ترجمة: أمين صالح
فيكتور إيريثه victor Erice يعد واحدا من كبار المخرجين في السينما الإسبانية، رغم أنه خلال ثلاثين سنة لم ينتج سوى ثلاثة أفلام. في 1973 نال فيلمه الأول " روح خلية النحل" spirit of the beehive ثناء النقاد كما حاز على العديد من الجوائز الدولية. هذا الفيلم الذي لا يعتمد على الحوار المنطوق قدر اعتماده على الشكل المركّب للصوت و الصورة، يتركز حول طفلة غامضة تجسد الرؤية القلقة و الملتبسة لوطن كان قابلا للتغيير السياسي.
بعد عشر سنوات من الصمت، جاء فيلمه الثاني " الجنوب" the south ليواصل فيه انشقاقه الشعري و ليعرض اهتمامه - إلى حد الاستغراق- بالمسيرة العنيدة للزمن.
بعد عقد من الزمن، قدم فيلمه الثالث، الوثائقي، " شمس شجرة السفرجل" the quince tree sunالذي يؤرخ للمحاولة المستحيلة التي قام بها الرسام الإسباني أنتونيو لوبيز للإمساك بلحظة الإشراق، على القماش، وقت نضوج ثمرة السفرجل في حديقته.
من إحدى أحاديث فيكتور إيريثه، القليلة جدا، نترجم هذه الآراء و الاستشرافات عن السينما و الفن، و عن أفلامه خصوصا، و التي تسلط بعض الضوء على المعضلات التي يواجهها السينمائي في مسيرته الجادة و العميقة:
* * * *
في مواجهة التضخم الراهن للصور، في مواجهة ما يسميه (المخرج الألماني) فيم فيندرز "تلوث الصورة"، فإن إحدى المعضلات الرئيسية التي نشعرها اليوم، كصانعي أفلام، هي كيفية منح الصحة و المصداقية للصورة المنتجة على نطاق واسع.
التلفزيون يقذف، يوميا، آلاف الصور في اتجاه البيوت، في كل مكان من العالم. هذا الفيضان هو الذي يسبب تضخم الصورة. و نحن مرغمون على البحث باستمرار من أجل أن نستعيد إلى السينما تلك الرؤية للصورة الحقيقية. و في هذا أجد العلاقة مع الرسم مثيرة للاهتمام إلى حد بعيد، ذلك لأن الرسام هو الخالق الأول للصور في حضارتنا. من وجهة نظري، الرسام هو الفنان البدائي، الفطري. الرسم لغة منبثقة من فجر حضارتنا، بينما السينما لغة منبثقة من شفق حضارتنا.
بالطبع لا نستطيع العودة إلى مواقع الرواد من صانعي الأفلام - لوميير، جان فيجو، فريدريك مورنو، بدايات رينوار- ذلك لأن مئة سنة من السينما تندفع نحونا. سينما تلك المرحلة لم تكن تنعكس على ذاتها، إنما تركت نفسها تعيش فحسب. مع ذلك، أحيانا تحتاج إلى الالتفات إلى الوراء و النظر إلى الجذور.. لا لتحاكي، لأن من المستحيل أن تعيد إنتاج الشيء نفسه، بل لأن ضمن عالم يعاني من أزمة فقدان الهوية، يمكن لتلك الجذور أن تسلط ضوءا معينا.
اليوم، كل شيء مصنوع وفقا لوصفة معينة، وصفة ساهمت في نفي الواقع و كرست الأنماط. ثمة تعب، مرض. و مع أن هناك سينما تحققها مواهب عظيمة، إلا أنها مقدمة بحيث تؤدي غرضا ما. لذا فمن المهم للسينما أن تعود و تتصل بالواقع.
* * * *
فيلمي" روح خلية النحل" يتحدث عن الجيل الذي عاش في فترة الحرب الأهلية (الإسبانية). الحرب الأهلية هي من أكثر التجارب رعبا لأي مجتمع، إذ يتم تحريض الأخ ضد أخيه و يندلع التناحر بينهما. و في الحرب الأهلية الكل مهزوم. ليس هناك منتصر حقيقي.
