ترجمة: أمين صالح
الروابط الشعرية - منطق الشعر في السينما - هي مرضية على نحو رائع. إنها تبدو لي ملائمة على نحو مثالي لإمكانية السينما بوصفها أكثر الأشكال الفنية صدقاً وشعرية. يقينا أشعر بالتوافق والانسجام معها أكثر مما أشعره مع الكتابة التقليدية المتكلفة التي تربط الصور من خلال التنامي الطولي، المنطقي على نحو صارم، للحبكة. هذه الطريقة المتفقة على نحو ضاج مع العرف في ربط الأحداث هي عادة تقتضي ضمناً فرض الأحداث، على نحو استبدادي، امتثالاً لمفهوم نظري تجريدي بشأن الترتيب والنظام. حتى عندما لا يكون الأمر كذلك، حتى عندما تكون الحبكة محكومة وموجهة من قبل الشخصيات، فإن المرء يكتشف بأن الروابط، التي توحدها وتجعلها متماسكة، تتكئ على تأويل سطحي لتعقيدات الحياة.
لكن مادة الفيلم يمكن أن تتزاوج معاً بطريقة أخرى والتي تعمل، قبل كل شيء، على كشف منطق التفكير عند شخص ما. هذا هو الأساس المنطقي الذي سوف يملي تعاقب الأحداث، والمونتاج الذي يصوغها في وحدة كاملة. إن ولادة وتطور الفكر خاضعان لقوانين خاصة بهما، وأحياناً يقتضي ذلك أشكال تعبير مختلفة تماما عن أنماط التأمل المنطقي. في رأيي، الاستنباط الشعري هو أقرب الى القوانين التي بواسطتها يتطور الفكر، وبالتالي أقرب الى الحياة نفسها، من منطق الدراما التقليدية. ومع ذلك فإن طرائق الدراما الكلاسيكية هي التي كان ينظر إليها باعتبارها النماذج الوحيدة، والتي لسنوات طويلة قد حددت الشكل الذي فيه يتم التعبير عن الصراع الدرامي.
من خلال الصلات الشعرية يتم تصعيد وتعميق الشعور، ويصير المتفرج فعالا أكثر. إنه يصبح مشاركا في عملية اكتشاف الحياة، تحت تصرفه فقط ما يساعد على اختراق المعنى الأعمق للظواهر المركبة المروضة أمامه.
حين أتحدث عن الشعر فإنني لا أنظر اليه كنوع أدبي. الشعر هو الوعي بالعالم، طريقة خاصة للاتصال بالواقع، هكذا يصبح الشعر فلسفة ترشد الانسان طوال حياته، ويصبح الفنان خالقا للجمال الخاص الذي ينتسب للشعر فقط، وقادراً أن يتبيّن خطوط التصميم الشعري للوجود، وأن يتخطى قيود المنطق المتماسك، وكشف التعقيد العميق وحقيقة الروابط غير المحسوسة وظواهر الحياة المخفية.
بدون مثل هذا الإدراك ونفاذ البصيرة، حتى العمل الذي يزعم أنه معبّر بصدق عن الحياة سوف يبدو تبسيطياً ومنتظما بشكل اصطناعي. قد ينجز الفنان وهماً ظاهرياً، مظهراً شبيهاً بالحياة، لكن ذلك يختلف تماما عن سير واستنطاق الحياة أسفل السطح أظن أنه ما لم يوجد رابط عضوي بين الانطباعات الذاتية للمبدع وتصويره الموضوعي للواقع فسوف لن يحقق حتى المصداقية الظاهرية، دعك من الموثوقية والصدق الداخلي.
الاتجاه الى المنطق الشعري محفوف بالعداوة. المعارضة تنتظرك عند كل منعطف، على الرغم من حقيقة أن المبدأ هو شرعي تماما كما هو منطق الأدب أو الدراما. كلما استبدلنا السببية السردية بمفاصل شعرية، وكلما أظهر البناء الدرامي أدنى علامة تشير الى نهوض شيء جديد، والتعامل مع الأساس المنطقي للحياة اليومية بحرية نسبيا، تعالت صيحات الاحتجاجات وعدم الفهم. هذه الأصوات، في الغالب، تشير الى الجمهور وتتحدث نيابة عنه، قائلة بأن الجمهور يحتاج الى حبكة مكشوفة، واضحة وظاهرة للعيان، بلا انقطاع أو تغير مفاجئ في الاتجاه. وأن الجمهور غير قادر على متابعة الشاشة إذا لم يكن هناك خط قصصي قوي في الفيلم.
