً في السينما الإيرانية الجديدة، حاز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان 1997 عن فيلمه "طعم الكرز"، متوجاً بذلك مسيرة سينمائية لقيت اهتماماً نقدياً متزايداً على المستوى العالمي، منذ العرض الأوروبي الأول لأحد أعماله في مهرجان لوكارنو 1989.
بوسع المرء أن يقول بأن سينما كيارستمي هي عن الفضول، الذي يكفل رغبة المتفرج في أن يعرف، أن يحل الشفرة، أن يفهم. كيارستمي يوجّه الانتباه إلى الطريقة التي بها ينمو الفضول بالضرورة من الشك. هنا تكون رغبة المتفرج في أن يعرف ويفهم مضاعفة ومعمّقة بفعل الإحساس الواعي بالشك حتى بشأن الحقيقة أو واقع ما يحدث. وكيارستمي يبني أحاسيس المتفرج هذه في جماليات سينماه، بحيث أن عملية الفهم (أو عدمه) تكون مركزية أكثر مما هي عرَضية أو اتفاقية.
لقطات الافتتاحية المتعاقبة، في "طعم الكرز"، توضح هذا الاستفهام المتقاطع بين الشاشة والمتفرج، مظهراً أنواعاً مختلفة من الشك. الفيلم يبدأ برجل (بديعي) يسوق سيارته الرانج روفر على مهل عبر شوارع طهران. صفوف من العاطلين عن العمل يطلون عبر نوافذ السيارة، ملتمسين عملاً ما، مثل عاهرات ينتظرن أن تتوقف لهن سيارة أحدهم.
السيارة تخرج من المنطقة، والبحث يستمر. السائق يكلّم بعض الرجال الذين يصادفهم على جانب الطريق، بينما يتجاهل البعض الآخر. رد فعل أحدهم تجاه السائق – صرفه بفظاظة، وبعدوانية تقريباً – يؤكد الشك المتزايد عند المتفرج تجاه ما ينويه السائق وما يعرضه. وعندما يقبل جندي أن ينقله السائق إلى ثكنته، المحادثة تبدو وكأنها تأخذ، على نحو ضمني، منحى جنسياً، عندما يتحدث السائق عن فترة تأديته الخدمة العسكرية، وتذكره للرفقة بين المجندين.
عندما سئل كيارستمي، في مقابلة له نُشرت في مجلة Positif، ما إذا بالإمكان قراءة مشاهد الافتتاحية كتلميحات إلى بواعث مثلية جنسية، رد قائلاً: "كنت أقصد، بالطبع، أن أخلق هذا الانطباع. إن إحداث تلميح طفيف، أو إشارة ضمنية، إلى مثل هذا الشيء، هو أمر مشوّق... أميل إلى خداع المتفرج، وجعله يجابه أفكاره أو نوازعه اللاسوية، وتخيلاته الخاصة".
لحظة واحدة من الانحراف عن الوضع السوي تتبعها، على نحو مفاجئ، لحظة أخرى. يتضح أن السائق، السيد بديعي، يريد أن ينتحر. وهو مستعد لدفع مبلغ كبير من المال لأي شخص يساعده، وذلك بالحضور صباح اليوم التالي، إلى الموضع الذي اختاره ليموت فيه، كي يهيل التراب على جثمانه.
الفيلم يتابع محاولاته لإقناع ثلاثة من الرجال المختلفين جداً لكي يوافق أحدهم على عرضه. الأول، الجندي، يغادر السيارة على عجل، عندما يوقف بديعي سيارته كي يريه القبر. حيرته تتحول إلى فزع وإحساس بالصدمة، لذلك يهرب مبتعداً. الثاني، طالب دين، يحاول أن يثنيه عن قراره ناصحاً إياه بالعدول عن ذلك لأن الانتحار فعل شائن من الوجهة الدينية. الثالث، رجل كهل يعمل كمحنّط للحيوانات. في البداية يحاول أن يقنعه بألا يفعل ذلك لأن الحياة تستحق أن تُعاش حتى لو بسبب المتع الصغيرة التي تمنحها، وعندما يرفض الآخر، يوافق أن يساعده على أساس أن الاختيار بين الحياة والموت هو حق طبيعي.