ما ميّز أولئك الناس في ذاكرتي – أيام الطفولة- هو أنهم كانوا، بوجه عام، أفرادا صامتين، منكفئين على ذواتهم. لم يرغبوا في الكلام لأنهم اختبروا شيئا مرعبا جدا. و نحن الأطفال اختبرنا ذلك كشكل من أشكال الغياب. لقد شعرنا بأنهم، في العمق، بعيدون عنا جدا. و ربما لهذا السبب كان هناك فقدان للاتصال.
* * * *
أنا لم أصور فيلمي هذا كي أحل معضلة الرقابة. كنت مهتما أساسا بالعثور على صوتي الخاص، و بما أن فقدان الحرية شيء حمله جيلي بداخلهم، فقد افترضت بأن صوتي سوف يعكس ذلك الفقدان على نحو طبيعي. كنت دوما أؤمن بأن اللغة الفنية – و الشعر بالذات- هي اللغة التي لا يمكن تصنيفها اجتماعيا، و أن الرقباء لا يفهمون إلا ما هو مصنّف اجتماعيا. لذا فقد كان الرقيب عاجزا عن حذف لقطة واحدة من الفيلم. لقد شعروا بأن الفيلم لا يتوافق مع أفكارهم، غير أنهم لم يجدوا الحجج و البراهين من أجل تدميره.
* * * *
في السينما هناك لغة النثر و لغة الشعر. بازوليني كان يميل إلى تعيين هذا الاختلاف و التمايز. لقد تحدث عن سينما النثر و سينما الشعر ليميّز بين هذين النوعين من اللغة. النثر دائما يسرد الأشياء بطريقة مباشرة، في حين يعبّر الشعر عن أفكار العالم بطريقة غير مباشرة تماما، و ربما على نحو أقوى، لأنه يخاطب اللاوعي.
أحد الأشياء التي كنت مهتما بها كثيرا في تحقيقي لفيلم " شمس شجرة السفرجل" هو أن أقدم معا اللغة الأكثر موضوعية – لغة الوثائقي- و اللغة الأكثر حميمية، و التي هي تعبير عن الحلم. كان في ذهني فيلم مورنو " تابو" (المحرّم) الذي دمج فيه الوثائقي بالقصصي. إن جزءا هاما من تاريخ السينما مبني على ذلك الشد: فيلم تابو، بعض أفلام فيجو، أفلام روسيليني( paisa ، روما مدينة مفتوحة، ألمانيا تحت الصفر)، فيلم رينوار "النهر"، و فيلم ألان رينيه " هيروشيما حبي".
فيلمي "شمس شجرة السفرجل" يمكن أن يفهم بوصفه يوميات لأثر فني، تأريخ للعمل الفني يوما بعد يوم. في فيلميّ السابقين كان النهج مختلفا لأنهما يتحدثان عن الماضي. كان لابد من أخذ الواقع بعين الاعتبار، من حيث التدخل فيه أو حتى تعديله لجعله معبّرا، و لإعادة بناء الإحساس بالماضي. ذلك اقتضى انتحال الدور الكلاسيكي للمخرج بوصفه الشخص الذي يبني عالما بوسائله الخاصة.
* * * *
بوجه عام، لا أحب السينما التي تكون فيها الرسالة جلية جدا، لذلك لا أسمي هذا فرضا لتأويل معين للواقع بل إظهارا أو اقتراحا بتأويل خاص.
إن لغة التلفزيون هي لغة سلطوية، استبدادية، تلتمس الوسائل الخفية في إقناع الوعي، بينما لغة السينما – أو لغة السينما التي أحبها على الأقل- تحقق الاتصال على المستوى العاطفي و تجبر الناس على النظر داخل ذواتهم.
أعتقد أن كل الأفلام التي حققتها تمتلك سمة مشتركة: إنها تصور رحلة الاكتشاف، الرحلة الروحية. في البدء، ثمة وعي يبدأ في اكتشاف الأشياء، وفي نهاية الرحلة يكون ذلك الوعي قد فهم شيئا.
