(1)
أحاول هنا أن أعرض بعض الخطوط الهادية لسيميولوجيا السينما، أي دراسة السينما كنظام من العلامات. الهدف الأساسي لهذا هو فرض إعادة الاستقصاء أو البحث في ما نعنيه عندما نتحدث عن لغة الفيلم.. بأي معنى الفيلم يكون لغةً.
هناك سببان لجعل السيميولوجيا مجالاً حيوياً للدراسة بالنسبة للباحثين في جماليات الفيلم..
الأول، أي نقد يعتمد بالضرورة على معرفة ما يعنيه النص، والقدرة على قراءته. ما لم نفهم شِفرة أو طريقة التعبير التي تتيح للمعنى أن يوجد في السينما، فإننا نكون في موقف المحكوم علينا بالغموض والضبابية وعدم الدقة في النقد السينمائي، وبالتعويل الذي لا أساس له على الحدس والانطباعات الخاطفة.
الثاني، يصبح جليّاً على نحو متزايد أن أي تعريف للفن لابد وأن يكون مفهوماً كجزء من نظرية السيميولوجيا في الثلاثينيات من القرن العشرين.
النقاد الشكلانيون الروس أصروا أن مهمة نقاد الأدب ليس دراسة النتاج الأدبي بل "الحالة الأدبية".. هذا لا يزال ساري المفعول. إن الانسياق الكلي للتفكير الحديث بشأن الفنون كان لغمرها بنظريات عامة عن الاتصال، سواء السيكولوجي أو الاجتماعي (السوسيولوجي)، وللتعامل مع الأعمال الفنية كما الحال مع أي نص آخر أو رسالة أخرى، ولحرمانها من أي خاصيات جمالية معينة بها تستطيع أن تكون مميّزة.
الاختراق العظيم في نظرية الأدب جاء مع إصرار رومان ياكوبسون على أن الشعرية هي مجال اختصاص اللغويين، وأنه كانت هناك وظيفة شعرية إلى جانب الوظائف الأخرى. الرؤية ذاتها لعلم الجمال، كمجال اختصاص للسيميولوجيا، يمكن إيجادها في مدرسة براغ عموماً، وفي أعمال Hjelmslev ومدرسة كوبنهاجن.
هناك اهتمام متزايد بسيميولوجيا السينما، بالسؤال عما إذا كان من الممكن تذويب النقد السينمائي وجماليات السينما في إقليم خاص من علم العلامات. لقد أصبح واضحاً على نحو متزايد أن النظريات التقليدية في لغة الفيلم وقواعد الفيلم، والتي نمت على نحو تلقائي عبر السنوات، تحتاج إلى إعادة استنطاق وأن تكون متصلة بالراسخ من نظام علم اللغة.
إذا كان ينبغي استخدام مفهوم "اللغة"، فلابد أن يكون استخدامه على نحو علمي وليس ببساطة كمجاز فضفاض وغير دقيق، حتى وإن كان إيحائياً. الجدل الذي دار في فرنسا وإيطاليا حول أعمال رولان بارت، كريستيان ميتز، بيير باولو بازوليني، أمبرتو إيكو، يمتد في هذا الاتجاه.
الباعث الرئيسي وراء أعمال هؤلاء النقاد والسيميولوجيين ينشأ من كتاب فرديناند دي سوسير "دروس في علم اللغة". كان سوسير قد توفى سنة 1913، وقام تلامذته في جامعة جنيف بجمع محاضراته ومخطوطاته، إضافة إلى ملاحظاتهم، وتركيب المادة في عرض منهجي، نشر في جنيف سنة 1915.
في هذا الكتاب يتنبأ سوسير بعلم جديد، علم السيميولوجيا: "العلم الذي يدرس حياة العلامات داخل المجتمع هو ممكن تصوره. سيكون جزءاً من السيكولوجيا الاجتماعية، وبناءً على ذلك، جزءاً من السيكولوجيا العامة.. سوف أسميه السيميولوجيا (المشتقة من الكلمة الإغريقية semeion والتي تعني "علامة"). السيميولوجيا سوف تعرض ما يؤلّف العلامات، القوانين التي تحكمها.
بما أن العلم لا يوجد بعد، فإن أحداً لا يستطيع أن يزعم ما الذي سيكون عليه، غير أن له الحق في أن يوجد، في أن يكون مشدوداً سلفاً إلى مكان ما. علم اللغة مجرد جزء من علم السيميولوجيا العام. القوانين التي ستكتشفها السيميولوجيا ستكون ملائمة للغويين، وهؤلاء سوف يعينون حدود منطقة هي محددة جيداً ضمن مجموعة من الحقائق الأنثروبولوجية".
سوسير، الذي كان متأثراً بأعمال إميل دوركهايم (1858- 1917) في السوسيولوجيا، شدّد على أن العلامات يجب دراستها من وجهة نظر اجتماعية، وأن اللغة كانت مؤسسة اجتماعية والتي امتنعت على الإرادة الفردية. النظام اللغوي – ما يمكن تسميته هذه الأيام بـ "الشفرة" – سبق في الوجود الفعلَ الفردي للخطاب، "الرسالة". بالتالي فإن دراسة النظام لها أولوية منطقية.
سوسير شدّد، بوصفه مبدأه الأول، على الطبيعة الاعتباطية للعلاقة. الدال ليس له علاقة طبيعية مع المدلول. العلاقة، وفقاً لتعبير سوسير، هي "ليس لها محرّض". إن سوسير لم يكن واثقاً أي التضمينات الكاملة للطبيعة الاعتباطية في العلامة اللغوية كانت لصالح السيميولوجيا.
