Article
من كتاب ( السيد) بعد ساعات قليلة تشرق شمس يوم جديد.. يوم سميتموه .. يوم الأم.. ومن غرائب الصدف أنني ولدت في مثل هذا اليوم قبل خمسة وعشرين عاما. وفى هذا اليوم سأروى لكم قصتي وأنا قابع في ركن مظلم رطب من أركان الزنزانة رقم 147 من السجن الذي يجثم على أطراف المدينة اللامعة.. المدينة التي تحتفلون فيها هذا اليوم بعيد الأم.. ومن الكوة الصغيرة الوحيدة أستطيع أن أرى الأضواء وأرى بركة النور التي تسبح فيها مدينتكم المتوهجة .. ومن هذه الكوة أيضا أستطيع !ن أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون بل وأكاد أحس لفحة الزفرات الحارة تطلقها بعض الصدور وهى على مشارف يوم جديد تطلقون عليه يوم ألام ، ولكن لماذا أبدأ القصة من آخرها ..؟ ذات يوم … يوم سبت أسود دخل أبى البيت وكان الوقت ظهرا.. قال لأمي في برود عجيب: - اليوم يجب أن ينتهي كل شئ.. ولم أدرك ساعتها معنى لما يقوله أبى فقد كنت آنذاك في العاشرة من عمري.. ولكنني نظرت في وجه أمي أستنجد بها.. لأول مرة أعرف معنى الألم في وجه أمي.. رأيت وجهها يتقلص.. وشفتيها ترفان ومناخيرها تهتز.. ودمعة حبيسة تكاد) ن تنطلق من مآقيها.. وشعرت بأن عاصفة على وشك !ن تهب.. عاصفة تختلف عن تلك العواصف التي كثيرا ما كانت تنتهي في حينها.. أو بعد يومين.. أو أسبوعين على الأكثر.. وبشعوري الساذج الخائف ارتميت على صدر أمي وأنا أتشبث بها من شئ مجهول .. واحتضنتني في عنف.. كأنما هي الأخرى تتعلق بي خوفا من شئ مبهم مجهول.. وقى غمرة أحاسيسي الصغيرة الخائفة سمعت أمي تقول لآبي في صوت ضعيف مهزوز: - ولكن هذا الصغير … و… ولم تستطع أن تكمل.. فلقد شرقت بدموعها.. ومرت ساعات قليلة.. ثم وجدت نفسي أمسك بيد أ! وأخرج معها من البيت.. وكانت تلك آخر مرة أرى فيها أبى. ولمم !فهم آنذاك معنى الدموع التي سكبتها أمي ولا لماذا خرجت من البيت الذي عاشت فيه وولدتني فيه.. البيت الذي كانت تحكمه كملكة صغيرة.. لمم أفهم ذلك إلا بعد مضى سنوات عديدة... بعد أن أدركت معنى هذا الشيء البغيض الذي اسمه الطلاق.. وسارت الحياة بنا- أمي وأنا- بعد ذلك عسيرة شاقة.. فقد كان على أمي أن توفر المأكل والملبس وتوفر لنفسها لقمة العيش.. أما جدتي التي لجأنا إليها في محنتنا فقد كانت أشبه ما تكون بكتلة من اللحم الميت.. كانت مقعدة مريضة.. ولذلك كانت استضافتها لمنا استضافة باهتة حزينة فيها من المرارة والألم أضعاف ما فيها من حرارة لقاء أم بابنتها وحفيدها.. ولم تضع أمي وقتها في استنزاف الدموع بل راحت تطرق الأبواب لتعمل.. كانت تخرج كل صباح ولا تعود إلا في الظهيرة... ومن الظهيرة حتى منتصف الليل لا ترفع رأسها عن الإبرة ولا تكف عن العمل.. ووجدتني أنا الآخر أندفع للبحث عن عمل بحماس طفل يرى أمه وهي تتعذب من أجله.. ولم يطل بي الوقت فقد كانت كل البيوت ترحب بطفل في العاشرة من عمره ليخدم فيها... فالتحقت بأسرة غنية.. ومنذ ذلك الوقت عرفت معنى أن أخدم كنت أقوم بعمل كل شئ فر البيت.. كنت أغسل الأطباق وأغسل الملابس وأكنس البيت و أمسح البلاط.. وكنت فوق ذلك أربى الأولاد وآخذهم إلى الحديقة المجاورة.. ولم أكن أجد دقيقة واحدة أنظر فيها إلى نفسي.. وكنت عندما أعود إلى حضن أمي بعد خدمة شهر مرهق شاق وهت!