في الخامس والعشرين من يناير 2012، أصيب الوسط السينمائي العالمي بصدمة شديدة وأسى عميق عندما تناقلت وسائل الإعلام خبر وفاة المخرج اليوناني العظيم ثيو أنجيلوبولوس، البالغ من العمر 76 سنة، بعد أن صدمته دراجة نارية أثناء عبوره طريق قريب من الموقع الذي يصور فيه فيلمه الأخير "البحر الآخر" The Other Sea، والذي به يختتم ثلاثيته التي بدأها بفيلم "المرج الباكي" The Weeping Meadow (2004) ثم "غبار الزمن" The Dust of Time (2009)..
قبل شهرين من وفاته، أجرى ديفيد جنكنز الحوار التالي مع أنجيلوبولوس، والذي نشره في مجلة Sight and Sound الصادرة في شهر فبراير 2012.
أفلام أنجيلوبولوس قدمت تحديداً واضحاً للأسلوب التأملي في السينما الأوروبية، والذي يمكن تمييزه وإدراك تأثيره.. لقد كان يصوغ أفلاماً فيها الزمن، وكذلك التاريخ، يبدو كما لو يصل إلى حالة توقف تام.
من السمات التي تميّز أفلامه، تلك اللقطات المتعاقبة، المصورة بشكل رائع وبهيّ، حيث الكاميرا تتحرك بسلاسة ورشاقة عبر المناظر الطبيعية، ومن خلال الغرف والأكواخ والساحات، أو فوق – وحول - حشود من البشر المجتمعين، الذين بدورهم يخلقون تكوينات بارعة فيما يتمازجون ضمن الكادر. عندما ندقق في تحفته التي حققها في العام 1975 بعنوان "الممثلون الجوالون" The Travelling Players نلاحظ بأن هذا الفيلم، الذي تستغرق مدة عرضه أربع ساعات تقريباً، يحتوي على 80 لقطة فقط، وكل لقطة take تستمر دقائق طويلة دون قطع. في هذا الفيلم، لا يعرض أنجيلوبولوس التاريخ، النكبات، الاحتفالات، المكائد السياسية، التحولات الاجتماعية، عبر بناء سردي تقليدي ومباشر، بل يرسمها على نحو مدروس ومتقن كما لو على جدارية فسيحة. أما عن موضوعات أفلامه، والتي ترتكز أحياناً على مادة ميثولوجية، فإنها تقتضي من المتفرج تركيزاً ومرونة وانفتاحاً، لأن من المتعذر استهلاكها كعمل ترفيهي بسيط.
أنجيلوبولوس يعد واحداً من رموز حركة سينمائية رفيعة، تتسم بالتقشف والإيقاع البطئ وطرح الرؤى العميقة، وهي الحركة التي تضم عدداً من المخرجين، من بينهم أندريه تاركوفسكي، ميلوش يانكشو، بيلا تار، شانتال أكرمان والتايواني هو شاو شين Hou Hsiao-Hsien .
شهدت سنوات التسعينيات بلوغ أنجيلوبولوس ذروة إبداعه من خلال أفلام رائعة، أدهشت نقاده وجمهوره. وقد فاز فيلمه "تحديقة يوليسيس" Ulysses' Gaze بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان 1995 (بينما ذهبت الجائزة الكبرى إلى المخرج إمير كوستوريشا عن فيلمه Underground وهو أيضاً عن التحلل الأخلاقي والجغرافي لدول البلقان).
بعد ثلاث سنوات، ينتزع أنجيلوبولوس الجائزة الكبرى من مهرجان كان عن فيلمه "الأبدية ويوم واحد" Eternity and a Day والذي فيه يقدم سبراً رثائياً، ومتعدد الأوجه، لشاعر مصاب بمرض لا شفاء منه (برونو غانز)، وهو يختار أن يشرع في رحلة خاصة عبر اليونان، وعن طريق التقائه بصبي ألباني يتيم يبلغ حالة من التنوير الروحي.
العديد من النقاد يعتبرون أنجيلوبولوس نموذجاً لمبدع، أو مؤلف، السينما الذي قدم في أفلامه الـ 13 أسلوباً متميزاً يمكن التعرّف عليه دونما عناء، منذ فيلمه الأول "إعادة بناء" Reconstruction (1970) وحتى "غبار الزمن".
أثناء التحدث إليه، عبر الهاتف، وهو في مكتبه الخاص بالإنتاج السينمائي، بأثينا، أثار إعجابي بقدرته المدهشة على الاحتفاظ بجميع أفلامه محفورة في الذاكرة على نحو يتعذر محوه، على الرغم من اصراره على أنه لا يعيد مشاهدة أفلامه بعد إنجازها وإكمالها.
