(هنا تنتهي القصة, وهنا تبدأ القصة).. كان زكريا يهمهم مخاطباً نفسه المتأرجحة كالبندول بين حاضرٍ لا ينال فيه الحظوة ومقبلٍ غامض لا يكفّ عن بلبلة روحه.. نفسه المسكونة بوجع الفقد, بفجيعة الذهاب المبكر لأب آثر أن يؤاخي السفر على أن يكون أباً يروّض ما يدّخره الغد لرضيع لا يرى فيه غير القيد, ويلمّ طيلة عمره ما يتناثر من حياة لاهثة. ربما هكذا مضى - بحقيبة قديمة وحلمٍ مريّش - ماحياً كل الأدوار. (خذني يا سفر) يتمتم زكريا وهو واقف في مبتدأ البحر حيث المياه تغمر قدميه وتكاد تصل إلى مستوى الركبة. كان وقت جزْر, والمياه قد انحسرت عمّا خبأته المياه, مثل ثوب إنحسر فبانت الأشياء عاريةً, مكشوفةً, ومباحة: حصى, قواقع, علب, زجاجات, رائحة أسماك كانت هنا, ظلال قوارب نزحت مقتفيةً الأمواج تاركة آثارها هنا, ريش طيور كانت قبل سويعات تلهو هنا.. على نحو غريب, لا عقلاني, سحري تقريباً.. صار الصمت سيد المكان. كأن الطبيعة - المتواطئة مع البحر - بكل أشيائها وكائناتها وعناصرها قد أعلنت الحداد فجأة فأضربت عن الكلام, عن الهسيس, عن الحفيف, وحتى عن التنفس. هدوء مذهل. سكون معجز. كما لو أن صلاة كونية تقام الآن ويشارك فيها كل الخلق. فجأة, وفي اختراق فاضح لطقس مقدس لكنه غير مدنس, تهبّ نسائم خفيفة لها نكهة الملح والصعتر, وما إن تمسّ المياه حتى ترتجف قليلاً مثل جسد إنثى يلامسها الذكر للمرة الأولى.. وحدها المياه تتفاعل إلى حدٍ ما فيما تظل الأشياء الأخرى محافظة على صمتها وسكونيتها. أما زكريا فيمكث في مكانه بلا حراك, مانحاً وجهه للهبوب الرائق, مستنشقاً الرائحة كمن يريد أن يميّز عناصرها ومصدرها. بعد لحظات يغمض عينيه, منصتاً بتركيز ورهافة لصوت يأتي من نقطة نائية.. نائية جداً. صوت مياه يخوض فيها جسم بشري. وعندما يفتح زكريا عينيه يرى في البعد شكلاً بشرياً غير واضح المعالم قادماً من تخوم المد.. حيث حركة الأمواج أقل عنفاً وحيث يلفظ اللج أحياناً رهائنه من الغرقى. يحسبه زكريا - في بادئ الأمر - صياداً عائداً بعد أن حرس شراكه المبثوثة واطمأن على مصائده. وكلما طوى المسافة وازداد اقتراباً, استطاع زكريا أن يركّز بؤرته أكثر وأن يرى بوضوح أكثر. رجل وسيم, ربما في الثلاثين من عمره, يرتدي ثوباً طويلاً. لكن ثمة شيئين أثارا حيرة وفضول زكريا: لقد كان الرجل مبلّلاً حتى قمة رأسه.. كأنه قد غاص في البحر وخرج لتوه, والقطرات لا تزال تتساقط من جسمه ومن ثوبه دونما انقطاع. حتى عندما توقف قبالة زكريا على بعد مسافة قريبة وراح يتطلع إليه في حنان وحب غير خافيين وهو يبتسم كما لو لصديق لم يره منذ زمن. والشيء الآخر هو أنه كان يحمل حقيبة قديمة, أيضاً يتقطر منها الماء, لكن تبدو خفيفة لأنها لا ترهق يده. وهمّ زكريا أن يسأله عما كان يفعله في البحر مع حقيبة قديمة كهذه, إذ يبدو أقرب إلى المسافر منه إلى صياد أو بحار, غير أن الآخر عاجله بسؤال لم يتوقعه: - عرفتني? - لا.. - لن ألومك, فقد كنتَ صغيراً عندما غادرت.. - ومن أنت? - أنا أبوك.. (أجاب ببساطة ودونما تردد أو تلعثم) - أين كنت? - في السفر.. - ولماذا عدت الآن? - أنا لم أعد.. أنت الذي استحضرتني.. - حدثني عن السفر.. - السفر ليس تغييراً للأماكن وللوجوه وللعادات فقط.. أن تسافر يعني أن تكون صديقاً للمجهول وللمجازفة, وأن تحب السفر لذاته.. لا لشيء آخر. - خذني معك.. - لا أستطيع.. يجب أن أعود الآن.. وحدي. ومع إنتهاء جملته يستدير ويمضي عائداً من حيث جاء, خائضاً في مياه صديقة عرفته منذ سنوات طويلة وها هي أسماك صغيرة تتراقص من حوله مثل عرائس بحجم الإصبع تواكب رحيله أو عودته. ووئيداً يبتعد مع قطراته وحقيبته وحضوره الزائل.. حتى يختفي مثل طيف أو مثل ظل فاجأته العتمة. - زكريا.. يسمع زكريا النداء من خلفه, فيستدير ليرى مفتاحاً وهو يشير له بالخروج.. عندئذ فقط يعمّ المكان ضجيج الحياة اليومية وجلبة الطبيعة بكل كائناتها وعناصرها. (34) الخرابة خالية الآن إلا من كلبة ضجرت من حراسة جرائها فاستدرجها النوم إلى مملكته وذهبت صاغرةً, تاركةً جراءها تلهو وتعبث كما تشاء.. ومن غبار يتكوّم هنا وهناك حتى تطرده هبّة ريح فيتطاير ذراتٍ ليستقر في موضع آخر.. ومن شمس تطل في فتور بعد أن خفّ لهبها مع أفول الظهيرة. ترى حميداً يدخل وهو ممسك برسغ خلود التي لا تبدي مقاومة لكنها مترددة في الدخول, لذا يجذبها فتنصاع متأففةً.. خلود: لماذا أحضرتني إلى هنا? حميد: قلت لك.. لأريك سراً.. خلود: (وهي تتلفت, متطلعةً حولها في اشمئزاز) لا أرى شيئاً.. أين هو السر? حميد: أنظري إلى الجراء.. خلود: ما بها? حميد: جميلة, أليست كذلك? حميد: لا, ليست كذلك.. حميد: هذا هو السر.. خلود: ماذا تعني? حميد: كنا نربي هذه الجراء سراً دون أن يعلم أحد.. خلود: هذا ليس سراً.. كثيرون لديهم كلاب وجراء.. الكلاب في هذا الحي لا تكف عن الإنجاب.. ليس شيئاً خطيراً.. هناك كلبة نائمة.. هي التي تربيهم.. حميد: تعالي اجلسي على السلم.. خلود: لماذا? حميد: لكي ترتاحي.. خلود: لست متعبة, أنا ضجرة, أريد أن أذهب.. هذا مكان قذر تفوح منه روائح كريهة.. (حميد يمد يده بطيش ودون تردد صوب صدرها, وما إن تحط راحته على نهدها المتواري تحت الثوب, حتى تجفل خلود وتتقهقر قليلاً مطلقة صيحة غاضبة تفزع حميداً وتربكه) حميد: ماذا? مابك? خلود: ماذا فعلت? حميد: لا شيء.. كنت أريد أن أمسح.. خلود: (مقاطعة) أنت شرير يا حميد.. تريد أن تخدعني.. سوف لن أكلمك بعد اليوم.. حميد: خلود, إرجعي.. (لكن خلوداً تغادر منفعلة) خائباً, يائساً, منهكاً.. يتحرك حميد بتثاقل صوب السلم المتصدع. يخرّ جالساً على الدرج وهو يطلق زفيراً صادراً من أعماق متعبة. لم يصدق, في بادئ الأمر, أنه نجح في استدراجها, وظن أنها ستكون فريسة سهلة. لكن ها هي تفلت منه ولن تثق به بعد اليوم. كل هذا ذنب عزوز وجارته, لو لم.... (35) - علمني.. - ماذا تريد أن تعرف? - كل شيء.. هكذا كان حميد يتخيّل نفسه وهو يقف أمام سلطان بلا رهبة, وبرباطة جاش يسأله والآخر يجيبه بحميمية وبحماسة تشي برغبة عارمة في تلقين الأصغر سناً فنون العراك متى ما أبدى استعداده لامتحان بأسه الذي يؤهله لممارسة عنفه ضد الآخرين. هكذا كان حميد يتخيّل وهو يتجه نحو الأسطورة الحيّة سلطان الواقف عند المنعطف, مستنداً إلى الجدار, يحاول إشعال لفافته بعود ثقاب. يتحرك نحوه بخطى خرقاء تتعثر كلما اعترضتها حصاة ناتئة, أو يختل توازنها كلما صادفها تعرّج في أرض غير مستوية. وفيما يزداد اقترابا من سلطان - الذي انتبه إلى وجوده فراح يرمقه في تساؤل - يحاول حميد جاهداً أن يتحكم في ارتجافات أصابعه ونبضات قلبه المتسارعة من فرط الرهبة, غير أن ارتعاشة صوته, وهو يقف أمام سلطان, تفضح تظاهره بالجسارة.. - علمني.. - أعلمك ماذا? - كل شيء.. يطلق سلطان ضحكة تهكمية تزعج حميداً قليلاً.. - ومن تحسبني.. مدرساً أو خطيب مسجد? - أريد أن أصير مثلك.. - مثلي? - أريد أن يهابني الناس ويخافون مني.. مثلك.. - ومن قال لك أنهم يخافون مني? - أنت قوي وشجاع وجرئ و.. - أين رفاقك? - لا أدري.. - إذهب وابحث عنهم.. إلعب معهم قليلاً ثم راجع دروسك.. هذا كل ما ينبغي عليك أن تفعله.. لا تصبح مثلي أو مثل غيري.. تفهمني? إحساس حميد بالخيبة والخذلان يكاد يشلّه تقريباً, فهو لم يتوقع رداً كهذا من شخص عنيف يمجّد العنف لا الدراسة. ويظل واقفاً, حابساً رغبة في البكاء داهمته فجأة, ولا يتحرك إلا حين يتلقى أمراً حازماً: - هيا إذهب. يستدير ويبتعد خطوات ثم يتوقف عندما يسمع صوت سلطان: - حميد, إنتظر.. يستدير ثانيةً مواجهاً سلطان.. - تعال.. يتحرك نحو سلطان الذي يتطلع الآن إلى جهة يجتمع فيها أربعة شبان.. على بعد مسافة من دكان أبي أحمد.. - أترى أولئك الشبان.. أحمد ورفاقه? - أراهم.. - منذ ساعة وهم مجتمعون هناك, يتهامسون في حذر, وكأنهم يخططون لشيء.. يتطلع حميد إلى تلك الجهة, إلى اولئك الشبان, إلى أحمد الذي يحرّك يديه كثيراً وهو يتحدث إليهم بصوت غير مسموع.. ثم ينظر إلى سلطان الذي يتابع: - أريد أن أعرف ما الذي يدور بينهم, ما الذي يخططون له.. - لماذا? يوجه سلطان إليه نظرة حادة, ثاقبة, كأنه يوبخه على سؤاله.. إلا أنه لا يجد غضاضة في أن يكشف له الأمر بنبرة صارمة: - لا أحب أن تحدث أشياء في هذا الحي ولا أعرف عنها شيئاً. لست زعيماً ولا أريد أن أكون زعيماً.. لكنني أيضاً لا أحب أن أكون جاهلاً.. هل تساعدني? الأسطورة الحية تطلب من حميد المساعدة!! بقدر ما ملأ الزهو كيانه, بقدر ما أثار استغرابه.. ما الذي يريد أن يعرفه عن أفراد لا يهتمون إلا بالسياسة?! (36) ليلتها, ليلة العرس الصاخبة (لا أذكر الآن عرس من كان تلك الليلة) حين إزدان بيت العريس (أو العروس) بمصابيح ملونة صغيرة, معلقة في انتظام وتناسق, وأحاطت سعف النخيل بالباب لا لتحرسه إنما لتعلن عن تميّزه وفرادته بين الأبواب المجاورة المحرومة من زغاريد المباهاة وجلبة اللحظة.. حين استفاقت الطرقات المعتمة والمتعرجة على صيحات الأطفال وضحكات السكارى.. حين تزاحم في الساحة المحتفلون - رجالاً ونساءً, كباراً وصغاراً - محتشدين جمعاً جمعاً هنا وهناك, أو متحلقين - رجالاً وأولاداً - حول الفرقة مرتجلين الرقص على أنغام شعبية ترتجلها آلات النفخ والطبول.. كنا, ليلتها, مثل سرب لا يستقر لأن الإستقرار في مكان يعني أن نكون ضمن مشهد واحد من الطقس الاحتفالي قد يتغير مساره بشكل طفيف أو ينقلب على نحو دراماتيكي, وفي كل الأحوال لن نر غير جانب واحد, بينما كنا نرغب في رؤية كل ما يحدث في هذا الطقس الإستثنائي.. فالعرس مناسبة فريدة, عيد يتهيأ له الجميع قبل أيام. هكذا كنا نطفو حائمين فوق يقظة الريحان ننثر رقائق العبث وتوابل الفكاهة, كما الهبات السماوية, على بيوت تتبارى في حشد الأنخاب وعلى أزقة تتراكض مبللة برشاش السهر. نرسو عند قارعة الندامى العاصبين سواعدهم بخيوط من المُخمل, حيث يحزمون النعناع حزمةً حزمةً ويدحرجون جرار العسل في صخب, وحيث النوم المعتزل جانباً يتثاءب من فرط الوحدة. نخترق كالحيازيم عباب الوحشة آن تحرن عند مراقدها في أماكن لا يصلها الضوء ولا تجاورها الزغاريد وفي لحظاتٍ نهجرها فائضين على أماكن يخفّ إليها الطيب والبخور من كل حدب. نحط على هودج الضاحية - تلك التي نتقاذف معها أدوار المودة والعداوة آناء النهار - مرشوشين بماء الورد, ممسوسين بأرواح الحجر, هاتفين: كم هو ضيق عالمنا. ثانيةً نعود إلى البؤرة العارمة, العامرة بما طاب من رقص وقصف وهرج, المضاءة كالنهار. لكن البؤرة أيضاً كانت عامرة بالصمت, صمت المحبين الذين لا يسمعون من بين كل هذا الضجيج غير ما ينسلّ بين الشفاه من غيم أو شهقة, ولا يبصرون من بين كل المرئيات المتداخلة في فوضى غير ما يرفّ بين الأهداب من موج أو زنبقة. هكذا كان حمزة في جهة, وعفاف في جهة أخرى بعيدة بعض الشيء, يختزلان بالنظرات رعشة القلب وخطاب الهوى الأكثر فصاحة وبلاغة من الكلام. وبعض المحبين - مثل منيرة وإبراهيم - يحوكون من رتوق العتمة خلوات يفيئون إليها بعيداً عن الفضول والتطفل. وفي حيز الرقص يدخل أبو مفتاح, سكراناً, يتواثب ومعه تتواثب الأشكال والأجسام, وتتواثب البيوت, غير أن حركاته وإيماءاته - التي يؤديها بجدية تامة - تثير قهقهات الحاضرين. وضاحكاً يميل زكريا ناحية مفتاح هامساً: (أنظر إلى أبيك, يرقص كالقرد". ومفتاح, الذي لا يريد أن يفوّت فرصة النيل منه لإشفاء غليله, يتقهقر متوارياً خلف الأجساد, ومن بين الكتل المتراصة وتلك المتباعدة قليلاً, يصنع لنفسه مكمناً منه يقدر أن يرى الراقصين ومنه أيضاً يقدر - مثل أي قناص ماهر - أن يصوب مقلاعه الذي به يرمي حصاة ثقيلة, حادة الأطراف, تنطلق في سرعة خارقة - حتى أنها لا تصدر صوتاً - لترتطم بالهدف المحدد بإحكام ودقة: ردف والده. يهرب مفتاح ومعه يهرب رفاقه, تلاحقهم آهة طويلة أطلقها أبو مفتاح من فرط الألم. يتراكضون في الطرقات والأزقة ملء حناجرهم صياح وحشي, بدائي, يفاجئون به منيرة وإبراهيم في خلوتهما التي حسبوها آمنة وهما يتناجيان ويتبادلان اللواعج, فيفران مذعورين.. ويفاجئون به كل حيوان غافل أو حشرة تدبّ في كسل.. ويفاجئون به كل نافذة توشك على النوم. وحدها الدقائق تمضي زاحفة, الواحدة بعد الأخرى, في نظام ثابت وصارم لتتساقط كالندف في فضاء الذاكرة. وحدها خلود, المستلقية - في هدوء وطمأنينة - على ملاءة ناصعة البياض, كانت ساهرة مع قمر شبق ينتفض كلما غمّست نهديها العاريين في ضوئه.. ومعاً يجهشان. (37) ليلة العرس ذاتها.. لكن بعد أن تساقطت الدقائق كالندف في فضاء الذاكرة, وتفرقت الحشود تدريجياً آخذةً معها بعضاً من رغد المناسبة ومن فتات سهرة تمنّوا أن تكون خالدة, ولملمت السهرة طقوسها وقرابينها وغادرت المسرح, وخلت الأماكن من روّاد كانوا يجترّون الكلام كلما باغتهم الصمت لحظةً, وعادت - الأماكن - لتتوحد مع نفسها وتستأنف حوارها دونما دخيل, وبعد أن اضطجع مفتاح على فراش غير وثير مع نومٍ قلقٍ أضرم فيه حلماً عصياً تلاه حلم عصيّ آخر ثم اكتفى وتخلى عن المحاولة ومضى يطوف مرهقاً دليله نومٌ قلقٌ في حجيرة مسورّةٍ بالسعف والجريد الذي شُدّ إلى بعضه برباط محكم من الحبال, ومسقوفةٍ بأعمدة من الخشب, أما بابها فمفتوح دائماً ومنه يتسرب ما يتناثر من حمحمات اليقظة وضوضائها. لم يسمع مفتاح - في بادئ الأمر - ما يدور خارج نطاق نومه, فقد كان يستل من بئر عميقة صوراً مبهمة أو مطموسة المعالم يرميها الواحدة بعد الأخرى في دلو أشبه بالهاوية, لكن شظايا من الكلام الغامض راحت تطرق أذنه بإلحاح, والشظايا تتلاحم شيئاً فشيئاً لتصير جُملاً مبتورةً, متوترة, غير أنها مسموعة بوضوح. يفتح عينيه ويظل ماكثاً في رقدته ينصت إلى ما يصله من مشادة كلامية حادة وعنيفة - لم تخرج بعد عما اعتاد عليه - تصدر من أم لا تعود تتدرّع بالصبر أو الحكمة عندما يفيض القهر, وأب يتخضخض فيه الكحول ويعلو زعيقه كلما تعرضت مشيئته لنقض أو نقد. وحدها صيحة أمه - تلك الصيحة اليتيمة, المفاجئة والمبتورة - تجعله يهبّ فزعاً ويهرع إلى الخارج ليراها واقعة على الأرض وخيط من الدم ينبجس من الشفة السفلى, ولا تقو على النهوض فتمكث جالسة.. جريحة ومهانة ومنهوكة, أما أبوه فواقف بلا ندم, بلا رأفة, وجسمه الرخو, المشبّع بالكحول, يتمايل دونما تحكم. ليس بوسع مفتاح لحظتها, وهو في مكانه جامد بلا حراك, غير أن يعبّ الكراهية دفعة واحدة, ويحدج أبيه بنظرة أراد لها أن تفتك به لكنها جعلته يلتفت صوبه بحدّة مباغته ويهدر مشيراً إليه بإصبعه: - وأنت أيضاً, لا أريدك هنا في بيتي.. أخرجا.. هيا أخرجا.. يخطو مفتاح نحو أمه, والحقد يحتدم في صدره, يساعدها على النهوض.. وبلا كلمة, بلا التفاتة, يغادران البيت.. كأنهما إتفقا في لحظة واحدة ولا شعورياً أن يحرماه من كلمة قد تشي نبرتها عن ضعف ما, ومن نظرة قد تفشي عن إستجداء ما. أرادا أن يجرداه من أي إحساس بالغرور والسيطرة, أن يتركاه بلا سلطة. وها هو يتحرك عشوائياً, لا يعرف إلى أين يذهب أو ماذا يفعل.. مثل تائه ضل طريقه. ويشعر بأنه فقد الرغبة في القيام بأية حركة, حتى في النوم. وفي وسط الفراغ الرهيب الذي يحيط به, والذي يفتح أشداقه الجهنمية, يحس فجأة بوحدة هائلة تضغط بكل ثقلها على أنفاسه, فيخرّ على ركبتيه وينخرط في بكاء أشبه بالعويل. (38) الطقس متقلب ويصعب التكهن بأحواله أو الارتهان إلى التقويم المتعارف عليه للفصول. الخريف ليس خريفاً بحتاً, ولا الشتاء. يمكن أن تعرق في يوم من المفترض أن يكون شتوياً. ويمكن للصيف أن يمتد ليبلع الخريف ويحتل بعض فترات الشتاء. تتداخل الفصول وتتجاور المناخات في اليوم الواحد على نحو مربك ومضحك أحياناً.. فمن المناظر المألوفة أن ترى شخصاً يرتدي ملابس خفيفة بينما يرتدي رفيقه أو جاره ملابس ثقيلة. أذكر أن من أسخف الواجبات المدرسية التي كان مدرس الجغرافيا - في المرحلة الإبتدائية - يصر عليها, إلى حد معاقبتنا بقسوة مفرطة إن أهملنا أو سهونا عن تأديتها, هي أن نكتب في دفتر خاص أحوال الطقس كل يوم.. وكم كان ذلك مضجراً وعقيماً. *** ها هو زكريا يظهر في نهاية الزقاق بأعوامه الأربعة عشرة, ووجهه الوسيم الذي يغلّفه - غالباً عندما يكون وحيداً أو مع أمه - بجدية توحي بأنه مستغرق في تفكير عميق بينما هو لا يفكر في شيء أو ربما يستعيد حواراً أو موقفاً ما. وعندما يصادف أحد رفاقه, فإن البشاشة تكسو قسماته, ويصير جسمه الهزيل أكثر خفة وحيوية. وفيما هو يسير الآن - جاداً ورصيناً - يبصر على بعد مسافةٍ إبراهيم واقفاً في موقعه الأثير, مستنداً إلى الجدار ورافعاً رأسه ناحية غرفة منيرة التي تطلّ وبينهما هذه المساحة العمودية الخالية التي يحاولان إختزالها وملأها بأنفاس العشق وخطاب شوق متبادل يزعم الخرس من باب التمويه, لكن مثل أي عاشقين محرومين من الوصل, ومحظورة عليهما الخلوة, لا بد من حضور دخيل مخرّب, هادم للذّة, يفسد نقاوة اللحظة ويفرض الفراق عنوة.. وهذا الدخيل يتمثل في زكريا الذي ما إن تحين من إبراهيم إلتفاتة إليه حتى يعتريه الارتباك ويفرّ من موقعه خشية الفضح. أما منيرة التي تلحظ ما يحدث بقلب واجف فإنها تبتعد سريعاً عن النافذة والرعدة تدبّ في بدنها. وحده زكريا يشعر بسطوته على الكائنين المذعورين, وعلى وضع هش في أساسه, فيختال في مشيته, مزهواً بسلطة - يعرف أنها زائلة - منحه إياها موقف عابر, نافخاً صدره في محاكاة ساخرة لذوي العضلات المفتولة في الحي. *** والزقاق يفضي إلى طريق أوسع يقع في جانب منه دكان أبي أحمد الصغير والذي يشهد الآن مشادة كلامية بين كريم الذي يحلف بأنه دفع ثمن الكوكاكولا, وصاحب الدكان أبي أحمد الذي يصر على أنه لم يستلم منه شيئاً, فيما يدلي نبيل بشهادة مفادها أن كريماً دفع النقود في الوقت الذي كان أبو أحمد مشغولاً بتحدي أحد خصومه في لعبة (الدامة) التي يعشقها, ولهذا ربما اختلط عليه الأمر ولم ينتبه, خصوصاً وأن ذاكرته, مع تقدمه في السن, لم تعد قوية أو موضع ثقة.. غير أن أبا أحمد يرفض في عناد شديد هذه الشهادة المزوّرة بحجة أنهما صديقان ولا بد أن يدافع أحدهما عن الآخر, وأنه ليس الشخص الغشيم الذي يمكن أن تنطلي عليه الحيلة وينخدع بسهولة.. لذا تستمر المشادة. *** والطريق ينفتح على ساحة تُتخذ كموقع أثير للألعاب والاجتماعات, وفي طرف منها الآن يجلس أحمد, إبن صاحب الدكان, على مقعد حجري قرب باب بيت كبير يملكه تاجر عطور باكستاني, ويطل البيت مباشرة على الساحة. حميد, الذي كان قد اقترب من أحمد ووقف قبالته وفي نيته أن يستدرجه للإفشاء بما يدور في اجتماعاته مع أصحابه.. تلبية لطلب سلطان, يحاول أن يظهر للآخر - من خلال وقفته الرزينة وطريقة كلامه المهذبة - أنه جدير بالاحترام وأنه مؤهل للتحاور أو التخاطب مع شاب مثقف يقرأ الكثير من الكتب وله اهتمامات سياسية لا تخفى على أحد, فهو (قومي معروف", حسب الوصف الشائع, وإن كان الكثيرون لا يعرفون معنى هذا الوصف تحديداً, لكن إبتسامة أحمد التي لا تكاد تغادر شفتيه إلا حين يتكلم بتحفظ شديد وبجمل لا تشبع الفضول, هذه الابتسامة كانت تثير غيظ حميد لأنها توحي بالتعالي حيناً, واللامبالاة حيناً آخر. لذلك يخلع حميد قناع الرزانة ويخرج عن دوره المرسوم بفجاجة, وبعد أن كان يسأل أحمد, على نحو مهذب, عن سبب قراءته للكتب وما إذا كان يحصل على المتعة منها, وعن سبب اهتمامه بالسياسة.. فإنه الآن يسأله بفظاظة وعلى نحو أرعن: ما الذي تتحدث عنه, أنت وأصحابك? لم نراكم دائماً تتهامسون سراً? هل تدبرون مؤامرة أو مكيدة لأحد? وأمام هذا السيل الطائش من الأسئلة, يتطلع إليه أحمد مبهوتاً للحظات. وربما فرح حميد لاختفاء تلك الابتسامة المزعجة عن وجه أحمد, وأراد أن يواصل طرح الأسئلة لولا أن إنفجر أحمد ضاحكاً بأعلى صوته, فأربك ذلك حميداً وجعله يحتار في تأويل هذه الضحكة الفجائية, الغريبة, التي راحت تخفت تدريجياً.. عندئذ يسأله أحمد مازحاً: - وهل صرت تعمل مع المخابرات? (المخابرات) كلمة لم يسمع بها من قبل, لذلك لم يفهم ما يعنيه أحمد بالسؤال.. وعندما يرى أحمد حيرته, يسأله ثانية: - من يريد أن يعرف.. أنت أم شخص آخر? - سلطان.. - لم? - يقول أنه لا يحب أن تدور أشياء في هذا الحي ولا يعرف عنها شيئاً.. يغضبه ذلك كثيراً.. - لا بأس.. سأخبره بنفسي.. - لا, أنا من يجب أن يخبره.. لقد طلب مني ذلك.. وإذا لم أفعل فلن يثق بي مرة أخرى. - حسناً, تستطيع أن تخبره بأننا نعد لتحريك مظاهرة سلمية ضد الاستعمار.. - أهذا كل شيء? - نعم.. هذا كل شيء.. ليس الأمر خطيراً.. *** في تلك الأزقة والطرقات والساحات كان بركات المجنون, ينثر فتات جنونه, ويقارع الأحياء بشتائم يرميها جزافاً, أما السماء فيخصّها - بين وقت وآخر - بتحديقة مديدة, يصمت خلالها, كأنه يصغي إلى كلام سماوي. (39) في الخرابة كان مفتاح يحكي والآخرون - حميد, كريم, زكريا, نبيل - يصغون. كان ينزف وهم ينظرون. كان يضع روحه على الجمرات وهم يجفلون كان يغمس أصابعه الصغيرة في هذيان دم حيّ وهم يشهدون. كان مفتاح يروي جهماً ما حدث البارحة وعن طردهما من البيت, هو وأمه, وكيف باتا ليلتهما خارج بوابة المسجد الكبير, بلا فراش ولا لحاف, لأنهما خجلا أن يلوذا بأحد في هذه الساعة. وقتها, ورغماً عنه, ذرف مفتاح دمعة واحدة, دمعة حارقة ألهبت القلب قبل