عنوان فيلم فدريكو فلليني "ثمانية ونصف" (1963) يشير إلى مجموع الأفلام التي أخرجها، والنصف يعود إلى أول أفلامه وهو إخراج مشترك مع ألبرتو لاتوادا.
يعد هذا الفيلم من المعالم المبكرة في ما بعد الحداثة. إنه الفيلم الذي شكّل نقطة تحوّل إبداعية في مسيرة السينما. كما أنه من أكثر أفلام فلليني تحرراً من استبدادية السرد. قبل هذه التجربة، في الخمسينيات، كانت أفلامه تروي قصصاً حسب تقاليد الواقعية الجديدة، لكن ذلك لم يكن دافعه الباطني الحقيقي: أن يروي قصصاً فحسب. الحبكة المتعرجة لفيلم "الحياة الحلوة" منحته بنيةً وإطاراً أكثر ملاءمة لتشكيلة الصور والشخصيات والعناصر الأخرى التي أبدعها في "ثمانية ونصف". هنا نجد الخاصيات السينمائية الجوهرية منظمة في حرية بالغة، وفقاً لمنطق السينما وليس استجابةً لمتطلبات السرد.
هنا وللمرة الأولى، في مسيرته، يهيمن عالم الحلم والتخيّل والوهم على العالم الواقعي، الحقيقي. إن أجزاءً محورية وحيوية من الفيلم تدور في عالم فانتازي. والفن يمتزج بالحياة إلى درجة يستحيل أو يصعب فصمهما وتحديد هوية كل منهما. البطل يتنقّل من الأحلام (التي لا يقدر التحكم فيها لكونها لا واعية) إلى الذكريات إلى الرؤى، والتي لا تحدّها تخوم فاصلة وواضحة.
"ثمانية ونصف" عن مخرج سينمائي ناجح ومشهور يلتزم – بعقد موقّع مع المنتج السينمائي - بتنفيذ فيلم جديد طموح لكنه عاجز عن تصوّره إذ يفتقر إلى الأفكار المحددة، وليس لديه ما يقوله. هو يشعر بأن كل شيء في حالة ثبات وجمود بالنسبة إليه. كل المحيطين به ينتظرون منه أن يبادر باتخاذ قرار حاسم، بالبدء في مشروعه، لكنه غير متأكد تماماً مما ينبغي فعله. لذلك هو يماطل ويسوّف ويكذب ويخدع في محاولة يائسة لكسب الوقت، معتقداً بأنه إذا استطاع أن يؤجل الأشياء لفترة كافية فإن الوحي سوف يعود إليه ويلهمه، وسوف يجد الأجوبة والحلول. لكنه فقد قدراته على التحكم في واقعه، وجرّد من سلطاته المفترضة، لذلك هو يقف أحياناً متفرجاً على ما يحدث لا خالقاً لما يحدث. هو الآن يفتقر إلى الأجوبة، ليس لديه ما يقوله للصحفي الذي يلاحقه، ولا للعاملين والفنيين. في الواقع هو نادراً ما يقول شيئاً ذا قيمة أو أهمية لأي شخص. وعندما يتكلم فإنه يلفق، يختلق، ويكذب على الجميع.
في آخر الأمر، يبلغ يأسه حداً يجعله يعلن، في الموقع الكبير الذي بناه في الأستوديو، قبل أن يجهز السيناريو، عن عجزه ويلغي التصوير.
الفيلم يبدأ باستيقاظ جويدو، واقعياً ومجازياً. إنه يصحو من حلم فيه رأى نفسه عالقاً في اختناق مروري منه يحلّق ويطفو متحرراً من المكان فقط ليجد نفسه مقيداً بحبل مشدود إلى مثيل له في الأسفل. هو الآن في غرفته بالمنتجع الصحي، حيث يأمل أن يتعافى من العائق الذهني الذي يعانيه، فيما هو يحضّر لفيلمه الجديد، الذي يتناول فيه بقاء البشرية بعد الحرب العالمية الثالثة.