واصل.. كانت تضع رأسي في حجرها.. وأنام.. ومع ذلك فقد كنت أحس مبلغ الألم والعذاب الذي يضيع في أعماقها وهى تتمنى لو كنت شيئا أخر غير خادم صغير بأجر متواضع.. ولم أكن أستطيع أن أفعل شيئا من أجلها.. كانت محاولاتي الطموحة الساذجة لا تتعدى أن أجلب لمها في نهاية كل شهر بعض خيوط ملونة جديدة وحفنة من الإبر المختلفة الأحجام.. كنت أتصور أن هذه الهدايا الساذجة تسعدها وتفرحها .. ولم أكن أدرى أن كل إبرة أجلبها لمها كانت تأخذ من عمرها ومن بصرها ومن حيويتها أضعاف فرحتها بي حين تستقبلني في نهاية كل شهر بهداياي البسيطة الساذجة. ومرت خمس سنوات و أنا أسير في خط مرسوم لا!ى حيد عنه .. وأمي هي الأخرى كذلك.. وفى هذه السنوات الخمس عرفت أشياء كثيرة وتفتحت عيناي على بعض؟ أسرار الحياة.. وفى خلال هذه السنوات انتقلت جدتي من عالمنا إلى دنيا الآخرة.. لم نبك كثيرا عليها فقد كان وجودها بيننا عبئا ثقيلا تحملته أمي في صبر.. ولكن جدتي مع ذلك كانت عظيمة في نظرنا.. إذ يكفى أنها تركت لنا هذا البيت المتداعي لنعرف كيف كانت عظيمة هذه الجدة… وذات يوم وأنا العب مع أطفال مخدومي في الحديقة المجاورة سمعت صوت مخدومتي وهى تنادى علي بصوت رقيق حالم.. ولا أدري كيف خالجني الإحساس في تلك اللحظة بالذات بأن شيئا خطيرا يوشك أن يحدث.. فما اعتادت مخدومتي أن تناديني بهذا اللطف أبدا منذ أول يوم عملت في خدمتهم حتى هذه اللحظة ".. كان صوتها رقيقا حنونا.. وعندما وقفت قبالتها انتظرت منها أن تأمرني بعمل هذا أو ذاك.. كعادتها كلما نادتني.. بادرتني بقولها: - محمود وسكتت.. وأحسست أنها تريد أن تقول شيئا يختلف عما اعتادت أن تقوله في كل مرة.. وبعد تردد قصير سمعتها تقول: - محمود.. أنت أصبحت رجلا الآن.. ولا أظنه يليق بك أن تخدم في البيوت… و… واستمرت مخدومتي تتكلم.. قالت كلاما كثيرا ا وأنا واقف أمامها كالصنم.. لم أفهم شيئا مما قالت.. كل ما فهمته أنني لم أعد محتملا في الخدمة لدى البيوت … وفى الوقت الذي كانت هي تتكلم كنت أنا أدير في ر أسى مشروعا باهتا أرسم فمه خطوط مستقبلي.. مستقبل شاب على عتبة عامه السادس عشر.. عام الفوران النفسي والعاطفي.. وفى اليوم التالي جمعت أمتعتي البسيطة وخرجت.. ولن أنسى أبدا منظر الأطفال الصغار الذين زاملتهم ست سنوات وهم ينظرون إلى في صمت وشفاههم مغلقة وعيونهم تكاد تنطق بما في نفوسهم الصغيرة الغضة.. أن عشرتي لم تهن عليهم.. أما أنا فقد أحسست لحظتها أنني مرة أخرى أخرج من بيت عزيز كريم.. تماما كما خرجت مع أمي قبل ست سنوات من بيت والدي.. لكنني هذه المرة فقح! أستطيع أن أعرف لماذا خرجت والى أين أنا ذاهب.. وخرجت إلى الشارع.. لم أذهب إلى أمي.. ماذا كان يمكنني أن أقول لها.. هل أقول لها بأنني لن أستطيع بعد الآن أن أتيها بالإبر والخيوط الملونة؟ وطفت بشوارع المدينة شارعا شارعا.. لم أترك شركة ولا مؤسسة إلا ودخلتها أعوض على أصحابها خدماتي.. ولكن 9 حدا منهم لم ير في ما يؤهلني لأن أكون نافعا ل!لدمل في أي شئ.. كلهم كانوا يعتذرون.. بعضهم كان يعتذر بلباقة فأحس نحوه بانعطاف إنساني كبير رغم اعتذاره.. وبعضهم كان يعتذر بجلافة فأشعر بكره حقيقي لنفسي قبل أن يكون له.. وانتهت جولة اليوم دون نتيجة.. وبدأت أفك الطوق عن الدريهمات القليلة التي في جيبي.. لأول مرة أدخل أحد المطاعم الرخيصة لآكل.. كم هو مقرف هذا الأكل الذي تقدمه المطاعم.. وفى اليوم التالي كررت المحاولة.. خرجت إلى الشارع.. هل قلت خرجت؟ أنا لم أدخل مكانا لأخرج منه.. نمت في الشارع نفسه.. ولذلك فأنا أقول مجازا بأنني خرجت إلى الشارع.. هذه المرة خرجت إلى شوارع جديدة أخرى غير شوارع الأمس.. وتكررت نفس القصة.. كلهم اعتذروا عن استخدامي.. وتصورت أنني أخوض معركة!عرف مقدما أنها خاسرة.. ومع ذلك فان شبح البطالة يثير كل ذرة في حواسي وكانت صلوات أمي هي الأخرى وهى تنتظر أوبة صبيها تثير في نفسي حشدا من الحماس للبحث عن عمل.. ومررت بالحظ أخيرا.. إذا جاز أن ا!سميه حظا… مررت بدكان صغير.. لم يكن فيه ما ينبئ أن صاحبه في حاجة إلى أحد.. ونظرت إلى وجه صاحبه.. علمتني المشاوير الطويلة الفاشلة أن أنظر إلى الوجوه قبل أي شئ أخر… لقد تعلمت كيف يكون وجه الرجل الذي سيعتذر أو سيشيح عنى. انه صلب قاس كجذع شجرة مهجورة… ولكن وجه هذا الرجل القابع وراء كرسيه في دكانه الصغير يختلف عن الوجوه التي التقيت بها.. لقد خيل إلى أن شبح ابتسامة تطوف بشفتيه.. ولم أنتظر طويلا.. تسللت في بطء إلى داخل الدكان.. وقلت العبارة نفسها التي قلتها ألف مرة قبل الآن.. - سيدي.. أنا عاطل.. هل بكم حاجة لمثلى؟ وجاءني صوته رعشا.. ولكنه كان مع ذلك ناعما: - كما ترى.. الدكان صغير ولا يحتمل خدمة شخص أخر.. وبانفعال المتهالك على أي عمل قلت له: - ولكنى ياسيدى.. لن أخذ منك أجرا كبيرا.. يكفيني عشرة دنانير في الشهر.. ومرة أخرى فتح فمه.. صوته مازال رعشا.. ولكنه كان أكثر تفاؤلا - عد إلى غدا.. فقد أستطيع أن أصنع من أجلك شيئا.. يا للفرحة الكبيرة. هـ. غدا.. متى يأتي الغد..؟ وتعذبت كثيرا وأنا أنتظر شروق الغد.. تعذبت بآمالي الصغيرة التي كنت أرسم خطوطها في رأسي وتعذبت بمطامحي الساذجة التي تلفني في ضباب خرافي هو خليط من الوهم والحقيقة.. وأقبل الغد. ومن جديد دلفت إلى داخل الدكان الصغير لالتقى بالرجل ذي الصوت الراعش.. هذه المرة أجلسني قريبا منه.. وأحسست بما يشبه الاطمئنان.. أحسست أنني وصلت أخيرا.. وصافح أذني صوته الراعش: - منذ اليوم ستبدأ العمل عندي.. لن يكون عملك في الدكان لمنا… سيكون في مكان أخر.. ولكن عليك قبل كل شىء1 ن تغير ملابسك وأن تظهر بمظهر!كثر لياقة.. ولم يتم كلامه.. طلب منى أن أرافقه.. وأركبني في السيارة معه بعد ا!