العين, إذ لم يختبر من قبل إذلالاً يساوي هذا في قسوته وبشاعته. ولما عادا فجراً, وجدا أغراضهما مبعثرة عند الباب المقفل. لبعض الوقت, حط في المكان صمت ثقيل, ضاغط على الأنفاس, وكاد أن يطفئ العيون لولا أن صاح كريم مزيحاً هذا الكرب عن صدره: (كل الآباء تيوس". يؤيده حميد: (نعم, إنهم يثأرون من العالم باضطهادنا, كأن في وجوهنا يرون كل ما نالوه من إخفاق وعسف). ويجاريه نبيل: (ماذا لو نهضنا صباحاً ولم نجد آباءنا في العالم, ألن يكون صباحاً جميلاً?" وقبل أن يجيب أحد, يدخل عزوز مصفراً, فيعاجله زكريا بتعليق ساخر: (أما هذا فمستعد, بإشارة واحدة, أن يقذف أباه في التنور). يتعالى الضحك وسط حيرة عزوز الذي يتلفت في حرج ثم يبتسم كما لو يرغب في مشاركتهم الدعابة, والابتسامة تتحول إلى ضحك صاخب. واحد فقط لم يضحك.. فقد كان الوحشي فيه ينهش أحشاءه, رويداً رويداً, قبل أن يخرج من الخفيّ إلى الهيولي, من العدم إلى الهباء. ولو أمعنوا النظر إلى رأسه, رأس مفتاح, لشفّت جمجمته عن رأْب كان يتسع شيئاً فشيئاً. (40) قيل لنا:جنّ مفتاح واقترف الإثم الأكبر. قيل لنا أن الليل لم يكن الليل الذي عهدناه وألفناه بل كان متواطئاً مع الآثم حتى صار درعه ومتراسه وخندقه.. به يحتمي ويستر المعصية التي ينوي ارتكابها, وحيناً يكلّم الليل همساً ثم يمتطيه بخفة من يمتطي بغلةً صديقةً ليدخل فم الجحيم ويعبر المفازة المختومة بالحمم. قيل لنا أن مفتاحاً كان يمشي زائغ العينين, جامد الحواس, مأخوذاً بفتنة الشر. كان مبتلاً حتى قمة رأسه بحليب الجنون, طافحاً بالضلالة, يواكبه عمر من المذلّة والضغينة, وفي كل برهةٍ يرمى شلواً من ضميره, جاهراً بالباطل. وبقبضة مدهونة بالعناد يشدّ على عنان حاضرٍ يجمح كلما بان له قدر متملص كان يراوغه تلك الساعة. قيل لنا أن الجدران كانت تنشج وهي تشم الزيت والكبريت. والأبواب أصابها الذعر فارتجت قليلاً كأنها الشهقة التي ما بعدها شهقة. والكلاب هجست بالفجيعة الآتية فهاجت وهرّت ثم نبحت محذّرة. والحجر نادى السعف: يا سعف جاءك الحريق فأركض إلينا, لا الخشب يحميك ولا الماء يحييك.. تعال إلينا قبل الجريمة, فبعدها لن تكون غير هباء أو محض ذكرى لن تصونها الذاكرة. قيل لنا: لم يكن مفتاح يحتاج إلى أكثر من زجاجةٍ مليئة بزيتٍ سريع الاشتعال وعود ثقاب ليفتح الجحيم شدقيه وتسطع الجريمة.. وليتحول بعدها كل شيء إلى رماد.. البيت الذي كان مفتاح يسكن فيه قبل طرده, والحجرة التي كانت تؤوي وقتذاك أباً مخموراً فاقد الحس والإدراك, والأب الذي - في غفلته الأخيرة - إستباحت النار جسده وحولته إلى كتلة من الفحم, وبيوت مجاورة داهمها الحريق فراحت تولول. قيل لنا: عندما سمعنا العواء الوحشي, الصيحات البدائية القادمة من هاوية سحيقة, تلك التي أطلقها الإنسان الأول, إنسان الحجر, لحظة اندلاع الشرار من حجر الصوّان, معلناً إكتشافه النار لأول مرة.. نهضنا وخرجنا من رغد النوم وطمأنينة المراقد راكضين فرداً فرداً, أو جمعاً جمعاً, صوب مهب النار وعربدة اللهب. وكانت الأرض تركض من تحتنا وتلهث مثلنا. وحين توقفنا مصعوقين, إرتطم بأحداقنا المشهد الفاجع, فما رأينا مفتاحاً بل رأينا كائناً وحشياً إنتحل سحنة وصوت مفتاح وراح يرقص مثل ممسوسٍ لم يعد ينتسب إلينا بل صار يقطن أرخبيل الجنون. (41) صباح طريّ كالجرح, رخو مثل خبز ساخن لم نلتذ بطعمه, وديع مثل وجه مفتاح الذي مرّ في أحلامنا ولم يلتفت إلينا. أخذوه إلى مصح عقلي بعد أن تقاذفته سيارات الشرطة وتكالبت عليه الطرقات المبلطة والوعرة. وعندما ذهبنا لزيارته لم يسمحوا لنا بمقابلته.. قالوا: حالته لا تسمح. سألناهم: وماذا عن حالنا? كيف نلعب وقد انفضّ اللعبُ من حولنا منذ أن فارقنا? كيف نرشق الزوايا بصلصال فوضانا ومفتاح لا يهرول أمامنا رافعاً بيرق العصيان? كيف نضحك والضحك في حدادٍ بعد أن نزحت القهقهة الحلوة? وفي غيابه كيف نتجانس? من ذا الذي سوف يصعد معنا هضاب العمر, بشوشاً كالريح, ويحصي نوى المصادفات عند مغيب كل نهار? من ذا الذي سوف يخوض معنا حقول البحر, باسلاً كالمدّ, وينادم الأفق كلما اختلج الأفق من فرط وحدته الأبدية? من ذا الذي سوف يطوي أسرارنا, سراً سراً, ويخفيها بين الضلوع ليحرسها كل مساء? وهناك, من يسهر عليه, من يحدب عليه, من يرطّب أهدابه بالحنان كلما عنّ له أن يتمادى في العصيان لئلا تنكسر روحه? راح مفتاح وراحت معه تلك الحصى التي تكتظ بها جيوبه. راح عنفه الصغير وتوتراته الغضة. راح صخبه ومقالبه التي لا تعد. راح وترك لنا طيفه الصامت الذي يحث فينا الحزن والحنين. وكم افتقدناه, كم بكينا عليه.. سنخرج الآن من الأبواب, بلا لهفة, غير مبتهجين كما العادة.. غير فاتحين صدورنا لمصادفات تهبّ علينا من كل حدب. (42) جموع حاشدة, من كلا الجنسين ومن كل الأعمار, خرجت من فضاءات بعيدة أو مجاورة وجاءت تعلن تضامنها مع شعوب تناضل من أجل التحرر والاستقلال. من شتى الدروب جاءوا رافعين اللافتات, هاتفين بشعارات رنانة, تقودهم العاطفة والقومية والروح الوطنية. لكن البعض أيضاً كان يشارك من باب الفرجة والفضول وتغيير الروتين ولأن (حشراً مع الناس عيد". وكلما نزحت المظاهرة من حيّ إلى حيّ, ومن موضع إلى آخر أشد اكتظاظاً, استقطبت مشاركين جدداً توارثوا الاحتجاج وانتفاضة الأرغفة جيلاً بعد جيل, وجاءوا مكتنزين بالعافية ومطوقين جباههم بالحماس.. وبهم تزداد المسيرة اتساعا واحتداماً. العتبات الموطوءة ذاهلة إزاء هذا الهدير الفجائي. الحصى يوشك أن يتفتت تحت خطى ثقيلة ومهرولة. المناكب تحتك بالمناكب والروائح تتداخل وتتعالق في اختلاط مربك. وسط إحدى حلقات المظاهرة, كان أحمد يهتف بأعلى صوته داعياً إلى سقوط الاستعمار وأن يعيش جمال عبدالناصر, والآخرون يرددون بالدرجة نفسها من الحماس والانفعال. وكان أمراً يدعو إلى بعض الاستغراب هذا التحوّل في شخصية أحمد من ذاك الهادئ, الرصين, الذي يتحدث في أغلب الأوقات همساً أو بصوت خفيض يشوبه الخجل كما لو يخشى أن يخدش مشاعر محدثه بالكلام, إلى هذا الذي يعتريه الانفعال ويطلق الصوت عالياً وجهْورياً كأنه يريد أن يشق الفضاء بالدويّ. جانباً, وفي حالة من الزهو والتباهي, يقف سلطان متطلعاً إلى المظاهرة العارمة التي اخترقت أزقة حيّ الفاضل وبلغت الساحة في هدير لا يوصف, شاهداً على سطوة الصوت الذي إليه يحتكم الجميع في مباراة لا يحكمها عرف أو قانون, ويتساءل في نفسه: من الذي أعلن هذا اليوم ميعاداً للخروج الجماعي? من الذي حث هذه الجماهير لكي تتجمهر في وقت واحد ثم تزحف وتباغت الطرقات بهتافات جماعية تخفت قليلاً لتعلو ثانية في إيقاع تلقائي لكنه شبه متناسق? إن إحساس سلطان بالزهو لا يأتي بدافع الشعور الوطني العفوي وحده لكن من تصوره بأن هذه المظاهرة ما مرت من هنا إلا اعترافا منها بأهمية ومكانة حيّ الفاضل في رعاية وحماية العناصر الوطنية. أما حميد ورفاقه فقد آثروا الوقوف جانباً والتفرج حتى تمر المظاهرة.. ولم يكن هذا الموقف نابعاً من ضجر أو لا مبالاة, فقد شاركوا - من باب اللهو والطرافة - في عدد من المظاهرات السابقة, هذه الفعالية التي كانوا يرحّبون بها لأنها من جهة تعطّل الدراسة عنوةً, ومن جهة أخرى توفر الإثارة وتكسر العادة أو الروتين, وكل كسر مرحّب به كفعل تمردي فاتن.. لكنهم الآن مستغرقون ذهنياً في نصب كمين محكم لمعاقبة عنبر, ذلك اللوطي الذي يشتهي صديقهم نبيل ويلاحقه كلما رآه وحيداً.. محاولاً إغوائه. وقتها, وقت عبور المسيرة, كان الضحى مثقلاً, مثل الحبلى, بريح سوف تهبّ بعد قليل محملّة ببرودة غير قارسة. (43) عصر ذلك اليوم الذي بدأ يميل إلى البرودة.. البرودة التي تتقرّى الكتل والفراغات وتهب بخفة وسلاسة فتنعش الوجوه لكنها أيضاً تسري, بين الفينة والأخرى, عبر مسامات الجسم فتثير رعشات طفيفة تحث المرء على إلتماس الدفء إما بتعريض البشرة إلى أشعة الشمس الشحيحة آنذاك أو بالإسراع قدر الإمكان إلى ارتداء ملابس إضافية. بعض الغيوم الحدباء, الخجولة, راحت تزحف في تردد وتباطؤ كما لو تدفعها برفق يد خفية وهي تقاوم في ضعف لكن تتحرك على مضض حتى تتخذ مواقع لها في المشهد السماوي. في هذا الوقت نجح نبيل, حسب الخطة المرسومة بإحكام, في إغواء عنبر.. حيث عند مروره قرب الموضع الذي يقف فيه, يتمهل نبيل ويلتفت إليه ما إن يحاذيه مبتسماً له ثم يتابع سيره ويستدرجه إلى الخرابة التي أبعدوا الكلاب عنها كي لا تفسد الكمين. وعندما دخل نبيل الخرابة, ثم دخل عنبر بعد وقت قصير, تحول المكان إلى ما يشبه المسرح المعد لتجسيد فصل متخيّل سلفاً, وينبغي الآن أن يُرتجل حسب ما هو متصور ذهنيا. حميد وعزوز وزكريا وكريم كانوا وقتذاك متوارين بلا حراك في مكان مقابل (كان في ما مضى يُستخدم كغرفة) أكثر إظلاماً وامتلاءً بالغبار, منه يراقبون خلسةً كل ما يجري في مدى البصر وعبر الفراغات في الأمكنة. من خلال الإيماءات والإشارات بالأيدي التي يقوم بها نبيل والآخر, يقرأون المشهد. نبيل يتمكن بعد وقت من إقناع عنبر أن يخلع كل ثيابه وليس بعضها كما كان يرغب, غير أن إندلاع الشهوة في كامل بدنه , وإصرار نبيل على ذلك (وربما تهديده له بعدم الاستجابة إن لم يفعل ذلك) جعلاه يمتثل لرغبة نبيل. على عجل يخلع ثيابه كأنه يستعجل الإثم ليجاريه في الشهوة, وعارياً يقف أمام نبيل ممتشقاً شبقه, شاهراً الرغبة الجامحة التي تنشد الإشباع. من جهة أخرى, يحيّره الآن موقف نبيل السلبي. ربما يجد مبرراً لاضطراب نبيل الذي تورّد خدّاه حياءً وركز بصره بعيداً عن عريه, لكنه لا يستطيع أن يفسّر ما حدث له منذ لحظة, فقد اندفع إلى زاوية وراح يتقيأ. في هذه الدقيقة يشن الرفاق هجومهم, مجتاحين الحيّز بصياح موحّد ومدوٍ, يباغت عنبراً ويجعله يشهق ويجفل ثم يندفع نحو ركن محاولاً الاحتماء دون أن ينتبه إلى عريه. متأخراً, وبعد أن انسحب الأولاد بالسرعة ذاتها التي دخلوا بها, بالاندفاع ذاته وبالصيحات ذاتها, يكتشف عنبر اختفاء ثيابه واختفاء نبيل وعريه الكامل في خرابة مهجورة لا يستطيع مغادرتها. متأخراً, وبعد أن إنزاح عنه رعبه واستعاد شيئاً من الهدوء وشيئاً من الصفاء يكتشف عنبر واهناً أنه كان ضحية مكيدة, وأنه الصياد الذي تحول في غمضة عين إلى فريسة عارية, مذعورة, وكل المسالك أضحت حبائل. صار سجين عري خانته الشهوة.. فيستند إلى جدار مثلّم الأطراف, وبطيئاً ينزلق على الجدار فيتقشر جلد ظهره في أكثر من موضع. وعندما دخل عليه بعض الشباب, بعد أقل من الساعة, وجدوه متكوماً مثل حطام, عارياً يرتجف من البرد ومن الخزي. لم يلتفت إليهم, لم ينبس, بل كوّر جسمه أكثر, وأخفى وجهه بين ركبتيه, وراح يبكي. الغيوم الخجولة كانت قد نزحت, والسماء صارت ملعباً لطائر أو طائرين يتسابقان في المدى ويغمسان منقاريهما في تخم الحقل السماوي فيتضرجان بحمرة الغروب. ثمة يد خفية تسرّج المساء. (44) أدخلهم نبيل بيته الكبير, فأدخل معهم الإنذهال والانبهار والغيرة والحسد. ما رأوا بيتاً بهذه السعة والنظافة والتناسق. كل شيء فيه يوحي بالثراء والأناقة. وقد اضطر زكريا إلى أن يلكز جنب كريم بكوعه ويهمس في أذنه أن يكفّ عن الدوران وأن يغلق فمه الفاغر دهشة.. (فضحتنا.. ماذا سيقولون عنا, لم نر في حياتنا شيئاً كهذا?" (هذا صحيح".. رد كريم هامساً. عبروا الحوش الفسيح, داروا حول شجرة اللوز والنباتات الواطئة وأزهار القرنفل, مرّوا بغرف كثيرة بعضها موصدة الأبواب والأخرى مفتوحة, حتى وجدوا أنفسهم في حجرة نبيل: واسعة, فخمة, مؤثثة بأناقة. فراش وثير من القطن على سرير خشبي, سجّاد فارسي يدغدغ باطن القدم, ستارة ذات لون أزرق فاتح مسدلة على نافذة مغلقة, خزانة ملابس, طاولة وكرسي, حيطان نظيفة وكأنها طليت بالأبيض حديثاً. جلسوا ساعة يتحدثون. ولم يكن عزوز حاضراً معهم, فقد كان كعادته يساعد أباه في الفرن. حدّثهم نبيل عن أخ أكبر منه وأختين أصغر منه. وعندما سأله كريم بسذاجة: من أين لكم كل هذا? رد نبيل ببساطة: أبي تاجر. بعد ساعةٍ خرجوا, وبدراجاتهم الهوائية إخترقوا ردهات الضواحي واهبين جلودهم إلى نفحات الشتاء: رياح حليمة مشبعة بالنداوة. أطلقوا وابلاً من الحصى على حمام كان يتطاير من سطح إلى سطح كلما استوحش البشري وأسرف في العداوة. وجذلين أشاعوا الصياح والأحاديث الصاخبة في جهات جذلة اعتادت أن تبسط المكان للفوضى, وأن تنتخب العرائش للهرج, وتستضيف المرح. ولما عاد نبيل عاد متأبطاً رنين صداقة حلوة وأصداء جدال لم يبدده الوقت بعد, وبرفقة مساء بشوش كان حينذاك يغمس جذوره الطرية في تضاريس حيّ الفاضل. غير أن أمه التي انتظرت عودته بوجه عابس ومزاج عصبي, رمقته بتلك النظرة الحادة, الشزراء, التي تمهّد - عادةً - لسيل من التوبيخ والتهديد, ليس فقط لأنه تأخر في العودة بل ولذنب أكبر, فقد أدخل في البيت - وفي غرفته تحديداً - تلك (الأشكال", أي الحثالة. أما نبيل فكان يصغي في حياد, متظاهراً بالندم والطاعة, عارفاً بالتجربة أن المجابهة لا تجدي.. والطريق ينفتح على ساحة تُتخذ كموقع أثير للألعاب والاجتماعات, وفي طرف منها الآن يجلس أحمد, إبن صاحب الدكان, على مقعد حجري قرب باب بيت كبير يملكه تاجر عطور باكستاني, ويطل البيت مباشرة على الساحة. حميد, الذي كان قد اقترب من أحمد ووقف قبالته وفي نيته أن يستدرجه للإفشاء بما يدور في اجتماعاته مع أصحابه.. تلبية لطلب سلطان, يحاول أن يظهر للآخر - من خلال وقفته الرزينة وطريقة كلامه المهذبة - أنه جدير بالاحترام وأنه مؤهل للتحاور أو التخاطب مع شاب مثقف يقرأ الكثير من الكتب وله اهتمامات سياسية لا تخفى على أحد, فهو (قومي معروف", حسب الوصف الشائع, وإن كان الكثيرون لا يعرفون معنى هذا الوصف تحديداً, لكن إبتسامة أحمد التي لا تكاد تغادر شفتيه إلا حين يتكلم بتحفظ شديد وبجمل لا تشبع الفضول, هذه الابتسامة كانت تثير غيظ حميد لأنها توحي بالتعالي حيناً, واللامبالاة حيناً آخر. لذلك يخلع حميد قناع الرزانة ويخرج عن دوره المرسوم بفجاجة, وبعد أن كان يسأل أحمد, على نحو مهذب, عن سبب قراءته للكتب وما إذا كان يحصل على المتعة منها, وعن سبب اهتمامه بالسياسة.. فإنه الآن يسأله بفظاظة وعلى نحو أرعن: ما الذي تتحدث عنه, أنت وأصحابك? لم نراكم دائماً تتهامسون سراً? هل تدبرون مؤامرة أو مكيدة لأحد? وأمام هذا السيل الطائش من الأسئلة, يتطلع إليه أحمد مبهوتاً للحظات. وربما فرح حميد لاختفاء تلك الابتسامة المزعجة عن وجه أحمد, وأراد أن يواصل طرح الأسئلة لولا أن إنفجر أحمد ضاحكاً بأعلى صوته, فأربك ذلك حميداً وجعله يحتار في تأويل هذه الضحكة الفجائية, الغريبة, التي راحت تخفت تدريجياً.. عندئذ يسأله أحمد مازحاً: - وهل صرت تعمل مع المخابرات? (المخابرات) كلمة لم يسمع بها من قبل, لذلك لم يفهم ما يعنيه أحمد بالسؤال.. وعندما يرى أحمد حيرته, يسأله ثانية: - من يريد أن يعرف.. أنت أم شخص آخر? - سلطان.. - لم? - يقول أنه لا يحب أن تدور أشياء في هذا الحي ولا يعرف عنها شيئاً.. يغضبه ذلك كثيراً.. - لا بأس.. سأخبره بنفسي.. - لا, أنا من يجب أن يخبره.. لقد طلب مني ذلك.. وإذا لم أفعل فلن يثق بي مرة أخرى. - حسناً, تستطيع أن تخبره بأننا نعد لتحريك مظاهرة سلمية ضد الاستعمار.. - أهذا كل شيء? - نعم.. هذا كل شيء.. ليس الأمر خطيراً.. *** في تلك الأزقة والطرقات والساحات كان بركات المجنون, ينثر فتات جنونه, ويقارع الأحياء بشتائم يرميها جزافاً, أما السماء فيخصّها - بين وقت وآخر - بتحديقة مديدة, يصمت خلالها, كأنه يصغي إلى كلام سماوي. (39) في الخرابة كان مفتاح يحكي والآخرون - حميد, كريم, زكريا, نبيل - يصغون. كان ينزف وهم ينظرون. كان يضع روحه على الجمرات وهم يجفلون كان يغمس أصابعه الصغيرة في هذيان دم حيّ وهم يشهدون. كان مفتاح يروي جهماً ما حدث البارحة وعن طردهما من البيت, هو وأمه, وكيف باتا ليلتهما خارج بوابة المسجد الكبير, بلا فراش ولا لحاف, لأنهما خجلا أن يلوذا بأحد في هذه الساعة. وقتها, ورغماً عنه, ذرف مفتاح دمعة واحدة, دمعة حارقة ألهبت القلب قبل العين, إذ لم يختبر من قبل إذلالاً يساوي هذا في قسوته وبشاعته. ولما عادا فجراً, وجدا أغراضهما مبعثرة عند الباب المقفل. لبعض الوقت, حط في المكان صمت ثقيل, ضاغط على الأنفاس, وكاد أن يطفئ العيون لولا أن صاح كريم مزيحاً هذا الكرب عن صدره: (كل الآباء تيوس". يؤيده حميد: (نعم, إنهم يثأرون من العالم باضطهادنا, كأن في وجوهنا يرون كل ما نالوه من إخفاق وعسف). ويجاريه نبيل: (ماذا لو نهضنا صباحاً ولم نجد آباءنا في العالم, ألن يكون صباحاً جميلاً?" وقبل أن يجيب أحد, يدخل عزوز مصفراً, فيعاجله زكريا بتعليق ساخر: (أما هذا فمستعد, بإشارة واحدة, أن يقذف أباه في التنور). يتعالى الضحك وسط حيرة عزوز الذي يتلفت في حرج ثم يبتسم كما لو يرغب في مشاركتهم الدعابة, والابتسامة تتحول إلى ضحك صاخب. واحد فقط لم يضحك.. فقد كان الوحشي فيه ينهش أحشاءه, رويداً رويداً, قبل أن يخرج من الخفيّ إلى الهيولي, من العدم إلى الهباء. ولو أمعنوا النظر إلى رأسه, رأس مفتاح, لشفّت جمجمته عن رأْب كان يتسع شيئاً فشيئاً. (40) قيل لنا:جنّ مفتاح واقترف الإثم الأكبر. قيل لنا أن الليل لم يكن الليل الذي عهدناه وألفناه بل كان متواطئاً مع الآثم حتى صار درعه ومتراسه وخندقه.. به يحتمي ويستر المعصية التي ينوي ارتكابها, وحيناً يكلّم الليل همساً ثم يمتطيه بخفة من يمتطي بغلةً صديقةً ليدخل فم الجحيم ويعبر المفازة المختومة بالحمم. قيل لنا أن مفتاحاً كان يمشي زائغ العينين, جامد الحواس, مأخوذاً بفتنة الشر. كان مبتلاً حتى قمة رأسه بحليب الجنون, طافحاً بالضلالة, يواكبه عمر من المذلّة والضغينة, وفي كل برهةٍ يرمى شلواً من ضميره, جاهراً بالباطل. وبقبضة مدهونة بالعناد يشدّ على عنان حاضرٍ يجمح كلما بان له قدر متملص كان يراوغه تلك الساعة. قيل لنا أن الجدران كانت تنشج وهي تشم الزيت والكبريت. والأبواب أصابها الذعر فارتجت قليلاً كأنها الشهقة التي ما بعدها شهقة. والكلاب هجست بالفجيعة الآتية فهاجت وهرّت ثم نبحت محذّرة. والحجر نادى السعف: يا سعف جاءك الحريق فأركض إلينا, لا الخشب يحميك ولا الماء يحييك.. تعال إلينا قبل الجريمة, فبعدها لن تكون غير هباء أو محض ذكرى لن تصونها الذاكرة. قيل لنا: لم يكن مفتاح يحتاج إلى أكثر من زجاجةٍ مليئة بزيتٍ سريع الاشتعال وعود ثقاب ليفتح الجحيم شدقيه وتسطع الجريمة.. وليتحول بعدها كل شيء إلى رماد.. البيت الذي كان مفتاح يسكن فيه قبل طرده, والحجرة التي كانت تؤوي وقتذاك أباً مخموراً فاقد الحس والإدراك, والأب الذي - في غفلته الأخيرة - إستباحت النار جسده وحولته إلى كتلة من الفحم, وبيوت مجاورة داهمها الحريق فراحت تولول. قيل لنا: عندما سمعنا العواء الوحشي, الصيحات البدائية القادمة من هاوية سحيقة, تلك التي أطلقها الإنسان الأول, إنسان الحجر, لحظة اندلاع الشرار من حجر الصوّان, معلناً إكتشافه النار لأول مرة.. نهضنا وخرجنا من رغد النوم وطمأنينة المراقد راكضين فرداً فرداً, أو جمعاً جمعاً, صوب مهب النار وعربدة اللهب. وكانت الأرض تركض من تحتنا وتلهث مثلنا. وحين توقفنا مصعوقين, إرتطم بأحداقنا المشهد الفاجع, فما رأينا مفتاحاً بل رأينا كائناً وحشياً إنتحل سحنة وصوت مفتاح وراح يرقص مثل ممسوسٍ لم يعد ينتسب إلينا بل صار يقطن أرخبيل الجنون. (41) صباح طريّ كالجرح, رخو مثل خبز ساخن لم نلتذ بطعمه, وديع مثل وجه مفتاح الذي مرّ في أحلامنا ولم يلتفت إلينا. أخذوه إلى مصح عقلي بعد أن تقاذفته سيارات الشرطة وتكالبت عليه الطرقات المبلطة والوعرة. وعندما ذهبنا لزيارته لم يسمحوا لنا بمقابلته.. قالوا: حالته لا تسمح. سألناهم: وماذا عن حالنا? كيف نلعب وقد انفضّ اللعبُ من حولنا منذ أن فارقنا? كيف نرشق الزوايا بصلصال فوضانا ومفتاح لا يهرول أمامنا رافعاً بيرق العصيان? كيف نضحك والضحك في حدادٍ بعد أن نزحت القهقهة الحلوة? وفي غيابه كيف نتجانس? من ذا الذي سوف يصعد معنا هضاب العمر, بشوشاً كالريح, ويحصي نوى المصادفات عند مغيب كل نهار? من ذا الذي سوف يخوض معنا حقول البحر, باسلاً كالمدّ, وينادم الأفق كلما اختلج الأفق من فرط وحدته الأبدية? من ذا الذي سوف يطوي أسرارنا, سراً سراً, ويخفيها بين الضلوع ليحرسها كل مساء? وهناك, من يسهر عليه, من يحدب عليه, من يرطّب أهدابه بالحنان كلما عنّ له أن يتمادى في العصيان لئلا تنكسر روحه? راح مفتاح وراحت معه تلك الحصى التي تكتظ بها جيوبه. راح عنفه الصغير وتوتراته الغضة. راح صخبه ومقالبه التي لا تعد. راح وترك لنا طيفه الصامت الذي يحث فينا الحزن والحنين. وكم افتقدناه, كم بكينا عليه.. سنخرج الآن من الأبواب, بلا لهفة, غير مبتهجين كما العادة.. غير فاتحين صدورنا لمصادفات تهبّ علينا من كل حدب. (42) جموع حاشدة, من كلا الجنسين ومن كل الأعمار, خرجت من فضاءات بعيدة أو مجاورة وجاءت تعلن تضامنها مع شعوب تناضل من أجل التحرر والاستقلال. من شتى الدروب جاءوا رافعين اللافتات, هاتفين بشعارات رنانة, تقودهم العاطفة والقومية والروح الوطنية. لكن البعض أيضاً كان يشارك من باب الفرجة والفضول وتغيير الروتين ولأن (حشراً مع الناس عيد". وكلما نزحت المظاهرة من حيّ إلى حيّ, ومن موضع إلى آخر أشد اكتظاظاً, استقطبت مشاركين جدداً