في المنتجع، وفي حلم يقظة، تظهر له كلوديا، النجمة الشابة الملائكية (كلوديا كاردينالي) التي سوف تمثّل النقاوة والطهارة والنظام. وهناك ناقد ماركسي جاد يمثّل الخصم لمفهوم جويدو/ فلليني عن السينما الذاتية، وهو يشجب بشدة النص الذي كتبه جويدو لأنه سطحي، ويطالبه بالموضوعية، مؤكداً له بأن أحداً سوف لن يهتم بطفولته وبهمومه الذاتية. أما عشيقته المتزوجة كارلا تصل وتقيم في الفندق القريب من المنتجع. ليلاً يحلم بأبيه وأمه الميتين. زاعماً بأنه على وشك الانتهاء من سيناريو رائع، هو يخدع منتجه ومساعديه والممثلين، إضافة إلى الصحفيين.
العالم الخارجي يستنزفه، علاقاته المتعددة، المشوشة، بزوجته (لويزا المخلصة، المحبطة، المخدوعة) وعشيقته.. هذه العلاقات القائمة على الخداع تنهكه. أيضاً تعدّد وتشظي هوياته تربكه وتفضي إلى فقدانه للذاتية المميزة. ولكي يتملص من ضغوطات وخيبات اللحظة فإنه يهرب إلى ذكريات الطفولة وإلى التخيلات التي توفّر له شيئاً من الأمان المؤقت. لذلك عندما تقلقه مشاعر العزلة، يعود بذاكرته إلى أقاليم الماضي، إلى المزرعة حيث اعتنت به ذات مرة امرأة عجوز عطوفة. وأخيراً يدرك أن رغبته في التحكم في الواقع هي المصدر الأساسي لقصوره، وأن مستقبله الفني كامن في تجربته الحياتية، وأن حياته الخاصة هي ينبوع طاقته الفنية، وهو يأمل في أن يجد الخلاص عبر الفيلم الذي ينوي أن ينجزه.
من الظلام يخرج ساحر. بعده يظهر مهرجون في مسيرة استعراضية. وجويدو المخرج يبدأ في تصوير ذلك. من الموقع، من أحلام جويدو، وتخيلاته، وجولاته المهنية، تأتي الشخصيات لتتجسد وتتشكل وتتفاعل. الفيلم يتقصى تمدّد هوية جويدو، وعيه، إدراكه، تحكمه في مخلوقاته، حسه الابتكاري وقدرته على الإبداع.
جويدو (مارشيلو ماستروياني)، المخرج السينمائي الذي يختبر أزمة إبداعية وشخصية هو فلليني نفسه.. هذا المبدع الذي يحاول في يأس التخلص من هواجسه ووساوسه وشكوكه لكن يجد صعوبة في التوصل إلى يقين، إلى حلول تريحه. وفلليني يجعلنا نشعر بإحساس جويدو بالعجز والخيبة والإحباط، ولا يتجنب عرض الجانب السلبي، الأناني، عند جويدو المنغمس في ذاته، مطلقاً العنان لأهوائه ورغباته، والذي يعبّر عن شكوكه وحيرته إزاء مسائل دينية، متخذاً موقفاً متناقضاً أو مزدوجاً من الكنيسة، ويطلب النصيحة من الكاردينال – في الحمام البخاري – فلا يسمع منه غير إجابة مبهمة عن السعادة التي لا يمكن العثور عليها في هذا العالم، والذي يعلن في ما بعد أن أحداً سوف لن ينجو. إن موقف جويدو من الكنيسة نجده في التقائه بالكاردينال - للمرة الأولى – في مصعد الفندق حيث تتعاقب الظلمة والضوء مع كل صعود للمصعد عبر كل طابق، والذي يعبّر، هذا التعاقب، عن حيرة وتردد جويدو في مسألة الإيمان. كذلك نجده في تحفظ الكنيسة على نص جويدو الذي "يمزج الحب المقدس والحب المدنس بحريّة تامة".