هناك بعض المظاهر من الحياة الإنسانية لا يمكن تمثلها بأمانة إلاّ من خلال الشعر، لكن المخرجين غالباً ما يلجأون الى استخدام وسائل تحايل تقليدية، خرقاء، عوضا عن المنطق الشعري، أتكلم هنا عن التلاعبات البصرية والمؤثرات غير العادية في تصوير الأحلام والذكريات والتخيلات.
ثمة تعبير أصبح الآن مألوفاً وشائعا: السينما الشعرية. وهذا التعبير يعني السينما التي تبتعد بجسارة، في صورها، عما هو واقعي ومادي متماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية، وفي الوقت نفسه تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة لكن ثمة خطرا متواريا يواجه السينما في ابتعادها عن نفسها. »السينما الشعرية« عادة تلد رموزا، مجازات، ومظاهر أخرى.. أي أشياء لا علاقة لها باللغة الطبيعية الملائمة للسينما.
نحن نعرف النوع التقليدي للشعر الياباني القديم.. الهايكو. لقد رأى ايزنشتاين في هذه المقاطع الشعرية، ذات الأبيات الثلاثة، المثال الذي يوضح كيف أن تركيب ثلاثة عناصر منفصلة يخلق شيئا مختلفا في النوع أو الطبيعة عن أي عنصر منها.
إن ما يجذبني في الهايكو هو رصدها للحياة.. هذا الرصد الذي هو خالص، صاف، دقيق، ومتحد مع موضوعه، دقته وإتقانه سوف تجعل أي شخص يشعر بقوة الشعر ويدرك الصورة الحية التي اقتنصها الشاعر.
إن هذا النموذج الخاص من الشعر يبدو لي أقرب الى حقيقة السينما، مع فارق أن النثر والشعر يستخدمان الكلمات تحديدا، بينما الفيلم يولد من رصد مباشر للحياة. ذلك، في رأيي، هو المبدأ الرئيسي للشعر في السينما.. اذ أن الصورة السينمائية هي جوهريا رصد لظاهرة تمر عبر الزمن.
ألا يوجد فن آخر قادر أن يضاهي السينما في القوة والدقة والوضوح والصرامة التي بها توصل السينما الوعي بالوقائع والبنى الجمالية الكائنة والمتغيرة ضمن الزمن.
بالتالي أجدها مثيرة للسخط ادعاءات »السينما الشعرية« الحديثة والتي تشمل تعطيل الاتصال مع الواقعة ومع واقعية الزمن، وتندفع الى الانخراط في التكلف والتصنع.
لكل فن معناه الشعري الخاص، والسينما ليست استثناء إن لها دورا خاصا، قدرا خاصا لقد نشأت السينما من أجل ان تعبر عن مجال معين من الحياة التي معناها، حتى ذلك الوقت، لم يجد تعبيره في أي شكل فني قائم.
كنت أحاول أن أجعل الناس يؤمنون بأن السينما، كأداة فنية، لديها امكاناتها الخاصة التي تعادل امكانات النص الأدبي. أرت أن أظهر مدى قدرة السينما على رصد الحياة دونما تدخل، على نحو فج أو بجلاء، في استمراريتها.. اذ ها هنا أرى الجوهر الشعري الحقيقي للسينما.
إن المبدأ الشعري للفنان ينبثق من التأثير الذي يحدثه فيه الواقع المحيط، ويمكن لهذا المبدأ أن يرتفع فوق ذلك الواقع ويرتاب فيه ويستجوبه، وينهمك في صراع مرير معه.
ليس فقط مع الواقع الذي يقع خارجه بل أيضا مع الواقع الذي يوجد بداخله.