توارثوا الاحتجاج وانتفاضة الأرغفة جيلاً بعد جيل, وجاءوا مكتنزين بالعافية ومطوقين جباههم بالحماس.. وبهم تزداد المسيرة اتساعا واحتداماً. العتبات الموطوءة ذاهلة إزاء هذا الهدير الفجائي. الحصى يوشك أن يتفتت تحت خطى ثقيلة ومهرولة. المناكب تحتك بالمناكب والروائح تتداخل وتتعالق في اختلاط مربك. وسط إحدى حلقات المظاهرة, كان أحمد يهتف بأعلى صوته داعياً إلى سقوط الاستعمار وأن يعيش جمال عبدالناصر, والآخرون يرددون بالدرجة نفسها من الحماس والانفعال. وكان أمراً يدعو إلى بعض الاستغراب هذا التحوّل في شخصية أحمد من ذاك الهادئ, الرصين, الذي يتحدث في أغلب الأوقات همساً أو بصوت خفيض يشوبه الخجل كما لو يخشى أن يخدش مشاعر محدثه بالكلام, إلى هذا الذي يعتريه الانفعال ويطلق الصوت عالياً وجهْورياً كأنه يريد أن يشق الفضاء بالدويّ. جانباً, وفي حالة من الزهو والتباهي, يقف سلطان متطلعاً إلى المظاهرة العارمة التي اخترقت أزقة حيّ الفاضل وبلغت الساحة في هدير لا يوصف, شاهداً على سطوة الصوت الذي إليه يحتكم الجميع في مباراة لا يحكمها عرف أو قانون, ويتساءل في نفسه: من الذي أعلن هذا اليوم ميعاداً للخروج الجماعي? من الذي حث هذه الجماهير لكي تتجمهر في وقت واحد ثم تزحف وتباغت الطرقات بهتافات جماعية تخفت قليلاً لتعلو ثانية في إيقاع تلقائي لكنه شبه متناسق? إن إحساس سلطان بالزهو لا يأتي بدافع الشعور الوطني العفوي وحده لكن من تصوره بأن هذه المظاهرة ما مرت من هنا إلا اعترافا منها بأهمية ومكانة حيّ الفاضل في رعاية وحماية العناصر الوطنية. أما حميد ورفاقه فقد آثروا الوقوف جانباً والتفرج حتى تمر المظاهرة.. ولم يكن هذا الموقف نابعاً من ضجر أو لا مبالاة, فقد شاركوا - من باب اللهو والطرافة - في عدد من المظاهرات السابقة, هذه الفعالية التي كانوا يرحّبون بها لأنها من جهة تعطّل الدراسة عنوةً, ومن جهة أخرى توفر الإثارة وتكسر العادة أو الروتين, وكل كسر مرحّب به كفعل تمردي فاتن.. لكنهم الآن مستغرقون ذهنياً في نصب كمين محكم لمعاقبة عنبر, ذلك اللوطي الذي يشتهي صديقهم نبيل ويلاحقه كلما رآه وحيداً.. محاولاً إغوائه. وقتها, وقت عبور المسيرة, كان الضحى مثقلاً, مثل الحبلى, بريح سوف تهبّ بعد قليل محملّة ببرودة غير قارسة. (43) عصر ذلك اليوم الذي بدأ يميل إلى البرودة.. البرودة التي تتقرّى الكتل والفراغات وتهب بخفة وسلاسة فتنعش الوجوه لكنها أيضاً تسري, بين الفينة والأخرى, عبر مسامات الجسم فتثير رعشات طفيفة تحث المرء على إلتماس الدفء إما بتعريض البشرة إلى أشعة الشمس الشحيحة آنذاك أو بالإسراع قدر الإمكان إلى ارتداء ملابس إضافية. بعض الغيوم الحدباء, الخجولة, راحت تزحف في تردد وتباطؤ كما لو تدفعها برفق يد خفية وهي تقاوم في ضعف لكن تتحرك على مضض حتى تتخذ مواقع لها في المشهد السماوي. في هذا الوقت نجح نبيل, حسب الخطة المرسومة بإحكام, في إغواء عنبر.. حيث عند مروره قرب الموضع الذي يقف فيه, يتمهل نبيل ويلتفت إليه ما إن يحاذيه مبتسماً له ثم يتابع سيره ويستدرجه إلى الخرابة التي أبعدوا الكلاب عنها كي لا تفسد الكمين. وعندما دخل نبيل الخرابة, ثم دخل عنبر بعد وقت قصير, تحول المكان إلى ما يشبه المسرح المعد لتجسيد فصل متخيّل سلفاً, وينبغي الآن أن يُرتجل حسب ما هو متصور ذهنيا. حميد وعزوز وزكريا وكريم كانوا وقتذاك متوارين بلا حراك في مكان مقابل (كان في ما مضى يُستخدم كغرفة) أكثر إظلاماً وامتلاءً بالغبار, منه يراقبون خلسةً كل ما يجري في مدى البصر وعبر الفراغات في الأمكنة. من خلال الإيماءات والإشارات بالأيدي التي يقوم بها نبيل والآخر, يقرأون المشهد. نبيل يتمكن بعد وقت من إقناع عنبر أن يخلع كل ثيابه وليس بعضها كما كان يرغب, غير أن إندلاع الشهوة في كامل بدنه , وإصرار نبيل على ذلك (وربما تهديده له بعدم الاستجابة إن لم يفعل ذلك) جعلاه يمتثل لرغبة نبيل. على عجل يخلع ثيابه كأنه يستعجل الإثم ليجاريه في الشهوة, وعارياً يقف أمام نبيل ممتشقاً شبقه, شاهراً الرغبة الجامحة التي تنشد الإشباع. من جهة أخرى, يحيّره الآن موقف نبيل السلبي. ربما يجد مبرراً لاضطراب نبيل الذي تورّد خدّاه حياءً وركز بصره بعيداً عن عريه, لكنه لا يستطيع أن يفسّر ما حدث له منذ لحظة, فقد اندفع إلى زاوية وراح يتقيأ. في هذه الدقيقة يشن الرفاق هجومهم, مجتاحين الحيّز بصياح موحّد ومدوٍ, يباغت عنبراً ويجعله يشهق ويجفل ثم يندفع نحو ركن محاولاً الاحتماء دون أن ينتبه إلى عريه. متأخراً, وبعد أن انسحب الأولاد بالسرعة ذاتها التي دخلوا بها, بالاندفاع ذاته وبالصيحات ذاتها, يكتشف عنبر اختفاء ثيابه واختفاء نبيل وعريه الكامل في خرابة مهجورة لا يستطيع مغادرتها. متأخراً, وبعد أن إنزاح عنه رعبه واستعاد شيئاً من الهدوء وشيئاً من الصفاء يكتشف عنبر واهناً أنه كان ضحية مكيدة, وأنه الصياد الذي تحول في غمضة عين إلى فريسة عارية, مذعورة, وكل المسالك أضحت حبائل. صار سجين عري خانته الشهوة.. فيستند إلى جدار مثلّم الأطراف, وبطيئاً ينزلق على الجدار فيتقشر جلد ظهره في أكثر من موضع. وعندما دخل عليه بعض الشباب, بعد أقل من الساعة, وجدوه متكوماً مثل حطام, عارياً يرتجف من البرد ومن الخزي. لم يلتفت إليهم, لم ينبس, بل كوّر جسمه أكثر, وأخفى وجهه بين ركبتيه, وراح يبكي. الغيوم الخجولة كانت قد نزحت, والسماء صارت ملعباً لطائر أو طائرين يتسابقان في المدى ويغمسان منقاريهما في تخم الحقل السماوي فيتضرجان بحمرة الغروب. ثمة يد خفية تسرّج المساء. (44) أدخلهم نبيل بيته الكبير, فأدخل معهم الإنذهال والانبهار والغيرة والحسد. ما رأوا بيتاً بهذه السعة والنظافة والتناسق. كل شيء فيه يوحي بالثراء والأناقة. وقد اضطر زكريا إلى أن يلكز جنب كريم بكوعه ويهمس في أذنه أن يكفّ عن الدوران وأن يغلق فمه الفاغر دهشة.. (فضحتنا.. ماذا سيقولون عنا, لم نر في حياتنا شيئاً كهذا?" (هذا صحيح".. رد كريم هامساً. عبروا الحوش الفسيح, داروا حول شجرة اللوز والنباتات الواطئة وأزهار القرنفل, مرّوا بغرف كثيرة بعضها موصدة الأبواب والأخرى مفتوحة, حتى وجدوا أنفسهم في حجرة نبيل: واسعة, فخمة, مؤثثة بأناقة. فراش وثير من القطن على سرير خشبي, سجّاد فارسي يدغدغ باطن القدم, ستارة ذات لون أزرق فاتح مسدلة على نافذة مغلقة, خزانة ملابس, طاولة وكرسي, حيطان نظيفة وكأنها طليت بالأبيض حديثاً. جلسوا ساعة يتحدثون. ولم يكن عزوز حاضراً معهم, فقد كان كعادته يساعد أباه في الفرن. حدّثهم نبيل عن أخ أكبر منه وأختين أصغر منه. وعندما سأله كريم بسذاجة: من أين لكم كل هذا? رد نبيل ببساطة: أبي تاجر. بعد ساعةٍ خرجوا, وبدراجاتهم الهوائية إخترقوا ردهات الضواحي واهبين جلودهم إلى نفحات الشتاء: رياح حليمة مشبعة بالنداوة. أطلقوا وابلاً من الحصى على حمام كان يتطاير من سطح إلى سطح كلما استوحش البشري وأسرف في العداوة. وجذلين أشاعوا الصياح والأحاديث الصاخبة في جهات جذلة اعتادت أن تبسط المكان للفوضى, وأن تنتخب العرائش للهرج, وتستضيف المرح. ولما عاد نبيل عاد متأبطاً رنين صداقة حلوة وأصداء جدال لم يبدده الوقت بعد, وبرفقة مساء بشوش كان حينذاك يغمس جذوره الطرية في تضاريس حيّ الفاضل. غير أن أمه التي انتظرت عودته بوجه عابس ومزاج عصبي, رمقته بتلك النظرة الحادة, الشزراء, التي تمهّد - عادةً - لسيل من التوبيخ والتهديد, ليس فقط لأنه تأخر في العودة بل ولذنب أكبر, فقد أدخل في البيت - وفي غرفته تحديداً - تلك (الأشكال", أي الحثالة. أما نبيل فكان يصغي في حياد, متظاهراً بالندم والطاعة, عارفاً بالتجربة أن المجابهة لا تجدي.. (51) دقائق بعد الخيوط الزرقاء الأولى التي أرسلها فجر جذل - قادم من جهة ملبّدة برياح لا تعرف أين تهب, تحفّ به نجوم بحجم ذرات الغبار.. كأنه مبعوث سماوي يفتتح النهار بسيل من العطايا وسيل من الكوارث على حد سواء - إنطلق من بيت العامر صوت رجل كان يصيح موبخاً ومتوعداً, وفي الوقت نفسه يخدش حنجرته بالزعيق المسنّن, ولم يكن صعباً التعرّف على هوية الزاعق: حمدان. ورافق هذا الصياح صوت أنثوي متوسل يستجدي الرأفة ويدعو إلى نبذ العصبية ومعالجة الأمر بحكمة, غير أن صوتها - الذي يكشف عن هوية صاحبته: زوجة حمدان - يبدو باهتاً, متقطعاً, يصل إلى حد الرتابة في وضع متفجر, الغلبة فيه للصراخ لا الحكمة. ووسط الزعيق الذكوري والاستجداء الأنثوي, يعلو ويهبط بكاء أنثوي أكثر شباباً تقطعه آهات ألم غير متواصلة, صادرة من فتاة يبدو أنها تتعرض لضرب غير منتظم من شخص غاضب ومقهور. ولم يكن عسيراً التيقن من هوية هذه العالقة بين الصرخة وظلها: خلود. الصباح السكران جاء متخماً بالمواعيد والمصادفات السعيدة والتعيسة, وبالمقالب أيضاً, ناثراً كل هذا على العتبات وفي المنعطفات. وكان حبَاب الفجر عالقاً على أطراف الصباح الجوّال بلا غاية عندما سرت ما كنا نظن لوهلةٍ أنها مجرد إشاعة سخيفة أو مزحة إخترعتها مخيلة مخمورة أو مخبولة, لكن الخبر راح ينتشر إنتشار الفضيحة في أرض ظامئة إلى الفضيحة. بلا أجنحة كان الخبر يمضي محلقاً من بيت إلى بيت, ومن زقاق إلى زقاق, والممرات كلها مفتوحة أمام حدث قد يغسل أنحاءها بحفنة من الإثارة أو حفنة من الطرافة. كل شيء بدأ همساً في بيت حمدان العامر: (خلود حبلى يا حمدان". قالتها زوجة حمدان همساً وبصوت راعش مسكون بالذهول والخوف في آن. (ماذا?" رد حمدان همساً أيضاً, كأنه لم يسمع جيداً أو كأنه لم يصدق ما سمعه أو كأنه شعر بأن ما قيل ينذر بخراب هائل. (خلود حبلى يا حمدان" كررت زوجته القول بالنبرة ذاتها, بالرعشة ذاتها, بالذهول والخوف ذاتهما. وطفقت تحملق في وجهه, متوقعة في أية لحظة إنفجاراً شديداً سوف يطيح بكل أركان البيت, كأن وجهه صار حقل ألغام قابل للإنفجار مع ضغط واحد بالإصبع على البشرة المشدودة, المحتقنة شيئاً فشيئاً, والتي يحتدم تحتها مركّب في غاية التعقيد من المشاعر والإنفعالات. وما كان همساً صار زوبعة مع حلول الضحى (الوقت الراكض على عجل من جهة مبتلة بأنداء أحلام زائلة إلى جهة تهيئ المجهول من الأحداث).. فقد مسّ الهبوب - هبوب المفاجأة - كل من جاور بيت العامر أو كان قريباً منه أو مرّ صدفةً أمامه. ومن لم يشهد ذلك, على نحو مباشر, راح ينسج ما يحلو له من تآويل. الإستجابات تدرجت - كالعادة - من الشعور بالصدمة إلى الدهشة والذهول إلى محاولة تفسير ما حدث.. وفي حالة خلود والحمل المباغت, الصاعق, فقد كان السؤال الأبرز, الأكثر إلحاحاً, الأكثر إثارة للقلق, لكن أيضاً الأكثر تحريضاً على الدعابة الشيطانية: من فعل هذا بالمسكينة خلود? كيف يمكن لأي رجل أن يقترف هذا الفعل الإجرامي, الشائن, بفتاة صغيرة, ساذجة وبريئة, معوقة عقلياً ولا تعي ما يدور حولها? لا بد أنه وغد ونذل, ويستحق الرجم.. هذا مما لا شك فيه, وليس موضع جدل أوخلاف, لكن من يكون? (من يكون?" صار سؤالا حافلاً بالإرتياب والخبث والمكر, صار تمهيداً لاتهام أحدٍ ما.. أي أحد. وفي بعض الحالات لم تكن الأدلة والقرائن مهمة, يكفي أنه قال مرةً تعليقاً ذا إيحاء جنسي عن خلود, أو أبدى ملاحظة عابرة بشأنها أو شوهد يكلمها أو يمازحها.. وهذا يعني, باختصار, أن كل رجل - شاباً أو شيخاً - وكل مراهق بات موضع إتهام أو موضع ارتياب حتى لو أقسم بأنه غير مذنب. وكل زوجة بدأت ترمق زوجها بنظرة مليئة بالشك, وكل أم راحت تستجوب أبناءها المراهقين أو البالغين العزاب. وكل ذكر راح يدفع عن نفسه التهمة بجدية وحماس وانفعال, ويحاول أن يثبت براءته في جناية لم يرتكبها. حتى حميد شعر برجفة تسري في عروقه عندما تراءى له, في لحظة تأمل, أنه قد يكون مسؤولاً عما حدث.. رغم أنه لم يرتكب سوى جناية إستدراجها يوماً إلى الخرابة, وقد هربت بمجرد أن لمس النهد, إذن يستحيل أن تحبل منه.. وهو لا يتذكر أنه تحرّش بها في أي يوم آخر. لكن ماذا لو أخبرتهم هي بما حدث ذلك اليوم? مجنونة وتفعلها.. عندئذ سوف يتعرض للإدانة. إذن لا بد أن ينصحها بالسكوت, أن يحتال عليها بطريقة ما كي لا تذكر شيئاً عنه.. لكن كيف? غير أن الأكثر عرضة للإدانة, والذي إليه تتوجه - من حين إلى حين - أصابع الإتهام وسهام الريبة والظن, كان حمدان العامر. وهو يعي ذلك, يحسه, يشمه, يراه ماثلاً في كل مقلة.. ولا يعرف كيف يصده, كيف يدافع عن نفسه ويحميها. أحضر المصحف وأقسم أنه برئ. لكن حتى زوجته بدأت ترسل إليه, في استحياء وبحذر - نظرات حائرة, قلقة, يشوبها شيء من الظن. بم يتدرع?.. (هي تعيش في كنفه, تحت رعايته وعنايته, إذن هو مسؤول عن كل ما يحدث لها. ومن يدري, ربما وسوس له الشيطان فاشتهاها في لحظة ضعف. كل شيء جائز".. لا بد أنهم يقولون ذلك وما هو أخطر. آه, ليت ذلك كان محض كابوس, حلماً شنيعاً سوف يزول بمجرد أن يصحو.. لكن متى? أما خلود, التي ربطت الحيّ من أوله إلى آخره بوثاق الذهول وأشعلت فيه البلبلة والإنشقاق.. تلك التي كانت بلا حضور - بل محض روح عابرة - فأضحت محور المجالس, والاسم الذي تتمتم به الشفاه, وأمست الرئة التي من خلالها يتنفس الحي.. تلك التي راحت تصقل سطح مرآتها باسمةً غير آبهة لمن يلملم نثار الفضيحة للمنادمة, أو لأولئك الذين يتقاذفون الإرتياب ويخوضون في الباطل خوض الجاهل في الجهالة.. فبعد أن نالت من ضربات وشتائم السيد ما نالت, ونالت من تقريع وغضب السيدة ما نالت, إنسحبت خلود إلى غرفتها الصغيرة دامعة العينين, تشيّعها ما حاكته من إلتباس. وأول ما فعلت بعد أن أغلقت وراءها الباب أن وضعت راحتها على بطنها وراحت تمسح بلطف ودعة كما لو تلاطف من خلال الغشاء الشفيف جنيناً لم يتكوّن بعد.. إذّاك أطلقت الضحكة الطفولية, الجذلى, البريئة من أي إثم. وحده القمر, في مساء يغسل زغبه بالأنداء ويهيء أقنعته للعب, يطل من شرفته اللامرئية حانياً على المفتونة به, ناثراً العذوبة على المرقد الذي إصطفاه من بين كل المراقد, حيث تتمرغ خلود في ريش النعمة سعيدةً ومنتشيةً. القمر.. نديم الأرض الذي لا نديم له, هذا الساطع الذي يتقمص الأشكال مع كل رفة هدب: هو الرغيف في نظر الجائع, الكرة في نظر الطفل, الدرهم الفضي في نظر المحتاج, وجه الحبيبة في نظر المتيّم.. هو الذي ينحني الآن إنحناءة معشوق وسيم, متدثراً بغلالة من ضوء, واهباً الحالمة - التي تتواثب فرحةً في حلم فارع - ما يعوزها وقتذاك من حنان ومن ترف. لكن كيف له أن يسعفها في الصحو, وبعد أن يحجبه النهار الغيور? وخلود حائرة من ردود فعل الآخرين, لا تعلم لماذا هم غاضبون إلى هذا الحد? ولماذا لا يصدقون ما تقول? (نصدق ماذا, أيتها المخبولة? أن القمر هو الذي نام معك, في فراشك, وهو الذي بذر في بطنك نواة الخطيئة?" لماذا يضربون كفاً بكف: (ما هذا الذي نسمعه? جاءك في الحلم? في الحلم حدث كل هذا? إنها حقاً مجنونة". لماذا يصرخون: (إسمعي أنت.. كفّي عن هذه المزاعم واخبرينا.. من هو?" ظل الفاعل مجهولاً, ولم يشك أحد - حتى لو ذرّة شك - في القمر.. بل أطلقوا القهقهات المدوّية, وصار القمر هدفاً للنكت والتعليقات الساخرة التي لا تخلو من بذاءة.. لكن هذا لم يمنع النساء, العواقر والعوانس خصوصاً, من صعود الأسطح خفيةً, عندما يكتمل القمر ويتحول إلى قرص مشع ينبض شهوةً.. وهناك, تحت الضوء العابر فضاء الغيب, وعلى فراش منمنم بالغواية, يتمددن باباحية ويشرّعن أثداءهن ويفتحن الآهة والأنين أمام الطعنات العذبة لنصال كالبراعم, ضارعات لعل القمر الرحيم يدفق بذاره في المكامن الأكثر غوراً ويوقظ الخصوبة في حقل مسّه الجفاف منذ أن مسّه الإهمال أو الهجر. ومثلما يلتئم الجرح بعد وقت, كذلك الفضيحة إلتأمت بعد وقت. وعادت الأمور كما كانت قبل تلك الهزّة, قبل تلك الصدمة, فيما عدا أن كل ذكر أصبح مذنباً وبريئاً في الوقت ذاته.. أما خلود, فقد راحت تهيئ نفسها لأمومة غامضة. (52) بنظراته الوديعة مثل صباح وديع, بابتسامته التي تبعث على الطمأنينة, بنبراته الواثقة الهادئة, الأقرب إلى الهمس, كان أحمد - من غير قصد - يغوي حميداً لكي يمكث معه وقتاً أطول, ويستدرجه إلى الإصغاء باهتمام أشد. ربما صعبٌ على حميد أن يهضم ويستوعب كل ما يقوله, غير أنه - وقتذاك - كان يبيح حواسه كلها لكلام يتغلغل فيه حافراً مجراه في تلافيف دماغ يمنح الكلام ما يلائمه من تأويل. يعرف أن أحمد, بجديته ورزانته, لا يهرق الكلام عبثاً, وأنه يعني ما يقول. ليس ثرثاراً ولا مدعياً. لا يترفع عن الآخرين متباهياً بعلمه وثقافته, بل يحترم الجميع.. حتى أولئك الذين يتهكمون عليه أحياناً ويقولون عنه (بائع كلام". لقد اعتاد الأميّون النظر إلى المثقفين, وحتى المتعلمين, بوصفهم يمثلون تلك الشريحة من المتغطرسين الأدعياء الذين يتفاخرون بعلمهم ويتباهون بتفوقهم فيدفعهم الزهو والغرور إلى التعالي وعدم الإندماج إلا ضمن نخبة محدودة التكوين لها اهتماماتها وطموحاتها الخاصة. أما أحمد فقد كان يعي هذه الفجوة ويحاول أن يخلق مع الآخرين علاقة قائمة على الإحترام والبساطة في التعامل, مذكراً إياهم - في سلوكه وأحاديثه - بأنه ليس مختلفاً ولا متميزاً, وأن تواضعه ليس زائفاً. ]لا أدري لماذا كنت أتخيله في هيئة فارس مدجّج, يلمع على صدره درع فضّي, وعلى رأسه يضع خوذة تشبه خوذ المحاربين الرومان, وهو يمتطي صهوة جواد أصهب مزهو بسرجه المزركش ويحمحم على الدوام. من حوله وخلفه لفيف من فرسان أقل بهاء وأبّهة لكن عضلاتهم الصلبة تنزّ بأساً وبسالة, وهم يحملون بيارق ملونة. لا أعرف إلى أين هم ماضون, وماذا يريدون, وما إذا كانوا ذاهبين إلى فتح أو إلى نجدة. لكن الصورة بذاتها كانت أخاذة إلى حد أنها إستحوذت عليّ لفترة من الوقت: كانت الجياد تعدو خببا وهي تطرق بحوافرها أديم الأرض فتثير من حولها الغبار العارم.[ من أحمد فهم حميد أن البلاد, وأن المجتمع, وأن حتى الحيّ نفسه, منقسم إلى طبقات, والطبقة المسيطرة هي المهيمنة إقتصادياً, والذين يملكون المال والنفوذ يستغلون ويضطهدون الذين لا يملكون, وأن هذه الطبقات في صراع مستمر حتى يتحرر المستضعفون وتكون لهم الغلبة في النهاية. عزوز وزكريا لم يفهما ما يقوله حميد. كريم أعجبه الكلام وأراد أن يستوضح عن المزيد.. بل أن حماسه للفكرة حثه على أن يصنّف من يصادفه من سكان الحي إلى مستغل ومستغل, فكان يحسن معاملة الأول, ويشتم الآخر.. الحائر الذي لا يعرف سبباً لانفعال كريم المفاجئ. أما علاقة حميد ونبيل, المتوترة أصلاً, فقد اتخذت بعداً آخر.. بعداً سياسياً واقتصادياً. لقد أدرك أن العداء - في جوهره - طبقي, وليس شخصياً أو بسبب إختلاف في السلوك والطبائع. وهو لم يعد الآن يكتفي بتجاهل نبيل في المدرسة بل راح يناصبه العداء الصريح ويتهمه بمحاولة استغلال إخوانه الفقراء, ويحرّض الآخرين على مقاطعته وعدم إعطائه أي فرصة للتحكم فيهم. (53) كانوا عائدين من جولة مرتجلة بالدراجات الهوائية خارج محيط الحيّ - حميد وكريم وعزوز وزكريا - بعد أن فاجأوا المناطق المتاخمة بعبور صاخب لكن بلا ضغينة, وفي رئات الجوار أشاعوا الطيش وجعلوا صياحهم يرتطم بالأماكن التي يمرون بها فيضرّجها بالدويّ والصدى. والدراجات - المعفّرة عجلاتها بما تضرجت بها الأرض من تراب وطين وسماد - كانت تختزل المسافات وتختم الطرقات المبلطة والوعرة بأختام محتدمة لكن سريعة الزوال. كان الوقت عصراً عندما عادوا مارين بالدروب الأليفة, مسرفين في التهوّر, جاهرين بما يجهر به مراهقون يرضعون العصيان والعناد من ثدي الصباح. وعند منعطف, يصل الزقاق بالزقاق, يحدث ماهو متوقع - بتدبير ماكر من الصدفة - عندما يلتقي التهور بالغفلة, أو الرعونة بالشرود: ففي إندفاع حميد ورفاقه من خلفه بدراجاتهم السريعة حتى نهاية الزقاق بلا حذر, باغتهم ظهور الخادم الباكستاني - الذي يعمل في منزل تاجر العطور - ومن شدّة الفجاءة لم يستطع حميد أن يتحكم في دراجته بحيث يكبح عجلاتها أو يغيّر مسارها بل تركها تصطدم بالرجل. الخادم الذي أفزعته المباغتة طرحه الارتطام على الأرض. حميد الذي أفزعه الحادث وقع مع دراجته على الأرض. الرفاق الذين أفزعهم احتمال تعرض حميد للإصابة كبحوا إندفاعة دراجاتهم في الوقت المناسب. الخادم يتلفت مبهوتاً, إصابته تبدو طفيفة إذ لا يشعر سوى بوجعٍ في الركبة اليسرى. حميد لم يصب بأذى. بعد أن حدّق في وجه ضحيته ليتعرف على ردة فعله, إلتفت إلى دراجته ليرى مدى الضرر الذي لحق بها. الرفاق الذين زال عنهم الخوف والإرتباك سريعاً, راحوا يتطلعون إلى حميد وإلى الخادم, وبدا لهم المشهد هزلياً الآن فأطلقوا الضحك الصاخب.. هذا الضحك آذى الخادم أكثر من الإصطدام فقد اعتبره سخرية غير لائقة وإهانة لشخصه, وهذا جعله يوجّه نظرة حاقدة صوب حميد, المسؤول عن كل هذا, ولم يوفر المزيد من الوقت للتفكير أكثر في الأمر بل نهض على عجل وتحرك نحو حميد الذي لا يزال جالساً على الأرض قرب دراجته يبتسم في ارتباك, وقبل أن يعي ما يحدث تلقى صفعة شديدة على خدّه أذهلته وشلّت حركته وتفكيره معاً. ولما رأى الخادم رفاق حميد يندفعون نحوه ليثأروا منه خاف وهرب عائداً إلى منزل تاجر العطور, تلاحقه الشتائم والتهديدات, لكن لم يتمكنوا من اللحاق به. كان يمكن للحادث أن يمر على نحو عادي مثل عشرات الحوادث المشابهة, المرشحة للنسيان بعد وقوعها مباشرة دون أن تفضي إلى نتائج سلبية مثلما صار بعد أن استبدت بي رغبة شيطانية في