العودة إلى النفق
في نهاية فيلمي "مدينة النساء"، بوعي يقبل البطل (مارشيلو ماستروياني) حقيقة أنه يحلم. إنه يصحو في القطار ويقرر العودة إلى النوم لأن الواقع يصبح مزعجا ومقلقا مرّة أخرى. يرى زوجته في المقعد الذي احتلته من قبل أنثى مختلفة. هو يقبل العودة إلى النفق عارفاً أنه قد حقق اتصالا مع كينونته الباطنية، العميقة، الأسطورية.
هذه المرّة سوف يحلم لأنه يقرر أن يحلم. سوف يكون حلما يقظا، مستغرقا في الانتباه من أجل الحلم العميق، الشاهد. إنه يعود بوعي إلى الحلم لكي يحوز اتصالا أكثر صفاءً مع ذاته. صافٍ وآسرٍ في آن، مشبوب العاطفة وبإحساس بالنأي في آن. إنه يقرر الاستمرار في رحلته لكن بعينين مفتوحتين على الحلم.
اللقطة الأخيرة للفيلم، في النهاية بعد نزول أسماء العاملين، التي تظهر بينما القطار داخل النفق، ثمة وميض من الضوء البعيد يظهر في الظلام يشير إلى المَخرج من ليل النفق. هذا الوميض مصوّر في عشرين إطارا (كادرا). وأتمنى ألا يهمل مشغلو جهاز العرض (البروجكتر) هذا التلميح المرهف، وألا يغادر المتفرجون مقاعدهم عند نزول الأسماء.. وإن كنت أشك في هذا كثيرا.
ليس الأمل، لكن الإيمان
الأمل كلمة كئيبة. أفضّل أن أتكلم عن الإيمان. في الفيلم، القطار لا يخرج من النفق، لكن هناك ذلك الإيحاء الضئيل بالضوء. كيف يمكن للمرء ألا يملك إيماناً من أي نوع؟ ماذا هناك لكي نفعله؟ ماذا يستطيع أي شخص أن يفعل؟
ركـّز على ذاتك، ليس من أجل إقصاء العلاقات مع الآخرين، إنما لأن في ذاتك تقدر أن تجد معنى لحياتك، تفعل ما تستطيع فعله، تحاول الدفاع عنه ضد كل الشكوك والتعقيدات المشلـّة، ضد كل ما يقلق.
لا أعتبر نفسي متشائما، ولا أظن أن التشاؤمية هي الرسالة النهائية للفيلم.. ليس حتى أيديولوجيا، لأن "مدينة النساء"، ضمن الهيكل البسيط من الحكاية التي تُروى هنا، ينتهي بقرار البطل بجدوى مواصلة الرحلة، بعد أن اجتاز هذا الحلم المقلق المركـّب من الحنان والرعب. إنه يستمر مع الآخرين، راغبا في أن يظل متصلا معهم ومع روحه الباطنية.
واقع أن جسد الفيلم، الحلم، يبدو تشاؤميا، هو جزئيا نتيجة التوقعات التشاؤمية، الظاهرية على نحو أحمق. إذا أنت دنوت منه متوقعا أن تجد العزاء من قِبل أوهام عاطفية أو أيديولوجية، أو من قِبل رؤية للحياة تبسيطية وبليدة، فمن الواضح أنك سوف تصاب بالخيبة إزاء وجهات النظر المعروضة. لا أظن أن كلمة "متشائم" يمكن أن تحدد على نحو ملائم ذلك الذي يحاول أن يقدم رؤية جديدة للأشياء. أعتقد أن من المهم أن يغيّر المرء موضعه والامتداد البؤري من حين إلى آخر، وأن يرى الأشياء من زوايا أخرى، حتى لو كان هذا يصدم أو يزلزل أذهان أولئك الذين يحتاجون إلى الأمان، الحماية، الغطاء، النظام، الهيكل، السقف.
ذلك الذي يقدم لنا، من خلال تجربته الخاصة أو أفكاره وتخيلاته، رؤية جديدة، ويساعدنا على سحب مفاهيمنا من القفص العقلاني الذي يحبسها ويمنعها من أن تكون ذات دلالة ومغزى، ذلك الذي يسلب منا العزاء المألوف الداجن، والوحشة اليومية، ويعيد لها المعنى الأكثر غموضا والأقل قابلية للتنبؤ بها.. لا أظن أن إنسانا كهذا يستحق أن يتهم بالتشاؤمية. إنه، بالأحرى، واقعي.
السينما بوصفها امرأة
لم أتابع عروض الفيلم بعناية، لكن يبدو أن توتراً ما تردّد بين النقاد بعد مشاهدته. وقيل لي أن الكثيرين من الجمهور الشاب خرجوا من الصالة مرتبكين ومشوشين، وأن بعض النساء كن غاضبات. يتهيأ لي أن الناس لا يكتفون بمجرد متابعة حكاية الفيلم، مع أن هذا هو كل ما حاولت أن أفعله: أن أروي حكاية، مثل تلك التي يرويها شخص لأصدقائه ذات ليلة بعد العشاء.
