ترجمة – أمين صالح
الفكاهي البريطاني بول جينينجز، في مقالة رائعة عن المقاوماتية، في محاكاة ساخرة للوجودية، رأى أن العالم قد انقسم إلى فئتين أو صنفين: «الشيء» و«اللاشيء»، ورأى أن بين الاثنين حرباً لا نهاية لها، إذا كانت الكتابة «شيئاً» فإن الرقابة هي «اللاشيء». وكما قال الملك لير لكورديليا: «اللاشيء سوف ينشأ من اللاشيء».
لا أحد يناقش الهواء
تأمل، إن شئت، الهواء. إنه موجود هنا، من حولنا.. وافر، متاح مجاناً، صالح للتنفس على نحو واسع، ولا حد له. نعم، أعرف أن الهواء ليس نظيفاً على نحو تام، وليس نقياً على نحو تام، مع ذلك هو موجود هنا، الكثير منه، يكفينا جميعاً، والفائض منه ندّخره. عندما يكون الهواء، الصالح للتنفس، متاحاً وفي المتناول، ومن غير قيد، بكمية هائلة، فسوف لن تكون هناك مطالبة بأن يكون الهواء الصالح للتنفس مقدماً مجاناً للجميع، وبكمية تفي حاجات الجميع. ما تملكه، بوسعك بسهولة أن تسلّم به وتعتبره محتّم الحدوث، وتتجاهله. ليس هناك حاجة لإحداث جلبة بشأنه لا داعي لها. إنك تتنفس الهواء المتاح مجاناً، الصالح للتنفس على نحو واسع، وتمضي منسجماً مع يومك، الهواء ليس موضوعاً، إنه ليس شيئاً يرغب معظم الناس في مناقشته.
تخيّل، الآن، أنك في مكان ما، هناك في الأعلى، تكتشف وجود مجموعة هائلة من الحنفيات، والهواء الذي نتنفسه يتدفق من تلك الحنفيات، هواء حار وهواء بارد وهواء فاتر، من وحدة مزجٍ سماوية، وتخيّل وجود كينونة هناك، غير معروفة بالنسبة لنا، أو ربما تكون معروفة، تبدأ - هذه الكينونة - في يوم ما، في إغلاق الحنفيات، الواحدة تلو الأخرى، ورويداً رويداً نبدأ في ملاحظة أن الهواء المتاح، الذي لا يزال صالحاً للتنفس، ولا يزال مجاناً، صار يتناقص. ثم يحين الوقت الذي فيه نكتشف بأننا نتنفس على نحو ثقيل أكثر فأكثر، بل ربما نجد صعوبة في التقاط أنفاسنا، عندما نصل إلى هذه المرحلة، قد يباشر العديد منا في الاحتجاج، في شجب النقص الحادث في مخزون الهواء، في الدفاع بصوت عال عن حقهم في هواء صالح للتنفس على نحو واسع، ومتوفر مجاناً، الندرة بطبيعة الحال، تجعل الشيء مطلوباً.
الحرية هي الهواء الذي نتنفسه، ونحن نعيش في طرف من العالم حيث، على الرغم من أنها غير تامة، هي متاحة مجاناً، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين هم ليسوا شباناً من السود الذين يرتدون الأغطية الواقية للرأس في ميامي، وهي صالحة للتنفس على نحو واسع، باستثناء النسوة اللواتي يدافعن عن حريتهن وحقهن بالتصرف في أجسادهن.
حرية متاحة مجاناً وإن على نحو ناقص، صالحة للتنفس وإن على نحو ناقص، ومادامت هي متاحة مجاناً وصالحة للتنفس، فإننا لا نحتاج إلى كل الهرج والمرج بشأن ذلك، نحن نسلّم بذلك جدلاً ونعتبره محتم الحدوث، ونمضي منسجمين مع يومنا، وفي الليل، قبل أن نستغرق في النوم، نفترض أننا سنكون أحراراً في الغد، لأننا كنا أحراراً اليوم.
