"أريد أن أعطي الجمهور تلميحاً، إشارة
ضمنية، للمشهد. إذا منحتهم الكثير
فسوف لا يساهمون بشيء من عندهم.
لكن إن منحتهم إيحاءً فحسب فسوف
تجعلهم يشتغلون معك. ذلك ما يعطي
المسرح معنى: عندما يصبح فعلاً اجتماعياً"
أورسون ويلز، 1938
الكثير من الأعمال التي قيل عنها أنها مبتكرة ومجدّدة في فن السينما، أكثر من خمسين سنة مضت، عندما شوهدت لأول مرة، اعتبرها الجمهور مضجرة أو مربكة.. عادةً لأنها بطريقة ما تعيد تحديد شكل ووظيفة السرد. عندما استخدم جان-لوك جودار الانتقال المفاجئ jump cuts في أول أفلامه Breathless (على آخر نفَس – 1959) رأى بعض النقاد في ذلك افتقاراً إلى الاستمرارية والترابط. وعندما جعل الممثلين يلقون بتدفق تضمينات واستشهادات أدبية – التي أحياناً تعوق مسار الشخصيات والحبكات – ظن العديد أنه يفتح الباب لدخول الفوضى والتشوش. في العام التالي، جعل أنتونيوني بطلة فيلمه "المغامرة" تختفي في الثلث الأول من الفيلم دون أن يفسّر على الإطلاق ما حدث لها، فكان رد فعل جمهور مهرجان كان، حيث عُرض الفيلم، غاضباً وأطلق صيحات الاحتجاج والاستهجان.
ولأن روبير بريسون رفض أن يستخدم ممثلين (محترفين)، ودرّب "موديلاته" (الممثلين الهواة) على الأداء بلا تعبير، تم تصنيفه كاختصاصي في إحداث الضجر، واتهموه بالإدعاء والتكلّف. جاك تاتي، الذي صوّر كل شيء تقريباً في لقطة عامة وركّز على الأحداث اليومية أكثر من تركيزه على الأحداث الاستثنائية، لم يواجه مشكلة كبيرة في إيجاد جمهور واسع لأفلامه، لكن العديد من النقاد اعتبروه باهتاً ومملاً وفاتراً. وجاك ريفيت – الذي ألغى العديد من الفروقات المعتادة أو المألوفة بين الأداء "الجيد" و"السيئ"، المشهدي والسردي، الزمن الحقيقي والزمن السينمائي – سرعان ما أصبح موضع تندّر دائم بين المعلقين ضمن الاتجاه السائد، الذين تحدثوا عن أفلامه الطويلة المهلهلة، غير الملفتة.
بطرائق مختلفة، كل هؤلاء الفنانين كانوا يعبّرون عن ما يعنيه أن تكون حياً في زمنهم وعوالمهم. لكن بالنسبة لهم، لكي يقدموا لنا شيئاً جديداً، كان من الضروري أن يبعدوا شيئاً ما، شيئاً مألوفاً بشأن سرد القصة الذي يعترض سبيل المدارك الجديدة. إذا كانت الإضافات الهامة إلى فن الفيلم والتي وفّرها أنتونيوني، بريسون، جودار، ريفيت، تاتي – إضافة إلى شانتال أكرمان، كارل دراير، هو هشياو هشين Hou Hsiao-hsien، عباس كيارستمي، أندريه تاركوفسكي، بيلا تار – تكون أحياناً مرئية كأشياء غير مهمة، فذلك لأننا نميل إلى جلب الأعراف أو العادات القديمة معنا عندما نذهب إلى صالات السينما. إن تكوّن العادات الجديدة بلا نزاع أو تضارب هو أمر بعيد الاحتمال. بعض المشاهدين ببساطة يريدون الاستمرار في الذهاب إلى السينما لينسوا واقعهم ومشاكلهم، ومن بين هؤلاء نجد نقاداً بارزين. لذلك هم يرفضون التخلي عن أعرافهم القديمة.
* * *
ليس هناك التفاف حول حقيقة أن أفلام عباس كيارستمي تقسم الجمهور.. هنا، وفي بلاده إيران، وأي مكان آخر تُعرض فيه. شخصياً كان رد فعلي متفاوتاً ومختلطاً عندما شاهدت أفلامه لأول مرة في مهرجان تورنتو قبل خمس سنوات. لقد اعتبرت فيلمه "أين منزل الصديق؟" كوميديا لطيفة وعادية، ثم اكتشفت أنه عميق وغامض. كذلك اكتشفت أن أفلام كيارستمي، التي أعتبرها من أكثر الأشياء روعةً وإثارةً للدهشة في السينما منذ سنوات طويلة، يجدها بعض الأصدقاء والزملاء مملةً وفارغة، بل ويمكن التنبؤ بمجرياتها. هذا جعلني أدرك أن الاعتراف بعظمة كيارستمي ليس مسلّماً به جدلاً، حتى وإن نال فيلمه "طعم الكرز" جائزة كان الكبرى مناصفةً. بعض الزملاء الذين يشاطرونني الإعجاب بهذا الفيلم يختلفون معي في النظرة إلى النهاية، فيرون بأنها تمثّل عيباً أو من الشوائب، بينما أراها كعنصر هام جعل من الفيلم تحفة فنية.