ن أقفل الدكان حيث اصطحبني إلى بيته.. انه لم يكن بيتا.. كان قصرا.. وتسللت مفارقة غريبة حادة في رأسي: - أية علاقة بين هذا القصر الشامخ اللامع.. وبين الدكان القميء المتهالك في السوق القديم؟. وهربت بفكري من المفارقة الغربية الحادة.. ماذا يهمني من ذلك.. كل الذي يهمني الآن هو أن أعيش.. هو أن أحمل الفرحة بالعمل الجديد إلى أهي.. وأمتد الصوت الراعش أمامي عريضا هذه المرة ينادى واحدا من خدم القصر. - يوسف.. يا يوسف.. وبسرعة وجدت مخلوقا عريضا يقف أمامنا.. لاشك انه يوسف . - خذ هذا الولد وتدبر أمره - والتفت إلي: - عليك أن تنفذ أوامر يوسف.. وهو سيوكل إليك نوع العمل ا لمطلوب.. وانتظرت منه أن يقول شيئا أخر.. ولكنه لم يقل شينا.... .. بل خرج وهو يغمز بإحدى عينيه ليوسف.. وسحبني يوسف برفق من يدي.. ثم أدخلني إلى أقرب حمام وهو يقول لي: - ستجد كل شئ أمامك.. الصابون.. والفوط.. اغتسل جيدا.. وانتهيت من الحمام بسرعة.. وخبطت على باب الحمام أطلب منه شيئا البسه.. وجاء يوسف يحمل في يده بدلة أنيقة وربطة عنق وحذاء.. ما هذا؟ ولم أسال يوسف سر هذه العناية بشخص كان حتى قبل لحظات يعانى من التشرد والضياع.. ولماذا أسال؟ لماذا لا أدع الأمور تسير في الطريق الذي رسم لها؟ أنا لم أصادف شيئا سيئا حتى الآن.. كل البوادر تشير إلى أنني مقبل على حياة جديدة ناعمة.. كم هو عظيم هذا الرجل الذي التقطني من الشارع وأدخلني إلى الحمام...... و.... وانتشلني صوت يوسف من أفكاري وهو يدخل على ثانية في يده ورقة من ذات العشرة دنانير. - خذ هذا المبلغ لتدبر شئونك مؤقتا. هـ وعد إلي غدا ولم يزد حرفا على ذلك.. أنسل من أمامي في رفق ك!ما دخل .. وتركني وحيدا في الصالة الكبيرة.. ومرة أخرى لم أساله سر العشرة دنانير.. ضحكة كبيرة تملا صدري وأريد أن أف!جرها .. أنا ما عدت أنا.. أنا الآن شئ آخر.. أنا أعيش قصة خرافية لم أستطع حتى أنا نفسي أن أصدقها.. ماذا يريد هذا الرجل؟ ولأي أمر يعدني؟ طلبت منه فقط خمسة دنانير في الشهر وانسحبت من القصر.. فرحا رشيقا ترقص الفرحة في أعماقي .. وذهبت إلى أمي.. ألقيت إليها بالعشرة دنانير وأنا أحكي لها حكاية مخدومتي القديمة التي طردتني من خدمتها.. وحكاية الرجل الغامض الذي التقطني من الشارع ليعمل منى هذا الشاب الأنيق النظيف.. ورأيت الفرحة في وجه أمي.. كانت فرحة ساذجة .. فرحة امرأة لم تر في عمرها ولدها الوحيد يلبس هذا الذي يلبس ولم تلمس أصابعها قط ورقة من فئة العشرة دنانير.. لا أطيل... مر أسبوعان وأنا أعيش النعمة والفرحة دون أن أؤدي عملا يذكر.. ذات يوم .. وكنت أجلس في الدكان قبالة السيد الجديد- كعادتي منذ أن التحقت بخدمته- سألني فجأة. هل رأيت لبنان؟ وضحكت لسؤاله.. لابد أنه يمزح.. كيف يتسنى لمثلى أن يرى لبنان وهو لم يذكر قط أن جيبه حوى أكثر من خمسة دنانير؟ وقبل أن أجيبه على سؤاله بادرني قائلا: - ما رأيك في رحلة إلى هناك؟ أظنك لن تمانع... وفى نفس الوقت ستقوم بأداء مهمة بسيطة.. أمانع..؟ كيف..؟ وبلهفة المحروم الذي يقبل على أكلة شهية دسمة بعد جوع طويل قلت له: - أبدا.. أبدا ا.. أنا تحت الخدمة دائما.. وكما لو كان كل شئ معدا سلفا.. كنت في اليوم التالي أحمل في يميني حقيبة ملابس وأنا أتوجه إلى الطائرة التي ستنقلني إلى لبنان.. كان هو يمشى بمحاذ أتى.. وفى الخطوات القليلة بين غرفة المسافرين والطائرة مد لي يده بحقيبة صغيرة كان يحملها وهمس في أذني: - في مطار بيروت ستجد من ينتظرك ليتسلم هذه الحقيبة ه. اسمه سليم ه. وتناولت الحقيبة الصغيرة.. ولكنها رغم صغرها كانت أشبه بكتلة من الرصاص.. كانت ثقيلة لدرجة غريبة جعلتني أهتز في خطواتي وأنا أتسلق سلم الطائرة… وارتفعت الطائرة في الجو… ولفتني ا"فكار ضبابية عن الأضواء.. والنجوم.. والنساء اللواتي يرقصن عرايا في علب الليل.. وعن الحياة العريضة التي تعيشها بيروت على أنغام الموسيقى الدافئة.. واستغرقتني تخيلاتي لدرجة أنني لم أنتبه إلا دلى صوت المضيفة وهى تعلن نبأ وصول الطائرة إلى! مطار بيروت.. وزحف الركاب يتسللون خارج باب الطائرة.. وتسللت أنا معهم… وفى يدي اليمنى حقيبة ملابس.. وفى اليسرى الحقيبة 11 لغامضة الثقيلة.. وفى باحة المطار رأيت شخصا يتجه إلى رأسا.. كأنما كان يعرفني أو كأنني كنت معه على موعد.. وعرفت حالا 6 نه سليم… وأحسست براحة كبيرة وأنا أدفع إليه بالحقيبة الصغيرة.. كتلك الراحة التي يحسها أي صاحب ضمير يسلم أمانة في حوزته لصاحبها.. ورأيت سليم يختفي من أمامي بسرعة.. لم يثرني اختفاؤه بهذه السرعة..) أنا لست في حاجة إليه.. جيبي فيه أكثر من ألف ليرة.. وبهذه الليرات سأعرف كيف أقتنص الحياة في بيروت.. ومرت الأيام سريعة.. مذهلة في سرعتها.. ونفذت الألف ليرة ه. و!لم أجد بداً من أن أركب أول طائرة تعود بي إلى بلدي .. هكذا كانت أوامر السيد.. ووصلت... وأول شئ قمت به هو أن ذهبت توا إلى حيث يجلس السيد في دكانه المعتم.. أثبت له كيف كنت أمينا في تأدية الواجب الذي كلفني به... ورأيت شبح ابتسامة زهو تطوف بشفتيه. بعد ذلك... ازدادت صلتي توثقا بالسيد.. أحسست أنه يقترب منى أكثر .. بدأت أرافقه في بعض تنقلاته.. ثم بدأت ا"سهر معه في قصره الكبير أحيانا.. وبمرور الأيام صرت شيئا أخر يختلف عن ذ!لك الصبي المشرد الذي كانت تحفى أقدامه سعيا وراء لقمة العيش.. وأصبح السيد ينظر إلى لا على أنني ذلك الصبي الحائر القلق.. ولكن على أنني شئ مهم في حياته... وفى عمله.. ومن خلال كل ذلك كنت أكتشف كل يوم شيئا جديدا يبد؟ مع غروب الشمس ولا ينتهي إلا مع خيوط الفجر الأولى.. حياة مليئة وخصبة… فيها نساء.. وفيها خمر.. وفيها كلام غريب.. وصفقات مريبة .. وأدركت أخيرا أنني أعمل مع عصابة لتهريب المخدرات. و) ردت أن أتوقف قليلا أمام صخب الواقع.. أردت أن أحاسب نفسي.. أن أثور على نفسي.. ولكن اتضح لي أنني كنت أضعف من 9 ن أواجه الحقيقة.. كنت أشعر أنني مقيد بآلاف الأغلال.. ويكفى أن أفكر في بدرية.. نجمة القصر التي أشعرتني لأول مرة بآدميتي- حتى ولو كانت آدمية شاذة- لأدرك كم هي ثقيلة هذه الأغلال.. وكم هو صعب بل مستحيل التخلص منها .. أنا لم أقل لكم شيئا عن بدرية.. إنها الواحة التي تحتضن شبابي كل ليلة.. والمتكأ الذي أريح عليه رأسي داخل القصر الكبير بين كثيرات مثلها يتكئ عليهن الآخرون و.. و.. و.. وتطورت حياتي.. استأجرت لأمي بيتا فاخرا تعيش فيه لم أسمح لمها بأن تحتج.. كنت أريد أن أعوضها عن كل سنوات الحرمان والآلام والعذاب.. كانت تسألني عن سر الثروة المفاجئة التي هبطت على.. لم أكن؟ جيبها.. كنت فقع! أضحك في وجهها و أطمئنها إلى أنني أزاول عملا شريفا.. وكانت تقتنع.. لم تكن تشك لحظة في استقامتي.. كنت في نظرها ما أزال ذلك الطفل الذي يأتي إليها بالإبر والخيوط الملونة في نهاية كل شهر دليل الحب والحنان. وسافرت كثيرا إلى بيروت.. بل لقد أصبح السفر في حياتي شيئا روتينيا لا يعنى أي شئ.. الخيالات الضبابية التي أحسست بها وأنا أركب الطائرة لأول مرة في طريقي إلى بيروت اختفت.. لمم تعد بيروت تثيرني.. ولم تعد نساء بيروت ولا حياتها العريضة قشد خيالاتي أو مطامحي.. صرت شيئا أكبر من بيروت .. والخمسة دنانير التي كنت أطلبها ثمنا لخدمتي عند السيد ارتفعت إلى مئات الدنانير.. حتى الاعتراضات الكبيرة التي كانت تثور في نفسي بين الحين والآخر ضد فدا الرمل الذي أشربه كل يوم .. تلاشت.. أصبحت أنظر للحياة بمنظار أخر أصبحت أنظر إليها من خلال الدينار.. ومن خلال المتع الكثيرة التي كنت أمارسها مع بدرية.. وغير بدرية.. هنا.. وفى بيروت.. لم قعد الحقيبة الصغيرة الثقيلة التي أحملها في كل مرة أذهب بها ؟ إلى بيروت تثير في نفسي الرهبة أو الخوف كما كانت في السابق. في كلمات.. امتدت حياتي طولا وعرضا.. حياة هانئة بسيطة فيها كل ما يمكن أن يحلم به شاب في أول الطريق… ولم يكن يؤلمني قط أنني أصبحت واحدا في مجموعة غريبة من البشر يجمعها الكأس والمرأة.. وتهريب الحشيش… و. ه. و… ولكن… ولكن الحال لا يدوم - وكان يوم… كنت أخطو إلى سلم الطائرة في خفة ورشاقة.. في يدي اليمنى كالعادة حقيبة ملابسي الصغيرة.. وفى يدي اليسرى الحقيبة الأخرى إياها.. ووصلت إلى السلم. ه. ومددت يدي بجواز السفر إلى ضابط الجوازات. ورأيت الضابط يختطف الجواز منى في حركة لم ألفها من قبل.. وشملني شعور غامض بأن شيئا مثيرا فد يقع لي في هذه اللحظة.. وحدث ما توقعت.. فقد امتدت يد ضابط أخر إلى كتفي تهزني... ولم أدر ماذا حدث في تلك اللحظة.. لقد غامت المرئيات في عيني.. لم) عد أستطيع الكلام.. كلما أدركته أنني وقعت أخيرا في الفخ. وبعد أيام كنت أدخل بسيارة كبيرة سوداء على أبوابها أقفال وبداخلها رجال يتمنطقون السلاح.. ومنها إلى الزنزانة رقم 147 في السجن الذي يجثم على أطراف المدينة اللامعة.. إذن هي النهاية... شيء واحد لم أقله لكم حتى الآن.. لعله أروع ما في قصتي .. سمعت أن أبى طلق زوجته الأخرى بعد أن أنجبت له ولدين وبنتين.. وانه تزوج من أخرى أصغر منها وأكثر شبابا. وفى السجن أيضا.. وقبل أيام سمعت أن أمي هي الأخرى لم تحتمل الصدمة... ماتت بينما المدينة على وشك أن تحتضن يوما تسمونه: عيد الأم.. يا للروعة... أنا أيضا سأحتفل معكم بهذا العيد..! |
علي سيار مؤلفاته : - السيد - قصص قصيرة - دار الغد- 1976 - البحرين
| |