الفعل الإبداعي لا يحتاج إلى الحرية فحسب، بل أيضاً إلى هذا الافتراض أو التظاهر بالحرية، إذا بدأ الفنان المبدع يشعر بالقلق والشك في أنه سيظل حراً غداً، عندئذ سوف لن يكون حراً اليوم، وإذا شعر بالخوف من نتائج اختياره لموضوع ما، أو من طريقته في معالجة هذا الموضوع، فإن خياراته سوف لن تقررها أو تحددها موهبته بل مخاوفه، إذا لم نكن واثقين من حريتنا، فعندئذٍ لا نكون أحراراً.
بل إن الأسوأ من ذلك، عندما تتدخّل الرقابة في الفن، فإنها تصبح الموضوع، والفن يصبح «فناً خاضعاً للرقابة».. هكذا يراه العالم ويفهمه، الرقيب يصنّف العمل باعتباره فاسقاً، غير أخلاقي، تجديفياً، إباحياً، أو مثيراً للخلاف.. وهذه التصنيفات تظل معلقة إلى الأبد حول الأعمال المدانة، مثل طيور القطرس، الطيور البحرية الكبيرة، حول أعناق أولئك البحارة الملعونين.
هجوم
الهجوم على العمل يتخطى مسألة تحديد أو تعريف العمل. من بعض النواحي، بالنسبة للجمهور العام، هذا يصبح تقييماً نهائياً، مقابل كل قارئ لرواية «عشيق الليدي شاترلي» أو «مدار الجدي»، ومقابل كل مشاهد لفيلم «آخر تانغو في باريس» أو «البرتقالة الآلية»، ستجد هناك عشرة أشخاص أو مئة، أو ألف شخص، «يعرفون» هذه الأعمال بوصفها قذرةً جداً أو عنيفةً جداً أو كليهما.
افتراض الإثم يحل محل افتراض البراءة، لماذا قام ذاك الفنان الهندي المسلم برسم الالهة الهندوسية عاريةً، ألم يكن بوسعه أن يحترم حياءها؟ ولماذا جعل ذاك الكاتب الروسي بطل روايته يقع في غرام فتاة قاصر، ألم يكن بوسعه أن يختار فتاة ذات عمر مقبول شرعياً؟ ولماذا قام ذاك الكاتب المسرحي البريطاني بوصف اعتداء جنسي في معبد للطائفة السيخية، ألم يكن بوسع الكاتب أن يصوّر الاعتداء في مكان آخر غير مقدّس؟ لماذا يتعيّن على الفنانين أن يكونوا مزعجين ومثيرين للمشاكل؟ لم لا يكتفون بتقديم الجمال والفضيلة والقصة الجيدة؟ لماذا يعتقد الفنانون أنهم إذا تصرفوا بمثل هذه الطريقة فإننا سوف نقف إلى جانبهم؟
«والآخرون جميعهم قالوا اجلس، اجلس فأنت تهزّ القارب
والشيطان سوف يسحبك إلى الأسفل،
مع روحك الثقيلة، إلى حد أنك سوف لن تطفو أبداً.
اجلس، اجلس، اجلس، اجلس، اجلس
فأنت تهزّ القارب».
كذبة الرقيب، عندما تكون فعالة جداً، تنجح في الحلول محل الحقيقة كما يراها الفنان، كل عمل يتعرّض للرقابة يُنظر إليه بوصفه عملاً يستحق المراقبة والتدقيق، هزّ القارب فعل مستهجن.
هذا لا يحدث فقط في عالم الفن. وزارة الحقيقة في الصين نجحت في إقناع القسم الأكبر من الشعب الصيني بأن أبطال ميدان تيانانمن كانوا في الواقع أشراراً عقدوا العزم على تدمير الأمّة، الانتصار النهائي للرقيب يكمن في هذا: عندما يكفّ الناس، حتى أولئك الذين يعلمون أن ثمة من يكذب عليهم على نحو متكرّر، عن محاولة تخيّل حقيقة الوضع.