من الهشاشة يولد الجمال
في فيلمي " روح خلية النحل" نحن نرى وعي الطفلة يتشكل طوال الفيلم.. الوعي الذي سوف يكون مميزا إلى الأبد باعتباره منفصلا عن الرؤية التقليدية، المألوفة، للعالم. يمكن أن يكون وعي فنان و الذي من خلاله يرى الفنانون أشياء لا يراها الآخرون، أو يرونها بطريقة مختلفة.
في البداية، الصغيرة مجرد كائن طيّع، سهل الانقياد، و جبان.. مجرد طفلة تطرح أسئلة. و هي لا تستطيع أن تفهم كيف يمكن أن يكون هناك شيء عبثي جدا في الحياة، أو مخيف جدا بحيث يجعل المخلوق المسخ يقتل طفلة.
ما يريده المسخ، في بؤسه و شقائه، أن يكون مقبولا في المجتمع و معترفا به، لكن المجتمع يرفضه. في هذا المسخ يوجد شيء إنساني يصعب اكتشافه. لذا فإن تماهي الطفلة معه هو تطابق و تماه مع أولئك الذين يعانون و يتعذبون.. ذلك أنها تختبر المعاناة أيضا.
في البداية، الصغيرة لا توجد إلا من خلال أختها، أو من خلال الأشياء التي يتم تلقينها من قِبل الآخرين. لكن، قرب النهاية، هي توجد بذاتها، و الأثر الأول لهويتها يكون قد تشكل. و لهذا السبب تقول: " أنا".. و بهذه الكلمة تعبّر عن ذاتها للمرة الأولى.
لكن عملية التشكل، و الكينونة، تلك تشمل الألم أيضا.. فالمعرفة أشبه بجرح. و الوعي يتشكل من خلال الجرح.
* * * *
فيلمي "شمس شجرة السفرجل" يعتمد في توتره الدرامي على الحوار بين الفن و الطبيعة.. هناك، من جهة، الطبيعة، الشجرة، الموضوع الحي. و من جهة أخرى، هناك الرسم الذي يحاول أن يعيد إنتاج الشجرة في لحظة معينة من لحظات إشراقها. لكن الشجرة ليست طبيعة صامتة: إنها تتحرك، إنها حية. و هذا يخلق توترا يكرر أسطورة صراع الجنس البشري للتحكم في الطبيعة.
هناك مواجهة – أو علاقة- بين لغة الرسم و لغة الفيلم. الفنان يعمل فقط تبعا للّـحظة، لكن الكاميرا السينمائية تستطيع أن تأسر شيئا لا يستطيعه الر سام: حركة الزمن.
الزمن حاضر في كل إبداع فني، لأن الإنسان ينشد الدوام. النضال من أجل البقاء في وسط ما هو عابر و زائل، هو تعبير عن حالة الوجود التراجيدي. لذا فإن محاولة الرسام أنتونيو لوبيز لإيقاف دورة الشجرة الطبيعية و الإمساك إلى الأبد بلحظة في حياتها، هذه المحاولة محكومة بالإخفاق. لكنه يقبل بهذا الإخفاق لأنه ينظر إلى الشجرة باعتبارها شيئا منجزا تماما، كاملا جدا.
ما إن يشرع هذا الفنان في العمل و يضع بناءً معدنيا حول الشجرة، حتى تصبح الشجرة شيئا آخر.. أشبه بموديل للفنان. بعد ذلك، مع لطخات الصبغ – الأشبه بمكياج- و التي يضعها عليها كعلامات، الشجرة تدريجيا تفقد هويتها كشجرة.
عندما انتهى أنتونيو من عمله، و بدأ في إزالة كل شيء - البناء المعدني، البلاستيكي- قلت فجأة:" لكنها مجرد شجرة صغيرة!".. إذ لمدة ثمانية أسابيع لم نكن نراها كشجرة. إن أنتونيو يحاول أن يوقف جريان الزمن، لكن تأتي اللحظة حين يشعر بأنه لا يستطيع أن يستمر بسبب تساقط الثمار. إنه يتقدم و يلتقط الثمرة، و هذا يحدث عندما يسلّم بقدر الشجرة، عندما يقبل هزيمة المشروع البشري و يسمح للشجرة بأن تواصل مسارها. بالنسبة لي، كان ذلك أكثر الأفعال عاطفية في الفيلم.
