قيمة الاحساس بالفقد الذي يشعره ويعاني منه أفراد العائلة بعد رحيل واحد منهم بالموت في حادث ما، هذه القيمة تناولها بتركيز وتعمق عدد من الأفلام السينمائية. واذا أخذنا بعض النماذج البارزة مثل: Dont look Now (إخراج نيكولاس روج)، ثلاثة ألوان.. الأزرق (إخراج كريستوف كيسلوفسكي)، غرفة الابن (إخراج ناني موريتي)، وهذا الفيلم الذي نحن بصدده:
في غرفة النوم.. فسوف نلاحظ بان هذه الأفلام، التي تصور فقدان فرد - بطريقة أو بأخرى، تركز على تأثير هذا الفقد على بقية أفراد العائلة والروابط العائلية، على الحياة الزوجية والمهنية، وعلى النفس في تجلياتها الواقعية والميتافيزيقية.
انها تخلق حالة مريعة ولا تطاق من الألم واليأس والحزن والتفجع، وتثير تلك الرغبة اللاعقلانية في استعادة المفقود أو المفقودة إذا لم يكن على مستوى الواقع فعلى المستوى المجازي أو التخيلي.. بل وحتى الرغبة في الاتصال على نحو خارق وغيبي.. كما في فيلم (لا تنظر الآن(.
من جهة أخرى، تستجوب هذه الأفلام المظاهر التي تبدو قوية ومتينة ومتماسكة ظاهريا، فيما يتصل بالحياة العائلية أو الحياة الزوجية، ولكن يتضح مدى هشاشتها وضعفها ورخاوة أساساتها ما ان تتعرض الى حالة الفقد هذه، فيحدث التصدع والتآكل والتشوه، والانهيار، في العلاقات، وكل أوجه القناعة والاطمئنان تنحل لتظهر المشاعر المطمورة، المحجبة، المتوارية.
ان فيلم »غرفة النوم« in the bedroom هو الفيلم الدرامي الاول لمخرجه الشاب تود فيلد (الذي شارك أيضا في كتابة السناريو) والذي كان ممثلا مغمورا في التسعينات قبل ان يعمل مساعد مخرج ستانلي كوبريك في آخر أفلامه Eyes wide shutومخرجا لعدد من الأفلام القصيرة.
»في غرفة النوم« دراما عائلية مبنية على قصة قصيرة للكاتب الأمريكي اندي دوبوس، وتدور أحداثها في بلدة صغيرة، طبيب يعيش حياة بسيطة ومتواضعة مع زوجته، مدرسة الموسيقى في المرحلة الثانوية التي تدرك الى أي مدى تتعرض الى الخنق في هذه البلدة، وابنه الشاب الذي يدرس الهندسة المعمارية، والذي - على الرغم من معارضة والديه - يقيم علاقة عاطفية مع امرأة مطلقة تكبره فى السن، هذه العلاقة تلقى من الأب معارضة متحفظة، حذرة، لا تفصح عن نفسها على نحو مباشر وصريح، بعكس ما نراه عند الأم التي لديها نزوع واضح الى الشك، وتظهر ازدراءها العميق للمطلقة، حبيبة ابنها، بسبب جذورها الاجتماعية وانتمائها الطبقي الأدنى، ولأنها تشكل عائقا في مسيرة ابنها على المستوى التعليمي والاجتماعي.
في المشاهد الاولى من الفيلم نتعرف على العلاقة العاطفية وانعكاساتها على الأبوين، حيث تنشأ التوترات المشذبة عبر مواقف متعددة تناقش المظاهر الاقتصادية والتعليمية، والامتيازات الاجتماعية، وتبعات الحياة الزوجية والاجتماعية.
لكن مقتل الابن على يد زوج حبيبته السابق يخلخل السطح الساكن والهادئ، ويرج المشاعر الدفينة والمكبوحة، الأب والأم يحاولان جاهدين - في البداية - ان يحافظا على هدوئهما ورباطة جأشهما، وان يموها الحزن الشديد بالتظاهر بالقوة والصبر في التعامل مع الفقد ومع النتائج، في انتظار ان يحقق لهما القانون القصاص الذي يستحقه القاتل.
والمخرج لا يبدو في عجلة من أمره للوصول الى نتائج سريعة، بل انه يتريث، بعد الجنازة، ليتحرى تأثير الفقد على الآخرين، الأب والأم خصوصا، وما يسببه هذا الفقد من صدمة وأذى وجرح.. ويسبر - الفيلم - ما ينتزعه الحزن من النفوس الواقعة في قبضته من وجع يومي، وكيف ان هذا الحزن والأسى ينتشر ليسمم المحيط العائلي ويبذر في الشقاق والنزاع. المخرج يتباطأ ليمسك بالأشياء والحالات التي هي نتيجة لما يفرضه غياب الابن.. الأشياء التي توصي أيضا بهذا الغياب.