الانتقام من هذا الشخص ورؤيته يتخبط أمامي على الأرض مضرجاً بالدم. لم تكن المرة الأولى والوحيدة التي تلقيت فيها صفعة أو لكمة, لكن لسببٍ لا أعرفه أو بالأحرى لا أتذكره الآن, شعرت وقتها بإهانة لا يمكن تجاوزها أو التسامح معها.. والرغبة الشيطانية تحتدم, ولا أحد قادر أن يشبع هذه الرغبة ويروي ظمأي إلى الثأر غير حمزة.. أخي. وحمزة كان يصغي, في انفعال ظاهر, إلى ما أسرده عن الحادث مع شيء من المبالغة في محاولة, حققت نجاحاً فورياً, لتأجيج الغضب بداخله. ودون أن يعلّق أو يتيقّن من صحة كلامي, مضى ليكمن قرب منزل تاجر العطور, مترقباً خروج الخادم, ومعه يكمن الشر ونيّة مضمرة للإيذاء تعلن عن نفسها صراحةً بحمله قنينة فارغة يؤرجحها كما لو يهدّد بها شخصاً يراه بخياله فقط. وكنت حينذاك واقفاً بعيداً أرقب في توتر لم أستطع إخفاءه خروج المنذور إلى العقاب. وإذا كانت أصابع يدي ترتجف قليلاً فذلك بسبب الاستثارة لا الخوف. ولما خرج الخادم أخيراً من ملاذه الآمن وجد نفسه هدفاً لهجوم مباغت شنّه حمزة الذي إنطلق في سرعة, رافعاً القنينة, ومندفعاً نحو الرجل الذي صعقته المفاجأة وشلّه الذعر فيما القنينة ترتفع لتهوي بقوة على جبينه, دون أن يقدر على صدّها أو تفاديها, فينفتح في الجبين شق ينبجس منه دم مذعور. لم أكن بحاجة إلى وقت طويل كي أندم على ما اقترفت, ليس على ما ناله الخادم من ضربة جعلته يدور حول نفسه كالدائخ واضعاً يده الملطخة بالدم على شقّ لا يكفّ عن النزف فيما صراخه يتعالى ويربك السكينة التي كانت رابضة قبل لحظات من الحدث. لم يثر - وقتذاك - شفقتي, بالأحرى كنت منتشياً بالثأر وأنا أرقب في إمعانٍ القصاص العادل وما يبعثه فيّ من لذّة. لكن ندمت فيما بعد على المحنة التي حشرت أخي حمزة في جوفها. دفعته - دونما تبصّر - نحو طريق شائك لن يقدر على عبوره إلا دامي النفس.. فقد إضطر إلى الإحتماء بما يحتمي به الطريد, والاختباء في أماكن ظن أن أحداً لن يصل إليه, وذلك بعد أن صمّم تاجر العطور على تقديم بلاغ إلى الشرطة ضده, رغم الوساطات العديدة التي تحركت لاحتواء الأمر في أضيق نطاق, وكاد أن يفعل ذلك لولا تدخل إمام مسجد الفاضل, هذا الذي لا يُرد له طلب.. خصوصاً وأن إصابة الخادم لم تكن خطيرة إلى حد الإعاقة أو التسبب في حدوث عاهة. وحده أبي لم يكلف نفسه أي عناء وكأن الأمر لا يعنيه على الإطلاق (أو هكذا بدا في الظاهر) فلم يبادر إلى زيارة تاجر العطور للاعتذار والتماس الصفح, ولم يوبخني - كما توقعت - لسلوكي السيئ والتسبب في هذه المشكلة التي لا يمكن التكهن بتداعياتها ونتائجها, بل وجّه إليّ تلك النظرة الحادة, المديدة, التي أربكتني ورجّت أطرافي, فارتجفت قليلاً وتوترت قليلاً وتشوشت قليلاً, ولم أتحرر من هذا الأسر - الذي دام لحظات لكن حسبتها ساعات - ولم أشعر بانزياح الثقل الهائل عن صدري إلا عندما استدار أبي وابتعد عني ماضياً نحو حجرته ليعتكف فيها - كعادته - مع سجائره ومذياعه الصغير, ملاحقاً عبر مؤشر المحطات الصغير أنباء عوالم بعيدة لم يزرها, وبشرٍ بعيدين لا يعرف عنهم غير حروبهم وكوارثهم واجتماعات قادتهم. حيناً يتابع الأخبار وحيناً ينظر أمامه, محدّقاً في الحائط الأبيض العاري, حالماً ربما بمدينة بديعة الشكل, تسورّها الأشجار وتفتح حدودها وطرقاتها مرحّبة بكل زائر.. أو ربما يعود ساهماً إلى زمن لم يعد يقطن إلا في حنين الإنسان, وإلى أمكنة لم تعد موجودة إلا في الذاكرة, ليرى نفسه طفلاً أو مراهقاً.. فمن يعلم كنْه ما يطفو في رأس رجل يجلس بمفرده قرب مذياع لا يكف عن الثرثرة وقبالة حائط أبيض يعكس ما يريد الذهن أن يعكسه? ومن نظرة أمي إليّ, تلك النظرة التي يتواشج فيها العتاب والحزن والوجع, أدركت عواقب الضغينة. (54) لحزن عفاف سطوع الفضة ورنين الموج, له ما للخيبة من نكهة مُرّة. لا يخفى هذا الحزن وإن توارى وإن اعتكف بل تتماهى معه أشياء الغرفة فتبدو كما لو في حداد. وعفاف الواقفة قرب سرير زاهد, لا يضيئه حلمٌ بعد, ترنو ساهمةً إلى ظلال أرقٍ مأخوذٍ بالسهر تتوافد تباعاً لتملأ المكان لهواً وهذراً, أما هي فتشيح وتتهدج سراً ثم خفافاً تذرع الغرفة, رشيقة رغم وطأة الهم, ولا تعرف بم تستجير.. أ بالحنين إلى فتى لا يحسن لغة الحب ولا ير من الحياة غير عنفها, أم بضفّة تأخذها إلى النسيان لتغسل القلب عن شوائب الأمس? ليتها تقدر أن تحسم.. هذه الحائرة بين قلب يحب وعقل لا يرى في هذا الحب غير مكائد آسرة لا تتوب عن إغواء الروح. تلوذ بالنافذة كمن يلتمس النجاة من هواجس تكبّل النفس بوثاق الوسوسة وتطل, هذه المبتلة بالإلتباس, لتشهد ما تحمله الريحُ إلى الريحِ من أخبار ونميمة, ولتجسّ بأنامل هشةٍ غشاءَ فضاءٍ رخوٍ يشفّ عن مياه - لا تعرف من أين تنبجس - تسري عبر الشقوق وعلى أسطح من القرميد, ويشفّ عن حمحمة بعيدة , وصلوات كثيرة ترتقي المصاطب في إعياء. عندها تطلق عفاف سراح آهة خافتة وخجولة, تعقبها أسئلة موجعة لا تفصح عن نفسها بل تظل حبيسة الداخل: لماذا يخذلها الحاضر, سائس المصادفات, ويئد أهواءها الصغيرة? لماذا كلما نثرت الزنابق على شبابيك الوله جاء سهم الشك ليشك نصله في نواة اليقين أو الأمل? لماذا كلما باغتتها المرايا داهمتها المحنة ورأت وجهاً يتمرّغ فيه الإرهاق ويعتريه الشجن? بطيئاً يمضي الليل, بطيئاً يأتي النهار, وسرير عفاف ما مسّه حلم ولا هبّت على أجفان النائمة في قلقٍ عطايا الراحة أو الطمأنينة. وآن تغادر نومها العابس, تهيب بالصباح أن يأخذها إلى فرح فصيح فما عادت تحتمل حيرة أو حسرة. الآن, من شرفة حاضر - يبيح لي فسحةً للتأمل ويتيح لذاكرتي أن تخترق بعناد أغشيةً تبدو ظاهرياً شفافة لكنها مراوغة مثل سحب عابثة - أرنو إلى ماضٍ تدرّج لونه حتى صار رمادياً.. وفيما يمعن في صقل عتباته ومداخله وأفاريزه بلا كلل, ينسى أنه محض ماضٍ لن يأوي إليه غير الأطياف وظلالٍ كانت بالأمس طافحة بالزهو فأضحت شاحبة لفرط الهجر والنسيان. ماضٍ يسهو عن مواعيده حتى يحاذيه الغبار فيشهق ويمتقع عارفاً أن حصونه سوف تتقوّض لا محالة, وأنه موعود بالفصل الأخير: أن يكون مزاراً هلامياً, متحول التضاريس ومحفوفاً بالمتاهات, ويربك الحنين أو الذاكرة أوان الزيارة. أرنو إلى كائنات أثيرية ما عاد وجودها يمتلك كثافة ووزناً بل أمست منزوعةً من سياق كينونتها وواقعها, عرضةً للتشكل أو التخلق حسب ما يمليه الإستحضار, وأحياناً تقتحم مجال التذكر دونما استدعاء فارضة نفسها بإلحاح, لكن في كل الأحوال صار حضورها حضوراً زائلاً, يتيماً, عائماً كما الرائحة. كائنات ما عادت تضجّ إلا في رأس امرئ مدجج بالحنين تشده الجذور إلى منازل يخفق فيها الدم شيئاً فشيئاً, وإلى أطلال ترجع إلى ما كانت عليه في الأصل, وإلى بشر ينسجون الأحداث ذاتها, والكلام ذاته, من جديد. أرنو إلى فتاة وديعة تقف بلا حراك, كالأميرة المسحورة في الحكايات الخرافية, وسط أشياء وكائنات جامدة لا تتنفس, محرومة من الحركة ومن الصوت ومن الأريج.. كأنها تنتسب إلى عالم يحكمه الموت. وعفاف أراها الآن كما كانت قبل سنوات طويلة: بعمرها العذب الذي لم يتغير وكأنه يتحدى قانون النمو, ببراءتها التي تفتن من يجاورها, بأهدابها العاكفة على زركشة الأحلام قبل أن توقظها مهزلة أو مأساة. عفاف التي أعرف أمسها وأجهل حاضرها, لا أعرف إلى أي مصير أخذها القدر.. هل تزوجت? هل أنجبت ما شاءت من أولاد? هل...? أراها الآن - كما كانت في حي الفاضل سنة 1963 - لكن أسيرة في قبضة زمن متخثر, تجمدت فيه كل الأنفاس وكل الروائح. وكلما إزددتُ دنواً, راحت قشور الزمن تتآكل وتتفتّت شيئاً فشيئاً حتى أضحت كما كانت في حي الفاضل سنة 1963.. حرةً من تلك القبضة, حرةً من عمر لا يكفّ عن الهرولة, ولم تعد رهينة غيب يؤرجح المصائر في حقله الكوني.. وما إن وقفت أمامها - صبياً في الثالثة عشرة - حتى بادرتني بسؤال ينضح مرارةً وإن تظاهرت بالحياد: كيف هو أخوك? وأين ذهب? أخبرتها أن تاجر العطور عفا عنه وسوف يخرج من مخبئه ويعود قريباً. كانت تنصت بغير انفعال, كأن الأمر لا يعنيها, كأنها تسمع خبراً عن شخص لا تعرفه.. غير أن حزنها كان يفضح ما يجيش في أعماقها. أردت أن أعترف لها بخطأي, بذنبي, لكني خشيت أن تكرهني فسكتّ, وهي استدارت ومضت مبتعدة.. ولم أعرف لحظتها لماذا طفرت دمعة من عيني. (55) لا تهدأ الحناجر الصغيرة ولا ترتخي في أوقات ما بعد الظهيرة, حين يهجع الكبار عادةً في غفوة يتفاوت أمدها من شخص إلى آخر, بل تزداد الحناجر صخباً كلما تدحرجت - في طريق أو في زقاق - كرة من الجلد استغرق نفخها وقتاً, وتشارك الأولاد في شرائها بحصص متساوية. وعندما ترتطم هذه الكرة بجدار أو بنافذة, بفعل ركلة قوية, تجفل الغفوة وتضطرب القيلولة. وأحياناً مع اشتداد الهرج وتصاعد الفوضى المرتجلة, يتعالى الصياح والسباب من داخل البيوت الكسولة في احتجاج وتهديد لا يكترث له الأولاد ولا يؤخذ بجدية إلا حين يخرج أحدهم حاملاً سكيناً ليمزّق بها الكرة.. عندئذ يتغيّر الملعب لكن لا تتغير الزوابع التي يستدعيها اللعب. والمشهد يتكرر بعد ظهيرة كل يوم: فلا الأولاد يكفّون عن اللعب ولا الكبار يكفّون عن الشكوى والوعيد, غير أن المواجهة لا تقع إلا في أحوال نادرة ولا تتخطى حدود التلاسن. لا مساحة فارغة في الحي إلا وتصير ملعباً لكرة القدم أو لألعاب غيرها لا تحصى. اللعب يوقظ الفراغ من سباته, يضرم فيه الشقاوة والرعونة, ويضرجه بأشكال الحياة الضاجة فيرقب كل هذا بحياد الحيران إزاء ما يحدث. وآن ينحسر عنه النهار, وتنقشع الضوضاء تدريجياً عن جدران بدأت تتثاءب, وقتها لا يسمع الفراغ غير أصداء صيحات طفولية تلتقطها جهات الأمس كالثمار في سلال حنونة, وغير رنين أقدام صغيرة وحافية تهرول كالبراعم نحو عراء بابه من سديم, وغير بقايا أنفاس متروكة سهواً, فيعرف الفراغ آنذاك كم موتٍ سوف يموت قبل أن يعود اللعب مع غدٍ طريّ. كان حميد يلعب الكرة مرتجلاً الهجوم والدفاع, حالماً بأن يصبح لاعباً فذاً (معتقداً أنه المؤهل لأن يكون فذاً), عندما اقترب منه عزوز (الذي يلعب الكرة دون أن يحبها, ويعتبرها عبثية وغير نافعة) وتأتأ ملاحقاً كلمات متملصة تشاغب لسانه: (أسمعت بالخبر? أحمد هرب خارج البلاد". لم يستوعب حميد الخبر.. كيف هرب ولماذا? ما الذي ارتكبه لكي يترك كل شيء ويهرب? وأين.. خارج البلاد? في اليوم التالي استطاع حميد أن يلملم الحدث من الشذرات التي سمعها هنا وهناك: كانت لأحمد أنشطة سياسية سرية مع جماعة محظورة, وقد لاحظ مؤخراً أن رجالاً تابعين لجهاز المخابرات قد كثفوا من إجراءات المراقبة عليه ومتابعته أينما يذهب, وكان يتوقع أن يداهموا بيته ويعتقلوه في أية لحظة تحلو لهم, لهذا آثر الانتقال إلى بلد آخر غير معلوم لأن الاختباء في مكان ما, هنا, غير مضمون ومحفوف بالمخاطر. ويقال أنه لم يأخذ شيئاً معه غير نقود تكفيه لدفع نفقات السفر كي يبعد الشكوك عن ما ينويه. لكن الأمر الذي أثار اهتمام وفضول حميد هو موقف أبي أحمد الذي لم يبد أي رد فعل من أي نوع, بل رآه قرب دكانه يحدّق ملياً في قطع (الدامة" الخشبية, وهو يحك بظفره إحدى مربعات اللعبة.. كعادته كلما احتار أية قطعة يحرّك, فيما خصمه يراقب في سك¯ون تام, وفي تأمل عميق, دون أن تبدر منه أية إشارة لضجر أو تململ. ربما كان يعلم بالأمر منذ البداية وهو الذي نصح إبنه بالهرب, ربما لديه تلك القدرة الإستثنائية على كبح مشاعره وانفعالاته, أو ربما أن المسألة كلها لم تعد تعنيه بعد أن يأس من إقناع إبنه بسوء اختياره طريق المجازفة. في قرارة نفسه شعر حميد مرة أخرى بالخذلان وبما يشبه الخيانة, فبعد أن مضى سلطان إلى مخبأ مجهول - مثل طريدة لا تثق في أي مكمن وتتوهم أن الفخاخ منصوبة في كل مكان - تاركاً ظلالاً من شخصية كانت مؤهلة لأن تكون ملهمة أو موضع إحتفاء لولا أن غمس يديه في دم غافل فصار موسوماً بالغدر لا النبل, ها هو يرى أحمداً يخرج شريداً, لاهثاً خلف محطات من الزبد تحاذي الأفق لكن لا تستقر في مكان.. يفت¯ح رئته للفضاء الفسيح فتمتد نحوه أذرع المنافي لتتلقفه وترمي¯ه إلى حلب¯ة لا غال¯ب فيه¯ا غي¯ر محظوظ يصطفيه الحظ من بين حشود تدب أينما شاء لها القدر.. بأعضاء منهوكة يقرع الرياح ريحاً ريحاً لعله يهتدي إلى عاصمة يأنس إليها أو جهة تكفكف تعب¯¯ه. مضى أحمد تاركاً وراءه كلاماً حلواً وخطى هادئة ومشاعر دافئة. وفي لحظة تأمل, إستنتج حميد أن كل من يتقرب إليهم ويشعر بود وإعجاب تجاههم يهربون.. ليس من المكان فحسب بل منه شخصياً, لسبب خفي يجهله. وقد أحزنه كثيراً هذا الإحساس: أنه تحول إلى مصدر شؤم. (56) ربما لهروب أحمد, بطريقة أو بأخرى, علاقة ما في التصالح بين حميد ونبيل, والتعهد بنسيان أو محو ما جرى. هذا لا يعني أن أحمداً كان يغذّي هذه الكراهية أو حتى يشجعها, لكن إيمان حميد بما كان يعتقده أحمد, خصوصاً من جهة أن الفوارق الطبقية تولّد عداوات واحقاداً عميقة هي حتمية ويتعذر إجتنابها قد شجع - ذلك الإيمان - على تصلّب موقف حميد وتزويده ببعد سياسي لا تحتمله العلاقة. وقد أدى غياب أحمد إلى إنهيار أفكاره ومعتقداته - أو إلى تصدّعها على الأقل - في روح هشة وذاكرة طرية مثل روح وذاكرة حميد.. هذا الذي تدفعه أعوامه الغضة نحو مهب محنٍ وأعيادٍ لا تحصى, وهو الأعزل وسط مجاهل لا تهادن.. لهذا يمجد الصداقة. كما أن ابتعاد نبيل عن محيط الرفاق, وانقضاء وقت على حادثة سلطان, جعلت نبيلاً أكثر مرونة في تأمل جوانب الحالة وفي فهم أن ما حدث كان شيئاً عرضياً واستثنائياً, وأن رفاقه لا ذنب لهم. ذوبان الجليد بين حميد ونبيل لقي ترحيباً وسط الرفاق, فهو - رغم كل شيء - إبن الحيّ الذي يحتضنهم كالأب الرؤوف دونما تحيّز أو تمييز. وبطريقتهم الخاصة إحتفلوا بهذه المناسبة احتفال البراعم بالتفتح أوان هطول الندى, أو إحتفال المزهوّين بالصداقة, العازمين على تلقين المسالك الأفعوانية بهاء أن تكون حليفاً للريح ومتواطئاً مع الجهات, إذ راحوا يجوبون طرقات الحي على دراجات هوائية جارين وراءهم روائح بيوت أليفه, وهسيس سعف يتقرّى دون اطمئنان حصنه الهزيل, ورفيف أحجار صغيرة تتطاير كلما مسّتها عجلات تنسى أن تكون رحيمة. كريم يقظة الطائر في فضاء يجمّل أبعاده ويوسّع مداه ليغوي تلك الأسراب المرحة ذات المناقير العذبة والتي تموّج الهواء بخفقات أجنحة رشيقة. حيناً يرسل كريم حدقتيه لتنقضا كالنصال على فراغات مأهولة بأجناس عجيبة من الجوارح يريد ترويضها لتتعايش بألفة ووئام مع البلابل والعنادل والحمام. لا تخوم لمخيلته المجنّحة. وعندما يطلق بغتةً تلك الضحكات العالية, المجردة من الرصانة أو الحياء, دون أن يعلمنا بالسبب أو الباعث, فإننا نخمّن بأنه الآن يعكف وحده على استلال الفكاهة من بئر المخيلة, وليضحك وحده.. وكأنه يخشى أن يجرح الفكاهة إذا كشفها علناً. زكريا هبوب الأعياد آن تسطع الينابيع في أفق له لون المقل. يملأ رئتيه بهواء بارد ثم يندفع طاعناً المسافات بقامة فتيّة وصيحة حادة لعل المباغتة تفتح له المسالك بهواً بهواً وكلها مؤثثة بالبُسُط والريش. يمتطي الصهيل ليجهر بالولاء لصداقة الريح. يطبق بيده على الخفيّ من بلوّر يحسبه جذر السعادة, ويسفح في كل خلاء يلتقيه بعضاً من عنفوانه. من خاصرته ينزّ ذلك الشجن العارم والذي يضفي على حزنه وعلى تحفظه العنيد في البوح شيئاً من النبالة. يحدث هذا في حالات من السرحان الذي ينتشله من بين الجمع الساهر مثلما ينتشل الليل ظلامه عند قدوم الفجر.. برشاقة لا تُلحظ. وبدون زكريا الوسيم تفقد الصحبة ألقها. عزوز يهيئ للعجين تنوّره وللأيام الجمرات. يرى الكون في صورة رغيف مدوّر. من يجادل إبن خبّاز يؤكد جازماً أن الله خلق الشمس والقمر على شكل رغيف كي يذكّر الإنسان بأن عليه أن يبحث عن خبزه كل يوم? يهيئ للصداقة المأدبة مالئاً المائدة بما طاب من هرج ومقالب وجلبة, ثم يدعو من يحب إلى ضيافة البحر.. هناك - يقول بلا تأتأة - المأدبة الكبرى, الملعب الرحب الذي يسع كل الكائنات. نبيل كلما ابتعد عن هامش الأمان, متجهاً إلى مشارف المجازفة, شدّته الخيوط إلى حيطان نسجتها العائلة على هيئة سياج أو أسوار حصن, حيث تحت سقف مدرّع كصدفة سلحفاة: أمومة حريصة إلى حد الوسوسة على حماية البيت من النوايا الخبيثة وتراقب بلا كلل إن كان هناك رأْب في الزوايا قد ينسل منها أي وباء.. وأبوّة تنتخب في صرامة ورصانة ما يليق بمكانة العائلة وتطرد أي طارئ قد يخلخل ما بنته أو ورثته. ونبيل يمرّ ببيوت هرمة ووجوه أرهقها العبء, يمرّ بغبار يرفو ما تهدّم من مسكن غادرته المفاتيح بلا رجعة, يمرّ بخطى ثقيلة يحسب أن لها وقعاً كوقع سلاسل تزحف بطيئاً, فينتابه ما يشبه احتدام الظنون في نفس حائرة يتنازع عليها عصيان يجمّل مواطئة ليغوي الخطى الطرية, وامتثال لتعاليم وأعراف لا يقدر الفكاك منها. مفتاح ذلك الذي يرمق الهباء بعينين طافحتين بالرماد ويستقرئ خواء المحيط بأصابع ينتفض فيها حنين غامض إلى أيام غامضة لا يعود يميّز فيها ما هو رائق وما هو ملتبس. في خلاياه يتخبط الجنون. يمكث نهباً لوقت هلامي يبلبل حواسه ويشنّ عليه القهقهة التي تبالغ في تشويشه. مفتاح الذي كان يمقت السكون ويمجّد الحركة, الذي كان يشعل فينا الهمّة كلما خمدت الجذوة, أضحى توأم الشرود وبات كائناً يألف العتمة.. العتمة الأكثر غوراً داخل النفس. وعندما يعبر من موضع إلى موضع, فإن أحداً لا يشعر بعبوره, لا يعير بالاً لحضوره الزائل, لا يسمع ما يسمعه مفتاح من دويّ يهدر كالرعد في رأس يزداد خبلاً كلما اجتاح اللهب أطرافه الهشة. مكبلاً يأخذه التيه إلى غرفة لها شكل الجحيم, نوافذها عالية بحجم الكوى, وبابها الموصد المكسو بالمعدن تخترقه بين الفينة والأخرى طرقات لها وقع الحوافر, ومن الأرضية تنبجس حيوانات برمائية بالغة الصغر تتقافز جذلى لتختفي في لحظة, وهو وسط كل هذا يستلقي في هدوء متكوراً مثل الجنين ويوجّه إليّ تلك النظرة الخامدة لكن الطافحة بالحسرة - نظرة من أدرك أن حياته تنزلق من بين أصابعه كحبيبات الرمل وحين يضمها فإنما يضمها على الفراغ - ثم ألمح شفتيه تتحركان في وهن, وإذ أنصت برهافة, يتضح لي تدريجياً ما يتفوّه به.. كان يقول هامساً: أشتهي الآن أن أزرع الفخاخ في البريّة. (57) لم تعد خلود تلك الطفلة - الطالعة من جسد أنثى مثل برعم يتفتح إذ تتفتح الجهات المطلة على النعمة - ذات الطبع المرح والمشاكس التي تنثر في منعطفات الحي الدعابات والطيش كلما عنّ لها ذلك وبلا حرج: إذ تضحك عالياً, وعلى نحو مباغت, في وجه شيخ شارد الذهن, أو تشد عباءة امرأة وتجري مغتبطة, أو تتبادل الشتائم البذيئة - بلا حقد - مع صبية لا يعوزهم النزق والحماقة, كما لا تنقصهم حس الدعابة. لم تعد خلود تلك المخبولة الناقصة عقلاً, التي لا تحتكم إلى المنطق بل إلى الفوضى - كما كان البعض يجزم - والتي تبقع الهواء باللهاث فيما تهرول خائضة في غمام الضحى أو عائدة مع أدلاء صغار ضللتهم الخرائط حتى صاروا من فرط التشوش غير مرئيين. وعندما تعدو مقتحمة أشكال الفراغ وتضاريسه يتلقفها مطر عابث شغوف بالأجسام الغضة يرشقها بمياهه العابثة ليستمتع بما ترتجله من رقص. حيناً تصيح - هذه المفتونة بالصدى - في الأماكن المهجورة لتخيف بعض الأشباح التائهين عن ملاجئهم الآمنة, وحيناً ترنو ساهمةً إلى الأفق وبإصبع ترسم باباً مزركشاً بالنقوش والمنمنمات تدفعه برفق فينفتح لتدلف وتجد نفسها في ردهة مكتظة بأمهات بشوشات يتهامسن فيما بينهن في حبور ولكل منهن وجه ملائكي يسطع جمالاً ويفيض عذوبة فتبكي خلود من فرط السعادة. لم تعد خلود تلك التي تحرّك فوانيسها أوان شحوب الضوء ليعلم الليل العادل أن العذراء جاءت لترصّع الجهات بأقراط فيروزية كي يستدل إليها من تضلله العتمة, أو لتلهو مع حباحب تحتشد في مواقع مموهة كي لا يباغتها فضول بشري, أو جاءت لمجرد أن تفي نذراً فحسب.. فيفسح لها الليل في وقار جمّ متسائلاً في سرّه: ما بال هذه العابقة بالصعتر تتصرف كالحواة فتستل من الظلمة أحجاراً تتحول في راحتها إلى مرايا صغيرة? صارت قليلة الخروج من بيت حمدان العامر تجنباً ربما لتحرشات الفضول ورغبات الآخرين - التي لم تهدأ إلا قليلاً - في معرفة تفاصيل أكثر عن الحمل. أو ربما لحظر فرضه حمدان (حتى لا تجلب لنا هذه المجنونة كوارث ومشاكل أخرى". لذا صارت تخرج عندما تقتضي الضرورة ذلك.. متقمصة الحضور الرزين لسيدة رزينة, منتحلة روح لبلاب لا يبالي بما ينصبه الطريق من أحابيل. بلا قناع ولا خمار تمسح بصرها في المدى المسفوح أمامها والذي ينبت كائنات حية وأشياء, لكن تغضّ كلما تمادت نظرات الآخرين في الفحش وأرادت أن تفضّ السرّ عنوةً. في السابق كانت تدافع عن نفسها بالضحك, بالشقاوة, بالإسراف في الشر الطفولي.. الآن, وبعد أن تجرّدت من شرنقة الطفولة ولبست وميض الأنوثة, أضحت البؤرة التي تشد الأبصار إليها - مثل المغناطيس أو مثل الفضيحة - ويحق لها أن تتوجس وتحتدم مثلما تتوجس وتحتدم الجهة كلما هجست بعصف أو هبوب. وإذا خرجت خلود لتلبية أمرٍ ما أو لتأدية شأنٍ ما, رافقها الزعفران ورائحة البن, وآثار حنّاء على الراحتين بهت لونها, وذلك الجسم الهلامي الذي يتكوّن وحيداً في الرحم من نطفة غامضة قد يجهل الآخرون مصدرها لكن يقيناً لا تجهلها هي.. ذلك الكائن الذي لا شكل له ولا إسم له والذي يمتزج بالمياه عائماً في فضاء