"عندما تصبح السيميولوجيا منظّمة كعلم، فإن سؤالاً سوف ينشأ عما إذا هو يحتوي على نحو ملائم طرائق من التعبير مبنية على علامات طبيعية تماماً، مثل البانتومايم. لنفترض أن العلم الجديد يرحّب بها، سيظل اهتمامه الرئيسي المجموعة الكاملة من النظم المعتمدة على اعتباطية العلاقة. في الواقع، كل وسيلة تعبير مستخدمة في المجتمع هي مبنية، من حيث المبدأ، على السلوك الاجتماعي أو على العادة المتبعة. الصيغ المهذبة، على سبيل المثال، مع أنها غالباً ما تكون مشرّبة بتعبيرية طبيعية معينة (كما في حالة الصيني الذي يحيّي الإمبراطور بالانحناء حتى الأرض تسع مرات) هي مع ذلك مثبّتة من قِبل قانون. هذا القانون وليس القيمة الجوهرية للإيماءات هو الذي يرغم المرء على استخدامها. العلامات التي هي اعتباطية تماماً تدرك على نحو أفضل من الأخرى غايات العملية السيميولوجية: لهذا السبب اللغة، الأكثر تعقيداً وشمولية من بين كل نظم التعبير، هي أيضاً الأكثر تميّزاً. بهذا المعنى، بإمكان علم اللغة أن تصبح النمط الرئيس لكل فروع السيميولوجيا مع أن اللغة ليست إلا نظاماً سيميولوجياً واحداً".
لقد كان على علم اللغة أن يكون إقليماً خاصاً للسيميولوجيا، وفي الوقت نفسه، النمط الرئيسي للأقاليم المتعددة الأخرى. مع ذلك، كل الأقاليم – أو على الأقل، المركزية منها – كان عليها أن تملك، كهدف لها، نظماً "معتمدة على اعتباطية العلاقة". لكن يتضح أن من الصعب العثور على هذه النظم.
السيميولوجيون وجدوا أنفسهم مقيدين بلغات مصغّرة، مجهرية، كما في لغة إشارات المرور، لغة المراوح، نظم إشارات السفن، لغة الإيماءة بين رهبان دير "لا تراب" الصائمين عن الكلام، ضروب متنوعة من إشارات ضوئية.. وغير ذلك. هذه اللغات المصغّرة ثبت أنها حالات محدودة جداً، قادرة على ربط نطاق دلالي ضئيل جداً. العديد منها كان متطفلاً على لغة شفوية مناسبة.
(2)
رولان بارت (مواليد 1915، مؤلف "الكتابة في درجة الصفر" 1953، و"عناصر السيميولوجيا" 1964) كنتيجة لبحوثه في لغة الأزياء، استنتج أن من المستحيل الإفلات من الحضور المتخلل للغة الشفوية. الكلمات تدخل في محادثة ذات نظام آخر إما لتثبيت معنى غامض وملتبس، مثل نعت أو عنوان، أو للمساهمة في المعنى الذي لا يمكن توصيله بطريقة أخرى، مثل الكلمات المدوّنة في المساحات الأشبه بالفقاعات في الرسوم الهزلية. الكلمات إما تثبّت المعنى في موضعه أو تنقله.
فقط في حالات نادرة جداً يمكن للنظم غير الشفوية أن توجد بلا دعم إضافي من الشفرة الشفوية. حتى النظم المعطاة شكلاً أو مضموناً عقلانياً، والمتطورة جداً، مثل الرسم والموسيقى، باستمرار تلتمس العون من الكلمات، خصوصاً في المستوى الشعبي الرائج: الأغاني، الرسوم المتحركة، الملصقات الدعائية.
في الواقع، سيكون ممكناً كتابة تاريخ الرسم بوصفه دالاً على العلاقة المتحولة بين الكلمات والصور. أحد الإنجازات الأساسية لعصر النهضة كان في إبعاد الكلمات عن حيّز الصورة. مع ذلك، كانت الكلمات على نحو متكرر ترغم نفسها على العودة وتفرض حضورها. إنها تعاود الظهور في لوحات إل جريكو، على سبيل المثال، وفي لوحات دورير وهوجارث. بوسع المرء أن يقدّم أمثلة لا تحصى. في القرن العشرين، عادت الكلمات بإفراط.
في الموسيقى، الكلمات لم يتم إبعادها والتخلّص منها إلا مع بداية القرن السابع عشر. الكلمات فرضت نفسها في الأوبرا، في الموشّحات الدينية، في اللّيْدة (أغاني ألمانية). أما السينما فكانت حالة جلية أخرى في صميم الموضوع. بضع أفلام صامتة تم تحقيقها بدون عناوين.
لقد توصل رولان بارت إلى نتيجة مفادها أن السيميولوجيا ربما تكون مرئية على نحو أفضل كرافد لعلم اللغة بدلاً من أن تكون العكس. هذا يبدو استنتاجاً يائساً. الفرع ينتهي بأن يصبح "الأكثر تعقيداً وشموليةً" إلى حد أنه يغمر الكل.
مع ذلك، فإن تجربتنا مع السينما توحي بأن التعقيد الكبير للمعنى يمكن التعبير عنه من خلال الصورة. بالتالي، لأخذ مثال واضح، نلاحظ أن أكثر الكتب عاديةً وتفاهة وابتذالاً يمكن أن يتحول إلى فيلم مشوق جداً، مثير للاهتمام، ويحمل مغزى ودلالة. إن قراءة السيناريو هي عادةً تجربة غير ممتعة وغير مثمرة فكرياً.. وعاطفياً أيضاً. المعنى الضمني لهذا، أنه ليس فقط النظم التي كلياً "معتمدة على اعتباطية العلامة" تكون معبّرة وحافلة بالمعنى. العلامات الطبيعية لا يمكن أن تكون مرفوضة كما تصوّر سوسير. إنه هذا المطلب، بإعادة دمج العلامة الطبيعية في السيميولوجيا، الذي قاد كريستيان ميتز لأن يعلن بأن السينما هي بالفعل لغة، لكن لغة بلا نظام شفري. إنها لغة لأنها تملك نصوصاً. ثمة خطاب ذو معنى. لكن بخلاف اللغة اللفظية ، لا يمكن إحالة هذه اللغة إلى شفرة كائنة.
إن افتراض ميتز يورّطه في عدد كبير من المعضلات التي لا يستطيع أن يتغلّب عليها على نحو مرْض. إنه يجد نفسه مرغماً على العودة إلى مفهوم "منطق المعنى المتضمن" الذي به الصورة تصبح لغةً. إنه يستشهد برأي الناقد والمنظّر الهنغاري بيلا بالاش القائل بأن من خلال "تيار الاستقراء" نحن نجعل الفيلم يبدو معقولاً ومفهوماً. لكن ليس واضحاً ما إذا علينا أن نتعلم هذا المنطق أو أنه طبيعي وفطري. من الصعب فهم كيف أن مفاهيم مثل "منطق المعنى الضمني" و "تيار الاستقراء" يمكن دمجهما في نظرية السيميولوجيا.