لقد سألته عن اللقطة الأولى في أول أفلامه "إعادة البناء"، وهو الفيلم الذي يأخذ المنحى البوليسي، لكنه في العمق يقدّم رثاءً للانحدار الثقافي اليوناني. تلك اللقطة عبارة عن لقطة take طويلة لحافلة ركاب تتوقف في طريق موحل بالقرب من قرية جبلية. البعض ينزل من الحافلة ويبدأ في المشي على نحو مجهد إلى أعلى التل. تساءلت عما إذا كان يدرك آنذاك أنه، حتى مع تلك اللقطة الأولى، كان يقتحم حقلاً أسلوبياً وفكرياً جديداً؟
يقول أنجيلوبولوس: "عندما تشرع في تحقيق الأفلام، فإنك تكون واعياً بشكل حاد ومرهف لتقاليد صنع الفيلم، مع إنني شخصياً أرى أنك لا تختار المنهج أو الطريقة التي بها تحقق فيلمك.. الطريقة هي التي تختارك. بالنسبة للمشهد الأول في فيلمي (إعادة البناء)، أذكر أن المصور كان يسألني عن طول اللقطة ومدّتها، وأنا كنت أغمض عينيّ، فيما الكاميرا تدور، وأصغي إلى الأصوات الصادرة من الممثلين. كان بوسعي أن أسمع أنفاسهم ووقع خطواتهم. عندما بدا كل شيء صحيحاً وموافقاً لما أريده، أوقفت التصوير. وكان المشهد مثالياً".
ويضيف أنجيلوبولوس قائلاً: "إن توقيت هذه اللقطات ليس من اختياري. هذه اللقطات لم تكن مرسومة أو مخططة بأي طريقة كانت. كل لقطة تستغرق الوقت الذي تحتاجه.. هكذا كان الأمر ببساطة. إنها مسألة غريزة أكثر مما هي اختيار. عندما أبتكر هذه اللقطات، يتعيّن عليّ أن أقرر ما إذا كان عليّ أن أستسلم للأشياء التي أراها بعينيّ. بعد ذلك يجب أن أقرر ما إذا كان الأمر يستحق التدخل في المنظر الطبيعي بطريقةٍ ما لينسجم ذلك مع حلمي الأوليّ".
بعض النقاد كانوا يميلون إلى تشبيه أنجيلوبولوس بقائد أوركسترا أكثر من اعتباره مجرد مخرج سينمائي، لكنه يرفض هذا التشبيه.. "أحب أن أصف نفسي بالمترجم.. مترجم الصوت، الشعور، والزمن الذي يأتي من مكان بعيد جداً. عندما يأتي إليّ، لا يكون لديّ أي خيار غير الاستغراق فيه".
الشخصيات في أفلام أنجيلوبولوس هي دائماً في حالة حركة. إن رحلاتها، وتفاعلها مع المنظر الطبيعي ومع الأفراد المتشردين الذي يتواجدون على جوانب الطريق، هي في بؤرة ما يدور حوله الفيلم. أنظر إلى رحلة مارشيلو ماستروياني الكئيبة في فيلم "مربي النحل" The Beekeeper (1986)، عبر البلاد، فيما هو يبلور تشوشه وانفصاله عن الجيل الشاب، أثناء نقل شحنة من النحل عبر البلاد. أو أنظر إلى بحث الأخ والأخت عن الأب الأسطوري في رائعته "منظر في السديم" Landscape in the Mist (1988).
يقول أنجيلوبولوس "المكان الوحيد الذي فيه أشعر حقاً بالراحة وكأنني في بيتي، عندما أكون في السيارة إلى جوار السائق. أنا لا أسوق السيارة، غير إني أجد الفعل البسيط في المرور عبر المناظر الطبيعية مثيراً للمشاعر. الطريقة التي بها أنظر إلى العالم في رحلاتي العديدة هي ما تحدد جوهرياً طريقتي في تحقيق الأفلام".
وماذا عن القرية في "إعادة البناء"؟ هل تحققت نبوءته بشأن الانحدار والأفول؟
يقول أنجيلوبولوس: " مؤخراً التقيت بمخرجة سينمائية ومعاً زرنا القرية في الشمال الغربي من اليونان حيث صورنا فيلم (إعادة البناء). في تلك الأيام، كان الناس يغادرون ويرحلون إلى ألمانيا للعمل هناك. عندما عدت إلى هذه القرية، كان الوضع مختلفاً. المكان صار موقعاً تجارياً. في السابق، وعلى الرغم من مشكلاتها، كانت البلدة، تتسم بأصالة شعرية، كذلك أهل البلدة الذين لم يغادروها".