ويُظهر تشوشه وعدم فهمه للمرأة، التي يريدها أن تكون الزوجة والأم والمومس والقديسة في كيان واحد، في آن واحد، لكنه لا يجدها. ويعبّر عن توقه الشديد إلى فن يكون قادراً فعلاً على "مساعدتنا في دفن كل الأشياء الميتة الموجودة في دواخلنا".
إن أزمة جويدو السينمائية تتكشف من خلال التفاعل المركّب بين وسائل مختلفة: توظيف الزمن، عبر التداخل بين الماضي والحاضر والمستقبل. تشظي السرد الذي تستلزمه محاولة الكشف عن حالات اللاوعي المكبوحة، والإمساك بتيار الوعي والتعبير عن كثافة مظاهر الوجود. لا ملموسية الحدث، حيث في أحوال كثيرة لا يمكن التمييز بين الواقع والحلم، الواقع والوهم، الذاكرة والحلم. الأسلوب الحداثي الحر، حيث الانتقالات الفجائية بين اللقطات وحركات الكاميرا غير الاعتيادية.
هنا، كما في أفلامه الأخرى، يساهم فلليني – مع بيرجمان وأنتونيوني وألان رينيه وجودار - في تثوير لغة السينما بقوة وفعالية. وهذا الفيلم، الذي يعد من أشهر وأقوى أفلامه، يمثّل السينما الحداثية في ذروتها، السينما التي تطورت من واقعية ظاهراتية اجتماعية إلى سبر واستكشاف العملية الذهنية والذاتية، ومن القصص الدرامية السائدة إلى الشعرية الحداثية. مثل هذا الاستنطاق للوعي (الذاكرة، الضمير، الرغبة) مع البحث عن المعنى قد أنتج ثراءً في المعاني.
لقد نجح فلليني في تحويل عالمه الذاتي، وتاريخه الخاص، إلى مشهد سينمائي متصل ولا نهائي. معتمداً في ذلك على الذاكرة، الأحلام، أحلام اليقظة، الهذيان.
الفيلم غني في أبعاده ودلالاته بحيث يكون قابلاً للعديد من التأويلات. كما نجد تلميحات وإشارات ضمنية إلى أفلام فلليني السابقة.
في المشهد الختامي نرى كل الشخصيات التي لها علاقة بحياة جويدو تهبط من جسر الصاروخ إلى حلبة السيرك تحت إشراف جويدو. ها هنا يتحد الماضي والحاضر في واقع واحد.
ترجمة: أمين صالح
فلليني يتحدث عن "ثمانية ونصف"
من جهتي، لم أكن راغباً في تحقيق هذا الفيلم. قبل ليلة من تصويره كنت يائساً ومشوّشاً. جلست في مكتبي بالأستوديو وكتبت رسالة إلى ريزولي العجوز، منتج الفيلم، بدأتها على هذا النحو: "عزيزي أنجلينو، أدرك جيداً أن ما سوف أخبرك به الآن قد ينهي، على نحو يتعذّر إصلاحه أو ترميمه، علاقتنا المهنية. وحتى صداقتنا الجميلة ستكون مهدّدة ومعرّضة لخطر التفكك. أنا آسف لأنك قدمت تعهدات والتزامات لتنفيذ هذا الفيلم. كان ينبغي أن أكتب هذه الرسالة قبل ثلاثة أشهر، لكن حتى ليلة أمس، كنت أرجو أن...."
مع أن الاتفاق قد تم مع الممثلين الأساسيين، وشيدت الديكورات، حتى أنني من المكتب الذي أجلس فيه وأكتب، تصلني أصوات مطارق النجارين وهم يعملون في تركيب الديكورات، إلا أنني أردت التخلي عنه وتركه يتبدد في الهواء، أن أبتعد عنه.. ذلك لأنني لم أعد أتذكر ما كنت أرغب في فعله، في تحقيقه.