ما كنا نحتاجه هو بحث أو نقاش، أكثر دقةً، لما نعنيه بـ "العلامة الطبيعية"، وسلسلة من الكلمات مثل: المتشابه، المتواصل، المحفّز.. هذه الكلمات التي يستخدمها بارت وميتز وآخرون لوصف مثل هذه العلامات.
(3)
لحسن الحظ أن الأساس الضروري لتوفير دقة أبعد قد تم انجازه سابقاً من قِبل شارلز ساندرز بيرس، عالم المنطق الأمريكي. كان بيرس معاصراً لسوسير، ومثل سوسير، جُمعت بحوثه ونُشرت بين 1931 و 1935، أي بعد وفاته في 1914 بعشرين سنة.
كان بيرس من أكثر المفكرين الأمريكان أصالةً وتجديداً، كما أشار رومان ياكوبسون، إلى حد أنه لسنوات طويلة من حياته العملية لم يستطع الحصول على وظيفة في الجامعة. إن شهرته الآن ترتكز قبل كل شيء على أعماله الأكثر قابلية للفهم، وبشكل أساسي على تعاليمه في الذرائعية. أما اشتغاله على السيميولوجيا فقد تم – للأسف - إهماله والاستخفاف به. وقد ساهم مريده شارلز موريس في الإساءة إلى نظريته، المتصلة بعلم اللغة وعلم الجمال، عبر ربطها بشكل خبيث من أشكال السلوكية التي وُجهت إليها انتقادات شديدة وقاسية من كتّاب مثل جومبريش ونعوم تشومسكي. في السنوات اللاحقة، استطاع رومان ياكوبسون أن يوجه اهتمام الآخرين إلى سيميولوجيا بيرس، وأن يعيد إحياء حماسة تأخرت زمناً طويلاً.
في عدد من كتب بيرس نجد تصنيفاً لطبقات مختلفة من العلامة، والتي كان ينظر إليها بوصفها الأساس السيميولوجي الجوهري لمنطق لاحق ولعلم بلاغة. التصنيف، الذي هو هام بالنسبة للنقاش الدائر حالياً، هو ذاك الذي يسميه بيرس "الانقسام الثاني للعلامات"، المؤلف من ثلاثة أجزاء أو عناصر، حيث العلامات تكون:
دلالية.. العلامة التي فيها المعنى مبني على رباط وجودي بين الدال والمدلول.
أيقونية.. العلامة التي تمثّل مادتها، في الدرجة الأولى، بواسطة الشبه المادي، الفيزيائي.
رمزية.. العلامة التي تكون اعتباطية ومشفّرة.
في الأيقونة، العلاقة بين الدال والمدلول ليست اعتباطية بل ذات تماثل أو شبه. هكذا، على سبيل المثال، الصورة الشخصية (البورتريه) لرجل يشبه نفسه. من جهة أخرى، بإمكان الأيقونات أن تكون منقسمة إلى شعبتين رئيسيتين: الصور والرسوم البيانية أو التخطيطية. في حالة الصور تكون "الخاصيات البسيطة" متشابهة. وفي حالة الرسوم البيانية تكون "الصلات بين الأجزاء". ثمة رسوم بيانية عديدة تتضمن معالم معبّر عنها بالرموز. وبيرس أكّد هذا نظراً لأنه المظهر الغالب الذي كان يهتم به.
بشأن العلامة الدلالية، قدّم بيرس أمثلة عديدة: "أرى رجلاً ذا مشية متمايلة أو مترنحة.. هذه دلالة محتملة على أنه بحّار. أرى رجلاً متقوس الساقين، ببنطلون من القماش القطني وحذاء نصفي من المطاط وسترة.. هذه دلالات محتملة على أنه فارس (جوكي) في سباق الخيل أو شيء من هذا القبيل. المِزْولة (الساعة الشمسية) أو الساعة تشير إلى توقيت اليوم".
أما العلامة الرمزية فتراوغ الإرادة الفردية. يقول بيرس: "بإمكانك أن تدوّن كلمة "نجمة" لكن ذلك لا يجعلك خالقاً للكلمة، الأمر نفسه عندما تمحوها.. هذا لا يجعلك هادماً للكلمة. الكلمة تعيش في عقول أولئك الذين يستخدمونها".
العلامة الرمزية لا تقتضي تشابهاً مع مادته، ولا رباطاً وجودياً معها. إنها اصطلاحية، متفقة مع القواعد المقررة، ولها قوة القانون. بيرس كان قلقاً بشأن صحة أو ملاءمة تسمية هذا النوع من العلامة "رمزاً".. وهي الاحتمالية التي فكر فيها سوسير وأخذها بعين الاعتبار لكنه رفضها بسبب خطورة التشوّش. مع ذلك، من المؤكد أن سوسير قد بالغ في تقييد مفهوم العلامة بحصرها في "رمزية" بيرس.
تصنيفات بيرس كانت الأساس لأي تقدّم في السيميولوجيا. لكن من المهم ملاحظة أن بيرس لم يعتبرها حصرية على نحو متبادل. على العكس، كل الأوجه الثلاثة كثيراً ما – وعلى نحو ثابت أحياناً – تتداخل وتكون حاضرة معاً. إن هذا الوعي بالتداخل هو الذي ساعده على أن يدوّن بعض الملاحظات المتصلة خصوصاً بالتصوير الفوتوغرافي.
"الصورة الفوتوغرافية، خصوصاً الصور الفورية، هي مرشدة جداً، لأننا نعرف أنها، في نواح معينة، تشبه بالضبط الأشياء التي تصورها. لكن هذا الشبه ناشئ عن كون الصور منتَجة في ظروف معينة إلى حد أنها فيزيائياً تكون مجبرة أن تتوافق درجةً فدرجة مع الطبيعة. في ذلك المظهر، هي إذن تنتمي إلى الطبقة الثانية من العلامات، ذات الصلة الفيزيائية".