أليف يحيط به غلاف رقيق وشفاف لكن لا يُخترق. وترافقها أيضاً تحذيرات لا تحصى عن ضرورة الإبتعاد عن الناس وتجنب الاحتكاك بالآخرين بأي شكل من الأشكال. إنها تمشي وئيداً كأنها تخشى على الأرض من ثقل قدميها, أو كأنها تطأ مفازة. لم أعد أراها كثيراً - خلود - وإذا صادف أن وقع بصري عليها, غضضت وأرخيت ولجمت نفسي عن الاندفاع صوبها ومماحكتها والتناوش معها, كما كنا نفعل في ما مضى, خشية أن يثير تصرف كهذا - الآن - ظنون البعض فيعتقد أو يجزم أن شيئاً قد حدث بيننا, ويسيّج حولي ورطة لن أقدر على الفكاك منها. ومرةً رأيتها قادمة من الجهة المقابلة من الزقاق فانتحيت جانباً, ملتصقاً بالجدار, وأشحت بوجهي في حياء وتوتر ريثما تمر, لكن ما إن حاذتني حتى شعرت بثقل نظرة مديدة, مركزة ونافذة, مصوّبة نحوي وتخترقني, فرفعت وجهي ووجهت بصري إليها - لكي أتأكد فحسب, لكي أعرف - وعندئذ رأيتها تعبر على مهل فيما ترمقني بتلك النظرة الصافية, النقية, التي لا خبث فيها ولا شقاوة, المنبعثة من عينين تشعان عذوبةً وألقاً, وعلى شفتيها إبتسامة مترددة وخجولة لكن حلوة.. يا الله, لم أر خلوداً هكذا من قبل.. مشعة إلى هذا الحد, جميلة إلى هذا الحد. وحتى هذه اللحظة (لحظة استحضار المشهد من زمن قاطن في ذاكرة لا يمكن الوثوق من حياديتها) لا أعرف سر تلك الإبتسامة.. معناها ومغزاها. إنها تظل عالقة في غموض, لا تبوح بسرّها ولا تفصح عن مدلولها, لتبقى هكذا: لغزاً من ألغاز الحياة. المساء يخرج - كلما مسّته الوحشة - منتعلاً خفين من سديم ليطوف حول البيوت هاذياً ساعةً ثم يعود بعدها رائق البال فيهرق قطرات من الندى على أسطحٍ غافية وأخرى تضج قليلاً لتهدأ فجأة. ثمة عشاق نسجوا في النهار - وفي غفلة من الرقباء - مواعيد زيّنوها بالشرائط الملونة ورصّعوها بكلمات عشق تركوها معلقة كالعناقيد ولما جاءوا كلٌ إلى خلوته الموعود بها, الموهوبة إليه وحده - لينعموا بعطايا الهوى ولذّاته, ما وجدوا شركاء الغبطة والمديح, ما وجدوا غير الغياب وأعذارٍ مفترضة لغياب شرس, فعادوا جهمين ومخذولين, يلفحهم الغضب حيناً ويلفّهم الشرود حيناً. ثمة من يذرع الساحة وحيداً, مطأطئ الرأس, كأنه يمتحن شرايين الحيّ. ثمة من يعبر على عجل متجهاً صوب المسجد ليرسل إلى الله رسالة عاجلة. أما المساء ذاته فيلتقط ضاحكاً هبات السماء من غيوم صغيرة يسميها فاكهته. الليل يتمرغ مرحاً في أنحاء المدى الأشقر مستبيحاً الطرقات حجراً حجراً, وحيناً يصير وشاحاً رزيناً لحيّ جاد ذهب قسم كبير منه إلى النوم. من معطف الليل يتسرب فوج من أدلاّء الحلم, أولئك البُكْم من مخلوقات بشرية لا تُرى بالعين المجردة, ولا يُسمع لها صوت رغم ما تحدثه من ضوضاء مدويّة في زحفها صوب كل نائم ينتظر حلمه. وبرشاقة مذهلة يخترق كل دليل صدغ من اصطفاه من النائمين ليرشّ أمامه صوراً تتحدى التأويل إن تجاورت وإن تباعدت, وقد تبتكر مشهداً ساراً أو مشهداً مخيفاً للحالم الذي ينشطر إلى ذوات لا تعد وإلى أشكال لا تُحصى من الكائنات والأشياء. أما الندامى الذين ينأون عن النوم ليمجدوا السهر, الذين يغسلون الأهداب بماء الأرق, فيسفحون أهواءهم ومجونهم أمام ليل لا يكترث لكن يقرأ - في استغراق - إنشقاقات الضوء ويُملي على الظلمة مكائد المصابيح. الفجر يأتي مختالاً, منتشياً بالحفاوة التي تجهر بها الطبيعة والتي تليق بحضوره البهيّ, ويحط على مشارف الجهات بين نورٍ يعرف أنه الغالب الآن في حركة التعاقب الكوني, وظلامٍ ينحسر جمعاً جمعاً ليتناثر في الشتات الكوني. برصانةٍ ينفض الفجر عن أطرافه بقايا الضباب وذرات الطل. ومن شروخ في السديم - درع الطبيعة الذي لا يتدرّع به شيء - يخرج عمالٌ على أكتافهم تساقطت ما ندفته السماء من قطن ومن لبن. وعند الموضع الذي تتقاطع فيه الطرق, يتبادلون نظرات التضامن, يتبادلون الوداع الصامت, ثم يفترقون بلا جلبة.. بعضهم يمضي - عبر سيارات النقل الضخمة - إلى (الجبل" حيث الأرض تتغرغر بنفطها. وبعضهم يمضي سائراً إلى (الفرضة" القريبة حيث الصناديق والأكياس الثقيلة تنتظر السواعد والكواحل الصلبة على رصيف المرفأ لترفعها وترمي بها في قعر المراكب الراسية. أما عدد من الموظفين الصغار والجباة فيمضون في إتجاه السوق إلى البلدية حيث منها يتوزعون هنا وهناك, أو إلى مكاتب الجمارك. (58) عندما دخل حميد الخرابة وحده, لم يتوقع أن يجد سنان الغامض (هكذا يسمونه) جالساً على درج متآكل - إستباحه الغبار والنمل - يتجرّع الخمر الممزوج بالماء من زجاجة لم يبق فيها غير القليل من الكحول. لم يتوقع حضوره هنا لأنه كان قد غاب عن الحي أسابيع دون أن يعلم أحد أي خبر عنه, حتى ظن البعض أنه استقر في مكان آخر أكثر ملاءمة له وانسجاماً مع مزاجه المتقلب أو أحواله الغامضة. وها هو يعود كما خرج.. برفقة زجاجة تنبعث منها رائحة كريهة مقززة, وآلة ساكسفون خرساء تستريح بقربه في كسل, وجسدٍ شابٍ أنهكه الكحول وأفقد عينيه ذلك البريق المتطفل والشهواني الذي تتميّز به عينا أي شاب في سنّه. بخطى متمهلة يتجه حميد نحوه ثم يتوقف جانبا, على بعد مسافة قصيرة منه, عند جدار كثير الصدوع والشقوق.. ويسأله في حياد ومن غير فضول ظاهر: - أين كنت? وسنان كان قد شعر بوجود الكائن الصغير, المنتهك لخلوته المباحة للهتك, من لحظة دخوله البطئ والحذر, وراح يتابع مساره الأخرق بنظرات ملولة خبا فيها كل توق إلى المعرفة, وكل حماس للتواصل مع الآخرين. ولما تناهى إلى سمعه سؤال حميد, ردّ باقتضاب وبكلمات تكاد تتعثر في حلقه قبل أن تتناثر: - أين كنت?.. هنا.. هناك.. ليس هذا مهماً, حدثني عنك.. - ماذا تريد أن تعرف? - ما أسمك? - ألم تعرف إسمي بعد? - لا ذاكرة لي.. - حميد.. - تعال يا ولد.. - لست ولداً.. - (ضاحكاً) إذن, تعال يا رجل واجلس إلى جواري.. يرفع سنان آلته فاسحاً لحميد مكاناً بقربه. حميد, الذي يتظاهر بالجرأة أو اللامبالاة, يجلس ويشرع في حك أجزاء من وجهه ويديه كمحاولة لا إرادية للتخفيف من توتره الداخلي وعدم اطمئنانه الكلي.. فهذا الشخص مخمور ولا يعي ما يقول أو يفعل, وسوف لن يتورع عن إلحاق الأذى به, بطريقة أو بأخرى. والأمر الذي يضاعف من توتر حميد أن الآخر لم يعد يبدي رغبة في الحديث أو التواصل بل راح يتطلع أمامه صامتاً, شارد الذهن, متعباً من كل شيء. حتى أنه تجاهل وجود حميد إلى جواره وكأنه صار خفيا, غير مرئي. هذه الحالة من الإستغراق في الذات, التي استمرت بضع دقائق, خففت تدريجياً من توتر حميد, ومنحته نوعاً من الراحة والإسترخاء, واطمأن أكثر عندما رفع سنان آلته وأخذ نفساً عميقاً ثم أطلق زفيراً مشوباً برائحة الكحول, بعدها وضع طرف الساكسفون على فمه وأخذ يعزف أو يرتجل لحناً بدأ بطيئاً وهادئاً إلى حد الشفافية ثم صار يعلو شيئاً فشيئاً لتتمازج فيه نغمات الشجن والعذاب والوجد حتى تبلغ الذروة العاطفية التي تحتدم فيها المشاعر والانفعالات, ليعود بعدها اللحن هابطاً في دعة وانسياب مع أنين يزداد خفوتاً إلى حد التلاشي. وبمجرد أن أزاح سنان طرف الآلة عن فمه حتى طفرت من مقلته دمعة مفاجئة, وربما غير متوقعة, سرعان ما مسحها بسبابته لئلا تفضح ما يجيش بداخله من عاطفة يراد لها أن تمكث مطمورة أو متوارية, فيما يدير رأسه جانباً ويلتقط زجاجته ويأخذ جرعة منها تبدو للحظةٍ حارقة أو لاذعة المذاق. أما حميد فقد كان ينصت مفتوناً بالصوت الذي بدأ بنسج شباك سحري حوله ثم استدرجه بعذوبة وسلاسة - مثلما يستدرج المساءُ الظلال - حتى احتواه كلياً في ذلك الأسر الجميل الذي لا يشتهي التحرر منه. لم يشعر أبداً من قبل بمثل هذا الانتشاء, هذا السحر, هذا الخدر اللذيذ, وهو يصغي إلى هذه الموسيقى المدغدغة للحواس, المهدهدة لكل وجع ووهن.. الصوت المستعار من فم الملائكة. بل أنه لم يكترث - من قبل - بسنان وآلته, حتى أن الفضول لم يدفعه يوماً لكي يجاور سناناً ويصغي إلى ما يعزفه. كان سنان ذلك الكائن الذي لا يستوقفك -بشكله أو بكلامه أو بحركاته - ولا يلفت نظرك إليه.. فهو صامت في اغلب الأحوال, لا يتدخل في أي شأن, ويتصرف كالغريب الذي عليه أن يحسن التصرف لكي ينأى عن المشاكل. كان يعبر كالظل.. حتى تكاد لا تشعر بمروره قربك. وعلى الدوام يحسس الآخرين بأن وجوده مؤقت, عابر, كالمسافر الذي لا يعرف محطته الأخيرة لكن يتعين عليه أن يجتاز تخوماً عديدة حتى يصل. الآن, يكتسب حضور سنان أهمية بالغة في نظر حميد. الآن يرى بوضوح ذلك الألق والنبل وما خفي تحت قشرة نجح في تمويهها وكأنه كان يريد أن يحمي جوهره من تلوثٍ ما, أو كأنه لا يأبه بتلك الخاصيات التي قد تميّزه عن غيره لأنه لا يجد نفسه مختلفاً. وإذا كان يعزف بمثل هذه المهارة وهذا التألق فلأنه يرغب في قول شيء ما باللغة الوحيدة التي يتقنها.. ولا بد أن ما يقوله موجع جداً, والدمعة التي لمحها حميد وسارع هو إلى محوها, كانت تشهد على ذلك الوجع الذي يضطرم ويتأجج في الداخل دون أن يتاح له الخروج والتدفق للإعلان عن نفسه. لقد هزّت تلك الدمعة اليتيمة كيان حميد حتى أوشك أن يعبّر عن تعاطفه بالربت على كتفه أو بالبكاء, غير أنه - لسببٍ لا يعرفه - أحجم عن فعل أي شيء, وظل صامتاً, ينظر أمامه في حالة من الشرود.. حتى انتزعه صوت سنان: - ما رأيك? فالتفت إليه مبتسماً: - عجيب. عندئذ أخذ سنان يمرر أصابعه وراحة يده, برقة ولطافة على سطح الآلة المعدني, كمن يتحسس زغباً أو فرواً وثيراً.. وهو يهب الكلام الذي ربما لم يهبه لأحد من قبل, أو ربما لم يسمع حميد مثله من أحد, وكان في ذلك فصيحاً: ]ليست جماداً هذه الآلة تلهو بها وقتما تشاء وتملي عليها ما ترغب وما تشاء, بل هي روح تنفخ فيها فتعجّ بالحياة وتزداد عذوبة كلما أحسنت التعامل معها. وهي تعطيك ما يبهر النفس وتهبك ذلك الرخاء الذي سلبته منك الأيام.. رخاء الحواس. لذلك أحس معها بتلك القوة الخارقة التي ترتقي كياني وتضمخني بالقداسة. معها أجهر غير خائف أني الكائن الأسمى الذي لا يُغلب ولا يُقهر. بها أستعين من شيخوخة الروح ووهن القلب. بها أرتدي الأدوار الملونة مثلما أرتدي القمصان.. بحرية ورشاقة. أما بدونها, فأنا مجرد شخص ضعيف, جبان, متردد, غائب ولا مكان لي. بدونها أتضرج بحبر النسيان كل يوم. هل تفهمني? هذه الآلة مرآة الداخل التي تريك - إن حدّقت بإمعان ما لا تريك مرآة الظاهر. ومن هذه الآلة - أنيسة المدّ أسميها - يرضع الكائن فتنة التناسق والتناغم مع الوجود. إنها الرئة التي يتنفس منها الحلم. أنظر إليها.. هل تظن أن لك, لأحد, سطوة عليها.. هذي التي تقدر بنغمةٍ أن تروّض الوحوش والنفوس الضالة? يطيش بك اللحن إن جنحت إلى التباهي وإن تماديت في الإستهتار. هل رأيت غيوماً تنبجس من نوافير السماء وتتناثر كالندف, أو تحتشد سرباً سرباً كالزبد? هل رأيت تفتّح البراعم في الليل دون أن يضيئها برق بل مجرد منارة بعيدة ترنو إلى المراكب شاحبةً من فرط الوحدة? هل فكرت في عدد الأدوار التي تنتحلها الفاكهة - في الخفاء - قبل أن تصير ثمرة مغوية? الموسيقى تريك كل هذا وأكثر. تعيد إلينا التوازن الذي فقدناه منذ أزمان سحيقة. تحقق لنا التناغم مع الطبيعة التي لم نعد نعبأ بها, والإنسجام مع الأشياء التي نهملها ونزدريها فيما نمرّ أمامها كل يوم. تجعلك تحلم.. أحلاماً حقيقية لا كتلك التي تراها ليلاً في نومك وتنساها صباحاً: تحلم بأنك ساهر على كنوز الأقاليم ومخازنها وأنت متكئ على ظل الظهيرة زاهداً في الإمارة وفي كل ما لا ينتسب إلى الحلم. ومن شرفتك العاجية, الغاصة بقرابين الشفاعة, ترى جياداً تمخر عباب المياه وهي تردف عربات مذهّبة لترتقي سلالم المغامرة. وتنظر إلى الينابيع الضاحكة وهي تتبادل المواقع مع ضباب خمريّ اللون ينفض عن زغبه ما علق به من نثار وردٍ وفتات كلام. تنصت إليها فتحس بخفة العمر, كأنك ريش وروحك جناح خافق. أغنى الأبجديات وأكثرها غواية. وهي شريان الروح. تخيل الحياة بدون موسيقى. ستكون بلا نبض: عدماً ينصب الضجر لكائنات تمشي بلا هداية.[ لا, لم يقل سنان كل هذا, غير أني قرأت في عينيه ذلك العشق الأثير, وربما الوحيد, الذي يرعش كيانه وينعش رغبته في الحياة. وعندما هزّ زجاجته الفارغة ليتأكد من خلوها من الكحول, ونهض بتثاقل ناوياً المغادرة, قلت باندفاع: - علمني.. نظر إليّ ملياً ولم ألمح في عينيه تهكماً أو إحتقاراً, بل كان كما لو ينظر في شرود إلى شيء لا يستطيع البؤبؤ أن يحدد ماهيته أو هويته, وبعد وقت غمغم: - ليس الآن.. تحرك خطوات. سألته وأنا في مكاني: - متى? قال دون أن يتوقف, ودون أن يلتفت إليّ: - عندما تكون مستعداً. (59) أمام الواجهة الزجاجية لدكان صغير يبيع الآلات الموسيقية, في السوق التجارية الواقعة جنوبي المرفأ القديم, وقف حميد وكريم وزكريا دقائق محملقين في آلة الساكسفون وحدها.. كما لو أنها بفعل قوة مغناطيسية إستثنائية قد شدّت أحداقهم معاً لتصير البؤرة المحاطة بهالة من الذهب. بعدئذٍ إلتفت زكريا إلى حميد وقال: - سعرها يكسر الظهر.. من أين ستحصل على قيمتها? أجابه حميد وبصره لا يزال مشدوداً إليها: - لا أعرف.. لكن لا بد أن أشتريها.. هنا إلتفت إليه كريم وقال له مازحاً: - ومن تظن نفسك.. محمد عبدالوهاب? وكأن التعليق قد راق لكريم واعتبرها نكتة فطفق يضحك عالياً. لكن حميداً, الذي تضايق من التعليق, أراد أن يلكز بكوعه جنب كريم غير أن هذا تفاداها برشاقة دون أن ينقطع عن الضحك. في طريق عودتهم من السوق, سأله زكريا: - وإذا حصلت عليها, من سوف يعلمك العزف. - سنان.. صاح كريم في استنكار: - سنان? هذا الذي لا يعرف رأسه من ذيله? إذن أبشرك.. سوف تصير عازفاً ماهراً بعد ثمانين سنة.. - أنت لا تعرف شيئاً.. (60) في استعادة مفزعة, لكن تقتضيها الضرورة, لذلك اليوم المحفور في الذاكرة (كما لو بفعل أزميل زمن لا يريد للنسيان أن يذر ترابه على ذلك المشهد ولا للعدم أن يأتيه زائراً ليأخذ - كعادته - ما يمحوه) أستطيع أن أقول أن العنف الكامن, حتى في أضعف المخلوقات وأكثرها هشاشة أو رقّة في الشعور, هو باطش ولا عقلاني ولا يحتاج لمثوله غير محرّض بسيط يستفز العصب العدواني, أما جذره فيمتد إلى ذلك الكائن البدائي, السلفي, الذي لم ينقرض بعد, والذي لا يزال يقطن المواضع الأكثر غوراً في النفس البشرية, حارساً البذور التي غرسها منذ عهود غابرة. كان حدثاً فادحاً لي.. على وجه الخصوص. ربما خفّ أثره مع مرور الوقت لكنه حاضر كالجرح. أذكر - والذاكرة تنسى أحياناً وتخون أحياناً - أنني دخلت الحجرة مسترشداً بضجيج آلة الخياطة الصغيرة والعتيقة وهي تغرز إبرتها الحادة على طول أو عرض قماش في حركة رتيبة لكن بالغة السرعة تقطعها لحظات قصيرة جداً يتم فيها - برشاقة ومهارة - تغيير مسار الإبرة إلى جهة أخرى من القماش. وكانت أمي هناك تخيط - من بين أعمالها اليومية - ثوباً نسائياً لامرأة من الحي مقابل مبلغ زهيد. جلست أمامها على ركبتّي لأكون في مستوى بصرها حيث لم تكن قادرة, بسبب الحجم الصغير للآلة, أن تمارس الخياطة إلا جالسة على أرض مفروشة ببساط تلاشت ألوانه الأصلية تقريباً والآلة مرفوعة قليلاً بواسطة طاولة صغيرة ترتكز عليها. إبتسمت لها متملقاً وقلت بصوت كاد أن يضيع من تداخله مع صوت الآلة: - أمي.. وهي ردّت دون أن تكفّ عن العمل ودون أن ترفع بصرها عن الآلة: - ماذا? - إسمعيني قليلاً. توقفت عن تحريك المقبض ونظرت إليّ متسائلة.. - أرغب في شراء ساكسفون.. - ماذا? - آلة موسيقية.. سألتني باستهجان مبطّن: - تريد أن تصير مطرباً? - لا لا.. أريد أن أعزف.. - لن أعطيك أكثر من روبية.. تكفي? - أتمزحين? - حتى لو كان لديّ الكثير, أتحسب أني سأبدّد نقودنا في شراء آلة موسيقية?! أرادت أن تنهي الحوار وتحسم الموقف فعادت إلى ما تظنه الأجدى: الخياطة. هنا زعقتُ في حنق: - إسمعيني.. لكنها لم تسمعني ولم تكفّ عن عملها. إزداد توتري وانفعالي, وفي لحظة غضب لم استطع التحكم فيها أبصرت المقص الموضوع قرب الآلة فالتقطتها في حركة سريعة ومفاجئة ورفعتها لأهوي بها على جسم أمي. وهي شعرت بهذه الحركة فتوقفت عن الخياطة رافعة نحوي وجهاً مبهوتاً وعينين رأيت فيهما ذهولاً لا حدّ له.. ولا أعرف كيف تجمدت ذراعي وتشنجت أصابعي القابضة على المقص غير أني, ودون أن تنقشع فورة الغضب, قذفت المقص بكل قوتي صوب الجدار, وعلى عجل نهضت وغادرت الحجرة. بعدها تساءلت: هل إنتاب أمي إحساس ولو للحظة أنني سأفعلها حقاً? بأنني سأهوي بالمقص على موضع مقدس من بدنها لأخترقه بنصل حاد وأدميه? هي تعرف طبيعتي وسجيتي أكثر من أي كائن آخر, تعرف أني لست عنيفاً ولا شديد العصبية إلى هذا الحد, فهل صدقت حقاً أنني سأفعلها? ماذا رأت في وجهي? وجه قاتل? وماذا رأت في عينيّ.. وحش تترذرذ القسوة من بين شدقيه, أم ضحية انفعال طارئ? يومها, وحتى ما تلاه من أيام, لم أعتذر لأمي لفظياً. لم أدفن رأسي في حضنها وأبكي أسفاً كما وددت. ليلتها بكيت كثيراً.. وحدي وفي صمت. وأقسمت ألا أرهق أمي أو أي فرد من عائلتي بمطالبي المادية, وحتى بالإقتراض, وذلك بأن ألتحق بأي عمل بعد تخرجي مباشرة من المدرسة. والغريب أنني لم اكره الآلة الموسيقية: السبب الرئيسي, أو المحرّض الخفي, لذلك الفعل الشائن. (61) لم تكن فكرتي أن نسرق دجاجات وأرانب عبدالودود لبيعها وشراء الساكسفون, فقد نبعت من ذلك الجزء الشيطاني - الذي يزيّن الإثم ويجمّل غاياته - من دماغ مراهق يحمله كريم, ودرسها (الفكرة) زكريا من جميع جوانبها متأملاً أسبابها ومساراتها ونتائجها ليتوصل ليس إلى إمكانية تنفيذها فحسب بل إلى ضرورتها أيضاً, أما أنا فقد وافقت بعد تردد قصير شاعراً باستثارة مدغدغة للأوتار الحساسة في داخلي والتي تتوق إلى اجتراح المغامرة وهي الإستثارة التي غلبت وازع الخوف. وفي الحقيقة لم نكن ننظر إلى العملية على أنها جريمة فعلية أو إثم سوف يسم جباهنا بختم العار. لم نكن نشعر بخطورة ما نفعل. بالأحرى, كانت محض لعبة لكن سنلعبها مع الكبار وبنوايا ليست حسنة , وسوف تسعفنا عناصر التشويق. لم يكن دوري مهماً أو رئيسياً, فقد كُلفت - دونما احتجاج من جانبي - بالمراقبة والحراسة.. أي أن أكون في هامش المجازفة الحقة (وهو الدور الذي سوف أتقن تأديته فيما بعد وطوال حياتي), فيما تولى زكريا وكريم تنفيذ العملية. لكن النتيجة كانت إخفاقاً ذريعاً على كل المستويات: إذ لم ينجح رفيقاي إلا في الإمساك بدجاجة واحدة, وقد شاهدنا إبن عبد الودود الأصغر فأطلق صيحة التحذير وأطلقنا نحن سراح سيقاننا فراحت تعدو بأقصى سرعتها, ولم ينفعنا ثمن الدجاجة التي بعناها بلا دراية ولا دهاء في سوق الأربعاء وسط حشود من الباعة الجوّالين الذين كانوا يفترشون المكان مع بضائعهم المتنوعة ويرتجلون المناداة والمساومة كل أربعاء. لكن النتيجة الأسوأ كانت تنتظرني في البيت. ما إن دخلت وتقدمت خطوات في الحوش حتى باغتني صوت أبي يناديني. صوت جهوري, حازم, لا لين فيه ولا تسامح. إلتفتّ فرأيته واقفاً جهماً عند مدخل حجرته موجهاً إليّ نظرة حادة, قاسية, لا شفقة فيها: - تعال.. دخل حجرته عارفاً بأني سوف أنصاع لأمره بلا جدال, وإني سوف أتبعه بلا سؤال, وإني داخل لا محالة. وقبل أن تبتلعني الحجرة بخطوتين, أدرت رأسي جانباً لأرى أمي واقفة تنظر نحوي في إشفاق. بعينيّ سألتها أن تفصح عما يريده أبي, إلا أنها آثرت أن تشيح بوجهها وتبتعد مانعةً نفسها من التدخّل. من الصفعة الاولى عرفت أن الوشاية بلغت الدار بأسرع مما كنت أتوقع, وأن أبي غاضب جداً لأن من ظنه وديعاً وذكياً ما هو إلا لص وضيع غدر بأمانيه وتوقعاته, ولم يعد جديراً بالمباهاة. وعرفت أن أمي سوف تنبذني ولن تتسامح معي بعد الآن, وأن إخوتي سوف يعيّرونني إلى الأبد, وأن سكان الحيّ سوف يسخرون مني ويحولون حياتي إلى جحيم. وأبي الغاضب لم يكفّ عن ضربي وتوبيخي إلا بعد أن اقتنع بأنني نلت كفايتي, فقد شعرت بإنهاك شديد وفقدت القدرة على حماية جسمي وكدت أقع من الإعياء لو لم اتكئ على الجدار والدموع تبلل وجهي. كنت أهبط عتبات النوم درجةً درجةً وسط حقل من الأحلام الصغيرة التي تتمايل كالسنابل مع كل هبّة ريح, والطبيعة تلبس ضاحكةً أقنعة الفصول بالتناوب وعلى مدار الساعة لتربك البشر والمحاصيل على حد سواء. وعندما بلغتُ التخم الفاصل بين هدأة النوم وجلبة الصحو شعرتُ بأنفاس أبي تدنو من وجهي وترطب نعاسي, وشعرت بفمه يطبع قبلة على جبيني إرتعشت لها أهدابي لفرط عذوبتها, وشعرت بيده تمسح بحنو على شعري كمن يلاطف غيمة وهو يخشى أن تذوب, وشعرت به ينتصب واقفاً كالسديم ويمضي مبتعداً.. خفيفاً كما جاء, وسريعاً كالومض. حدث كل ذلك بسلاسة وخفة لئلا يجرح يقين الحالم بصحة ما يراه, لئلا يشوّه كمال المشهد بغزو مباغت يقوّض الأشكال ويشتت المرئيات. كان كمن يعتذر سراً عن قسوته دون أن يظهر ضعفه لغير نفسه.. ولم أفتح عينيّ بل تركتهما مطبقتين على حلم يهيئ صوره ورموزه الباذخة, وينتظر دخولي. يا أبي, يا عقيل.. كيف صار لك هذا الصدر الحنون الذي لفرط رهافته يكاد أن يشفّ عن قلب مثخن بالحب, يعتريه الحزن كلما عنّ لك أن ترثي في السرّ رفيقاً, وتعتريه الحكمة كلما حاذتك المحنة وأمعنت في التأمل.. وأنت القادم منذ الطفولة من قرية عارية كالشفق أهملتها الفتوحات الحاملة أختام التحوّل, ونسيت الخرائط أن ترسم لها التخوم بعد أن سيّج الأمس الوحشي مداخلها بالغبار وقرون الأكباش, فصارت موسومة بالشظف, مدهونةً