ترجمة: أمين صالح
عندما تكون لدى الكاتب والمخرج نقاط إطلاق جمالية مختلفة فإن التسوية والوصول الى حل وسط سيكون مستحيلاً، ذلك سوف يدمر الفكرة الحقيقية للفيلم ولن يعود ممكناً تحقيق الفيلم.
حين يحدث تضارب كهذا فسوف لن يكون هناك غير منفذ واحد: أن يتحول السيناريو الأدبي الى بيئة جديدة والتي عند مرحلة معينة من صنع الفيلم، سوف تدعى سيناريو التصوير، وفي أثناء العمل على هذا السيناريو، سيكون مؤلف الفيلم »وليس مؤلف السيناريو« مخولاً لأن يوجه السيناريو الأدبي هذه الوجهة أو تلك كما يشاء كل ما يهم هو أن رؤيته ينبغي ان تكون كاملة، دون أي مساس بها، وان تكون كل كلمة في السيناريو معبرة عما يريده، وتمر عبر تجربته الإبداعية الخاصة، ذلك لأن وسط أكوام من الصفحات المكتوبة، والممثلين، والأماكن المختارة كمواقع للتصوير، والحوار الأكثر براعة، والرسوم التخطيطية، هناك ينتصب شخص واحد فقط: المخرج، هو وحدة، بوصفه »الفلتر« الأخير في العملية الإبداعية لصنع الفيلم.
عندما لا يكون كاتب السيناريو والمخرج شخصاً واحداً، فعندئذ سوف نشهد تعارضاً غير قابل للحل والذوبان، خاصة إذا كان كل منهما يتوهم الكمال.
اتهام المخرج بأنه »افسد فكرة جيدة« ليس دائماً مبرراً، الفكرة غالباً ما تكون أدبية وهي مثيرة للاهتمام فقط لأنها كذلك الى حد ان المخرج مجبر على تحويلها وتغيير اتجاهها في سبل تحقيق الفيلم، في أفضل الأحوال، الجانب الأدبي للسيناريو »بصرف النظر عن الحوار« يمكن ان يكون نافعاً للمخرج كمؤشر الى المحتوى العاطفي لحدث ما، أو مشهد ما، أو حتى للفيلم كله.
السيناريو الحقيقي، بالنسبة لي، هو الذي ليس مطلوباً منه، بذاته وبمعزل عن الأشياء الأخرى، ان يؤثر في القارئ بأي طريقة تامة، ونهائية، لكنه المعد كلياً لأن يتحول الى فيلم، وهكذا فقط يحرز شكله النهائي.
كتاب السيناريو، من جهة أخرى، يؤدون وظيفة هامة، والتي تقتضي موهبة أدبية حقيقية فيما يتصل بالاستبصار السيكولوجي، هنا، في هذا الموضع، يحدث الأدب تأثيراً على السينما والذي هو مفيد وضروري معاً، فلا يخنق السينما ولا يشوهها.
لكل حالة فردية، السينما تقتضي من المخرج وكاتب السيناريو معاً معرفة هائلة، وبالتالي يتعين على مبدع الفيلم ان يمتلك شيئاً مشتركاً مع كاتب السيناريو، ذلك لأن التكوين التشكيلي للفيلم يتوقف الى حد كبير، على نحو حاسم غالباً، على الحالة الخاصة للشخصية في ظروف معينة، وكاتب السيناريو يستطيع، وفي الواقع يجب، ان يقدم للمخرج معرفته الخاصة بالحقيقة الكاملة بشأن تلك الحالة الداخلية حتى الى درجة إعلامه كيف يبني الميزانين، بإمكان المرء ان يكتب ببساطة: »الشخصيات تتوقف قرب الجدار« ثم ينصرف الى كتابة الحوار بينهم، لكن ما هو الشيء الخاص والاستثنائي بشأن الكلمات التي تقال، وهل هي تنسجم مع الوقوف عند الجدار؟ ان معنى المشهد لا يمكن تركيزه أو تكثيفه ضمن الكلمات التي تنطقها الشخصيات حين يستلم المخرج السيناريو، ويبدأ في الاشتغال عليه، يحدث دائماً ان السيناريو مهما كانت فكرته العامة عميقة، وهدفه محدداً بأحكام يخضع على نحو محتوم الى نوع من التغيير، انه لا يتجسد أبداً على الشاشة حرفياً، كلمة كلمة، صورة صورة، بل ثمة دائماً تعديلات بناء على ذلك، فإن التعاون بين كاتب وسيناريو والمخرج يتجه الى ان يكون مكتنفاً بالصعوبة والخلاف، الفيلم الفعال يمكن ان يتحقق حتى عندما تتهشم وتتدمر الفكرة العامة أثناء عملهم » المخرج والكاتب« معاً، فمن الدمار تنبثق فكرة جديدة، كينونة جديدة.