الهيكل الأساسي للفيلم يتشكّل مع هذه المحادثات الثلاث التي يجريها بديعي داخل السيارة. لكن مع أن التحول الأول في الطابع – من التلميح إلى الجنس إلى البحث عن الموت – يؤسس ثيمة الفيلم، إلا أن المتفرج لا يزال غير مطمئن، غير واثق من طبيعة الأحداث التي تدور على الشاشة، ويجد نفسه مرغماً على البحث عن مفاتيح قد تجلب نوعاً من اليقين.
إن بحث بديعي يحمل القصة إلى الأمام لكن هو نفسه يظل مبهماً، والأسباب التي تجعله يقرر الانتحار هي غامضة، غير واضحة إلى حد أن المرء أحياناً يشك في أن بديعي – أو كيارستمي – ربما شرع في العملية كلها كتجربة اجتماعية. حضوره وشخصيته تجعلانه في وضع بعيد عن الركاب: هو ينتمي إلى الطبقة الوسطى، محايد ومتحفظ. لكنه يبدي اهتماماً بإجاباتهم على أسئلته، والفيلم يريد أن يستنبط قصصهم وأفكارهم. الجندي الكردي وطالب الدين الأفغاني يجلبان واقعاً تاريخياً واجتماعياً إلى المساحة الضيقة التي تمثلها السيارة. لكن بما أنهما يفتقران إلى السلطة لقلب التسلسل الهرمي الاجتماعي واستجواب السائق، فإن اللغز المركزي للقصة – رغبة السائق في الموت – يكون متروكاً دون حل، ثقب أسود في فضاء السرد وتوقّع الجمهور. الفجوة بين السائق والركاب تتسع بفعل المسافة السينمائية الشكلية بينهم. لكل واحد مساحته الخاصة، إنهم لا يتقاسمون أبداً لقطة تجمع شخصين معاً.
في حواره المنشور في Positif شرح كيارستمي كيفية تحقيق اللقطات: "في الواقع، صورنا المشاهد دون أن يحدث لقاء بين الممثلين داخل السيارة. كلما تحدث ممثل في لقطة قريبة، أكون أنا في الجانب الآخر من الكاميرا لكي أرد عليه وأجد طرائق لانتزاع مشاعر وانفعالات معينة منه. كنت الشخص الوحيد الذي تحدث مع الرجل الكهل، والجندي الشاب، وطالب الدين الشاب، ولا شك أنهم تفاجأوا كثيراً عندما لم يشاهدوني في الفيلم".
مع كيارستمي نفسه وهو يحل محل السائل، فإن هذه الاستجوابات تعطي انطباعاً بأن الفيلم وثيقة تسجل أصوات وحضور الشابين بصدق اجتماعي تام، لكن ثمة إحساس بالشك لا يزال يحوم على هذه المشاهد، مقوضاً اعتقاد المتفرج. مع اللقاء الثالث، يفقد الفيلم اهتمامه بالتوثيق ويصبح متورطاً أكثر مع سؤاله التجريدي، الغيبي: "هل يحق للكائن البشري أن يزهق نفسه؟".
هنا يصبح بديعي الوسيط لتساؤل المخرج أكثر من كونه شخصية ضمن حكاية مترابطة مكسوة بزخارف الاحتمال. إن ارتياب الجمهور الآن ليس في "هل سوف يحدث الانتحار؟" بل في "هل سيصور المخرج الانتحار الذي سيحدث؟".
فيلم "طعم الكرز" تهيمن عليه الأسئلة: هناك استجوابات بديعي الدقيقة، اللحوحة. وهناك أسئلة عن شخصية بديعي متروكة دون إجابات. وهناك الأسئلة الميتافيزيقية المتروكة معلقةً في النهاية.
الشاشة تعرض في النهاية سماءً مظلمة، مع عاصفة مقبلة. القمر يمضي خلف الغيوم، والشاشة تظلم تدريجياً، وتبقى كذلك للحظات. عن هذا يقول كيارستمي: "يدرك المرء أن لا شيء هناك غير الحياة وهي تأتي من الضوء. ها هنا، السينما والحياة تندمجان في بعضهما البعض. لأن السينما، هي أيضاً، مجرد ضوء... يتعيّن على المتفرج أن يجابه هذا اللاوجود الذي، بالنسبة لي، يستحضر موتاً رمزياً".