الإحساس، الروح، النكهة، الجوهر، الصورة الظلية، الوميض.. كل ما أغواني وسحرني كان قد اختفى، تلاشى، ولم أعد أستطيع العثور عليه. خلال الأسابيع الأخيرة حاولت، بتوق شديد، أن أستعيد مجرى نشوء ذلك الفيلم الذي لم أستطع حتى أن أحسم عنوانه. كنت قد اخترت له عنواناً مؤقتاً: ثمانية ونصف.. إشارة إلى عدد الأفلام التي حققتها. لكن كيف ولدت الفكرة؟ ماذا كان الاتصال الأول، الاحتكاك الأول، الشعور السبقي الأول، بذلك الفيلم؟
رغبة غامضة، مشوّشة، لخلق بورتريه (صورة شخصية بمختلف طبقاتها) لرجل في يوم معين من حياته، بكل ما يشتمل عليه من وقائع مختلفة، متناقضة، مراوغة.. بكل احتمالات وجوده ومستوياتها. ذلك أشبه بمبنى تتقوّض واجهته كاشفة عن الباطن كله: سلالم، أروقة، حجرات، أدوار علوية، أقبية، أثاث، أبواب، أسطح، أنابيب مياه، زوايا حميمية وسريّة.
أردت أن أتحدث عن شخص ليس لديه بعد أي هوية شخصية أو مهنية (في البداية لم يكن مخرجاً). أردت أن أسرد الأبعاد المتعددة ليوم واحد، حياة واعية ولا واعية تتفتح وتبدو للعيان مثل حلزون، بلا تعيين للتخوم، متخلياً عن أي فكرة لحبكة ما، لصالح سرد حر، محادثة. الفكرة هي استعادة الإحساس بالزمن، حيث الماضي والحاضر والمستقبل والأحلام والذكريات والرغبات تكون متمازجة معاً.
الحياة مركـّبة من متاهات متعرّجة، متغيّرة، مائعة، تتصل بالذاكرة، بالأحلام، بالمشاعر، بالتعقيد اليومي المرتبط على نحو لا ينفصم بالذكريات والتخيلات والأحاسيس والحوادث التي وقعت منذ زمن طويل والتي تتحد مع تلك التي تحدث الآن. مزيج من النوستالجيا والشعور السبقي في وقت رائق لكنه مختلط، حيث لا يعود بطلنا يعرف هويته أو ماضيه أو إلى أين ستمضي حياته.. حياته التي تبدو الآن مجرد نوم يقظ طويل، يخلو من المشاعر.
كنت أتحدث عن هذا، ذات مساء، مع إنيو فلايانو فيما كان يقود سيارته نحو البحر في أوستيا. بالتحدث عنه حاولت أن أوضح لنفسي غرض ومغزى الفيلم. فلايانو كان يصغي في هدوء، لم ينطق بكلمة، لم يطرح أي تعليق. كان مفعماً بالارتياب، الاستخفاف، الحذر. وتكوّن لدي انطباع بأنه يعتقد أن الثيمة لا تنتمي إلى الفيلم، وأن ما سردته عبارة عن تدفق مفرط في الادعاء والغطرسة، ولا يمكن تحقيق أبعاده إلا من خلال الأدب وحده.
توليو بنيللي، الذي إليه حاولت أن أنقل الإحساس بهذا الخيال العابر بعد بضعة أيام، كان أيضا صامتا في حيرة وربما في شك من إمكانية بناء قصة على باعث غريب وصعب جدا ترجمته إلى حالات وأحداث.
أما برونيلو روندي، بحماسته الفائضة المعهودة، فقد عبّر على الفور عن موافقته بالمشاركة. إنه يمثّل الجمهور النفيس: يحب كل شيء، كل مشروع يثيره، وهو مستعد لأن يسلك أي سبيل ويتعاون في كل اتجاه وفي أي شيء.