أحياناً الأعمال العظيمة، المحظورة، تتحدى وصف الرقيب، وتفرض نفسها على العالم: يوليسيس، لوليتا، ألف ليلة وليلة. أحياناً الفنانون العظام والشجعان يتحدون أجهزة الرقابة في خلق حركة أدبية سريّة ومدهشة كما حدث في الاتحاد السوفيتي، أو في تحقيق أفلام حاذقة تتفادى شفرة سكين الرقيب كما في حالة الكثير من الأفلام الإيرانية المعاصرة وبعض الأفلام الصينية.
حتى أنك ستجد أشخاصاً يحاولون إقناعك بأن الرقابة ليست سيئة دائماً، وأنها يمكن أن تكون مفيدة للفنانين، ذلك لأنها تتحدى مخيلتهم، هذا يشبه القول بأنك إذا بترت ذراعيّ رجل ما فإنك تستطيع أن تثني عليه لتعلّمه كيفية الكتابة بقلم موضوع بين أسنانه، الرقابة ليست مفيدة للفن، بل إنها أسوأ ما يمكن أن يحدث للفنانين أنفسهم.
أعمال الفنان الصيني آي وي وي Ai Weiwei لا تزال باقية، بينما الفنان نفسه عاش حياةً كانت تزداد صعوبة مع مرور الوقت. الشاعر أوفيد أثار غضب الإمبراطور أوغسطس قيصر فنفاه إلى البحر الأسود ليعيش بقية حياته في منطقة صغيرة تدعى تومي، لكن شعر أوفيد عمّر أكثر من الإمبراطورية الرومانية. الشاعر ماندلشتام مات في أحد معسكرات ستالين، لكن شعره ظل حياً بعد زوال الاتحاد السوفيتي، الشاعر لوركا لقي مصرعه في إسبانيا على يد كتائب الجنرال فرانكو، لكن شعره بقي بعد زوال الكتائب الفاشية.
هكذا نستطيع على الأرجح أن نبرهن بأن الفن أقوى من الرقيب، رغم أن الفنان غير حصين وقابل للانجراح.
الفن العظيم، أو لنقل بتواضع أكثر، الفن المبدع الأصيل لا يتخلق أبداً في المكان الآمن، الواقع في الوسط، إنما يتخلق دوماً على الحافة، الأصالة خطيرة، إنها تتحدى، تستجوب، ترتاب، تطيح بالافتراضات، تزعزع القواعد الأخلاقية، ولا تمتثل للمعتقدات، يمكن أن تكون صادمة أو فظيعة أو مثيرة للخلاف.
إذا كنا نؤمن بالحرية، إذا كنا نريد للهواء الذي نتنفسه أن يظل وافراً وصالحاً للتنفس، ينبغي أن ندافع عن حق هذا الفن في الوجود.. لا أن ندافع عنه فحسب، بل أن نحتفي به أيضاً، الفن ليس وسيلة للترفيه. الفن، في أفضل أحواله، ثورة.
لا يوجد كاتب واحد يرغب حقاً في التحدث عن الرقابة، الكتّاب يرغبون في التحدث عن الإبداع، بينما الرقابة هي ضد الإبداع، هي طاقة سلبية، نقيض الخلق، جلب العدم إلى الوجود، أو - إذا شئنا أن نستخدم وصف توم ستوبارد للموت - «غياب الحضور». الرقابة هي الجهة التي تمنعك من فعل ما تريد أن تفعله، وما يريد الكتّاب أن يتحدثوا عنه هو ما يفعلونه، وليس ما يُحظر عليهم فعله، الكتّاب يرغبون في الحديث عن المبلغ الذي استلموه، يرغبون في النميمة وتبادل الإشاعات بشأن الكتّاب الآخرين وكم يُدفع لهم، يرغبون في إبداء التذمر والشكوى من النقاد والناشرين ومن رجال السياسة، ويرغبون في التحدث عما يحبونه وعن الكتّاب الذين يحبونهم، والقصص، بل وحتى الجُمل، التي تعني لهم شيئاً، وأخيراً، يرغبون في التحدث عن أفكارهم وقصصهم الخاصة.. عن أشيائهم.
الاتحاد- تاريخ النشر: الخميس 20 أغسطس 2015