الكثيرون رحّبوا بأنجيلوبولوس بوصفه واحداً من المؤرخين الكبار في تاريخ اليونان المعاصر، مع أنه لم يكشف أفكاره على نحو صريح، تاركاً إياها تتطور من خلال النظم الهشة للرموز، والتجاورات البصرية والسمعية.
"الممثلون الجوالون"، الذي حققه أنجيلوبولوس خلال حكم الطغمة العسكرية اليمينية، كان الفيلم الذي أرغم أنجيلوبولوس على التفكير بشكل مبتكر ومجدد.
يقول أنجيلوبولوس: "هذا ما كنا نسميه.. الخوف من التدخل. الخوف من إفساد التعبير الفني. التهديد بالرقابة يجعل السينمائيين يعملون بطريقة مختلفة تماماً. عندما أفكر في الفيلم الآن أشعر بأن (الممثلون الجوالون) تسمية يمكن أن تشير أيضاً إلى الفنيين الذين يصنعون الفيلم. التقنيون والممثلون، واجهوا مشاكل مع الشرطة، وبعضهم قضى وقتاً في السجن. بل أن الأكثر أهمية من دور المخرج كان الشخص الذي عيّناه كحارس للتأكد من عدم وجود شرطة عسكرية في المنطقة".
هذا الخوف من التدخل هو الذي، مع أشياء أخرى، قاد أنجيلوبولوس إلى توظيف صيغة رمزية من صنع الفيلم.. "فيلمي (الممثلون الجوالون) هو ربما ليس المثال الجليّ، لأن نصفه صُوّر بعد تغيّر النظام. ذلك كان يعني فحسب أننا صوّرنا كل الأشياء التي كان يمكن أن تخضع للرقابة أو اعتبارها غير قانونية بعد إسقاط النظام".
الفيلم المثال الرئيسي بالنسبة له، في هذه الحالة، كان الفيلم الأسبق "أيام سنة 36" Days of 36 عن العواقب البعيدة لحصار سجن فيه يقوم سياسي محافظ باتخاذ مخبر وقاتل مسجونين رهائن تحت تهديد السلاح.
يقول أنجيلوبولوس: "أيام سنة 36 تشير إلى ديكتاتورية ميتاكساس في العام 1936، والفيلم مصور أثناء حكم الديكتاتورية في السبعينيات. إنه مع هذا الفيلم تعيّن عليّ أن أغيّر الطريقة التي أتحدث بها كصانع فيلم. كل شيء صار مدرَكاً من خلال الإيحاء أو ضمنياً. عندما عرض الفيلم للمرة الأولى في أثينا، كان هناك عدد من الأفراد من بين الحضور والذين بدأوا في طرح الأسئلة. اندهشت عندما علمت أن هؤلاء الأفراد لم يكونوا عاملين ضمن سلك الشرطة. أذكر أن امرأة قدمت لي زهوراً وتساءلت إن هي فهمت حقاً كل ما شاهدته للتو على الشاشة، وبالطبع قلت لها: نعم. ضمن روح الفيلم، حتى هذا الحوار مع الجمهور كان ضمنياً وعبر الإيحاء".
جزء من فتنة سينما أنجيلوبولوس تكمن في معرفتك بأن المشهد الاستثنائي واللافت، الذي تشاهده، كان في الواقع مرسوماً ومعداً للكاميرا. مشاهده باهرة، متألقة، تذكرنا بمشاهد من أفلام صامتة حققها مخرجون مثل: فريتز لانغ، جريفيث، فون شتروهايم. (أعلن أنجيلوبولوس عن اعجابه الشديد بفيلم ميشيل هزانافيشوس Michel Hazanavicius "الفنان" The Artist ، الذي به يوجّه تحية تقدير إلى السينما الصامتة)..
يقول أنجيلوبولوس: "هذا الفيلم حرّك ذكرياتي. عندما شاهدت للمرة الأولى كلاسيكيات السينما الصامتة، عرفت أنني أريد أن أحقق أفلاماً".
في الوقت الحاضر، من المستحيل تقريباً تخيّل أن يتوفر المال اللازم لإنجاز أعمال بالطرائق التي اعتاد عليها أنجيلوبولوس وأولئك المخرجين الكبار، خصوصاً مع اقتصاد منهار كما هو الحال في اليونان. لكن أنجيلوبولوس يصر على أنه سوف لن يقع تحت اغواء التكنولوجيا، ولن يحاول تحويل الصور التي يولدها الكومبيوتر كوسيلة لغاية ما.
يقول أنجيلوبولوس: "إذا اخترت الآن أن أصّور لقطة مماثلة للقطة موجودة في (تحديقة يوليسيس) في فيلمي الجديد، فسوف أصورها بالطريقة ذاتها تماماً. أنا لا أصنع أفلاماً فقط لكي أحاول أن أنجز شيئاً. التجربة هي التي تؤخذ بعين الاعتبار.. المعالجة. إنه عن كيفية صياغة المشهد. إنها ولادة لصورة تهمني"..