بالخشونة والبطء, لا يترجم أهواءها كتابٌ ولا يعرف أسرارها غير المحاريث. (قلدار" إسمها, (الأرض الخصبة" معناها.. لكنها تلك القرية الصغيرة التي بنت من طين الخرافة بيوتها ومن أحجارٍ منهوبةٍ سوّرت حظائرها, ومع جيرانها - تلك القرى الصغيرة المبعثرة على سواحل فارس - كانت تتراشق بالعداوة حيناً وبالمودة حينا, وكل قرية, كل بلدة, تتفاخر بالحسب والنسب والتاريخ. أما أنت الغضُ فتعبر حقول الفجل والجرجير عدْواً, باحثاً عن محطات العنادل أو اليمام, قابضاً بإحكام على فخ يخذلك كثيراً. ويقودك الهديل إلى بئر مدلّلة تحتشد حولها النسوة والصبايا مع دلاء أدمنت على الثرثرة. وفي الأصيل كنت ترى (قلدار" مائلة بجذعها قليلاً كأنها تتكئ على قوس قزح خفي, وترسل بصرها إلى خليج يمتد مثل سرير شاسع, فترسل بصرك إلى خليج يملأ حدقتيك بمياه غامضة وأفق مترجّل يحرس ودائع الأعماق من نهب لا يكفّ عن النهب خلسة. لم تتخيّل أن تعبر الخليج يوماً إلى أرض لا تعرف عنها الكثير أو لا تعرف إلا ما سمعته من نتف عنها. ووقتذاك لم تكترث بها, كأنها محض حكاية مرشّحة مثل غيرها للنسيان أو متروكة للذاكرة كي تحفظها أو تهملها. لكن مع عامك التاسع إنتحى بك والدك, الشيخ محمد صالح, جانباً وأعلن موافقته أن تسافر مع عدد من الأقارب إلى البحرين.. تلك الأرض التي سمعت عنها ولم تكترث, تلك الجزيرة التي رأيتها صباحاً تطلع من غفوة العدم مضاءة بما خلّفته البروق من شعل وتستحم مع الموجات المجنونة مثل عذراء أزلية يسيل من أطرافها زبد الشهوة. وعندما سألناك, على إنفراد, وفي أزمنة متباعدة - نحن أبناؤك الذين كان الغيب يدّخرهم لك في رحمٍ حيٍ وحميم - عن سبب مجيئك إلى هذه الجزيرة, أدليت لنا بالمختلف والمتناقض من الكلام وكأنك تشعل فينا شبق التخيّل وموهبة التأويل, أو تضعنا الواحد بعد الآخر في المدى الغامض حيث لا فاصل بين الحقيقة والوهم, الأسطورة والتاريخ, الوجود والعدم. قلتَ لي: كنت أمتثل لما أملته عليّ المياه ذات فجرٍ.. أن أسافر لأجل السفر وحده, لا لشيء آخر ولا لغاية أخرى. وقلت لطاهر: ما فعلت هذا إلا لأهرب من إبنة عم سليطة ومشاكسة أرادوها زوجةً لي منذ الصغر, وهي القادرة على تحويل حياتي إلى جحيم لا مثيل له. وقلتَ لعبد القادر: كنت ألهو ببندقية صيد فانطلقت رصاصة خدشت في مسارها الطائش راحة يدي وتركت أثراً لجرح غير غائر. أهلي ظنوا أن هذه الجزيرة هي المنتجع المثالي الذي سوف يجعلني أنس الحادثة وأنس خوفي كلما وقع بصري على بندقية. وقلتَ لشريفة: جئتُ بحثاً عن عمل. لم تكن الحياة سهلة هناك, وكان على المرء أن يساعد أهله. وقلتَ لحسين: قطعت المشيمة مرتين.. عندما فاجأني النور لأول مرة, وعندما أردت التحرر من كل شيء.. الأسرة والأرض والجغرافيا. وقلتَ لخديجة: بالغ أبي في معاقبتي على ذنب لم أعد أذكره الآن, فأردت أن أعاقبه بطريقتي الخاصة.. أن يفتقدني.. وقلتَ لصلاح: كان رجال السلطة يجوبون القرى بخيولهم وبغالهم بحثاً عن شبّان مؤهلين للتجنيد. وقد إنتشرت إشاعة بأنهم يأخذون الصغار لتأهيلهم في معسكرات خاصة ونائية. وقلتَ لفاروق: لا أدري. نسيت السبب الذي حثني على السفر والذي جئت إلى هنا من أجله. نم, ولا تشغل بالك بهذه الأمور. ربما جئتَ لأحد هذه الأسباب أو بعضها, لكن المؤكد أنك لم تأت نازحاً أو هارباً, بل جئت - بصحبة عدد من الأقارب - طرياً مع أعوامك التسعة الطرية, غرّاً ولا تفقه في أبعاد السفر وألغاز الجهات. وما تسنّى لك بعد أن تختبر ما يعنيه البُعدُ والفقدُ, وما يعنيه العيش غريباً في بلدٍ غريب, وحيداً إلا من رغيف تستعير قضمةً منه كلما عضّك ناب الجوع. كنت في حومة الطفولة تتقرّى جلجلة الطبيعة من حولك وتدرك مجفلاً أنك لم تعد في بؤرة الكون وأنك ضئيل. وقتها كانت البوابات المائية مشرّعة كالأفق, وكان الانتقال من الساحل إلى الجزر المتناثرة يسيراً ومألوفاً, فلا اليابسة حصن منيع ولا الحدود حدود ولا المرافئ مخفورة بالأسلحة. والمراكب عندما تقطع المسافة من ماء إلى ماء فإنها تحمل من بين ما تحمل تاريخاً من العادات والطبائع والأفكار القابلة للتلاقح والانصهار. وما كانت المراسيم آنذاك تحاصر حركة الحلم وحرية الريح. وقد عبرت الخليج فلول من المسافرين والنازحين والتجار والعبيد. الأرض كانت كريمة إلى أبعد حد, فلا تبخل بفيء أو ماء, وكانت تعرف العابرين واحداً واحداً من روائحهم, أما الغرباء فتترك لهم بعضاً من الخبز وشيئاً من الحنان. والبحر هو البحر. يرصف كالطفل مراياه الصقيلة ساعة يصفو ويهدأ. ينفث على رعاياه الصاخبين والكسولين معاً نفحاتٍ من طيبه وسخائه, وبعينين تترقرق فيهما المياه يرنو إلى أولئك الذين يأتمنونه على حياتهم فيهدهد مخاوفهم ويرطّب أجفانهم بما يرشّه من زبد. رائق هو الآن. نبيل ومتسامح. ولا أحد يعرف سرّ تحولاته وتقلباته. كم سطوٍ حدث أمامه ولبث ساكناً بلا حراك, وكم لهوٍ برئ أثار غضبه وهيّج عناصره. مع ذلك, لم يتهمه أحد بالجنون إنما قالوا عنه: (ذلك الغامض الشفاف". البحر بيت إن شئت. هو, بالأحرى, نُزُل مجاني يهب كرم الضيافة لكل عابر سبيل. وقد تدفع حياتك ثمناً لهذه الضيافة.. إن شاء قدرك. في الأطراف البعيدة دلافين بعيدة يحسب من يراها أنها شهب تمرح. ثمة زوارق تتهادى كأن الماء يدغدغها. والزرقة تتأرجح في الأحداق. وفي الأفق يمرق سهم من ضوء خيّل إليه أنه برق رهيف, وما كان برقاً بل وميضاً مجهول المصدر. يا لرحابة الفضاء! يا لعظمة البحر! وكيف لكائن هش أن يطل في هذا اللج الكوني ولا يصيبه مسّ من الهذيان? كنت, يا أبي, تنظر مبهوراً إلى هذا المسرح العائم والهزلي, الغني بكائناته وكنوزه, وتتمنى لو كان بمقدورك أن تقرأ الطالع وما يخبئه لك الغد, لتتجنّب ما يمكن تجنبه, وتتبع ما هو صالح لك, ولكن أنّى لكائن ناقص - هشٍ وضئيلٍ مثلك - أن يقرأ أو يترجم ما يسطره القدر في صحيفة الغيب? كنتَ متكئاً على شرودك ترى المركب المحاصر بالمياه يشق المياه اللاهية فتتناثر شظايا لتعود وتلتئم لاهيةً من جديد, فيما طيور البحر تحوم في الفضاء الحليبي باسطة أجنحتها مثل أسرّة مريّشة تنام عليها الرياح, وبمناقير مضرجة بالملح والحبَاب تخترق أروقة الضحى مطلقة الأصوات الصديقة. وكم وددتَ لو استطعت أن تمد يدك وتداعب زغبها الطري, كم وددتَ لو أن البحر بساط وأنت تتمرّغ على مخمله منتشياً بالنعومة, وتسطع بين الأمواج كالألق. على سطح المركب, حيث تحكم قبضتك على حبل يشدّ المصائر إلى موضع آمن, كان لحمك يزداد تشنجاً, وبشرتك تمتص كالإسفنج ما ترشقك به الشمس من شعاع ومن هذيان, وعيناك تغمسهما في مهبّ المصادفات فلا تلمح في رحاب الخفيّ غير شتات ينشر مرافئه على ضفاف يابسة تشنّ على الغرباء العداوة تلو العداوة فتنتابك الظنون وتعتريك الرجفة. وعندما سمعتَ رنين قلبك الخافق خيّل إليك أنك سمعت أيضاً حمحمة الجذور فالتفتّ إلى الوراء لتر إن كانت الجذور تقتفيك, وإن كانت البيوت تهرول خلفك, وإن كان أهلك ومعارفك يرخون لك الأفئدة لتعتصم بها وتعود, غير أنك لم تر إلا ساحلاً مغبراً يمعن في النأي, بكبرياء ورباطة جأش, كلما تقهقرت مدججاً بشعور غامض أن رمال ذاك الساحل سوف لن تدغدغ باطن قدمك بعد اليوم, وأن كل ما أبصرته وما لمسته وما شممته هناك حتى ذلك اليوم سوف ينحسر عن مدارك ليصبّ في السبات الكوني, عارفاً قلبك المثقل بالأسى, أنك لن تعود تركض في حقول الخس والبصل ممتشقاً الصيحة البدائية والضحك الفاضح, وأنك لن تقتصّ بعد الآن آثار الحواة والمخبولين والمصارعين الذين يدهنون أجسامهم بالزيت ويجوبون الآرياف بحثاً عن متحدّين, وأنك لن تضمّ إلى صدرك الينابيع الهاربة من قنصٍ إلى حلمٍ تحلمه ولن تشمّ نعناع السهر في الأمسيات المقمرة مع أصحاب يتبادلون الغبطة والفكاهة بين الحكاية والحكاية, وأنك برحيلك البرئ هذا قد قطعت كل مشيمة تربط شرايينك بشرايين (قلدار" وانسلخت عن أرض لم تختبر بعد مآثرك كي تحتكم إليك وانتسبت إلى أرض لا تعرف بعد كيف تستقبلك, وعلى سطح المركب الزاحف على مياه حليمة, ترخي حنينك وتسدل أهدابك على المشهد الأخير: ملاءات بيضاء منشورة على حبال الغسيل ترفرف كأنها أيدٍ بيضاء تلوّح مودعة.. في وهن. وما إن وطأت قدماك حافة الفرضة وشعرت بخفيّك تغوصان قليلاً في الأرض الرخوة حتى داهمتك الرهبة وعلت محياك طلائع الهلع فناشدت الجسارة أن تغيثك لكن ما استجاب إلى هتافك الأبكم غير الغشاوة التي أحاطت بك مثل جيش مدرّع بالضباب, ولوهلة ظننت أنك فقدت السمع أو أن كل من كان في الموقع أصابه الخَرس.. ليس هذا فحسب بل أن حركة الكائنات والأشياء قد تجمدت أو تباطأت إلى حد الجمود, والوقت كفّ عن الجريان أو صار يمرّ ثقيلاً وعلى مهل شديد. ووسط كل هذا لم تسمع إلا جلجلة أجنحة تخفق وهدير مياه تتقارع, ولم تبصر إلا ما يشبه الغمام يغلّف المرئيات. غير أن هذه اللحظة التي حسبتها ساعات, تلاشت شيئاً فشيئاً وانقشع الحجاب الغائم, وإذ ذاك إستيقظ الوقت وصحا المكان من غفوته واستأنفت كل حركة حركتها وكل خطوة خطاها, واختلط زعيق البحارة بصياح المسافرين القادمين وهمهمات العتالين وجلبة أمواج عابثة ترتطم بالسفن والصخور. وكان بوسع من يطل في مرآة حدقتيك أن ير النوارس النزقة تستعرض مهاراتها في الإنقضاض والتحليق, وير الأفق الشامخ ينحني في وقار ليستر بعباءته المضاءة عري (قلدار" وير قلقاً يترقرق, ثم لا يرى شيئاً مع انسدال الأجفان. بعدها مشيت مثخناً بالفضول. ما جئت غازياً ولا فاتحاً. زاهداً جئتَ يرافقك الهذيان والالتباس وما ربطته أمك حول زندك من رقية تقيك من العين ومن الأذى. أعزل إلا من أمنية أن تعيش في أمن ووئام دونما عوز ولا فاقة. كنت تعلم أنك لن تتمرّغ في النعيم ولن يستضيفك الرغد في مخدعه, لذا عوّلت على المصادفات التي تذرفها الحياة عند كل منعطف, واستعنت بمن يعرف أبيك وأهلك هناك ليدبرّوا لك المأوى والحماية. مارست شتى المهن: خدمت في البيوت, طبخت, عملت صبياً في المقهى, ثم عتالاً ومراسلاً.. زادك الصبر والاحتمال, فلا خيار لك. وهذي البلاد الفقيرة خاصمتك وشنّت عليك العداوة والظنون يوماً, وشملتك بدفئها وعذوبتها يوماً. بلاد تجرح وتضمّد, تقسو وترأف, لكن ما ادّخرت لك أرضٌ حباً قدر ما ادّخرته لك هذه الأرض. وأنت آثرت أن تتجانس وتسالم الجميع, وفي احتشام آخيت الجهات كلها تفادياً لهبوب الفواجع من حيث لا تدري. وآن تخرّ مساءً من التعب, على فراش تهرّأ من فرط الاستعمال وبان قطنه في أكثر من شق, تسرّح مخيلتك الطفلة وتتمتم: آه لو كان هناك جسر خشبي يأخذني إلى صدر أمي وحنان أبي وعسل (قلدار". وعندما استطال ظلك وشبّ عودك وبانت فيك فتوة العضل وازداد قلبك رهافةً, رأيتَ على سطح القنديل المضاء, وعبر الذؤابة البرتقالية لشعلة تتراقص, وجه زينب, وجه من ستكون زوجتك بعد موت بعلها, وجه أمي. وكانت زينب حينذاك زوجة رجل عليل, بشوش وطيب السريرة. يعمل في مقهى شعبي. وكانت زينب حينذاك أماً لطفل - سمّوه حمزة - يلهو بشقاوة مع عامين غضّين - هما كل عمره - ويلهب الأمسية بالضجيج. آنذاك ما أمعنت النظر ملياً في الطلوع البهيّ لوجه سوف يضئ لك الدرب بقية حياتك, فقد غضضت حياءً, وخشيت أن تُغضب الله وأهل الدار, وأنت الضيف الذي جاء بك زوجها لتشاركه الأمسية وتتبادل معه الشاي والحديث والضحك. غير أن تلك اللمحة كانت بمثابة الفخ الذي نصبه لك القدر بعد أن نسجه بدهاء بدا ظاهرياً أنه عشوائي أو مجرد صدفة عابرة, وما كنت عارفاً بحكمته أو نواياه, أو بقادرٍ على هضم الطعم, فبدا كل شيء مربكاً ومحيراً, وإلا فكيف تفسّر تلك الرعشة التي مسّت أهدابك وتلك الرجفة التي دبّت في قلبك.. ذلك المساء. ما هو مؤكد أن تلك اللحظة قد سيّجتْ كيانك بحرير الغواية وأضرمتْ فيك العشق الرهيف, فأشعلت الأمكنة بما يحشده العاشق من وجْد وولع, أشعلتَ الوقت والجهات, وساويت بين اللهب والثلج فكلاهما يحرق الفؤاد إن زاد فيه الشوق. كان حضورها العابر والسريع - في الأيام التي تلت - ينعش روحك ويذرف على صدغك رذاذ الندى فتخرج ذاهلاً ومنتشياً, يتسارع في عروقك النبضُ ويتلاطم في أوردتك الخدرُ. وما علمت زينب بالكامن بين جوانحك من هوى يحتدم ويهدر لكن لا يُسمع له صوت.. إذ كيف لجاهلة بالنفس الكتومة أن تسبر الخفيّ وتقرأ السرائر من غير مفتاح أو دليل, وأنت أمامها تكظم وتغضّ? آثرتَ أن تعتنق الصبر والإنتظار, ومرات يأستَ وفكرتَ في الرحيل, لكنك ما أعلنت لأحد عن هذا العشق المكبِّل, وما جاهرت به من خلال ومضة عين أو إيماءة إصبع, حتى حلّ الأجل بالموضع الذي يرقد فيه بعلها بعد أن اشتد عليه المرض ولفظ الشهادتين. انتظرت سنتين كاملتين بعد موته حتى تجاسرت ومضيت بخطى محمومة إلى بيت أبيها, بيت من لم تبلغ العشرين ربيعاً بعد, وطلبت يدها. ويوماً سألتك, وأنت تجسّ أعوامك السبعين بأصابع واهنة ومتفحصة, لماذا يا أبي لم تعد إلى (قلدار" ولو مرّة واحدة, ولو لزيارة قصيرة واحدة? فنظرت إليّ وكأنك تبحث في وجهي عن إجابة تقنعني ولكن يبدو أنك لم تجد فأغمضت عينيك, أطبقتهما كما لو توصد باباً, كما لو توصد أفقاً. عندئذٍ نهضتُ وغادرتك, عارفاً أنك الآن هناك.. في (قلدار" الذاكرة: تمشي في دروبها الضيقة, تتأمل بيوتها الوديعة, ثم تعبر الحقل ركضاً ومعك تسعة أعوام تعبر الحقل ركضاً. (62) إعتاد حميد ورفاقه, بعد عودتهم من المدرسة, الإلتقاء عند دكان أبي أحمد لساعة تقريباً قبل التوجّه إلى بيوتهم ورمي الحقائب المدرسية هناك وتناول الغداء. في تلك الظهيرة المشبّعة بشيء من البرودة, تصادف حضور (عيد".. وهو شخص غريب الأطوار ومتناقض. ولم نكن نعلم آنذاك أنه مصاب بانفصام في الشخصية, أو بالأحرى كنا نجهل ما تعنيه الإزدواجية وما أسبابها, وكنا نحسب أنها طبيعة خاصة أو عادة مكتسبة أو ضغط نفسي ما, لكن في المقام الأول كنا نعتبر تلك الطبيعة وذلك السلوك جنوناً أو خبلاً أو إضطراباً عقلياً, فقد كان عيد هذا يتأرجح بين حالتين متناقضتين تماماً, فمرّة هو غائص في السكينة والهدوء, مستغرق في التأمل, وإن تحرك فبرزانة وإن تكلم فبرصانة. ومرةً تراه يتصرف كالطفل وبعقل فالت لا يقدر التحكم فيه, فيشاغب ويشاكس ويطلق هذيانه هنا وهناك, مبعثراً الكلام المبهم كيفما اتفق, تاركاً الجمل الناقصة تتخبط بعشوائية, ويكون نقيض حالته السابقة.. وكأن شخصين يتعايشان في جسد واحد, ويتناوبان في التعبير عن ذاتيهما دون تدخل أو اعتراض من الذات الأخرى. وفي كلا الحالتين لم نر عيداً يجنح إلى العنف أو إلحاق الأذى بالآخرين, بل كان مسالماً وظريفاً حتى في مشاكساته. كان عيد يتقمص الشخصية المضطربة, المفعمة بالصخب والطيش, عندما جاء مهرولاً وبين يديه مقود سيارة وهو يحاكي بصوت حاد صوت البوق منبهاً ومحذراً كائنات غير مرئية تعبر أمامه, وما إن حاذى الرفاق - الذين كانوا يوجهون صوبه نظرات خبيثة وقد انفرجت شفاههم عن ابتسامات يلمع فيها الكيد وتنم عن غبطة شيطانية بوقوع صيد ثمين في شباك العبث - حتى أصدر عيد صوتاً مضحكاً شبيهاً بصوت توقف السيارة المفاجئ عند الضغط على الكابح. توقف عيد ملتفتاً إليهم ونثر عليهم بعض الكلام المختلط, غير المفهوم, وهمّ بالذهاب عندما سأله زكريا: من أين لك بهذا المقود يا عيد? رمى الكثير من الكلمات المبتورة التي لم يلتقط زكريا منها غير عدد من الألفاظ مثل: سوق, انجليز, ماء, تيس, أعرف, لعين.. مع مزيج من الألفاظ الانجليزية والفارسية والهندية. وبالطبع فإن تركيب مثل هذه الكلمات في جمل مفيدة تستدعي جهداً خارقاً لا يحتمله زكريا أو غيره. أما حميد فقد عرض عليه أن يغني مقابل زجاجة كولا, وهو العرض الذي وافق عليه عيد فوراً, وبلا مقدمات أو تسليك لحباله الصوتية باشر في تأدية أغنية إنجليزية يبدو أنها وطنية وحماسية تعود إلى أيام الحرب العالمية الثانية, فقد كان ينشد بنبرة حماسية عالية وبرأس مرفوع كأنه جندي أو محارب في المقاومة, ولم يكترث على الإطلاق بالقهقهات التي تعالت من حوله وكأنه يؤدي واجباً وطنياً مقدساً. وفي ذروة اندماج عيد في الغناء, أخذ كريم يدور حوله ويبدأ في ضرب الأرض بتلك القطع الصغيرة المحشوة بمادة متفجّرة والتي راحت تتفرقع تحت قدمي عيد الذي كفّ فجأة عن الغناء, وجحظت عيناه من الذعر وصار يتقافز في مكانه وهو يطلق العويل إزاء قصف لا يرحم. ولم يتوقف كريم عن تعذيب الرجل إلا بعد أن نفدت القطع, وعندئذ انزوى عيد في ركن مقرفصاً في فزع, لاهثاً بصوت مبحوح, وهو يتلفت خشية أن يباغته القصف من جديد. وحده نبيل لم يضحك ولم ير في الأمر أي حس بالدعابة بل وقف بلا حراك, مسمراً إزاء المشهد الشائن الذي دار أمامه, وقد اعترته رعشات خوف لم يستطع التحكم فيها. دنا منه حميد محاولاً أن يبدّد أمارات الذهول والخوف التي بانت بوضوح على قسماته وقال له: لا تقلق عليه.. إنها حالة طارئة سرعان ما تزول.. هو فقط يخشى من البرق والرعد. قال حميد هذا ببساطة ثم مضى مبتعداً, متجهاً إلى البيت. في طريقه إلى البيت, رأى حميد من بعيد بثينة قادمة, عائدة من المدرسة, تحمل حقيبتها بيد وأعوامها التي تتجاوز العشرة بسنة أو سنتين باليد الأخرى. تمشي في محاذاة الحائط مطأطئة الرأس من فرط الحياء. يتباطأ حميد في سيره, مرسلاً النظرات الجسورة صوب القامة النحيلة والشعر الأسود القصير والخطى الخجولة.. هذه الجسارة التي يستمدها حميد من ضعف وهشاشة الطرف الآخر, فهي غير حصينة وبلا دفاع, ويسهل اختراقها بالنظر. ولو أنها مشت بثقة, وجابهت التفرس المنتهك بتحديقة مضادة أشد حدّة وتحدياً, لارتبكت الأعين وزاغ البصر. أثناء ذلك, كان حميد يتساءل: لماذا صارت هذه البنت - في الآونة الأخيرة - تلفت نظره وتجذب اهتمامه أكثر فأكثر.. فلا هي جميلة على نحو صارخ, ولا هي من ذلك النوع المرح من الفتيات اللواتي لا يجدن حرجاً من تبادل الدعابات والمناوشات اللفظية, وحتى السباب الهازل مع من يقاربهن في السن من الإناث والذكور معاً. لا شيء يميزها, لا بارقة فتنة أو سحر, ولا خفة روح. حتى أنه لم يرها تبتسم لأحد. مع ذلك, ثمة عذوبة آسرة تسطع فيها, عذوبة هي ربما كامنة أو خفية, ولا تفصح عن نفسها لأي أحد, لكنها تتجلى في هيئة بصيص لمن يقترب منها أكثر, لمن يلامس الروح الشفيفة القاطنة في أكثر الأماكن غوراً من النفس, لمن لا يرى في القلب صقيعاً بل لهباً, لمن يقتحم الحصن الثلجي ليتدفأ بجمر العاطفة. لذلك, فعندما تحاذيه بثينة وتتجاوزه, دون إلتفاتة إليه وكأنه محض عدم, فإن هذا العبور الزائل يمسّ الشغاف بأنامل من ضوء. (63) لم يستطع نبيل أن يفهم وقتها الغاية من إلحاق الأذى بالآخرين, الكائنات الأكثر ضعفاً وهشاشة, ولمجرد الإستمتاع برؤية خوف وألم ودمع الآخر الأعزل من كل شيء والمحروم من الحماية والدفاع. أية لذّة شريرة وشيطانية يحسها هؤلاء وهم يمعنون في إذلال ذلك الرافع عينيه - المليئتين بالرعب والأنين - في خضوع وتوسل, مستجدياً الرحمة, وهم يبالغون في تجريده من الكرامة. لم يكن نبيل قادراً على محو تلك الصور التي حفرت شخوصها وتفاصيلها وعناصرها في ذهنه العاجز عن استيعاب حالات كتلك, وفي ذاكرته التي - على نحو معذب - لا ترغب في طرد تلك الحادثة وطمس الأفعال والملامح بل تريد أن تختزنها لغرابتها وفرادتها. كان يستعيد, في عبوس وتقزز, المشهد الفاجع بدءاً من القصف العابث والهزلي, وانتهاءً بالمجنون (عيد) وهو ينشج مقرفصاً ويتلفت بعينين زائغتين, مبعثراً نظراته الوجلة في مختلف الإتجاهات. وعبر هذا المشهد, راح نبيل يستنطق دلالة القسوة في أكثر تجلياتها عنفاً وأكثر نواياها براءة في الوقت ذاته, ويجسّ التخوم الفاصلة بين الخير والشر, ويستقرئ منابع اللذة.. ففي حركة خاطفة ولا شعورية, ربما كانت خارجة عن إرادته, وربما كان مبعثها ذلك الجزء الغامض القاطن في الغور الأكثر بعداً داخل النفس, إفترّت شفتا نبيل عن إبتسامة سريعة, عابرة, وشيطانية. (64) غيلان تسعى في الأرض لتنسج, بخيوط المكر والضلالة, اللهو الشارد من عقاله.. اللهو المجنون الذي يفتك بمن يستسلم له ويستزيده. غيلان موهوبة بالتقمص. تلعب بمهارة أي دور يحلو لها على مسرح طافح بالدعابة الشيطانية. مرةً تصير كبشاً ومرةً تصير إنساً, ولا تكلّ من تدبير المقالب للبشر. يقال أن الغول يتقمص هيئة شخص توفي منذ ما يقارب العشرين سنة, وهو يظهر وسط مجموعة من الشبان, وليس بين كبار السن الذين قد يتعرفون عليه سريعاً, وما إن يكتشف الشبان هويته الحقيقية حتى يختفي في لحظةٍ بلا أثر. من رحم الظلمة, من شق جلدي يتسع تدريجياً فيتمدد الغشاء المخاطي الذي يغلّفه حتى يرقّ ويتفتت, تخرج المسوخ فرادى وبلا إندفاع, باحثةً عن عابر في مملكة الليل لتستفرد به وتبث في أحشائه الذعر الذي لن يختبر مثيلاً له. مزيج من الشكل البشري والشكل البهيمي. جسم انسان ورأس حيوان, وللحوافر وقع يشبه صوت الجرس أو صليل سلاسل تحتك بالأرض عند زحفها البطئ والمتقطع, عندئذ يسري الهلع في الأفئدة وتتحول العروق إلى ما يشبه الهشيم, ولا يجسر أحد على اختلاس النظر عبر فراغات النوافذ أو من فوق الأسطح. يطلقون عليها ما شاءوا من الأسماء والنعوت المخيفة, غير أنها لا تعبأ. مسوخ تحكم حصارها على الفضاء الدامس وتحرس أبواب الليل الألف بأحداق يحتقن فيها الفتك. أشباح لفظتهم أجسامهم بمجرد أن مسّها الموت فأضحوا يحومون عبر الأثير في أشكال هلامية غير مرئية ولا تخضع لقوانين