بين من كتبوا عن السيميولوجيا، رولان بارت يتوصل إلى استنتاجات مماثلة إلى حد ما، مع أنه لا يستخدم التصنيف "الدلالي"، لكنه يرى الصورة الفوتوغرافية المطبوعة بوصفها "أيقونية". مع ذلك، هو يصف كيف أن الأيقونة الفوتوغرافية تقدّم "نوعاً من الوجود الطبيعي للشيء هناك". ليس ثمة أي تدخّل بشري، أي تحوّل، أي شِفرة، بين الشيء والعلامة. التناقض الظاهري هنا أن الصورة الفوتوغرافية هي رسالة بلا شِفرة.
السينما تتضمن الصيغ الثلاث للعلامة: الدلالية، الأيقونية، الرمزية. الناقد الفرنسي أندريه بازان طوّر جمالية تأسست على الصفة الدلالية للصورة الفوتوغرافية. كريستيان ميتز خالف هذا بجمالية تفترض أن السينما، لكي تكون ذات معنى، لابد أن تحيل نفسها إلى نظام شفري، إلى قواعد خاصة، وأن لغة السينما يجب أن تكون رمزية في المقام الأول.
لكن كان هناك خيار ثالث: فون ستيرنبرغ كان، على نحو قاس، معارضاً لأي نوع من الواقعية. هو كان يسعى، قدر المستطاع، إلى أن ينكر ويهدم الرباط الوجودي بين العالم الطبيعي والصورة السينمائية. لكن هذا لم يكن يعني أنه تحوّل إلى الرمزي. عوضاً عن ذلك، هو كان يؤكد على الصفة التصويرية للسينما. كان يرى السينما، ليس على ضوء العالم الطبيعي أو اللغة الشفهية، بل على ضوء الرسم. "الكانفاس الأبيض الذي عليه تكون الصور مطروحة هو سطح منبسط ذو بعدين. ليس جديداً على نحو مروّع. الرسام استخدمه منذ قرون".
يجب على مخرج الفيلم أن يخلق صوره الخاصة ليس بمحاكاة الطبيعة على نحو خانع وصاغر، ليس بالانحناء أمام صنم الدقة والموثوقية، بل بفرض أسلوبه الخاص، تأويله الخاص.
"سلطة الرسام على موضوعه هي غير محدودة، مطلقة. سيطرته على الشكل البشري والوجه البشري هي استبدادية". لكن "المخرج هو تحت رحمة كاميرته". مأزق مخرج الفيلم هو في هذا، في الأداة الميكانيكية، غريبة الشكل، التي يجد نفسه مجبراً على استخدامها. ما لم يسيطر عليها، ما لم يتحكم فيها، سيكون متنازلاً عن حقه.
فون ستيرنبرغ خلق عالماً اصطناعياً تماماً، فيه الطبيعة تكون مبعدة على نحو صارم. قال ذات مرّة عن فيلمه The Saga of Anatahan أن الخلل الأساسي في هذا الفيلم أنه يحتوي على لقطات لبحر حقيقي، في حين أن كل شيء آخر كان زائفاً.
الفيلم لا يعتمد على أي نظام شفري مشترك، بل على الخيال الفردي للفنان. إنه المظهر الأيقوني للعلامة ذاك الذي يؤكده ستيرنبرغ، المظهر المنفصل عن الدلالي من أجل استحضار عالم، ممكن إدراكه بفضل التماثلات مع العالم الطبيعي، مع ذلك هو ضرب من عالم الحلم، مختلف ومتغاير.
السيميولوجيون كانوا، على نحو غريب، صامتين إزاء موضوع العلامات الأيقونية. كانوا يعانون من انحيازين: الأول، لصالح الاعتباطي والرمزي. الثاني، لصالح المنطوق والصوتي. هذان الشكلان من الانحياز يمكن العثور عليهما في أعمال سوسير الذي، بالنسبة إليه، اللغة كانت نظاماً رمزياً يعمل في رباط حسّي مميّز. حتى الكتابة كانت قد عيّنت، بإصرار ومثابرة، مكاناً أقل شأناً بواسطة اللغويين الذين رأوا في الأبجدية وفي الحرف المكتوب فقط "علامة العلامة"، نظام فرعي خارجي، اصطناعي، ثانوي. هذه الانحيازات يجب تحطيمها. المطلوب هو إحياء علم القرن السابع عشر الذي يشمل دراسة المجال الكلي للاتصال ضمن الرباط الحسي البصري، من الكتابة والأرقام وعلم الجبر حتى التصوير الفوتوغرافي والسينما. ضمن هذا الرباط سوف يتضح بأن العلامات تمتد من تلك التي فيها المظهر الرمزي يكون مهيمناً على نحو بيّن، مثل الحروف والأرقام، إلى العلامات التي فيها المظهر الدلالي يكون مهيمناً، مثل الصورة الوثائقية. بين هذين الطرفين، في محور المجال، هناك درجة جديرة بالاعتبار من التداخل والتشابك، من التعايش، لأوجه مختلفة بلا أي غلبة بيّنة لأي وجه منها.
(4)
في السينما، يبدو جلياً تماماً أن المظاهر الدلالية والأيقونية هي الأكثر فعالية. المظهر الرمزي محدود وثانوي. لكن من الأيام الأولى للسينما كان هناك ميل مثابر، مع أنه مفهوم، لتضخيم أهمية التشابهات مع اللغة الشفهية. السبب الرئيسي لهذا كان الرغبة في تثبيت وضع السينما بوصفها فناً.
على نحو بيّن، الكثير من التأثير الذي مارسه أندريه بازان كان ناشئاً عن قدرته على رؤية المظهر الدلالي للسينما باعتباره جوهرها – والمنتقص من شأنها بالطريقة نفسها – مع ذلك، وفي الوقت نفسه، يحتفي بمكانتها الفنية. بازان أبداً لم يجادل بشأن الفارق بين الفن واللا فن داخل السينما. كان يميل إلى قبول أي شيء بوصفه فناً.
الغنى الجمالي للسينما ينشأ من حقيقة أنها تتضمن كل الأبعاد الثلاثة للعلامة: الدلالي، الأيقوني، والرمزي. المأخذ الأكبر على كل الذين كتبوا عن السينما هو أنهم تناولوا بعدا واحدا من هذه الأبعاد، جاعلين منه أساس الجمالية والبعد الجوهري للعلامة السينمائية، وأهملوا الأخرى. هذا يفضي إلى إفقار أو إضعاف السينما.