هذا يعني أن تقنية الفيلم ذي الأبعاد الثلاثة 3D هي غير واردة.. يرد أنجيلوبولوس ضاحكاً: "مثل هذه التقنية ليست مصنوعة لي. إن تصوري وفهمي لماهية السينما لا يمكن أن ينسجم مع هذا النهج أو الطريقة".
إن منهج أنجيلوبولوس الدقيق في صنع الصورة كان له تأثير واضح على العديد من المخرجين المعاصرين.. من بينهم التركي نوري بيلجي سيلان والإيطالي مايكل أنجلو فرامارتينو. كيف يشعر حين يشاهد فيلماً واقعاً تحت تأثير أسلوبه؟
يجيب أنجيلوبولوس قائلاً: "كل جيل يتأثر بالجيل الذي سبقه. إنها دائرة من إعادة المعالجة، من تسليم الأفكار عبر الزمن. لو شاهدت فيلماً يحتوي على لقطة مديدة دون قطع، أو فكرة مستمدة من أحد أفلامي، فسوف أتذكر بأنني تأثرت بدوري، ربما بلا وعي، بجيل من صانعي الأفلام الذين جاءوا قبلي، والذين بدورهم سيتكوّن لديهم الشعور ذاته، والانطباع ذاته، حين يشاهدون أفلامي".
على الرغم من تداعي الاقتصاد في اليونان، إلا أن السينما اليونانية تعيش حالة جيدة في هذه اللحظة، مع ظهور مواهب شابة ملفتة، ممثلة في المخرج يورجوس لانثيموس والمخرجة أثينا راشيل..
يقول أنجيلوبولوس: "هناك جيل جديد من المخرجين في اليونان الذين خلقوا لغة جديدة، ولديهم أشياء يريدون التعبير عنها. إنها تجارب مختلفة جداً عن أفلام السينما اليونانية الجديدة في السبعينيات. بعد كل هذه السنوات، من الجيد رؤية نموّ تلقائي آخر للنشاط الإبداعي".
في حين يبدي حماساً تجاه السينما اليونانية، هو لا يرى الكثير من الأمل في المستقبل السياسي للبلاد. في إحدى المقابلات التي أجريت معه، أثناء تحقيقه فيلم "خطوة اللقلق المعلقة" The Suspended Step of the Stork (1991)، صرّح بأنه كان دائماً ينظر إلى السياسة بوصفها إيماناً ، أما الآن فإنه يعتبرها مهنة. وهو يضيف قائلاً: "خدمة الناس هي وظيفة، وليست أيديولوجيا".
مع تصدّر التدهور الاقتصادي في اليونان الصفحات الأولى من الجرائد، سألت أنجيلوبولوس إن كان يشعر بأن أفلامه قد استعادت البصيرة السياسية؟
أجاب قائلا: "بطريقة غريبة، نعم أشعر بذلك، لكنني لا أعتقد، ولو للحظة، أن هذا أمر جيد. كل ما كان يبدو وقتذاك عبارة عن سلسلة من الاحتمالات الكئيبة بشأن مستقبلنا، أضحى الآن مؤكداً ومصدقاً عليه. أنا أنتسب إلى جيل كان يحسب أنه قادر على تغيير العالم. مع حلول العام 2000، انتهى الحلم".
فيلمه التالي "البحر الآخر"، هو الفصل الختامي للثلاثية، وهو ينطلق من الواقع السياسي للحاضر، في اليونان وأرجاء أوروبا. الفيلم الأول من الثلاثية "المرج الباكي" يتعامل مع بناء وصيانة قرية محاذية للنهر في العام 1919. الفيلم الثاني من الثلاثية "غبار الزمن" عن مخرج سينمائي (وليم دافو) يستكشف أوروبا بحثاً عن ابنته المفقودة. وفي حين تدور أحداث الفيلمين في الماضي، يسكن فيلمه "البحر الآخر" في الحاضر والمستقبل.
يقول أنجيلوبولوس "نهاية فيلم (غبار الزمن) هي أيضاً نهاية حلم. هذا الفيلم الجديد هو عن افتقاد الحلم في اللحظة الراهنة. أنا لا أعتقد بأن مشكلات الحاضر هي بالضرورة مشكلات مالية، بل هو الافتقار العام للقيم. الفيلم الجديد يتحدث عن أفق مغلق. بالنسبة للبلاد, إنه أشبه بجلوسنا جميعاً في غرفة انتظار مغلقة، وليس لدينا أي فكرة عما سيحدث حين ينفتح أخيراً ذلك الباب".