فيزيائية, باحثين عن أجسام أخرى قابلة للانتحال لكن لا أحد يعير جلده ولحمه لمن لم يصن بدنه عن البلى والتلف, لذا يهيمون بلا حكمة ولا غاية.. موتى في عالم لم يعد يتعرّف عليهم ولم يعد يقبل باستضافتهم أو يرحب بهم. صاروا غرباء ودخلاء في بيوت وملاعب شهدت - يوماً ما - حضورهم وضجيجهم. وها هم يرتادون الأماكن التي ألفوها وأقاموا فيها حيناً, يشدهم الحنين المعذّب إلى مراتع الأمس, ودون رويةٍ يتركون القرائن التي تدل على مرورهم أو إقامتهم العابرة كي يتذكرهم الآخرون بالدرجة ذاتها من الاشتياق, ولا يعلمون أنهم بذلك يفتحون الخوف على مداه. جنيات يرفلن بالغواية ويبزغن بزوغ العرائس في مرآة الخلوة ومخدع الفتنة. يرتجفن لذةً, الضاربات إلى الشهوة, لخلب اللبّ ونهب ما يمكن نهبه من شغف أعمى. جنيات يحملن الوجوه النضرة ويطلعن طلوع العسل من مجرى الشمع, مخضّبات بحناء الإباحة وخشخاش الألق. وفي نسغ المساء الحائر يتسربن كالحليب باحثات عن شارد يهيم عبر الأزقة مختلياً بنفسه المحرومة من حضن رحيم أو سرير عاشقة, فتمثل أمامه الجنية لتلهب خلاياه بسياط الأنوثة فيجهش بالرغبة. يجنحن إلى الإفْك - جنيات الغموض, وصيفات المعضلة - وآن يبسطن الأوشحة الزاهية مراقد للأنين الحلو ويشهرن أثداء الغواية المترعة بالباطل, لا يسلم أحد من شرنقة الوهم, ولم نسمع عن أحدٍ عاد من برزخ الوله راجح العقل. وإذا عرّجنا صوب البحر, صادفنا وحوشاً ومسوخاً لا تُحصى, غير أن أخطرها وأكثرها إرعاباً ذلك المخلوق العملاق, المفرط في الوحشية والطاعن في البشاعة, والذي يخرج من مسكنه في الأعماق مرةً في النهار ومرةً في الليل, مغطى بالطحالب والسراطين, ليبتلع من تسوّل له نفسه السباحة في محميته المائية, ثم يعود غائصا مع وجبته بعد أن يتفقّد بعينه الواحدة المدى الشاسع من المياه. كائنات الخرافة التي لا يكلّ الخيال الشعبي من خلقها وإعادة إنتاجها على مرّ العصور, ولا تملّ الشعوب من سردها بأشكال متنوعة ومتباينة, وهم جالسون - جماعات في الخلاء - حول النار مؤججين السمر بحكايات حافلة بالإثارة والتشويق, أو في الحجرات الدافئة قرب المجامر وأباريق الشاي. لم تكن الغاية الوحيدة تغذية السهرة بما طاب من قصص ونوادر شيّقة وممتعة, لكن أيضاً من أجل كبح نزعة التمرد والعصيان عند الأطفال, ولجم ما قد يظهرونه من تهوّر وعناد. بتلك الكائنات والقصص كانوا يخيفون الصغار كي يمتثلوا للأوامر أو النصائح ولا يجازفوا بالخروج ليلاً أو دخول البحر في أوقات غير مناسبة. حكايات كثيرة سمعناها عن أفعال الجن والعفاريت والأشباح من شهود عيان إلى ضحايا لقاءات مباشرة وغير متوقعة, حتى يكاد المرء أن يجزم بأنه يسمع وشوشات هذه الكائنات في أذنه ولفحات أنفاسها على رقبته, ويشعر بوجودها من حوله أو طافية فوقه تترصده وتتحيّن الفرصة للانقضاض عليه. مرّ جوهر قرب (العين" - وهو حمّام عمومي قسم منه للرجال وقسم آخر للنساء - فسمع خواراً, لكنه لم يستطع أن يتبيّن مصدره. وقتها كان الظلام يعسكر بكل ثقله وكثافته ماحياً أبعاد المكان وأشياءه فلا يعود هناك تمييز لجدارٍ عن جدارْ بل يصير كل شيء من أسلاب الظلام. وحتى ضوء القمر ما كان يجسر على اختراق سياجه المحكم. مرةً أخرى سمع جوهر خواراً فأرسل نحو الدامس خطى بطيئة ومترددة لم تستطع أن تتظاهر أكثر بالشجاعة فتوقفت. عندئذ برقت عينان مثل محجرين من لهب. الحضور المباغت والمخيف لعينين غريبتين يحتقن فيهما الغضب وتشعّ منهما العداوة, أدى بجوهر أن يطلق لا إرادياً آهة فزع ويتقهقر خطوات مدفوعاً بقوة الصدمة. وكأن رد الفعل العفوي هذا إشارة منتظرة لبدء العرض, إذ توهج الحيّز فجأة بفعل ضوء خفي ومشع, وسطع كائن مسخ له رأس ثور وجسم آدمي, يتفرّس وفي نيته البطش. ولم يكن جوهر بحاجة للتريّث وقتاً أطول كي يستطلع الأمر أو يستجوب الظاهرة الخارقة, فقد إنتزع قدميه من موضع كاد أن يعتقلهما ويشلهما عن الحركة, وركض بأقصى سرعته حتى دخل بيته مندفعاً, وراح يخيط باللهاث أسمال الرعب ويحلج الهذيان بعد الهذيان وسط أهلٍ أحاطوا به فاغري الأفواه, وسوروه بالدهشة وتخبط التأويل. وقد تركت تلك الحادثة بَصْمتها على جوهر والمتمثلة في إرتجافة يده اليمنى ما إن يمسك بفنجان أو بشيء ما. أما هود فقد رأوه جاثياً عند نهاية الزقاق وهو غارق في ضحك هستيري, وعندما انحنوا عليه يسألونه عن السبب, صمت فجأة واعتراه الذهول ولم ينبس. لم تنفرج شفتاه, بل ظلتا مضمومتين شهراً كاملاً. كل الكلام الذي يبغي قوله كان يدور في حلقه كالدوامة لينحدر بعدها في جوفه. زوابع من الكلام تحتدم وتتدوّم في داخله لتهدأ أو تخبو من تلقاء نفسها. كل هذا كان يبدو جلياً على قسمات وجهه وإيماءات يديه كلما أراد أن يلفظ الكلام الحبيس. وهذه الحالة كانت تثير الشفقة عند البعض وتثير الضحك الفاحش والمكبوح معاً عند البعض الآخر. بعد ثلاثين يوماً, وقبل أن ينطق بحرف, أطلق صرخة مدويّة أرعبت حتى القطط, وانفتح الفم أخيراً كما لو أن لعنةً قد رُفعت عنه, وبدأ يروي الحكاية: كان سائراً, مساءً, وانعطف نحو زقاق معتم بعض الشيء, وعندما شعر بحضور شخص خلفه توقف والتفت ليرى فتاة باهرة الجمال, تشعّ نضارةً وبراءةً, فنظر إليها مصعوقاً غير أنها بادرته بسؤال عن الطريق الذي يفضي إلى الحيّ المجاور. إنتشى أكثر بصوتها الدافئ والطفولي, وتطوع لتوصيلها. مشى أمامها خافق الفؤاد, راعش الأطراف, من شدّة الوله الذي استولى عليه وسلب لبّه وعقله. غير أنه, مع الأصوات السكرى التي تجيش بين جوانحه من فرط اللذة, سمع وقع حوافر تطرق الأرض بتوءدة وفي إيقاع رتيب. في البداية إرتاب في أذنيه لكن مع إلحاح الوقع الوئيد حلّ اليقين. وما إن بلغ آخر الزقاق, حيث الضوء الهارب من مصدره الشاهق يحتل حيزاً محدوداً, حتى توقف هود ثم استدار.. وإذ ذاك جحظت عيناه من الفزع وتجمدت الصرخة في حلقه.. - اسمع يا زكريا.. إذا تناهى إلى سمعك صوت حوافر, حتى لو كان حماراً حقيقياً, لا تنتظر لتتأكد بل سارع إلى رفع طرف ثوبك وأطلق ساقيك للريح.. (قالها عزوز ضاحكاً ثم أضاف) - أما أنت يا كريم فيسهل صيدك, لذا حاذر الظلمة وارفع مصباحك عالياً حتى يحسب القمر أنك تغيظه بضوئك المزوّر.. - أخي يقول ان كل هذا باطل.. محض خرافات. والناس يتوهمون. - أخوك حمزه لا يعرف كوعه من بوعه. - المسّ الشيطاني يطال حتى الأطفال.. هذا ما يقوله أبي. - أبوك مخرف يا كريم. - جدتي تقول أن التعايش بين البشر والعفاريت كان ممكناً ومألوفاً في الزمن البعيد. أيامها كانوا مرئيين, ولهم أشكال بشرية لكن تميّزهم آذانهم الكبيرة. كان لهم عالمهم وللبشر عالمهم.. ولم يكن هناك ما يفصل بين العالمين. وكان بينهم قانون غير مكتوب لكن متعارف عليه منذ القدم وهو ألا يتعدى طرف على حقوق الطرف الآخر أو يؤذيه بدنياً أو لفظياً. وقد احترم الطرفان هذا القانون حتى انفصل العالمان وتباعدا بفعل مجئ الكهرباء وزحف الآلات نحو هذه البقاع.. عندئذ اختفت عن أنظار البشر. - وأين هي الآن? - يقولون أنها بعد أن ضاقت عليها الأرض, صارت تحب الإقامة في العراء وفي الخرائب.. - هل حقاً تخاف هذه الكائنات من الحديد والمعدن? - ياجوج وماجوج يأكلان الحديد والحجارة مع أن طولهما لا يتجاوز الذراع. - ما بالك يا كريم تخرف مثل أبيك.. هذا لن يحدث إلا يوم القيامة. الله ضرب سوراً حول ياجوج وماجوج ليمنعهما من إيذاء البشر. - هل تظنون أنها الآن في هذه الخرابة ترانا وتسمعنا? - ربما.. - لا, هي لا تظهر في النهار. مع مغيب الشمس تخرج.. عندما يحل الظلام. الشمس تحرقها. - ليس شرطاً, سمعنا الكثير عن خروجها نهاراً. - ألا يستطيع المرء أن يقاومها? أن يتصارع معها مثلاً, أو يرشقها بالحجارة? - لن يمسّها أي أذى, فأجسامها ليست كأجسامنا.. ليست من لحم ودم.. هي كالطيف, كحزمة ضوء. وهي شفافة, تخترقها الحجارة دون أن تحس بها, وكأنك تطعن الماء أو الهواء بسكين.. - التعاويذ تفيد.. إنها تبعدها وتحمي أجسامنا. - ما رأيكم في اصطياد كائن منها ليشرح لنا كل ما التبس علينا, وليفشي كل أسرارهم.. - وكيف نقدر يا ذكي? - ننصب لهم الفخاخ.. - ألم تسمع ما قيل منذ لحظة? كيف تقنص ما يطفو ويحوم ويميس من حولك دون أن تراه? - سألتكم إذا كانت هي الآن معنا, في هذه الخرابة, ترانا وتسمعنا.. ولم يجبني أحد.. - قلنا لك.. هي تخرج في الليل فقط.. - لم أنت خائف إلى هذا الحد يا كريم? - حميد, لا تتظاهر بالشجاعة.. ليس عندما يتعلق الأمر بالأشباح والجنيات.. - أنا لا أخاف لأنني لا أظن أنها موجودة.. - حتى في الليل? - حتى في الليل.. - وكيف عرفت? - سوف أثبت لكم. - كيف? - سوف آتي إلى هنا.. مساء هذا اليوم.. وسوف أدخل وحدي وانتظر ساعة.. بهذه الطريقة يمكنكم أن تتأكدوا من صحة ما أقول.. - انه مجنون, لا تدعوه يفعلها.. - بل سأفعلها. (65) قال له زكريا: خذ معك قنديلاً كي لا تجهد عينيك في رصد وتقصي كمائن الظلام. للقنديل سطوة على الظلال التي تنبثق وتتلاشى في هلع. الضوء بشفرته الرهيفة يشق لك العتمة كالسكين. وإذا رماك الذهول إلى مهب المباغتات فتشبث بمعدن أو قضيب يتلألأ بين كفيك, أو استعن بضفاف الحكمة وتمتم سراً: (ما هذا إلا وهْم, ومحض رؤى". لكن لا تذعن لإرهاق أو نعاس, دع اليقظة ترشدك في حقل لن تر فيه بقولاً ولا سنابل, حقل لن تر فيه غير بذور الظلمة.. ولا يفتح أقفاله غير بريق المشاعل. أما الكائنات التي تنبجس هنا أو هناك فسلّط عليها من زيت القنديل وأشعل الفتيل. قال له كريم: خذ معك النشيد, ولا تكفّ عن الإنشاد والصفير. أحزم الأغاني موالاً موالاً. أضء الأنقاض بالصوت واللحن, ودع لهاثك يسرد ما يسرده الرواة من قصص ونوادر كي تخفّف قليلاً من غضبهم على إقتحامك الوقح لمثواهم. ومن جديد أبرم الإتفاق معهم بألا تنتهك حرمة منازلهم بهكذا فظاظة وجلافة. أما إذا عنّ لهم أن يثأروا, فارفع عقيرتك واستغث بنا. قال له عزوز: خذ معك الخيزران دليلاً, ولكي تلهب به ظهر العتمة إن تمطت واعترضت مسارك. وبه أيضاً تمتحن ما يُلتبس عليك وأنت واقف بين تخوم اليقين وتخوم الوهم. وإذا شئت أن تدغدغ به المياه فلك ذلك إن التقت بك المياه. لكن إذا سمعت رفيفاً يُراد له أن يكون كرفيف الحمام أو سمعت ديباجةً يرتجلها حضور غرائبي فلا تستدر.. أهرب ولا تنتظر, لا تمهل النفس برهةً لتستطلع الظاهرة إكراماً للفضول أو حباً بالمعرفة.. ونحن الشهود سوف نغضّ ونتظاهر بالعمى ريثما تعبر أمامنا ركضاً خارقاً ومن خلفك تعبر الأرواح ركضاً أيضاً. قال له مفتاح الذي لم يكن هناك: خذ معك الشفق - كما تأخذ الإبريق - من عروته, واغمس في حبره الوردي ريشة البسالة ثم دحرج الشفق وامض خلفه مهتدياً بما يذرفه من شعاع وردي يشبه حرير الأفق. وإذا صادفك ما يصادف المحارب في الحومة فتذكّر أن لك أمّاً ثكلى ترفو لك من الآن المراثي. أمزح معك يا هذا! أدخل ولا تتردد. سدّد قبضتك نحو الخوف وأعلن له جهاراً أنك برئ منه حتى الأبد. شمّر القميص عن بأسك الذي لا يضاهيه إلا بأس الصارية, واسأل المساء قبل إنحساره أن يلهمك الحيلة والوسيلة لاقتناص ما يؤويه المكان من ألغاز أو لفضح مهزلة الخرافة. أخذ حميد كل هذا ودخل, حاملاً كذلك ما يحمله عابر المفازة من: قلب واجف لم تفلح نعمة المجازفة في صقله بالشجاعة الكافية, عضل يرتجف كلما أرادت التجربة أن تشحذ همته, هواجس معلّقة على سندان الوحشة تحتدم كلما ارتطمت بها مطارق الظلمة, رهبة لا قرار لها ترجو الامتحان أن يكون أكثر يسراً من فعل النوم, عناد أخرق يحسب الجسارة في رؤية المركب لا في السفر. حمل كل هذا لكن لم تكن لديه شفاعة البلاغة كما عند الرُسُل ولا شهوة الرحيل كما عند البدو. والمفازة الفاتحة أشداقها تتفرس في الزائر بأحداق يترذرذ منها الإزدراء. دخل حميد ليجد نفسه في قارعة الجحيم وحيداً وعليه أن يجتاز أسنة اللهب عوماً أو عدْواً. لم يكن الظلام هنا خيمةً, كان عباءة كالحة مسدلة بإحكام على كوْنٍ لم يتشكّل بعد. وعندما حرّك حميد قنديله - يميناً مرةً ويساراً مرةً - شطر الفراغ الأسود بمدية من ضوء لكن لم يترك شقاً منه ينسل, لذا تجاسر واخترق الفراغ الدامس خطوتين. كان يعرف حتى قبل أن يدخل, حتى قبل أن ينطق بالعبارة المشؤومة (بل سأفعلها", أنه ما كان ينبغي أن يراهن ويُشهد الآخرين على إسرافه في إدعاء البطولة لمجرد أن كريماً داعبه بالقول: (لا تتظاهر بالشجاعة.." كابر وجاء مثقلاً بالعناد الأجوف فلم يردعه عقل ولم يلجمه نذير ولم يأبه بالنصيحة. لن ينفعه الآن توبيخ النفس على حماقة نفرت من طيش اللحظة, وعلى لسان ارتكب الزلة في غفلة من الحكمة, وعليه أن يبرهن لرفقة - تقاسم معها خبز الصداقة وملح الحب - صحة ما أصدره من حكم بالباطل على كل الشواهد, وصواب ما زعمه من أن ما يتراءى هو محض أضغاث وخزعبلات, وإلا فسوف لن تغفر له - هذه الرفقة - موهبة الإدعاء وسوف توسم أيامه القادمة بوسم السخرية والتهكم إن هو جبن وتقهقر قبل أن يخوض التجربة. ها هو يطوي مخاوفه ويهدهدها كرضيع, متضرعاً ألا تخذله ركبتاه في هذه الساعة, ومتوسلاً وساطة الليل كي يخرج من المحنة مصون الكرامة. ويهيب بالعويل أن يؤجل الطلوع من حنجرة سوف تفضح حتماً مالكها الذي لن تشفع له المحاولة. يتحرك على نحو أخرق, وبلا عجلة, موجّهاً المصباح كيفما اتفق, شاعراً أن الحصار الحيّ يحكم حصاره عليه حتى ليكاد أن يسمع نبضه. من خلال الضوء الشفيف الذي يتدافع هنا وهناك, كان بوسع حميد أن يرى بأن الخرابة ذاتها قد تغيّرت وتحولت وانتحلت هندسة أخرى غير التي ألفها واختبرها وتجانس معها في النهار ردحاً, وكأن الظلام يخلق لنفسه الأشكال والتضاريس التي تحلو له وتتواءم مع طبيعته. يطأ حميد جغرافيا الظلام, أعزل حتى من الخرائط ومن التجربة, ليرى بعينيّ الغرّ والمبتدئ: الفراغات وهي تلملم ما تساقط من أسمال وما تناثر من أحجار لترمم بها الذابل من كل سطح والشاحب من كل قوس, وتملأ كل ثغرة بالرنين والصدى لئلا يُقال أنها هرمت. المسافات وهي تتعرى من أبعادها ونسبها, وتتدرّع بأشكال ليست كالأشكال, فتتسع الكتلة وتضيق في آن, وتتجرّد الدائرة من قطرها فتنتابها ما يشبه اللوثة, ولا يعود للمثلث خطوطه الهندسية, عندئذ, كل من يذرع المسافة يصيبه مسّ. الفضاء وهو يحشد ما لا يُرى من أعشاش وريش وأجنحة مبتورة تخفق ببطء شديد, وينظر إن كان أحد يقدّر هذه الدعابة. الجهات المزكومة برائحة الروث وبول الحيوان وهي تحمحم كأنها أمست مأهولة بخيول من سديم. الحيّز وهو يغيّر موقعه كل دقيقة ويتقمص في كل مرة هيئةً تبلبل وتشوّش. لم تعد الغرف, المنزوعة أبوابها, تطل على طمأنينة المكان بحكمة المتأمل وزهد الناسك بل صارت مسكونة بما يخيف وبما يجعل الأوصال تصطك. لم يعد الغبار - بنكهته التي لا تشبه نكهة شيء آخر - يجلس على العتبات ثقيلاً كالِقدْر بل إرتفع كثيفاً وراح يرتطم بما يصادفه في جنون مطلق. وفي زاوية هبّ منها ضوء فجائي كان من الممكن رؤية جسور صغيرة معلقة بلا أعمدة ولا دعامات.. طافية في سكون وكأنها أعجوبة, غير أنها اختفت في لمحةٍ. الخرابة نفسها صارت أشبه بكوكب لا خالق له ولا له أقدار تحكم المصائر, إنما يتشكّل تلقائياً ليهدم بعد ذلك أشكاله, ومن الأنقاض يبني بلا انقطاع.. وكأنه ممسوس بالهدم والبناء دونما غاية إلا غاية اللعب. ووسط الهدأة, بين الهدم والبناء, يستنجد حميد باليقظة وبالذاكرة, ويتساءل: هل للمكان ذاكرة? هل تتذكرني الغرف والجدران والعتبات فتعرف أني صديق قادم للزيارة لا للإساءة? هل أسطع الآن في ذاكرة السقف المتصدع فيرنو إليّ بعين حانية ويودعني أسرار المكان وخفاياه ثم يسمح لي بأن أخرج في أمان? يبتهل حميد لهذه الذاكرة أن تهبه العون والمدد. لكن لم يعرف حميد, لم يعرف أبداً لماذا اشتم في تلك اللحظة رائحة ليمون وكأنه يتدلى عناقيد عناقيد حوله وعلى مقربة منه. صار المكان عابقاً بهذه الرائحة التي انتشرت وحامت حتى علقت الحموضة بالأشكال وبالفراغ. وفي غمرة الرائحة والحضور المربك لثمرة نزحت عن شجرها وجاءت إلى هنا أرتالاً لتتدلى بلا دعم من الأغصان, تراءى لحميد أن عيوناً لا تُحصى, عيوناً تجمهر فيها الشرر, إنبثقت بغتةً من كوى الظلام لتحْدق به وتحدّق إليه, فامتقع وشحب وفاض فيه الهلع حتى غصّ وكاد أن يخرّ لتبتلعه الهاوية لولا أن أطبق أجفانه بشدة وعندما فتحها لم يجد عيوناً كالجمرات تتوعّده وكأن ممحاة سحرية إزالتها, غير أنه شعر للحظةٍ بقطرة مالحة تحرق مقلته ثم فجأة توهج الموقع الذي يحتله السلّم الحجري المتصدّع, فأمعن النظر ليلمح البزوغ التدريجي لشيخ سمح الوجه ذي لحية طويلة بيضاء, وعليه رداء أبيض يغطي قدميه, وكان واقفاً ببهاء ووقار على الدرج الذي صار من رخام, مدّ ذراعه الطويلة نحو حميد مشيراً له بأن يقترب, قائلاً بصوت مهيب: تعال يا فتى, تعال إليّ. عندئذ إنبجست من جوف حميد صيحة فزع خالها لن تنتهي أبداً. (66) فجاء إليّ مفتاح بطيئاً وخفيفاً كما الشعلة العابرة وحدها عُباب الظلام ولا تضئ إلا نفسها, ومال صوبي بقامته الرشيقة وبشرته السوداء الجميلة, ووهبني ابتسامته الحلوة التي أيقظت روحي وأنعشت أطرافي, ثم مسّد جبيني بأطراف أصابع تكتظ فيها النداوة. وشعرت بنفحةٍ رطبة قرب أذني وتهادى إلى سمعي صوت مفتاح العذب يهمس: (قم معي يا حميد.. إتكئ على كتفي بيد, وبيدك الأخرى إتكئ على هودج حلم غضّ نخوض به ضفاف اليقظة لأريك ما رأيت حتى صرتُ أخفّ من الأثير وأكثر براءة من الجنون". وكنت مع دليلي أطأ تربة لم تُحرث بعد, وحولي بذور الرؤى تتقافز صائحة لأن ثمة من أهملها وتركها مهجورة في العراء والبرد, فجثوت وغمست سبابتي كلها في التربة ثم أخذت بذرة ووضعتها في الحفرة الصغيرة ودفنتها, فلم تمض دقيقة إلا وانبثق من موضع البذرة جذعٌ راح يصعد عمودياً ويرتقي الفراغ ويتضخم حتى بلغ طوله العشرة أقدام أو أكثر فكفّ عن النمو, ومن الجذع انبجست الأغصان في لمحةٍ وتفرّعت على عجل وبدأت الأغصان تورق بكثافة وجاءت ريح خفيفة هبت على الأوراق فاهتزت الأغصان قليلاً ثم تماسكت عندما باشرت الثمار في الطلوع والاكتناز والتكوّر وصارت بحجم الرمّان لكنها لم تكن فاكهة تؤكل بل بدأت أغشيتها اللامعة كالزجاج تشفّ عما يتكوّن بداخلها: أجنّة بشرية, بالغة الصغر, تطفو مترعة بالجذل. كنت أرقب كل ما يحدث في انبهار, وهتفت بي الدهشة أن أدنو واقطف ثمرة, فالتفت إلى دليلي مفتاح لأستأذنه, غير إني لم أجده بقربي بل رأيته يمضي مبتعداً بخطى وئيدة مثل نهر ينأى عن ضفته. ناديته فلم يجب ولم يلتفت. لحظتها شعرت بعرق غزير يبلّل وجهي, وملوحة حارقة تخترق بؤبؤيّ, فأغمضت عينيّ متوجعاً وراح جسمي يرتجف بشدة بفعل حمى عنيفة اندفعت في أطرافي وباغتت عروقي وخلاياي, وعندما باعدت بمشقة بين أجفاني التي بدت وكأنها مختومة بالشمع, قدرت أن أرى من خلال الغشاوة وجه أبي, الذي يكسوه القلق ويعتريه الأسى, يطل عليّ مشفقاً ومؤاسياً في آن. وبقربه وجه الملا - الذي بدا أشبه بوجه الحلزون - وهو يتلو آيات متلاحقة يزدرد نصفها وكأنه في عجلة من أمره. أردت أن أسأل أبي لكن خانتني الشكيمة وأخذني الوهن إلى سبات عميق سرعان ما بدأ يضطرم ويهتاج فجاءت الحمّى وانتشلتني لتزجّ بي في رحيل أجهل مبتداه ولا أفقه منتهاه, وأسرت بي الرعشة إلى رحاب غابة تحفّ بها الأجمات وأشجار الصنوبر لأصادف بثينة تمشي مرتدية المعطف الأحمر وفي يدها سلة ملآى بالورد. إستوقفتها منادياً إسمها لكنها لم تعرفني ولم تتذكر إن كان لها مثل هذا الإسم, غير أنها منحتني وردة حمراء ووهبتني أجمل ما يمكن أن تهبه صبيّة لصبي: إبتسامة. وعندما ابتعدت قلت لنفسي: يا إلهي, سوف يفترسها الذئب مثلما إفترس جدتها ورقد في سريرها منتظراً. صرخت محذراً, لكن الصرخة تمزقت وتبعثرت في حنجرتي ولم تخرج إلا في شكل أنات وآهات, فشعرت إذ ذاك بيد حانية ترطّب جبيني بكمّادة. فتحت عينيّ وكان الظمأ يضرّج حلقي بجفاف مرّ, فرأيت وجه أمي يسطع أمامي بكل رقته ووداعته, وتهبني أجمل ما يمكن أن تهبه أم لإبنها: نظرة حب. (67) لثلاثة أيام كان حميد رهين حمّى طاغية تشكّ له الأحابيل وتضرم له الضغينة فتأخذه في مركبة مدججة بالنار من سبات رائب إلى هذيان عارم لتعيده منهوكاً وخائراً إلى نعاس أو وسن لا يستقر فيه إلا قليلاً ليداهمه هذيان آخر يهرس حواسه ويشتت الخطى, أو كابوس آخر يدشن له أشكال الرعب. وفي خارج صومعة الحمّى المنيعة كان أبوه عقيل يرصد - مرةً مع الملا الذي يحلج له التعاويذ والأدعية لصيانة البدن الذابل من التلف وليطرد بها أرواحاً قد تتوافد لتسكن البدن الطيّع, ومرّات يربض وحده محتمياً بالإيمان, لائذاً بالقدر - يرقب ويرصد تحولات الجسم الهش الذي تطحنه رحى البلبلة, متضرعاً إلى الرب أن يقيه ويحميه. وفي خارج صومعة الحمّى المنيعة أيضاً كانت أمه زينب الطافحة بالخوف على وليدها, العامرة بالأسى, تحرس مرقد هذا الذي ترك أعضاءه المريضة هنا وضاع في مدى القنص وحيداً ويتيماً. وتتحيّن زينب الوقت الذي لا يعود فيه للنوم أو الحمّى سطوة عليه لكي تتلقفه بذراعين يفيض منهما الحنان ولتضمه إلى حضنها المشتاق. لكن الوقت لا يحين فتعاتب نفسها لأنها لم تدلله كفاية ولم تبذل له ما يشتهي من نِعم. وفي خارج صومعة الحمّى المنيعة أيضاً كان إخوته طاهر وعبدالقادر وشريفة يطلون عليه, بين الفينة والأخرى, في قلق ولا يفقهون ما الذي ألمّ بشقيقهم الأكبر, وإلى متى