وفيما الإجراءات القانونية تأخذ وقتا طويلا وبطيئا جدا حيث خلالها يتم إطلاق سراح القاتل بعد دفع الكفالة، فان توقع الأبوين نيل القاتل العقاب الذي يستحق يبدأ في التلاشي تدريجيا، وإيمانهما بالقانون والعدالة يبدأ في التبخر، ولا يجدان أمامهما غير سلسلة من التعقيدات القانونية والإجراءات التقنية التي ترجئ أو تعطل القصاص الذي ينشدانه، وبالنتيجة يتنامى لدى الطرفين، وان بدرجات متفارقة الاحساس بالخذلان والخيبة، وتعتريهما بقوة وبحدة مشاعر العجز واليأس.. الأمر الذي يفضي الى تحجر القلوب وقسوة المشاعر.
الأب والأم يهدهدان ألمهما ووجعهما.. كل منهما بطريقته الخاصة، المستقلة والمعزولة: هي، المستبدة والمتغطرسة، تجلس جامدة وفي شرود أمام شاشة التلفزيون لكن مفعمة بالغضب والمرارة. وهو الذي يفتقر الى التلقائية والذي يحتكم الى العقل والمنطق، يمارس روتينه اليومي محاولا التظاهر بالنسيان والاقتناع ان الحياة لن تنتهي برحيل ابنه، لكن في قرارته يستشعر بآلام مبرحة تنهش روحه.
هذا يحدث لفترة قصيرة، فما يحتدم في الداخل يبدأ في الغليان والتفجر، على نحو محتوم، فيوجه كل منهما غضبه وعذابه وأوجاعه وخيباته ومرارته ويأسه ضد الآخر، اذ يتغلب الأب والأم على بعضهما البعض، ويبدأ كل منهما في توبيخ الآخر، وتوجيه اتهامات كانت مكبوحة منذ مدة طويلة.
يتصدع العالم الذي ظنا انه متين ومتماسك، يتصدع وينهار، ويعرفان، في صمت وفي الجزء الأعمق من ذواتهما، إنهما لن يهنآ ولن ينجوا، وان عالمهما لن يتماسك ثانية، إلا إذا تحقق القصاص العادل.. بدون هذا العقاب الذي يستحقه القاتل لن يجدا الطمأنينة وراحة البال. هكذا تتنامى فكرة الانتقام، وتتحول الفكرة الى هاجس الى حاجة الى ضرورة ملحة عندئذ يذهب الأب الى القاتل لينفذ حكم الإعدام الذي أصدراه معاً في صمت يقتله لينقذ عالمه، ليرتاح وترتاح زوجته.
لكن ما مصير الاثنين (الأب والأم) بعد ان نال القاتل جزاءه خارج سلطة وإرادة القانون؟ مؤكد ان الرجل يدمر نفسه في اللحظة التي ينفذ فيها حكم الإعدام بانتهاكه لطبيعته الخاصة فإنما يدمر ما كان يؤمن به من قيم ومبادئ. أما الأم فمن غير المؤكد انها تجد الراحة التي كانت تنشدها، والنظام الذي كان قائما.
»في غرفة النوم« فيلم عن العنف.. العنف الكامن والذي، في ظروف وحالات معينة، يمكن ان يتفجر ليدمر ليس الكائن المستهدف بل أيضا من يمارسه، من يضغط الزناد، ومن يتواطأ مع هذا العنف.. الذي دافعه الاول والأساسي هو الانتقام.
المخرج تود فيلد يشير الى القصة بوصفها »انعكاسا للوعي الأمريكي وهو يوضح هذا بقوله:
»اعني الوعي الأمريكي فيما يتصل بالإحساس بالقيم، بالمبادئ الأخلاقية، بطبيعة العنف وكيف يتم التعامل معه. الشخصيات التي تقطن قصص اندري دوبوس هم غالبا من المحاربين القدماء الذين خاضوا حروبا خارجية، أجنبية انها شخصيات معقدة ومركبة جدا، متصدعة وذات خلل، لديها إحساس بالصواب والخطأ لكنه ليس واضحا على الدوام، والأفعال التي تقوم بها غالبا ما تكون عنيفة. العنف هنا ظاهرة أمريكية صرفة. ان لدى الكاتب اندي دوبوس قدرة مدهشة على ان يجعلك تجد نفسك في شخصياته لأنها كائنات بشرية حقيقية جدا، وهو لا يصدر أي حكم عليها. لذلك فإنها عندما ترتكب شيئا عنيفا فان ذلك يكون مقلقا جدا«. وبخصوص غاية الفيلم يعلق المخرج قائلا:
»المرء هنا لا يستطيع ان يقرر ما إذا الفيلم هو عن الغفران أو عن العقاب القصة، في جوهرها، هي عن طبيعة الحب بكل أشكاله: قبل فقدانه، وبعد فقدانه، والنضال من اجل العثور عليه ثانية«. القصة، من بعض النواحي، تشبه ماكبث.
الفيلم حاز على العديد من الجوائز: جوائز نقاد السينما في نيويورك كأفضل فيلم وأفضل ممثلة (سيسي سباسيك في دور الأم) وأفضل ممثل (توم ويلكنسون في دور الأب).
كذلك جائزة نقاد السينما في لوس انجلوس كأفضل فيلم. وجائزة ساتياجيت رأى فى مهرجان لندن السينمائي سنة ١٠٠٢. كما رشح للعديد من جوائز الأوسكار والأكاديمية البريطانية.
الأيام - رؤى -11-7-2004