لا استطيع ان اتفق مع رأي رينيه كلير القائل بأن ما ان تتكون لديك فكرة عن الفيلم فلا يبقى لك إلا ان تصوره، إنها طريقة مختلفة تماماً عن تلك التي أحقق بها السيناريو على الشاشة، ليس ذلك لأنني أجد نفسي أقوم بتغييرات أساسية للفكرة الأصلية للفيلم، فالباعث الأولي للفيلم يظل كما هو دون تغيير وينبغي تحققه في العمل المنجز لكن، من ناحية ثانية، أثناء التصوير والمونتاج وإعداد التسجيل الصوتي، الفكرة تثابر في التبلور في أشكال دقيقة، وبناء الصورة لا يكون محسوماً إلا في الدقيقة الأخيرة، ان عملية انتاج أي عمل فني تعني الصراع مع المادة، إحكام السيطرة عليها من أجل التحقيق الكامل والمثالي للمفهوم الذي يظل حياً في تأثير الفنان المباشر.
انه خطأ فادح، بل يمكن ان أقول، خطأ مهلك، ان تحاول تحقيق فيلم يتطابق تماماً، وعلى نحو دقيق، مع ما هو مكتوب على الورق، وان تنقل الى الشاشة بنى وتراكيب تم التفكير فيها سلفاً، وعلى نحو فكري محض، فإن هذه العملية البسيطة يمكن ان يقوم بها أي مهني محترف، ولأن الإبداع الفني عملية حية ومتقدة فإنه يقتضي القدرة على الرصد المباشر للعالم المادي، المتغير على الدوام، والذي هو باستمرار في حالة حركة.
أنا لا أنظر الى السيناريو بوصفه نوعاً أدبياً، في الواقع، كلما كان السيناريو سينمائياً أكثر، قلت إمكانية مطالبته باحتلال منزلة أدبية بحكم حقه الشخصي، ونحن نعرف انه في التطبيق، السيناريو لا يبلغ مستوى الأدب، ان فكرة وغاية الفيلم، وتحققهما ينبغي في النهاية ان تكون مسئولية المخرج المبدع، وإلا فإنه لا يستطيع ان يمارس سيطرة حقيقية وفعالة على التصوير.
بالطبع المخرج وهو في الواقع يفعل ذلك غالباً ان يلجأ الى كاتب يتفق ان يكون له روحاً شقيقة، الكاتب، في قدرته وأهليته ككاتب سيناريو، يصبح عندئذ مشاركاً في التأليف.
إذا اظهر السيناريو انه مجرد خطة مفصلة للفيلم، واذا تضمن فقط ما يكون قابلاً للتصوير وكيفية تصويره أو انجازه، عندئذ سيكون لدينا ما يمكن ان نعتبره نسخة ذات بصيرة للفيلم المنجز.
السيناريو، بالنسبة لي، بناء حي، هش، متغير دائماً، والفيلم لا يأخذ شكله النهائي إلا لحظة اكتمال العمل، السيناريو مجرد قاعدة، نقطة انطلاق، منها يبدأ الفنان في السبر والاستكشاف.
أشياء كثيرة لا يمكن توقعها وصياغتها وبناءها إلا أثناء التصوير، سيناريوهات أفلامي الأولى كانت مبنية بشكل واضح، لكن حين بدأنا العمل في فيلم »المرآة« قررنا على نحو معتمد إلا نجعل الفيلم يتحقق ويكتمل مسبقاً قبل تصوير المادة، كان مهماً بالنسبة لنا ان نرى كيف، وتحت أية شروط وحالات، يمكن للفيلم ان يتشكل بذاته: وذلك بالاعتماد على اللقطات، على الاتصال بالممثلين، ومن خلال بناء المواقع والطريقة التي بها يتكيف الفيلم مع الأماكن المختارة كمواقع.
لم نرسم تصميمات توجيهية للمشاهد أو الأجزاء بوصفها كينونات بصرية مكتملة ونهائية، لقد اشتغلنا على الاحساس الحاد بالجو والتقمص العاطفي مع الشخصيات، والذي اقتضى -في الموقع ذاته- تحققاً تشكيلياً دقيقاً، إنني اذهب الى الموقع من اجل ان افهم بأية وسيلة يمكن التعبير عن تلك الحالة في الفيلم، وما ان افهمها حتى اشرع في تصويرها.