سيظل طريح الفراش هكذا. أما حمزة فقد كان يسأل ويتأسف لأنه لم يكن حاضراً معه ساعة المحنة كي يحميه ويذود عنه مثلما يفعل دوماً. وكان حميد يصحو بين وقت وآخر, ولبرهة وجيزة, معفراً بطين الإلتباس, ليعاين الوجوه المحيطة والموضع الذي يرسو فيه جسده المرضوض لكن لا يمهله الشرود إذ تنتابه بغتة جند الحمّى وتسترجعه وكأنه لا يزال الجسم اليانع الذي يحلو قطافه ولم يستنفد بعد. في اليوم الرابع كان رفاقه: كريم وزكريا وعزوز ينتظرون خروجه من البيت بقلوب ملأى بالحنين إليه وبالخوف عليه. وما إن بزغ حميد طالعاً من الباب, وأثار الذبول لا تزال بادية عليه, حتى اندفعوا نحوه وأحاطوا به مدثرينه بالبشاشة والحبور وهم يتفحصون هزاله واصفرار وجهه فتطفر التعليقات الطريفة مترددة وخجلة في بادئ الأمر لكن سرعان ما يتعالى الضحك وحتى حميد لم يجد غضاضة في التندر على نفسه. كانوا في الساحة يتناوبون الكلام والدعابة, ويتقاسمون الضحك والمحبة, عندما لمحوا نبيلاً وهو قادم من الجهة التي تصل البيت بالساحة والتي اعتاد أن يطرقها كلما أراد أن يلتقي بأصحابه. الجهة التي هجرها شهراً حتى كادت أن تنسى رائحته ووقع خطاه. وربما لهذا السبب - شعوره بالذنب لمحاولته الثانية تجنب رؤية رفاقه وقطع صلته بهم - هو الذي يجعل الرفاق يرقبون حضوره الآن بلا عداوة, ويتطلعون صوبه بلا كراهية, لكن النظرات تفشي صراحةً حجم اللوم والإدانة, وتكشف على نحو لا لبس فيه ولا مراوغة أن لا صفح عن إثم كهذا. وما إن توقف نبيل على بعد مسافة قصيرة, حتى بادره كريم بالسؤال متهكماً: أين كنت يا نبيل, لم نرك منذ أسابيع? أراد نبيل أن يحتمي بالآخرين من هذا التهكم الذي أربكه, فلم يجد عوناً من أحد, لذا رد متلعثماً: كنت مشغولاً.. أدرس.. ولم يكمل لأنه لم يجد إجابة مقنعة, فاعتصم بعينيّ حميد الذي أرخى رأسه معلناً تخليه عنه ورفضه الدفاع عنه أو حتى تبرير فعلته. يتحرش به كريم مرة أخرى: ولماذا جئت الآن? حائراً أرسل نبيل إبتسامة حائرة: أنتم أصدقائي.. أريد أن أكون معكم. عندئذ إنفجر غيظ زكريا فأطلق الحكم الذي إتفق عليه الرفاق سراً, كل على حده, دون أن يناقشوه معاً: نحن لا نريدك. كان قراراً جماعياً, لم يخططوا له فيما بينهم, ولم يتفقوا عليه من قبل, لكن تبناه كل منهم بعد أن خذلهم نبيل للمرة الثانية وجرح مشاعرهم. لذا فإن تصريح زكريا لم يفاجئ أحداً منهم غير نبيل الذي شعر بظلم يلحق به لسبب لا يستأهل هذا الموقف الجائر: ماذا فعلت كي أستحق هذا? أهو خطير إلى هذا الحد? رد عزوز كمن يرى جدلاً عبثياً ويريد أن يحسم الأمر: إذهب يا نبيل, فأنت لست منا. ونبيل يتشبث بحقه في أن يعرف: لماذا تكرهونني? يتصدى له زكريا مرة أخرى: نحن لا نكرهك أنت, لكن نكره ملابسك. نكره أحاديثك وضحكاتك وطريقتك في الأكل. نكره نظراتك إلينا عندما تظن أننا نخطئ أو نقول البذئ من الكلام أو نمارس عنفاً ما.. نكره رأيك فينا. كل شيء فيك مختلف عنا. أنت لا تستطيع أن تكون مثلنا, ونحن لا نستطيع ان نكون مثلك.. لم لا تريد أن تفهم هذا? يلتفت نبيل إلى حميد اللائذ بالصمت, والذي لا يبدي أي اعتراض أو تذمر: حتى أنت يا حميد? في هدوء يجيبه حميد, هدوء يشوبه الشجن: إذهب يا نبيل, إذهب إلى بيتك.. كان حميد عائداً إلى البيت - يغالب الوهن الذي راح يسري في أطرافه إلى حدٍ لم يحتمله فغادر رفاقه ملتمساً الراحة التي قد يوفرها النوم - عندما صادف عفاف تخرج من بيت صديقتها, فتوقفت مبتسمة له وسألته عن صحته ثم بخفر سألته عن حمزة, فأجاب وهو يحاول التماسك والتحكم في توازنه بأن أخاه لا يزال يقيم مع خاله وبأنه لم يره منذ أيام.. ثم أضاف: (هل ثمة شيء تريدين إبلاغه?".. هزّت رأسها والشحوب يعلو إبتسامتها: لا, لا شيء. (68) هل كان بوسع بثينة ان تعرف نوايا وغايات هذا الذي يتبعها كالهواء, ويطوّق مدارها كالثوب, منذ ولوجها تخوم الحيّ قادمةً من المدرسة مع سرب من أحلام اليقظة, والذي يبدو جلياً أنه كان يترقب مرورها كي ينزّه الشوق في رفيف خصلاتها ويرتجل كلاماً حلواً كالورد يعلم أنه لن ينسلّ أبداً من فمه, لذا سوف يعتصم بالصمت? هذا الذي ينكئ بحذائه المطاطي النتوءات الترابية والحجرية الطالعة من الأرض فيما يسير خلفها متمهلاً ومتباطئاً, غير راغب في محاذاتها وتجاوزها, بل هو راضٍ أن يكون مجرد تابع أو حارس يقتفي مواطئها, ويلمّ شذاها حفنةً حفنةً, ويحلج بنظراته جسراً وثيراً يصل أنفاسه بأنفاسها ويشاطئ عالمها الأليف? هذا الذي لم يكترث بها يوماً, ولم يلتفت إليها من قبل, فصار فجأة - ومنذ أسابيع قليلة - مهتماً بها إلى هذا الحد.. إلى حد أن أضحى في الأيام الأخيرة يختم خطاه على ختم خطاها على الأرض, منتحلاً براءة عابر السبيل ومتظاهراً بأنه محض متسكع يذرع النهار بلا هدف? ما الذي يريده, هذا الذي حفظت اسمه وتعرف افراد عائلته, لكنها لا تعرف نواياه وغاياته? ولماذا تلمح في عينيه الحائمتين, ما إن تحطان هنيهةً على شفرة عينيها, ذلك الوميض القزحي المترقرق كجمرة تدرك أن قدرها الإنطفاء, وفي وجهه الذي يمتقع تتهجّى حفيف الحياء? لم تلق منه حتى الآن ما يسئ وما يهين, ولم تجد في ملاحقته لها فعلاً مشيناً, بل أنها في قرارتها - ورغماً عنها وعن المكابرة - باتت تتقبل الأمر وتجيز هذا الولع إشباعاً لغرورها وإرضاءً لأنوثة كامنة ما تفتّحت براعمها بعد وما ضرّج الهوى مقلتيها بكحل السهر بعد. وعندما وصلت إلى البيت وارتقت العتبة الوحيدة ووضعت راحتها على الباب لتدفعه, شعرت برغبة جارفة في الإلتفات خلفها لتر إن كان لا يزال واقفاً هناك, على بعد مسافة آمنة, غائصاً في ارتباكه واضطراب أنفاسه أم أنه لملم يأسه ومضى متوارياً في جهات الظهيرة المفتوحة. لكنها قمعت رغبتها ولم تلتفت بل سارعت إلى دفع الباب براحتها فانفتح لتهب عليها رائحة بيت أليف إعتادت أن تستقبلها في هذا الوقت, ودخلت موصدة الباب خلفها, موصدة القلب على من لا مفتاح معه وليس جديراً بعد أن يكون فاتحاً. مرةً أخرى ينفضّ حميد عن ملتقى الخيبة, قابضاً على دجل الوعد الكاذب - الذي أطلقته نفسٌ واهمة - بقبضة من يحتكم إلى ما يراه لا إلى ما يحلم به.. وعد أن يزهر قلبه ما يشاء من غبطة إن اعتنق الصبر ولم يستعجل. وها هو يعلن ضجره ويغمد الوجع في مهب السهو. ومدحوراً يلتقط بقايا الحسرة شلواً شلواً, عازماً ألا يترك دمعة القهر تطفر رغماً عنه. ويسدل أسمال الهزيمة على وهْمٍ غرزه في الصدر كالوسوسة. ويمضي عارفاً أن لا حظوة له, وعارفاً أيضاً أنه لن يتوب. (69) في عراء مسقوف بغمام مثقل بالضجر يتدحرج وئيداً عبر فضاء تنداح فيه الزرقة وتشتت مسار رياحه أجنحة اليمام والشحارير وبعضٌ من طيور السُمُّن.. في عراءٍ محفوف بحرابي تموّه أشكالها كلما عنّ لها أن تشاغب زواحف غازية, وفيه تعتكف العزلة تحت مظلة من رقائق الضحى.. وكل وحشةٍ في هذا العراء درعٌ للعراء الأعزل أو فزاعة, ها هنا اعتاد حميد ورفاقه, كل جمعة, أن يجسّوا نبض الأرض خلسةً ويسألوها موشوشين أن تدلهم على أنسب وأخصب المواضع لنصب الفخاخ.. وهناك يشرعون في تأثيث غرف الخلاء بفخاخ ذات بأس وشكيمة لاقتناص الجاهل من طيور لا تسعفها الغريزة في تجنب المكائد. وبينما يترقب الرفاق - من مكمنهم البعيد قليلاً عن الكمائن - هبوط طائر شره من ملعبه الشاهق, ينغمسون في التراشق بالتعليقات وطرْق الحديث بالحديث بنزق صبيةٍ لا يرون من العالم إلا الوجه الذي كلما شاخ أو تداعى, سارعوا إلى تجميله وتشكيله وفق هواهم. ينهمكون في الكلام حتى يتطرق حميد إلى تلك الرغبة المهيمنة التي لا يستطيع مقاومتها, الرغبة في أن يكون له أب آخر, أب لا يهابه ولا يخشى أن يزجره أو يوبخه كلما سأله عن ألغاز الوجود. هو أقرب إلى الصديق منه إلى والٍ يملي عليه الفرائض والواجبات ويطلب في المقابل الامتثال والخضوع. أن يصير له النموذج والمثال دون أن يكون تابعاً بسبب الدم أو الولاء, أب يحاوره بلا حرج. ولم يعلم حميد, فيما هو يسهب في إعلان أمنيته, أنه ينكأ جرحاً غائراً في نفس زكريا لا يريد أن يندمل ويبرأ.. ولهذا كانت دواخل زكريا تغلي وتضطرم كلما أمعن الآخر في الحديث عن أب بديل, حتى انفجر زكريا صائحاً في غضب عارم: - لماذا تريد أباً آخر.. هه? ألا يكفيك ما لديك? ماذا سيفعل لك هذا الأب الجديد أكثر مما فعله لك أبوك? لوهلةٍ صعقتهم نوبة الغضب المفاجئة, فنظروا إليه مبهوتين من ردة فعله وصامتين, ولم يفهموا سر هذا الاحتدام إلا متأخرين.. لكن وقتها كان زكريا قد ابتعد بخطى سريعة واضعاً راحته على جرح لا يكفّ عن القهقهة. (70) آن دخلت أم زكريا حجرة إبنها وشاهدت الأشياء المبعثرة, المتناثرة في أرجاء المكان, من أوراق وثياب وأدوات, أدركت على الفور ما حلّ بإبنها من نوبة غضب قاهرة أفضت به إلى مقارعة أطياف ماضٍ لم يشهد كل دقائقه ولم يستمتع ببهجة الحضور الأبوي فيه, أما الصور المخضبة بالغموض, التي تتزاحم أمام ناظريه باستبدادية وبلا شفقة, فما هي إلا نتاج ذاكرة رخوة لا تقدر أن تستوعب جيداً كل ما تماست معه من وجوه وحركات وأحداث, ولا تقدر - بالأخص - أن تسوّغ غياباً ضل طريق العودة فمضى شارداً في التيه, مفتوناً بالهجرة, ناسياً أن يومض وميض الأبوّة. بقلق حارق أدركت الأم, عبر الشغاف الأمومي, ما جرى لكنها لم تفهم لماذا فعل ذلك, فزكريا لا يحركه المزاج بل قهرٌ أقوى من أن يشكمه أو يسيطر عليه.. وما هذه الثورة إلا شفرة يشحذها الفقد.. فمن حرّك مواجعه? وبهدوء من اعتاد على مثل هذه الظواهر, بحكمة من اختبر الإعصار أو العاصفة مراراً من قبل, تنحني الأم إنحناءة من يبيح للحزن أن يهوي سهواً, وبكفّين - فيهما خطّ السهد صهيله وأضرم الغياب أوجاعه - تلتقط الأشياء, تلملم ما انفرط وما تناثر, لكنها لا تقدر أن تمنع دمعةً من أن تطفر وحيدة وحارة, غير أنها تتدارك الأخرى وتطلق التمتمة المبهمة. (71) وجد زكريا في الموضع الذي توقعه.. على ضفة الجزْر الخجول, بعد انحسار المدّ وأوان نقاهة الموج, حيث السماء تفاحة تتدلى حتى تلامس شغاف البحر.. واقفاً في المياه التي غمرت قدميه حتى الكاحلين, وهو يرنو أمامه إلى أفق مصقول كالمرآة تتأرجح فيه الصواري بفعل رياح ضاحكة, والغيوم الذاهلة لا تعرف إن كان عليها أن تسند مقصورات الشتاء أو تتكئ هي على أقواس قزح قبل أن تدلق أمطارها, أما الطيور فتحوم حول مخدع الكوارث دامعةً لفرط تأثرها بمنظر العاصفة وهي نائمة بوداعة طفل. دنا منه حميد, خائضاً في المياه الضحلة, حتى توقف إلى جواره, وظن أن زكريا لم يشعر بوجوده فناداه همساً لئلا يعكّر صفو اللحظة ويربك عذوبة الحالة: زكريا.. لكن زكريا, الذي تناهى إلى سمعه صوت انشطار المياه وتباعد الزبد عن الزبد بفعل الدبيب البطئ وما تبع ذلك من خرير حلو أحدثه دنو قدمين تحرثان المياه بتوءدة وبلا خشونة, عرف أنهما قدما صديق جاء يتقاسم معه خلوة التأمل. ولما سمع النداء الهامس عرف أنه حميد فلم يلتفت بل قال بصوت خفيض, أقرب إلى الهمس أو إلى الوشوشة. - ما الشيء الذي تراه لكن ليس له وجود? - الأفق. ثم يستسلمان لدقائق إلى صمت رائق ينأى عن حاشية الصوت ويسرف في الصمت. بعدها يلتفت زكريا ناظراً إلى حميد بعينين تتلألأ في أحدهما بذرة شجن وفي الأخرى بذرة ألق, وكل منهما يحصي الريش المتساقط من سحابة ترتج مثل ثدي الأمومة.. ويسأله: - كيف سيصير حالنا إن كبرنا? - لن نكون كما نحن الآن.. - هل من الضروري أن نكبر? ظن حميد أنها دعابة فابتسم وقال: - لا, ليس ضرورياً.. الخيار لنا. لكن زكريا لم يبتسم ولم يعبس أيضاً.. كان وجهه الوسيم يشفّ عن هدوء زهرة وحياد قنديل. وقال مشيراً إلى الأفق: - سوف أذهب إلى هناك لا محالة.. يوماً ما سأذهب لا لأتبع غبار نبوءة ولكن لأرى بنفسي ما يوجد هناك.. حيث الفراغ الخمريّ ينحني مداعباً ثمار البحر ليستدرجني إلى حديقة الهباء, وحيث لا جذر للمياه ولا ظل للأشكال ولا ترس لليقين.. وسوف أعثر عليه وأقول له: حسبك تجوالاً بلا متاع بين جُزرٍ حسرت موانئها لتغوي فحولتك ثم ترميك كالنواة صوب لج الطرائد, وبرازخ معلقة من دون أعمدة لا تبسط لك ملاءة الحفاوة بل تمرّغ وجهك في مدارات الوحشة وتدفعك إلى التيه, وحطام سفن أضاعت بوصلاتها وما اسعفتها المنارات فاندفعت مهتاجة وبلا هوادة إلى مهاوي الانتحار. تكفيك هذه العزلة التي ترويها بدمٍ مهزوم فلا ترتوي فتغمس إصبعك في خلاء القلب لكن لا يزيدها هذا إلا جنوحاً إلى النهش وإمعاناً في التوحش. يكفيك النسيان الذي تعلقه على صدرك كعقدٍ غزلته لك المجازفة من نسيج شراع ضلّله البحر. تريّث واستل كالخنجر ذاكرتك التي هجرتها دهراً, وتركتها في الغمد عرضة للصدأ وللكهولة.. إرفعها مثلما يرفع الملوك في أحلامهم ممالك من البلّور, وعد معي يا أبي. (72) في الأيام التي تلت حادثة الجان أو الشبح في الخرابة, تردد حميد كثيراً في ارتياد ذلك المكان خشية أن يشهد ظاهرة مماثلة تجبره على خوض المحنة من جديد. لكنه كان يعلم أن تجنبه الذهاب إلى هناك لا يعني - في نظر رفاقه والآخرين وحتى في نظر نفسه - إلا شيئاً واحداً: أنه جبان. كان حميد يدرك جيداً أن عليه, آجلاً أو عاجلاً, أن يتغلب على شعوره بالخوف من المكان, ويدرك أيضاً أن ذلك لن يتحقق إلا إذا ارتاد المكان ذاته وتيقّن بنفسه أن ما ظهر له مجرد وهْم تخيله في لحظة رعب.. وأنه محض انعكاس لذلك الرعب, كما وضح له أبوه وأخوه حمزة وآخرون. وبالطبع لم يختر أن يذهب ليلاً فذلك بالتأكيد فوق طاقته واحتماله, بل اختار أن يذهب ظهراً ووحيداً.. إذ لا يمكن أن يجازف باختبار شجاعته أمام آخر قد يكون شاهداً على ضعفه, وأيضاً حتى لا يقال أنه استمد شجاعته من وجود آخر معه. هكذا قرر حميد أن يمتحن مخاوفه وظنونه.. هكذا ذهب ظهراً وليس معه غير وساوس ورجفات طفيفة تسري في أعصابه ويحاول جاهداً كبحها. وعندما اجتاز المدخل راعشاً وواجف القلب, أطبق عينيه برهةً وكأنه لا يجسر على مجابهة أي غزو أو اجتياح, وإذا كان ثمة هجوم فليحدث ذلك سريعاً وفجائياً. لكن شيئاً من هذا لم يحدث. ثمة سكون مطبق يحيط به من كل جانب. هدوء لم يعهده من قبل.. خارق وغير أرضي. لا صوت ولا رفيف. كأن كل شيء جمد وتوقف عن التنفس. رويداً, وبتباطؤ فتح عينيه فلم يجد أمامه غير الفراغ الأليف الذي صادقه زمناً, والأشياء التي اعتاد رؤيتها من قبل, وأنقاض الزوايا التي لم تغيرّ مواقعها منذ أن حطت قدماه في هذا المكان. لكن حين أدار رأسه صوب السلم الحجري تفاجأ - دون أن يجفل - بحضور سنان الذي يتخذ وضعية غير مألوفة, إذ هو بين الجالس والراقد على أدراج لا يمكن أن تريح البدن المتكئ عليها في جمود غريب كهذا الجمود الذي يتخذه سنان. على مهل دنا حميد من الجسد المنشور على الأدراج بلا حراك, كأنه يخشى أن يوقظه, أن يفسد حلمه. وعندما توقف على مقربة لاحظ أن عينيه مغمضتان فلم يشك أنه مستغرق في نوم عميق. كما لاحظ وجود زجاجة خمر فارغة يبدو أنها تدحرجت حتى أسفل السلم, وآلته الساكسفون مرمية جانباً في إهمال. وجود سنان كان عاملاً هاماً في طمأنة حميد وإزالة أي رهبة وتوجس من حضور شر مرتقب, وأكثر ما شدّ انتباه حميد واستحوذ على اهتمامه هو الساكسفون الأبكم, المقذوف جانباً بلا عناية, المحروم الآن من شفتين تطبقان على فمه, ومن أنامل تتراقص على فتحاته, ومن أنفاس تهب عبر رئته فتصدح أنغام تنتظم عند الماهر والخبير في إيقاعات أخاذة تخلب اللبّ. إلتفت حميد إلى سنان الغائب في نوم يرخي له عناقيد الصور فيقتطفها مثلما يقطف الغازي الغنائم.. بنهم. ثم التفت إلى الآلة التي راحت تسيّج كل عصب فيه وكل عرق بحرير الغواية التي لا فكاك منها. عندئذ فكر حميد: سوف أستعير هذه الآلة بعض الوقت, ريثما يصحو سنان. ولأنه كان يخشى أن يوقظ النائم بما سوف يرتجله من عزف غير متقن فقد آثر الخروج من الخرابة والعودة بعد ساعة على الأقل. ولم يعلم حميد, وقتذاك, أن سنان لم يكن نائماً, بل سادراً في موت لا يقلقه أحد. (73) مثل المحكوم بواجب مقدس أو إلزامي تعهد به أمام قدر بالغ الغموض ولا يبوح بنواياه إلا إلى الأبدية, مثل العالق في فرو لغزٍ يتعين عليه أن يستجلي مغاليقه وإلا فلن يهدأ له بال ولن يهنأ بما تبقى له من نهار, يمشي حميد الهوينا خلف الجديرة بالإطراء والتي أسرت اهتمامه, وتمشي الآن أمامه بتوءدة, عائدة من المدرسة وعلى كتفيها عبء المذاكرة وهديل حكاية لم تبدأ بعد.. وفوقهما تمشي الرياح الباردة خبباً, وكأنها تختال بتقمص شكل المظلة أو العريش لهذين الكائنين اللذين لا يسترهما غير ظهيرة عارية وغير سرٍّ لم يكتمل بعد ليفشي نفسه. وعندما يتبع حميد هذه الصبية يتبعها الرجاء بأن تتوقف وتستدير نحوه وتهديه ما يهديه المحبوب للمحب من نكهة الوجد ورذاذ الينابيع ووعدٍ بلقاء وشيك وحفنةٍ من سهر. يتبعها رفيف قلب تتخاطفه فراشات الإلتباس من جهة, ومن جهة أخرى هاوية يأس رأى أعياده تنزح وتتركه في الوحدة وحيداً.. قلب ينفض ما علق به من رعونة المراهقة وينشد هداية الحب. يتبعها شتاء ممسوس بذاته, بالثلج المخبأ تحت وسادته, والذي تراهن عليه الغيوم الحبلى كي ينثر البرَد الباذخ على حيّ يتدثر بالأجنحة أوان يقظة المطر في المدى المكفهر.. البرَد الذي يتدحرج ندفةً ندفةً ليطرق ذاكرة البيوت سقفاً سقفاً. وعندما ارتقت بثينة العتبة الصغيرة, الجسر الحجري الذي يفصل الباب عن الطريق, وهمّت بدفع الباب, هتف حميد بوجع أخرس: لا, يا ربّ, لا تفعلها ثانيةً.. لا تخذلني مرة أخرى. في هذه اللحظة عينها, قبل أن تحط راحتها على الباب لتدفعه, قبل أن يفترس القنوط فؤاد حميد, أدارت بثينة رأسها ببطء شديد - أفضى بالزمن نفسه أن يتريث ويكف عن الجريان - حتى استقرت عيناها على عينيه. (74) ثمة شتاء يتمطى ثم يستدعي عناصره لتهيئة المسرح من أجل المشهد الاحتفالي - الذي يليق باسمه وسمعته وحضوره - في فضاء يتلبّد في الحال بغيوم عجولة, وبين الأعمدة تتجمهر الرياح الباردة, أما في الأعالي فتحتشد فلول البَرد مستلة الصاخب من المرح. ثمة ليل, وبرودة هاذية تسري في خلايا الليل فيلمّ أذيال ردائه الأسود الطويل ويغطي به أطرافه المكشوفة, وأمام مجامر ساهرة يمكث ليتدفأ وليستأنس بنوادر نديميه: البرق العابر بشعاعه, والرعد الذي لا يتكلم إلا هدْراً. ثمة مطر.. وابل من المياه الطرية التي تنحدر كشلالات صغيرة من الأسطح والشبابيك والحيطان ثم تزحف على أرض كانت تهذي بسبب الظمأ. ثمة طرقات خلت من البشر فصارت ملاعب لأشباح تطارد ظلالاً تحسبها توائمها الهاربة فلا تقنص إلا الفراغ الضاحك على غبائها. ثمة حجرة باردة تضم بين أحشائها أطفال أخذهم النوم في جولته الليلية: طاهر الذي يمضي منتشياً داخل حلم إستدرجه بالوافر من الريش, الوافر من الرنين, وهناك يرى نفسه مغامراً يمتشق البطولة / عبدالقادر الذي يضمر له الحلم الهبة التي ما وهبها لأحد من قبل.. قطيع من الخيول يعدو معها خلف سهول تعدو, ورياح تعدو, والمدى ينفتح على جنة كانت موعودة له / شريفة التي يهيئ لها الحلم من قوس قزح أرجوحة ينصبها في حقل الغبطة وكلما تأرجحت بخفة من لا وزن له, تأرجح الأفق والسماء, وتأرجح المطر. أما حميد, الساهر مع الرؤى, فقد شدّ اللحاف القطني حتى عنقه بعد أن اعترته رعشة باردة.. وهادئاً يبتسم, هادئاً يحاور اليقظة, هادئاً تترقرق في عينيه صور زوار يمرون خفافاً قبل أن يستضيفهم الغيب: عفاف: بأهداب مبتلة بتوابل الحيرة والظنون, تطل على وقتٍ يمضي ووقتٍ يأتي, ولا تلتمس غير راحة القلب. حمزة: يطيش عندما تراوغ الصدفة نواياه وأمانيه, ويحتار كيف يكون جديراً بحب لا يكفّ عن امتحانه. عقيل: ماكث أمام مذياعه الكهل, والمرافئ تمر أمامه محيّية, أما القرى فتزف اليه قريةً مضاءة بتسعة أقمار, فيغصّ بالتذكّر. سلطان: يدحرج عنفه في رماد المأساة ثم يذهب متكئاً على جهة تتمايل مثلما يتمايل النعاس. زكريا: يرشو القوارب ببقايا عمره لقاء أن تهبه مكاناً لجلوسه ومكاناً لحقيبته ومكاناً لنشيده الذي يمجد السفر. كريم: يبتكر إيقاعه الخاص كلما طرق الأرض بقدمه العرجاء مقتفياً صدى التجربة, وللسجون يبتكر أحلاماً سوف يخذلها أوان المحن. عزوز: يعجن الطحين, يعجن الحكاية, يعجن الحاضر.. وقبل أن يقحم كل هذا في تنّور الذاكرة.. ينثر عليها رذاذ الحنين. مفتاح: على ضفة الجنون واقف يسلّ من غمد الخلاء درع الفكاهة.. ضاحكاً من ذعر النهار. خلود: تمسح على بطنها المنتفخ وتضحك, تنظر إلى المرآة وتضحك, وعندما تفتح كفها ترى على راحتها طفلاً مجنحاً.. فتضحك. بثينة: ترتقي العتبة الوحيدة, عتبة القلب, وقبل أن تدفع الباب تلتفت لتمنح الكون وردة الأمل. ثم تأتي زينب وتنحني فوقه, تنظر إليه في حنان, تميل نحو وجهه وتطبع قبلة على جبينه هامسة: تصبح على خير.. يبتسم حميد ويسدل أجفانه على أعوام ضاجة تتراكض في ربوع الأمس.. مثل غيب يسدل الستائر على رهائن لا يعلمون أنهم رهائن. مارس 2002 أكتوبر 2003 **** صدر للمؤلف هنا الوردة.. هنا نرقص | 1973 | الفراشات | 1977 | أغنية أ. ص الأولى | 1982 | الصيد الملكي | 1982 | الطرائد | 1983 | ندماء المرفأ.. ندماء الريح | 1987 | العناصر | 1989 | الجواشن (مع قاسم حداد) | 1989 | ترنيمة للحجرة الكونية | 1994 | السينما التدميرية (ترجمة) | 1995 | مدائح | 1997 | هندسة أقل, خرائط أقل (مقالات) | 2000 | موت طفيف | 2001 | الوجه والظل في التمثيل السينمائي (ترجمة وإعداد) | 2002 | |