الناس لا يفهمون أن فيلم "مدينة النساء" هو فعلا فيلم عن السينما، السينما المرئية بوصفها امرأة، السينما المرئية من خلال أنوثتها، من خلال الاكتشاف الاستمنائي لأنوثتها.
حكاية الفيلم لا تحتاج إلى أن تكون "مفهومة".. لا شيء هناك ينبغي فهمه. الفيلم يتألف من سلسلة من العروض القصيرة، من الأجزاء، مثل عروض السيرك، والتي تجعلك بعضها حزينا، وأخرى سعيدا، وأخرى تتركك فاترا ولا مباليا. الفيلم معد كتحية للسينما، وليس كمنافس للأعمال السينمائية الأخرى.
أعتقد أن السينما هي امرأة بفضل طبيعتها الطقسية. الرحم الذي هو الصالة، الظلام الجنيني، الظهور المفاجئ للأشباح.. كلها تخلق علاقة إسقاطية. نحن نُسقط أنفسنا عليها، نصبح مستغرقين في سلسلة من التحولات البدائلية، ننتحل الشخصية التي نتوقعها منها، تماما مثلما نفعل مع النساء اللواتي نفرض أنفسنا عليهن. المرأة بكونها سلسلة من الإسقاطات والتصورات التي يخترعها الرجل، في التاريخ هي أصبحت أيقونة حلمنا.
الحلم جسد الفيلم
الفيلم، في الواقع، محض حلم. وكما في الحلم، الحالم يتجسد في كل شيء.
حين يخترع مارشيلو، للمرّة المليون، تحريرا جديدا، تجسيدا جديدا، للأنوثة المرئية كمريم العذراء، كزوجة، كفتاة مستهترة، كبالون يحمله بعيدا عن الواقع، وهو يحلـّّق معه، سعيدا، نحو الفضاء، ناسيا كل شيء، فإن جزءا آخر منه، بصيصا آخر من وعيه، يخشى أن كل هذا مجرد حلم منتفخ، لذا يرميه بالرصاص. إنها ذاته الأخرى المذعورة، المتمثلة في الفتاة الإرهابية التي تطلق النار على البالون، لتقتل الحلم. هو يشعر بأنه سمح لنفسه أن تصبح ضحية حلم ذي طبيعة صبيانية، طفولية، إلى حد أنه يتنصل من مسؤولية كبيرة جدا. الذات الأخرى تصبح في النهاية لا مسؤولة، مشحونة بالقسوة والمخاوف.. أولئك الذين يطلقون النار، يفعلون ذلك عادةً بدافع الخوف.
على كل حال، هو يندفع نحو الأرض، مرّة أخرى، راجيا أن تنقذه أنثى أخرى، لكنه يستيقظ ليجد نفسه ثانيةً في القطار، وليكتشف أن نظارته التي كُسرت في الحلم هي الآن مكسورة فعلا.
اختراع المرأة
"مدينة النساء" هو فيلم عن رجل واحد، الرجل الذي يخترع المرأة.. هي مجازه، غموضه، جزء من ذاته لا يعرفه، والذي بشأنه يشعر بضرورة محتومة لخلق فرضيات جديدة. إنه يبحث عن نفسه من خلال المرأة، أو هو يبحث عن ذلك الجزء من ذاته والذي هو امرأة. لكن من الواضح أنه لا يعرف شيئا عن النساء. هو غير قادر في مخيلته/فيلمه على خلق فرد واحد واضح وحقيقي.. لهذا السبب لا يحتوي الفيلم على بطلات، شخصيات نسائية. هناك فحسب آلاف من الوجوه، من الأفواه، من الابتسامات، من النظرات، من الأصوات.
الناقدات قلن بأن فيلمي يخلو تماما من امرأة حقيقية. بالطبع لا توجد امرأة حقيقية، وهذا كان مقصودا، إذ لو وُجدت المرأة الحقيقية فسيكون من غير المجدي تحقيق هذا الفيلم.
كيف بوسعه أن يتعرّف عليها وهو يقيم في مركزها، في وسطها؟
المرأة قد أصبحت كل شيء بالنسبة إليه: السماء، الأرض، الماء، المنظر الطبيعي. إنها هو.. امرأة.
إذن كيف يستطيع أن يراها؟ تلك هي قصة الفيلم: رحلة بحث عن شيء لا يمكن الالتقاء به لأنك موجود في هذا الشيء.. وهو لا يريد أن يخرج منه لأسباب عميقة تخصه.
في الواقع، النهاية نفسها، إذا أردت أن أستخدم شكلا رخيصا من الرمزية، يمكن أن تُرى من هذه الزاوية: النفق، القطار.. الشيء الصلب الذي يرغب في الولوج لكنه، بدلا من ذلك، يظل عالقا هناك.