فضلاً عن ذلك، لا يمكن إهمال أي من هذه الأبعاد، أو التقليل من أهميته. إنها حاضرة معاً. الحسنة العظيمة لتحليل بيرس للعلامات أنه لم يرَ المظاهر المختلفة بوصفها وحيدة، غير مختلطة، على نحو متبادل. وهو، بخلاف سوسير، لم يُظهر أي تحيّز خاص لصالح مظهر أو آخر. في الواقع، هو أراد علم منطق وعلم بلاغة مبني على كل المظاهر الثلاثة.
فقط بتأمل التفاعل بين الأبعاد المختلفة الثلاثة للسينما يكون بإمكاننا أن نفهم تأثيرها الجمالي.
لقد رأينا كيف أن استخدام سوسير للرمز لا ينسجم مع استخدام بيرس. بالنسبة لبيرس، العلامة اللغوية هي رمز، بالمعنى الضيّق والعلمي. بالنسبة لسوسير، العلامة اللغوية هي اعتباطية في حين أن..
"إحدى ميزات الرمز هو أنه لا يكون أبداً اعتباطياً على نحو كلي. هو ليس خاوياً، ذلك لأن هناك بقايا رباط طبيعي بين الدال والمدلول. إن رمز العدالة، كفتيّ الميزان، لا يمكن استبداله بأي رمز آخر".
ما الذي ينبغي أن نقوله عن المطرقة والمنجل، الصليب المسيحي، ميزان العدالة؟ لابد أن نميّز بوضوح بين الوصف أو الصورة والشعار. الصورة، على نحو غالب، هي أيقونية، بينما الشعار علامة مختلطة.. أيقونية جزئياً، رمزية جزئياً. فضلاً عن ذلك، هذه الصفة المزدوجة للعلامة الرمزية أو المجازية يمكن أن تكون مستثمرة على نحو صريح وعلني. الشعارات هي متقلبة، غير مستقرة، قابلة للتغيّر: قد تتطور إلى علامات رمزية أو تتراجع لتصبح أيقونية.
ليسنج Lessing رأى المعضلة بوضوح أشد. الرمزي أو المجازي، كما يعتقد، هما ضروريان للفنانين التشكيليين، لكن ليس للشعراء.. إنهما هنا فائضان، زائدان عن الحاجة، ذلك لأن اللغة اللفظية، التي لها الأسبقية، هي رمزية بذاتها.
يقول ليسنج: "الميزان في يد العدالة هو بالتأكيد أقل مجازية محضة، لأن الاستخدام الصحيح للميزان هو حقاً جزء من العدل. لكن القيثارة أو الفلوت في يد إلهة الغناء، أو الحربة في يد إله الحرب، أو المطرقة والملقط في يد إله النار، هذه الأشياء كلها ليست رموزاً بل مجرد أدوات".
يتعيّن على الرسامين أن يخفضوا الرمزي إلى الحد الأدنى. كان ليسنج يتطلع إلى فن والذي سيكون أيقونياً محضاً. الذي حدث أن، فيما كان الرمزي يُقصى، الدلالي بدأ في جعل نفسه محسوساً. وبدأ الرسامون في الاهتمام بعلم البصريات وسيكولوجيا الإدراك الحسّي.
قال كوربيه: "أنا أؤكد أن الرسم أساساً فن مادي، ملموس، ولا يمكن إلا أن يتألف من تمثيل للأشياء الحقيقية والكائنة. إنها لغة فيزيائية تماماً، مفرداتها تتألف من كل الأشياء المنظورة. الشيء الذي هو تجريدي، غير مرئي، غير كائن، هو ليس ضمن عالم الرسم (..) الجمال يوجد في الطبيعة، ويمكن الالتقاء به مصادفةً وسط الواقع، تحت أكثر المظاهر تنوعاً وتعدداً. حالما يتم العثور عليه هناك فإنه ينتسب إلى الفن، أو بالأحرى إلى الفنان الذي يعرف كيف يراه هناك. حالما يكون الجمال حقيقياً ومرئياً فإنه يحصل على تعبيره الفني من هذه الخاصيات ذاتها. ليس للوسيلة الفنية الحق في تضخيم هذا التعبير. بالتدخل في ذلك، يجازف المرء بتحريفه، وبالتالي إضعافه. الجمال الذي تقدمه الطبيعة أسمى من كل تقاليد الفنان".
في السينما، سيكون أمراً مضللاً تماماً تأييد بعْدٍ واحد، على نحو أحادي الجانب، وجعله شرعياً على حساب كل الأبعاد الأخرى. ليس هناك سينما نقية، خالصة، معتمدة على ماهية واحدة، ومختومة بإحكام منعاً لأي تلويث.
هذا يعلّل قيمة مخرج مثل جان- لوك جودار، الذي لا يخشى من دمج هوليوود مع كانت وهيجل، مونتاج إيزنشتاين مع واقعية روسيلليني، الكلمات مع الصور، الممثلين المحترفين مع شخصيات تاريخية، لوميير مع ميليه، الوثائقي مع الأيقوني.
أكثر من أي مخرج آخر، جودار أدرك الإمكانيات الرائعة للسينما بوصفها وسطاً للاتصال والتعبير. على يديه، كما في علامة بيرس المثالية، أصبحت السينما مزيجاً متساوياً تقريباً للرمزي والأيقوني والدلالي. أفلامه تمتلك المعنى المفاهيمي، الجمال التصويري، والحقيقة الوثائقية. بالتالي لم يكن مفاجئاً انتشار تأثيره بين المخرجين عبر العالم.
إن صانع الفيلم محظوظ لأنه يعمل في أكثر الوسائط تركيبيةً سيميولوجياً، وأكثرها ثراءً جمالياً. بإمكاننا أن نردد اليوم ما قاله أبل جانس قبل أربعة عقود: "لقد حان زمن الصورة".