الصورة التي أخيراً تحل محل الشاشة السوداء تُظهر الطاقم الفني وهم يعملون، الممثل همايون إرشادي (الذي يؤدي دور بديعي) يشعل سيجارة، الجنود يتمازحون على جانب الطريق.. لكن كل ذلك مصور بكاميرا فيديو حيث المنظر يتحوّل إلى جو ربيعي. في حين أن العديد من النقاد وجدوا هذا المقطع الختامي مفاجئاً، غير متوقع، ويعمل على تقويض الفيلم، إلا أنه ربما ينبغي فهمه في سياق موقف المخرج من نهايات الأفلام. مراراً كان كيارستمي يرفض ما يسميه "الحالة الوجدانية" للنهاية التي تعطي المتفرج ما دفع ثمناً له.
قصص كيارستمي تنزع إلى أخذ شخصياتها في رحلات. الرحلة، الفعلية والمجازية معاً، تصبح فضاءً للتحول الشخصي، ليس انتقالاً إلى وضع جديد في العالم أو إلى إنجاز ناجح للبحث – كما في الحكايات الشعبية التقليدية – بل إلى مستوى جديد من الفهم. في فيلمه "أين منزل الصديق؟" نتابع رحلة أحمد عبر إقليم غير مألوف متجهاً إلى قرية صديقه، ولقاءاته مع الآخرين، ولحظات خوفه في الظلام، تأخذه إلى ما وراء نطاق فهمه الأول لمهمته. الرحلة في فيلمه "والحياة تستمر" تتحوّل من البحث الفعلي عن الولدين إلى فهم أوسع لاستمرارية الحياة عبر الاضطراب الاجتماعي والفيزيائي، وربما، على نحو مجازي، عبر ووراء الثورة. في "طعم الكرز"، بحث بديعي يتخطى البحث السابق بمراحل: هنا العلاقة بين الحياة والموت منتزعة من الموقع المحدد للتراجيديا، وتنتقل أخيراً إلى ما وراء المسار الفكري الخاص بالشخصية لتواجه الجمهور مع مساراتهم. ومع أن فيلميّ "لقطة قريبة" و"عبر أشجار الزيتون" يضعان شخوصهما عبر "رحلة" تحويلية، محوّلة إلى رحلة من خلال الفيلم، إلا أن "طعم الكرز" يواصل ثيمات البحث والتخطي المستكشفة في أفلام أقل انعكاسية ذاتياً. من جهة أخرى، "طعم الكرز" يشير إلى السينما، مستخدماً إمكانيتها المجازية لإنهاء الفيلم خارج خط القصة. والفضول، الذي قاد المتفرج مع الشخصية على طول الرحلة الفعلية والمجازية، يتعرّض للتحوّل أيضاً، إلى مستوى من الإدراك الحسي والفهم وراء نطاق الرغبة في معرفة "ما يحدث في النهاية".
العديد من أفلام كيارستمي تُظهر الانتقال بالسيارة والنظر من خلال السيارة إلى المناظر الطبيعية المحيطة. هذه اللقطات المصاحبة العامة تجذب الانتباه إلى الطريق نفسه، مانحاً حضوراً واقعياً للرحلة. لكن في الغالب، حضور الطريق يلفت الانتباه إلى شيء تشترك فيه المناظر الطبيعية والسينما. المناظر موسومة بالعامل البشري، والطرقات والدروب بوجه خاص تشهد على الحركة البشرية التي حوّلتها إلى آثار وخطوط عبر المناطق الريفية. وبينما الحياة البشرية والتاريخ قد تظهر فقط كوهْم على الشاشة، فإن هذه الآثار بذاتها هي الواقع. السينما لها علاقة مماثلة مع آثار الماضي، محتفظة بمظهر الأشياء عبر الزمن. عندما يصوّر كيارستمي الريح في أشجار الزيتون، فإن هذا المظهر الواهي للمنظر الطبيعي يكون مسجلاً.
ينبغي للمتفرج على أفلام كيارستمي أن يتذكر مبدأ الشك، اللايقين. الطريق المتعرّج الجميل الذي يظهر في ثلاثية "كوكر" كان مشيّداً عمداً لفيلم "أين منزل الصديق؟". لكن كأثر زائف، أو تخيلي، في المنظر الطبيعي، هو أصبح الآن أثراً حقيقياً وتاريخياً في السينما.
المصدر: Sight and Sound, June 1998