كان يمكن للفيلم أن ينتهي مع انسحاب الفنان، لكنني شعرت بضرورة إظهار سخاء هذه الشجرة الصغيرة الهشة التي في كل عام، و في صمت، تنتج ثمارا لإطعام الناس. كل شيء حي هو مصدر للحياة.
حين يشاهد المتفرج الفيلم و يسلك الطريق الذي مشيناه، سوف يجعل من هذه العملية، التي كانت تخصنا، شيئا خاصا به.. شيئا قادرا على الخلق و إعادة الخلق بداخله.
الفيلم لا يوجد ما لم يكن مرئيا. إذا لم تكن هناك أعين ترى الصور، فإن الصور لا توجد. حين أنتهي من الفيلم فإنه لا يعود فيلمي، بل ينتمي إلى الناس، فأنا لست سوى وسيط في هذه العملية.
* * * *
إستريلا، في فيلمي "الجنوب"، تفهم أخيرا بأن والدها لم يكن ساحرا بل مجرد رجل عادي. هزيمة الآباء على يد أبنائهم مبدأ طبيعي: فالطفل ينمو و يكبر و يجد مكانه الخاص و هويته الخاصة في العالم، و هذا يعني أنه يترك وراءه شيئا مما ورثه من والديه. إنه لا ينسى ذلك الإرث لكنه يتجاوزه من أجل أن يصبح فردا، ذاتا خاصة. الذريّة تهزم خالقيها، و هذا ينطبق على الخلق الفني أيضا. لكن هناك أفرادا –أمهات و آباء- يرغبون في تبلور تجربتهم مع أطفالهم في مرحلة الطفولة. هذا ما يحدث مع والد إستريلا.
لقد حالت صعوبات الإنتاج دون تصوير الجزء الأخير من فيلم "الجنوب"، و كان لذلك تأثير على فعالية الفيلم.
الأب هنا رجل منقسم بين تاريخين أو عالمين: الشمال و الجنوب. لكنه طوال حياته كان عاجزا عن القيام برحلة إلى الجنوب لربط أو توحيد ما تباعد و تفرّق. لهذا السبب نراه، في الليلة الأخيرة من حياته، يضع تحت وسادة ابنته الرمز الذي وحّد بينهما: بندول الساعة.و بفعل ذلك هو يمنحها تفويضا: هي التي يجب أن تمضي إلى الجنوب و تفعل ما عجز هو عن فعله.
لذا، بدون الجزء الختامي في الجنوب، يتشوه الفيلم بعمق. لقد كان موجعا جدا، بالنسبة لي، ألا أتمكن من إنهائه بالطريقة التي أردتها. ففي رحلة إستريلا إلى الجنوب كان عليها أن توّحد شطري أبيها، بحيث تتمكن هي أيضا في النهاية أن تقول:أنا إستريلا.
الرحلة إلى الجنوب كانت أساسية و جوهرية.
* * * *
أظن أن مفهوم "الجماهيري" أو "الشعبي" هو مفهوم باطل و عقيم. الجمهور منقسم جدا. إنه لا يشكل كتلة كما كان الحال عندما كانت السينما كينونة واحدة.
نحن نشهد، في كل مكان من العالم، ولادة جمهور جديد و قيّم، يتعين علينا إشباعه. إنه الجمهور الذي ينتقي الأفلام التي يرغب في مشاهدتها.
كيف يمكن لنا أن ننافس تلك الأفلام التي تصرف الكثير من المال في الدعاية وحدها، و التي تجد رواجا بسبب الدعاية فقط؟
أعلم أن هناك جمهورا لهذا النوع من الأفلام التي أحققها و أحبها. لذا يجب أن يتاح لنا استخدام حق المبادرة، فإذا زال ذلك، هذا يعني ضياع شيء ثمين جدا.
أحيانا من الهشاشة تولد أشياء جميلة جدا.