(5)
الاختراقات العظيمة في الأدب والرسم والموسيقى، الضربات التي هشّمت (أو كان ينبغي أن تهشم) الجماليات التقليدية، حدثت في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، حين كانت السينما تعيش طفولتها، في المرحلة الأولى من نشوئها، في زمن بروز عالم الفودفيل (مسرح المنوعات)، وصناديق الفرجة والمسارح الرخيصة. تلك كانت مرحلة الرسومات التجريدية الأولى، القصائد الصوتية الأولى، الفرق الموسيقية الضاجة الأولى. كانت كذلك فترة انطلاق فكرة السيميولوجيا على يد سوسير في محاضراته بجنيف، وعندما كان فرويد يقدم أكثر اكتشافاته أهميةً.
تحديداً، لأن السينما كانت فناً جديداً، فقد احتاجت تلك الاختراقات وقتاً لكي تمارس تأثيرها. التأثير الأول للحركة الحديثة على السينما حدث في العشرينيات. المثال الأكثر وضوحاً لهذا هو، بالطبع، إيزنشتاين. في الوقت نفسه ظهرت أعمال الحركة الطليعية الباريسية - ليجيه، مان راي، بونويل – ومخرجي الأفلام التجريدية مثل إيجلنج، هانز ريختر. في ألمانيا كانت الحركة التعبيرية تتغذّى في السينما في هيئة أفلام مثل: مقصورة الدكتور كاليجاري.
لكن عندما نلتفت إلى الوراء، نستطيع أن نرى كم كان ظاهرياً هذا الاتصال الأول، وكيف كان مطموساً تماماً خلال الثلاثينيات. في روسيا، انطلقت الواقعية الاشتراكية وتعرضت السينما الطليعية، التي برزت في العشرينيات، للمحاربة. في ألمانيا، وصول الحزب النازي إلى السلطة أجهض كل إنجازات التعبيرية والطليعية. تلاشت التجارب المبكرة للمخرجين ليجيه وريختر. بونويل سلك سبيله الخاص. فيشنجر اكتفى بالعمل لصالح شركة ديزني في الثلاثينيات. وإذا كان هناك أي وجود للطليعية في تلك الفترة فيمكن العثور عليها في الحركة الوثائقية.. التي هي بالتأكيد من أكثر المحاولات الطليعية محافظة واعتدالاً.
بروز الفيلم الناطق، والتوسع السريع للاقتصاد الأمريكي والنفوذ السياسي بعد الحرب، أدى ذلك إلى هيمنة هوليوود في أغلب أقطار العالم. في هذا المحيط كان بوسع مخرج مثل أورسون ويلز أن يظهر كمجدّد وتجريبي خطير، وأن يظهر روسيلليني كثوري، وهمفري جيننغز كشاعر. اليوم تبدو هذه التقديرات والتقييمات عبثية. لقد حدث تغيّر كامل، إعادة تقييم، تحوّل للبؤرة التي جعلت تاريخ السينما شيئاً مختلفاً. إيزنشتاين أو فيرتوف يبدوان معاصرين وليسا ممن تجاوزهم الزمن. ويلز وجيننغز يبدوان محافظين وقديمين. مع ذلك، هذا التغيّر الذي نلمسه مؤخراً، والنتائج الكاملة له، ليست محسوسة بوضوح. كل المعالم، ونقاط التحول، القديمة تتلاشى في سديم الزمن.
ما الذي حدث؟ في الواقع، حدث أمران: الأول، صعود حركة الأندرجراوند، خصوصاً في أمريكا. وهذا كان نتاج ثلاثة عوامل: شعراء ورسامون يحترفون صنع الأفلام، استقرار فناني الحركة الطليعية الأوربية في أمريكا (ريختر وآخرون)، الانحراف عن السرب السائد في هوليوود. هناك أيضاً الشرط الاقتصادي المسبق: تيسّر الأجهزة والمعدات، والمال اللازم لشرائها. في سياق الأندرجراوند، كان صنع الفيلم يُرى كامتداد للفنون الأخرى. لم يكن هناك أي محاولة للتنافس مع هوليوود بتحقيق أفلام درامية طويلة (باستثناء قلة من المخرجين) وقد احتاجت الأندرجراوند إلى فترة طويلة من الزمن لكي تعرض أفلامها في صالات السينما.
التطور الرئيسي الثاني نجده في الطريقة التي بها نشأت الموجة الجديدة الفرنسية، دافعة إلى الوراء التخوم التقليدية لسينما "الفن". وكان لمخرج مثل جودار تأثير هائل.
فيلم مثل WR- Mysteries of the Organism (ألغاز الجسد) للمخرج اليوغوسلافي دوشان ماكافييف، يستثمر حتى الحد الأقصى الاحتمالات السيميولوجية للفيلم في مزجه للوثائقي، الحقيقي، القصاصات الأرشيفية، هوليوود، مونتاج.. الخ.
من الضروري عند هذه النقطة القيام باستطراد، برسم الخلفية التي عليها يعمل جودار، والتي عليها انبثقت "الحركة الحديثة" في الفنون الأخرى.
القرن العشرون شهد هجوماً على الفن التقليدي وعلى علم الجمال الذي مهّد الأسس لفن ثوري لم يتعزّز ويتماسك بعد. محتمل أن هذا التماسك لا يمكن له أن يحدث على نحو مستقل، وبمعزل عن حركة المجتمع وحركة السياسة. الحالة البطولية الأولى للحركة الطليعية في الفنون تزامنت، برغم كل شيء، مع الحالة السياسية التي قادت من 1905 إلى ثورة أكتوبر 1917. أفلام جودار مرتبطة بالاحتدام السياسي الذي بلغ ذروته في أوروبا في مايو 1968.
لكن من الممكن، مع ذلك، على المستوى النظري، محاولة شرح ما سوف يستلزمه هذا الانقطاع المحتمل مع الماضي لو تحقق. هذا يثير مشكلات بشأن طبيعة الفن، مكانه في الإنتاج الفكري، الأيديولوجيا والفلسفة اللتين تدعمان أساسه.
(6)
النص شيء مادي، دلالته لا تقررها شفرة من خارجها، على نحو آلي، ولا عضوياً كوحدة كاملة رمزية، لكن من خلال استنطاقه لشفرته الخاصة. فقط من خلال هكذا استنطاق، هكذا حوار داخلي بين الإشارة والشفرة، ينتج النص فضاءات داخل المعنى. ينتج معنى من نوع جديد يتولد ضمن النص نفسه.