أعتقد أن الخلافات تدور بالدرجة الأولى حول محاولة معرفة السبب الذي يجعل معلومات أساسية في القصص تبدو مفقودة. أجزاء من الشريط الصوتي في بعض المشاهد تكون مكتومة. توقعات الجمهور بشأن المكان الذي تتجه نحوه الكاميرا، وما تجده، تكون عرضة للتلاعب. كما أننا نكون على مسافة بعيدة عن أجزاء محورية أو بالغة الأهمية من الأحداث، بحيث نضطر إلى تخمين أو تخيّل ما يحدث هناك.. بصرياً وسمعياً. في كل حالة، نكون مرغمين على ملء الفراغات قدر المستطاع.. وهي الفعالية التي ليست مجرد جزء من تقنية كيارستمي بل جزء من موضوعه.
* * *
الشخصية الرئيسية في فيلم "طعم الكرز"، السيد بديعي، يريد أن ينتحر، ونحن لا نعرف السبب. بل أننا لا نعرف، بعد يوم من التشاور والتحضير، ما إذا هو نجح في ذلك أم لا. يقول البعض أن كيارستمي أهمل هذه المعلومة لأن ليس لديه ما يقوله. أنا أقول ما يناقض هذا لأن كيارستمي يتحدث معنا ومن خلالنا، يدعونا أن نتقاسم في قصة مشتركة، جماعية.. أن علينا أن نسهم في جزء من عبء ما إذا الفيلم يقول شيئاً. إذا لم نكن نرغب في التفكير بشأن الموت والحياة فإن الفيلم لن يستطيع أن يقول لنا شيئاً.
* * *
أكثر حبكات كيارستمي هي توضيحات لأفكار بسيطة، خصوصاً تلك الظاهرة في أعماله القصيرة التعليمية الرائعة، التي هي أيضاً جلية في القصص الأشبه بحكايات رمزية لأفلامه الدرامية الطويلة. في هذه الأفلام يجد المرء، على نحو ثابت، شخصية مركزية ممسوسة في عناد بإنجاز مهمةٍ ما ويحتاج إلى مساعدة الآخرين، الذين يستجيبون بانشداه أو ارتباك أو لا مبالاة أو بتقديم مساعدة ما. كل مهمة تصبح ضرباً من الرحلة الوهمية، وإصرار ومثابرة البطل هي عادةً مرئية ضمن إطار هزلي.
كيارستمي يستخدم اللقطة العامة ليبعدنا عن الشخصيات وعن ما يقولونه، جاعلاً مصائر شخصياته أشبه بألغاز تجريدية، تاركاً لنا فضاءات ينبغي أن نملأها بالحدس والابتكار.
أحياناً نرى الحدث في خلفية الصورة بينما الحوار في مقدمة الصورة حيث نسمعه بوضوح. مثل تعايش المكان الخاص والعام أو تأطير المنظر الطبيعي من خلال نوافذ السيارة، فإن هذا الاندماج بين البعد والقرب هو جزء من الطريقة التي بها يعطي كيارستمي ثقلاً وأهميةً لأبسط اللحظات اليومية.
* * *
صديق لي شاهد "والحياة تستمر"، استجابةً لاقتراحي، وقد أعجبه الفيلم كله باستثناء رفض الفيلم الكشف عما إذا مهمة البطل قد أنجزت أم لا. المهمة هي البحث في قرى شماليّ إيران، المنكوبة بفعل زلزال مدمر، عن الصغيرين اللذين ظهرا في فيلم "أين منزل الصديق؟". عندما سئل عن هذا في إحدى المقابلات، شرح بأنه رغبته في إيجاد الصبيين كان شخصياً صرفاً ولتحويل تلك القضية إلى فيلم سيكون عملاً وجدانياً.. ربما سيؤدي هذا إلى نجاح الفيلم جماهيرياً لكنه سيكون خيانةً لأهدافه ونواياه.. يقول: " لا تستطيع نسيان أن أكثر من عشرين ألف طفل قتلوا في ذلك الزلزال، وربما يكون الصغيران من بينهم".
هذا يعني أن إخلاص كيارستمي للحياة كما يراها وليس لإملاءات السينما التجارية أو وقائع حياته الخاصة. الزميل الذي وجد "طعم الكرز" فيلماً "مضجراً على نحو مفرط" أبدى اعتراضه على حقيقة أننا لا نعرف شيئاً عن بديعي، على ما يراه كـ "استراتيجية إبعاد" بالية ومبتذلة، من فرط التكرار، والتي تذكرنا في النهاية بأن ما نراه ليس سوى فيلم.
غير أن كيارستمي لا يعمل وفق هذا المنظور. لو أراد منا أن نؤكد فقط على الدوافع الانتحارية عند بديعي، فلربما قال لنا المزيد عن هذا الرجل. لكن هذا سوف يتعارض مع رغبته في جعلنا نتعاطف أيضاً مع الركاب الثلاثة، الذين لا يعرفون إلا القليل عن هذا الغريب.. مثلنا. الفيلم يهتم بورطتهم ومأزقهم مثلما يهتم بمأزق البطل.
خاتمة فيلم "طعم الكرز" تحررنا من العزلة المستبدة والظلمة التي يختبرها بديعي وحيداً في قبره. كيارستمي هنا يصور الحياة بكل تعقيدها الثري، معيداً تشكيل العناصر من الدقائق الثمانين التي مضت.