هكذا بدأنا، نحن الأربعة، في الكتابة على نحو مستقل. قد أقترح ثيمة، صراعا، حالة معينة، ويشرع كلّ من بنيللي وفلايانو وبرونيلو في كتابة نسخته أو ترجمته الخاصة للمشهد.
كان مشروعاً طموحاً جداً إلى حد أنني لم أستطع أن أعبّر عنه. بعدئذ ذهبت إلى منتجع صحي لتلقي العلاج. هذا المحيط – الاصطفاف الشعائري في طابور حاملاً كأساً في انتظار أن تشفى، فخامة المنتجع، الإحساس المطهّر الذي هو حاضر دوماً عندما تتحد مجموعة من البشر في ممارسة الطقس ذاته.. مثل باليه – جلب لي (هذا المحيط) الخلفية لهذه التأملات: رجل واقع في شرك لحظة من التعطل في إيقاعاته اليومية، لأن ثمة تهديداً، ربما مرضاً.
لكنني لم أكن أعرف شخصيتي، لم أقرر بعد أي نوع من الرجال نسعى إلى تصويره، وأية مهنة يمارس: كاتب، محامي، مهندس، صحفي؟ لم أستطع أن أحسم أمري، وتلك الذكريات، تلك التأملات، هي بلا وجه، وتتلاشى في اللاشيء.
يوماً قررت أن أضع بطل فيلمي في منتجع صحي، عندئذ بدأ غرض الفيلم يتسع لاحتمالات أكثر صلابة. كتبنا مشهد الحريم. الليل في الحمامات مع الصديق المنوّم المغناطيسي. البطل الآن لديه زوجة وعشيقة. لكن عندئذ بدأت الحبكة في الانحلال. لم يكن هناك لبّ مركزي منه تنمو القصة، لا بداية ولا نهاية، ولا أقدر أن أتخيّل كيف ينتهي العمل. كل صباح كان بنيللي يسألني عن مهنة بطلنا، وأنا لا أعرف بعد، ولا يبدو لي أن ذلك مهم، رغم شعوري بشيء من التوتر إزاء ذلك.
ربما هذا كان الدرس العظيم للفيلم: في موضع ما، قلت لنفسي: "إجعل المحرّك يبدأ، ليصعد كل شخص على متن السفينة. شخص ما سوف يوفّر الإمدادات. أرغم الآخرين على دفعك لفعل شيء ما".
وهذا ما فعلته. فكرت أن من العبث الاستمرار في السيناريو. شعرت أنه، لكي أنسجم مع الفيلم، يتعيّن علي أن أباشر في النظر إلى الشخصيات عن قرب، أن أختار الممثلين وأحدد المواقع وأحسم أمورا كثيرة ثم أمضي باحثا عن فيلمي بين الناس وفي كل مكان.. في محلات الملابس، في المسارح. كان علي أن أتظاهر بأن الفيلم جاهز ويمكننا الشروع في تصويره خلال شهر.
قررت أن أختار ماستروياني، ساندرا ميلو، وجعلت أنوك إيميه تأتي من باريس. وفي غابة بالقرب من روما بدأنا في تشييد المبنى الضخم، وفي استوديوهات سكاليرا بنينا مزرعة الجدّة وغرف الفندق. آلية الإنتاج الضخمة كُرست للفيلم وتمت المباشرة بالعمل: مواعيد، عقود عمل، خطط إنتاجية، تقديرات وتخمينات، ديون.
لكني، أنا المعتكف في مكتبي، الجالس قبالة الآلة الكاتبة، بعد شهرين من العمل المجهد والمضني، أدركت أنني لم أكن أعرف بعد ما أريده. لم استطع بعد العثور على فيلمي. لم يعد هناك، كان قد مضى بعيدا، وربما لم يوجد أبدا.
كنت أذهب كل يوم إلى الأستوديو وأقضي النهار كله في مكتبي: أرسم، أجري الاتصالات، وأنتظر.