المؤثرات الأيديولوجية لهكذا إعادة صياغة للأسس السيميولوجية للفن ستكون ذات أهمية قصوى. إنها بعد الآن سوف لن تعيّن موقعاً لوعي القارئ أو المتفرج خارج العمل كمتلق/ مستقبل، ومستهلك، وقاض، بل ترغمه على تعريض وعيه للمجازفة داخل النص ذاته، بحيث يكون مجبراً على استجواب شفراته الخاصة، منهجه الخاص في التأويل، أثناء القراءة، وذلك من أجل إنتاج ثغرات وفجوات في فضاء وعيه.. (هي ثغرات وفجوات موجودة في الواقع لكنها مكبوحة من قِبل الأيديولوجيا التي تصر على "كلية" واستقامة كل وعي فردي). الجماليات السابقة أقرّت شمولية أو عمومية الفن المؤسس إما في عمومية "الحقيقة" أو عمومية "الواقع". الحركة الحديثة، للمرة الأولى، هشمت هذه العمومية أو الشمولية إلى قطع وأصرّت على خصوصية وتفرّد كل فعل من أفعال قراءة النص، والعملية المتعددة لحل الشفرات، التي فيها انتقال الشفرة يعني العودة إلى إشارات كانت في السابق محلولة شفرتها، والعكس بالعكس، بحيث أن كل قراءة كانت عملية مكشوفة، قائمة في فضاء مفتوح.
علم الجمال الكلاسيكي كان دوماً يثبّت وحدةً وتماسكاً أساسياً إلى كل عمل. الحداثة تأتي لتمزق هذه الوحدة والانسجام. إنها تفتح العمل داخلياً وخارجياً معاً، ونحو الخارج. هكذا لا تعود هناك أعمال مستقلة ومنعزلة، أشبه بوحدات، وكل عمل مسيّج في فردانيته الخاصة، عالمه المطلق، وحْدته الكلية. الحداثة تنتج أعمالاً لا تعود مندفعة نحو المركز، متماسكة بفعل محاورها الخاصة، بل هي مندفعة بعيداً عن المركز، رامية القارئ خارج العمل ونحو أعمال أخرى.
في الماضي، صعوبة القراءة كانت ببساطة تكمن في العثور على نظام شفري صحيح، في تفسير غموض ما، أو التباسات، أو مساحات من الجهل. ما إن تصير الشفرة معروفة حتى تصبح القراءة آلية. لكن الحداثة تجعل القراءة صعبة من وجهة أخرى، ليس في العثور على الشفرة أو إدراك الأفكار والمضامين، بل في جعل عملية حل الشفرة نفسها مسألة صعبة، فأن تقرأ يعني أن تعمل. القراءة تصبح إشكالية، والمضمون لا يصير مرتبطاً بالإشارة بواسطة أي رابط. إنه، على نحو غير مقصود، منفصل، مكبوح، معطل، بحيث يتعيّن على القارئ أن يلعب دوره الخاص في إنتاجه. في الوقت نفسه، النص، من خلال فرض ممارسة القراءة هذه، يعطل خرافة الوعي المتفتح للقارئ. العقل يصبح منتجاً، إنه يعمل. تماماً كما المؤلف الذي لا يعود "يجد" كلماته، لكن يجب أن "ينتج" نصاً، كذلك القارئ يجب أن يعمل ضمن النص. الصورة القديمة للقارئ بوصفه مستهلكاً قد تهشمت وتبدّدت.
النص إذن لا يعود وسطاً شفافاً. إنه شيء مادي والذي يوفّر الشروط لإنتاج المعنى، ضمن كوابح تعيّن نفسها. النص مفتوح أكثر مما هو منغلق. متعدد أكثر مما هو أحادي. مثمر أكثر مما هو مستنفد. ومع أنه من إنتاج فرد، هو المؤلف، إلا أنه لا يمثّل، أو يعبّر ببساطة عن، أفكار المؤلف، إنما يوجد ويحيا بذاته، بحكم حقه الشخصي.
الكاتب والقارئ هما، على نحو حيادي، نقّاد للنص. من خلال تعاونهما تكون المعاني منتَجة على نحو جماعي. في الوقت نفسه، هذه "المعاني" لها تأثيرات؛ تماماً كما النص، بتقديم إجراءاته في حل الشفرة الخاصة، يستنطق نفسه، بحيث أن القارئ أيضاً يجب أن يستنطق نفسه، أن يخرق فقاعة وعيه ويولج فيه الصدوع والتناقضات والأسئلة التي هي إشكالية.
(7)
هذا هو السياق الذي فيه ينبغي رؤية أفلام جودار.. هذه الأفلام التي تمثّل استجواباً، وإعادة استجواب مستمر، لبنى صنع الفيلم المسلّم بها من قِبل صانع الفيلم والمتفرج. إنها ليست ببساطة مسألة تجاور لأساليب مختلفة أو لوجهات نظر مختلفة، بل مسألة التحدي النظامي للافتراضات التي تشكّل الأساس لتبني أسلوب ما أو وجهة نظر ما.
في أفلام جودار الأولى، البنية السردية والدرامية مسلّم بها جدلاً، لكن الشخصيات في الأفلام تستجوب بعضها البعض بشأن الشفرات التي تستخدمها في ما يتصل بمصادر سوء الفهم وعدم الإدراك. بعد ذلك، وفيما مسيرته تستمر، هو يبدأ، أكثر فأكثر، في استجواب، ليس الاتصال الخاص بالعلاقات بين الشخصيات، بل الاتصال الذي يمثله الفيلم نفسه. وأخيراً، هو بدأ يرى إلى صنع الفيلم ليس كتوصيل على الإطلاق بل كإنتاج نص فيه معضلات صنع الفيلم نفسها تكون مطروحة. هذا مظهر سياسي لسينما جودار، تماماً كما الجدل والتضمين السياسي على نحو صريح.
