أوليفييه أساياس سينمائي فرنسي. مارس كتابة السيناريو والنقد. حقق أربعة أفلام قصيرة بين عامي 1979 و 1985. ثم أخرج عددا من الأفلام الدرامية الطويلة. في 1990 نشر كتاباً بعنوان "حديث مع بيرجمان".
في كتاباته أبدى اهتماماً بالموجة الجديدة في سينما هونغ كونغ وتايوان. إضافة إلى ولعه بأفلام مخرجين مثل: بيرجمان، بريسون، تاركوفسكي وآخرين.
هنا نص الحوار الذي أجراه معه بيرينس رينو، في مجلة Sight and Sound, January 1997 والذي فيه يتحدث عن تاركوفسكي وفيلمه"المرآة".
* * *
ما سبب اهتمامك بفيلم تاركوفسكي "المرآة"؟
ما يثير اهتمامي في السينما ليس السينما بذاتها وإنما ما تصطاده السينما في شباكها بوصفها أداة استكشافية. لذا فإن "المرآة" بالنسبة لي ليس فيلماً، إنه شيء آخر يتجاوز السينما ليحفر في قضايا الذاكرة والتذكر، والعلاقة بين الذاكرة والإدراك الحسّي.
"المرآة" فيلم مروي بصيغة المتكلم عن رجل يسرد الأحاسيس التي اختبرها ذات مرّة، ويحاول أن "يعيد بناءها"، على حد تعبير بروست. وتاركوفسكي يفعل ذلك ليس بوصفه مخرجاً بل كشاعر. إنه يوظف السينما لخلق توافقات بين المواد والروائح والألوان والوجوه، تماماً كالشعر الذي، عبر تجاور المفردات، يتيح لنا أن نعيد بناء شعور معيّن.
فيلم "المرآة" هو نوع من سينما الحقيقة الشبيهة بالحلم، والمبني على هذه الفكرة التي هي حاسمة في أعمال تاركوفسكي: غاية السينما ليست أن تصوّر الواقعي بل أن تصوّر المدرك الحسّي.
ألا يمكننا أن نقول بأن الفيلم يحلّ البنى الترابطية التي تحتاج إلى حضور المتفرج، والذي بدونه لن يوجد العالم المخلوق؟
بالفعل. فيلم "المرآة" حرّك مشاعري لأنه أعادني إلى طفولتي الخاصة، إلى المشاعر المماثلة التي اختبرتها. لهذا أنظر إليه كعمل يتخطى البناء الدرامي أو التركيبي للسينما، مع ذلك هو يتضمن وسائل سينمائية محضة، والتي هي بارعة وفعّالة على نحو استثنائي. إنه يستخدم السلسلة الكاملة للموارد السينمائية، وحتى الحيل البصرية، لكنه يفعل ذلك ليكفّ عن التحدث بصيغة المتكلّم، ليختصر الالتفاف عبر إقليم السيرة الذاتية. ليس غرض تاركوفسكي أن يروي قصة، ولا أن ينقل رسالة على نحو عقلاني، بل أن يحفر في ماضيه، في ذكريات طفولته.
بمواجهة هذه الذكريات بالوثائق الأرشيفية، وأيضاً بإعادة بناء العالم المتخيّل، التجريدي، الذي عاش فيه الطفل آنذاك، تاركوفسكي يولج اللامرئي في عالم التجربة الحسيّة. وفي فيلم "المرآة" يتجسد هذا من خلال غياب الأب.
عندما شاهدت الفيلم لأول مرّة، وجدت نفسي مأخوذاً باللقطات المتعاقبة التي ظهرت مباشرة بعد الأسماء.. إنها أكثر المشاهد جمالاً في تاريخ السينما: الأم جالسة على السياج، الرجل يمشي مبتعداً، وفجأة تهبّ ريح تحرّك وتموّج الحنطة في الحقل.. إنها لحظة إعجازية، خارقة، وهبّة الريح هذه توحي بحضور اللامرئي.. حضور الأب على الأرجح.
مع ذلك، ببناء عالمه المتخيّل حول الأب الغائب، الفيلم يستخدم وسائل سينمائية محضة للتعبير عن وجود مركز فارغ..
في "المرآة"، حضور الأب يتجلى من خلال شعره، الذي يلقيه راوي الفيلم غير المرئي، والذي هو مبدع الفيلم نفسه. هذه القصائد رائعة. ولقد كان مؤثراً، بالنسبة لي، قرار تاركوفسكي بأن يعهد بمعنى الفيلم إلى الشعر، إلى الجمال، إلى الفن الذي يخلقه هذا الأب الغائب.
نحن نرى الأب مرتين فقط، إحداهما سحرية تماماً. إنه يظهر بعد ذبح الديك، كما لو أن هذه التضحية قد أنتجته في هيئة شاب وسيم.
ما هو مهم بالنسبة لي أن الصوت الذي يلقي الشعر، يردّد كالصدى صوت الفتى المتأتئ الذي نجح أخيراً في التكلّم بطلاقة. الفيلم يمكن أن يبدأ بعد أن يلفظ الفتى جملته الأولى، أن يبدأ بالصوت. إن غاية الفيلم أن يعيد بناء الكلمة، أن يبني الرجل البالغ بحيث يمكن للكلمات التي ينطقها أن تلد العالم ثانيةً.