وها نعود إلى حكاية الرسالة التي كنت أكتبها إلى ريزولي، النابعة مباشرة من القلب. كنت في منتصف تلك الرسالة عندما سمعت صوت مينيكوشيو المدوّي، رئيس العمال، يناديني من الأسفل، من الفناء، طالباً حضوري إلى الموقع للحظة لأن غاسبارينو، وهو ميكانيكي آخر، كان يحتفل بعيد ميلاده ويقدّم كؤوسا من الشمبانيا. هكذا تركت رسالتي وذهبت إلى حيث يحتشد الجميع في انتظاري، النجارون والميكانيكيون والرسامون، وكل واحد منهم يحمل كأساً في يده. كنا في المطبخ الهائل، قيد الإنشاء، الذي سيكون نسخة طبق الأصل من المطبخ في منزل جدتي الريفي لكن مضخم بفعل الذاكرة. غاسبارينو، بخوذة البناء على رأسه والمطرقة مشدودة بطوق إلى فخذه، فتح الزجاجة وهو يقول: "سيكون فيلما عظيما يا دكتور. في صحتك.. عاش فيلمنا ثمانية ونصف".
فرغت الكؤوس وكل شخص صفق في استحسان، أما أنا فقد انتابني إحساس غامر بالخجل، وشعرت أنني أكثر البشر ضآلة.. شعرت أني خائن.. الربان الذي هجر سفينته وتخلى عن بحارته. لم أعد إلى المكتب حيث الرسالة التي لم تكتمل تنتظرني، وعوضا عن ذلك جلست، شاردا وخاويا، على مقعد صغير في الحديقة وسط الحركة النشطة والدءوبة للعمال والتقنيين والممثلين العاملين في فيلم آخر.
كنت في موضع مغلق لا منفذ له. كنت المخرج الذي يريد أن يحقق فيلماً لم يعد يتذكـّره. فجأة، في تلك اللحظة، سطعت أمامي الفكرة، ومضيت مباشرة إلى قلب الفيلم. ذلك ما سوف أفعله. سوف أروي كل ما حدث لي. سوف أحقق فيلما يسرد قصة مخرج لا يعود يعرف أي فيلم يريد أن يصنع.
بعد أيام قليلة، أعلن عمال المعامل السينمائية الإضراب. في هذه الحالة، يستحيل علينا فحص نسخ التصوير اليومية واكتشاف العيوب، لذلك اقترح الجميع التوقف عن التصوير، لكنني رفضت، مصراً على المواصلة. صورت لمدة أربعة شهور من غير أن أشاهد ما صورته، بل طلبت هدم الديكورات المكلفة الصنع لتوفير حيّز لتشييد ديكورات جديدة، من دون التأكد من جودة اللقطات التي صورناها. المصور أصيب بانهيار عصبي. عندما انتهينا من تصوير الفيلم، قضيت ثلاثة أيام في صالة العرض لأشاهد ما عملناه في أربعة شهور. كان ذلك سابقة تاريخية: أن يصوّر شخص فيلمه من غير أن يعرف ما الذي يفعله.
لقد وُلد الفيلم من رحم الهجر، التلقائية، الثقة والتحدي. الفيلم المحظوظ الذي نجح في ما بعد إلى حد أنه صار نوعاً سينمائياً مستقلاً. إلى جانب الويسترن وأفلام التحري، هناك نوعية ثمانية ونصف.
إذا كان هناك درس تعلمته من هذه التجربة، فهو أن كل شيء يحدث خلال إنتاج الفيلم، سواء أكان هناك تناقض أو معاداة أو عوائق أو إضرابات.. كل هذه الأشياء يمكن أن تصبح غذاءً للفيلم.
الخوف من الكارثة هو أمر محفّز جداً بالنسبة لي. أنا أعبد الخراب، تهديد النهاية، النهاية المرئية كعلامة لبداية جديدة. أنا لا أسعى وراء الكوارث، لكنني أحتاج إلى هذا الجو المهدّد.
(من مصادر متعددة)