بجعل الأشياء "صعبة" على المتفرج بهذه الطريقة، وبوضع حد لتدفق أفلامه، جودار يجبر المتفرج على استجواب نفسه بشأن كيفية النظر إلى الأفلام، سواء كمستهلك سلبي يحكم على خارج العمل، مسلّماً بالشفرة التي يختارها المخرج، أم داخل العمل كمشارك في الحوار.
أعمال جودار هامة، خصوصاً للسينما، لأن في هذا المجال، أكثر من أي شكل فني آخر، الغموض السيميولوجي يكون ممكناً.. هذا بسبب الصفة الدلالية – الأيقونية الغالبة على معظم الأفلام و"الإيهام بالواقع" الذي توفره السينما.
يبدو أن السينما تحقق الحلم القديم بتقديم وسيلة اتصال فيها الإشارات الموظفة هي نفسها متماثلة مع العالم الذي هو موضع التفكير. المنظرون الواقعيون يرون في السينما الشكل الثري القادر على تقديم المظهر والجوهر معاً، المظهر الفعلي للعالم الواقعي وحقيقته معاً. العالم الواقعي يعود إلى المتفرج وهو مصفّى بالتخلّل عبر عقل الفنان، الرائي، الذي يرى ويعرض معاً.
بالسعي لجعل السينما وسطاً تقليدياً فإنهم يسلبون منه إمكانيته كعالم بديل، أفضل، أنقى، وأصدق. تلك التنظيرات ترتكز على تضليل رهيب: فكرة أن الحقيقة تكمن في العالم الواقعي ويمكن التقاطها بالكاميرا. إذا كان الوضع كذلك، فإن كل شخص سوف يمتلك حرية الوصول إلى الحقيقة، بما أن كل شخص يعيش حياته كلها في العالم الواقعي. بينما ليس للحقيقة أي معنى ما لم يكن لديها قوة تعليلية، ما لم تكن معرفة، نتاج تفكير. أفراد مختلفون قد يختبرون حقيقة الفقر لكن ذلك قد يُنسب إلى أسباب مختلفة: مشيئة الله، سوء الحظ، ندرة طبيعية، الرأسمالية. جميعهم عاشوا تجربة فقر حقيقية، لكن كل واحد منهم يعرف عن هذا الفقر بشكل مختلف عن غيره. الشيء نفسه ينطبق على أشعة الشمس: كل شخص يختبرها لكن قلة من الناس يعرفون شيئاً عن الشمس من الناحية العلمية. الواقعية هي في الحقيقة، كما كانت تاريخياً، ثمرة الرومانتيكية. الرومانتيكي، على نحو نموذجي، يرتاب في المعرفة العلمية أو لا يهتم بها.
(8)
"نظرية الفيلم" (المخرج بوصفه مؤلفاً لفيلمه)، كما أفهمها، تصر على ضرورة أن يشتغل المتفرج على قراءة النص. مع بعض الأفلام، هذا الفعل يكون غير مجد وغير مثمر، لكن مع أفلام أخرى، الأمر لا يكون كذلك. في هذه الحالات، بمعنى معين، الفيلم يتغيّر، يصبح فيلماً آخر. لا يعود ممكناً النظر إليه بالعيون ذاتها. ليس هناك من تجربة متكاملة، حقيقية، يتمتع بها الناقد وإليها يحاول أن يرشد الآخرين. قبل كل شيء، تجربة الناقد ليست متجذرة أساساً في جوهر الفيلم نفسه.
الناقد ليس في قلب المسألة. إنه شخص يثابر على تعلّم مشاهدة الفيلم على نحو مختلف، وهو قادر أن يحدّد الآليات التي تجعل هذا ممكناً. هذه ليست مسألة "قراءة في" أو إسقاط اهتمامات الناقد الخاصة في الفيلم. أي قراءة للفيلم ينبغي أن تكون مبرّرة بتفسير لكيفية اشتغال الفيلم نفسه على جعل هذه القراءة ممكنة. القراءة الفردية لا تعطينا المعنى الحقيقي للفيلم. إنها ببساطة قراءة تنتج معنى إضافياً.
مرّة أخرى، من الضروري الإلحاح على أن في غياب أي معنى حقيقي، جوهري، لا يمكن أن يكون هناك أي نقد كامل، والذي يقرر ويوطّد تأويل فيلم ما نهائياً وعلى نحو حاسم. علاوة على ذلك، بما أن المعنى ليس متضمناً على نحو متمم في أي فيلم، فإن أي حل للشفرة قد لا ينطبق على النطاق كله. النقد التقليدي يبحث دوماً عن الشفرة التي يمكن فهمها، والتي سوف تمنح التأويل التام، مغطيةً كل تفصيلة. الجماليات الكلاسيكية والرومانتيكية معاً تؤمن أن كل تفصيلة ينبغي أن تمتلك معنى: الكلاسيكية لأنها تؤمن بالشفرة الشائعة، العامة. والرومانتيكية لأنها تؤمن بالوحدة العضوية التي فيها كل تفصيلة تعكس ماهية أو جوهر الكل.
نظرية المؤلف تظهر أن أي حل للشفرة عليه أن يتنافس، في السينما، مع جلبة من الإشارات المشفرة على نحو مختلف. وراء ذلك، هناك وهْم التفكير في أي عمل بوصفه كاملاً بذاته، بوصفه وحدة معزولة والتي علاقتها مع أفلام أخرى، مع نصوص أخرى، تكون منضبطة ومتحكم فيها بحرص لتفادي التلوّث.
النص، بتعبير أوكتافيو باث، شيء يشبه الآلة التي تنتج المعنى. فضلاً عن ذلك، معناه ليس محايداً، ليس شيئاً ينبغي ببساطة امتصاصه من قِبل المستهلك.
معنى النصوص يمكن أن يكون مدمراً للشفرات المستعملة في نصوص أخرى، والتي قد تكون شفرات مستعملة من قِبل المتفرج أو القارئ الذي يجد شفراته المألوفة عرضة للتهديد.
كلنا نعلم أن "دون كيخوته" كان مدمراً لقصص القرون الوسطى التي قوامها المغامرات الفروسية. ونعلم أيضاً أن "يوليسيس" كانت مدمرة لرواية القرن التاسع عشر. لكن يبدو أن من الصعب الإقرار بهذه التدميرية.
عن كتاب Signs and Meaning in the cinema, 1969