الطفولة تستلزم علاقة أكثر حسيّة بالإقليم. هذه الثيمة تتكرّر في أفلام تاركوفسكي، لكنها لم تُسبر بقوة وفعالية كما في "المرآة". اللحظات التي تنقل تلك الحقيقة لا يمكن التعبير عنها إلا عبر الأحاسيس. على سبيل المثال، الإدراك الحسّي بالخشب المسوّس الذي يمكن أن تشمّه تقريباً.. إنه يفضي إلى الحضور الحسّي للأرض، لعظمة الإقليم.
فيلم "المرآة" مبني على فكرة أن الحقيقة تكمن في دوام الأشياء. إنه ليس مدفوعاً بالمونتاج وإنما بتجاور الوحدات. هذه الوحدات تستمد شرعيةً وصدقاً من العناصر التي أشار إليها الناقد الفرنسي أندريه بازان: احترام مرور الزمن، احترام الواقعي، احترام المتفرج.
إنها تتيح لك الإحساس بنبض العالم. وفي حين أن احتكاك العناصر المتباينة جدلياً هو الذي يولّد فكرة إضافية، فإن القوة الفعلية لتلك الفكرة مدعومة بالحقيقة المتأصلة في المشاهد. على نحو مماثل، الظهور المفاجئ لوجه الأب يعتمد على مدّة الطقوس التي تولّده.
هذه هي الثيمة التي تسحرني الآن كثيراً: السينما بوصفها تعزيماً، طقوس دعاء.
شخصياً، كمخرج، تأثرت بطريقة تاركوفسكي في إعادة بناء الماضي.. بواسطة استخدام الموسيقى والتجاور بين الموسيقى والصور. الموسيقى تخزّن في داخلها شيئاً يشبه كبسولة الزمن. وإذا الشخصيات والحالات حقيقية، يكون بالإمكان إعادة خلق الماضي من خلال الموسيقى.
في بداية فيلم "المرآة" نحن لدينا ثلاث شخصيات: الرجل، الأم، الطفل.. وفي كل مرّة تتغيّر زاوية الكاميرا، مجال الرؤية، موقع الكاميرا. سؤالي، من هو حامل التحديقة، موجّه المحادثة؟
إننا نرى رجلاً يظهر، لكنه ليس الرجل المتوقع أو المنتظر، إنه الرجل الذي يوجد هنا بالخطأ. إذن هناك رجل مفقود، لكنه قبل أن يختفي سريعا يقول أن الكلمات تخون الفكر، وأن الصور والأحاسيس أكثر قوة وفعالية.. في حين رأينا قبل ذلك شاباً يستعيد قوة الكلام. عندما يغادر الرجل تبدأ الريح في الهبوب، وهو يستدير نحو المرأة.
عندما يقرر أخيرا أن يغادر، مدركاً أنه لن يتوصّل إلى نتيجة مع هذه المرأة، هو يستدير محدّقاً إليها، ليس برغبةٍ وإنما بأسف. بعد ذلك مباشرة نسمع القصيدة الأولى.. قصيدة حب..
نعم، لأن صوت الأب هو الصوت الوحيد المؤهل لسرد الماضي.. ببساطة لأن الماضي هو حاضر ذلك الصوت.
في تبادل التحديقة بين الرجل المجهول والأم، هناك احتمال لقاء جنسي والذي لا يتحقق، بينما القصيدة تتحدث عن لقاء جنسي متحقّق. إذن ثمة تعارض حاد. في البداية، هناك سيولة وافرة في تداول التحديقة، والتي تُبقي على غموض معيّن بشأن هوية موضوع الفيلم.
الحقيقي متغيّر ومتعدّد الألوان، أو بالأحرى، تكعيبي. أنا مقتنع بأنك، لكي تتمكن من الاقتراب من العالم الحقيقي، عليك أن تعرض كل الأوجه والمظاهر المختلفة للحالة ذاتها. هكذا تكون الأشياء، هكذا يمكن الاقتراب من المركز الفارغ: اللامرئي الذي يولد من اقتران كل وجهات النظر.
أوافق أن التكعيبية هي نقطة إسناد لك، لكن بالنسبة لتاركوفسكي، بروجيل هو المرجع..
نعم، إنه يعيد بناء الشتاء في تلك اللقطة الجميلة، السحرية تقريباً، حيث يحلّق الطائر على رأس الصبي.
هناك شيء آخر أتقاسمه مع تاركوفسكي: الإحساس بالشتاء والطقس البارد. "الشتاء" من أحب لوحات بروجيل إلى نفسي، واستجابتي تكون قوية جداً في كل مرة أشاهد "إعادة إنتاجها" في فيلم "المرآة". أعتقد أن لهذا علاقة بالطريقة التي ننظر بها إلى الطبيعة عندما يحيلها الشتاء إلى حالة من الشفافية الخالصة، ويحيلها إلى جوهرها. في الشتاء تكون الأشياء أكثر بساطة، ويكون الضوء أكثر شفافية. البرد يجعل ملاحظاتنا، وإدراكنا الحسّي، أكثر رهافة.
في لوحات بروجيل نجد التلاعب بالتحديقة. إنه يجبرك على النظر إليها بوصفها تجاوراً لمشاهد أصغر. أشخاصه دائماً ينظرون في اتجاهات مختلفة: نظرة الرجل إلى الجندي الذي هو على وشك أن يقتله، نظرة الأم إلى طفلها.. وهكذا.
لا أسمي هذا تلاعباً، بل تداولاً. مع بروجيل تظهر فكرة أن للوحة نقطة دخول. ثم يبدأ الشخص في الانتقال داخل اللوحة من تحديقة إلى تحديقة. والبناء الدرامي للوحة بأسرها يكمن في ذلك التداول.