كل شيء مهدد حتى مقبض الباب
المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ حقق العديد من الأفلام الهامة منذ الثمانينيات، و قد حاز فيلمه " اصطدام " Crash الجائزة الكبرى في مهرجان كان. و بفيلمه ما قبل الأخير "العنكبوت" أو سبايدر Spider ، يقدم عملا فنيا عميقا و مدهشا.
نتابع هنا رجلا في الأربعين ( أدى دوره على نحو أخاذ رالف فاينس) منطويا على ذاته، مضطرب النفس و مشوش الذهن، متثاقل الحركة و كثير الغمغمة و التمتمة، يصل إلى محطة قطار حاملا كل مقتنياته داخل حقيبة صغيرة، و هي عبارة عن أشياء صغيرة و قديمة يلتقطها من الطرقات. و نفهم بأنه خرج لتوه من مصح عقلي أمضى فيه سنوات طويلة تقارب العشرين عاما، ليستقر مؤقتا في نزل يؤوي المسنين والمضطربين ذهنيا، تديره امرأة صارمة ( يتعين عليه أن يمتثل لأوامرها لتفادي إعادته إلى المصح)، و هذا النزل قريب من المكان الذي نشأ فيه وهو صغير.
وفيما هو يطوف عبر مواقع طفولته، مطأطئ الرأس، رث الملابس، وحيدا تماما، أشبه بشبح، نراه يلملم شظايا الحدث الذي أدى إلى إيداعه المصح و هو صبي، ناسجا من خيوط الذاكرة و المخيلة معا وجوها ووقائع و علاقات لا نعرف حدود الصدق و الوهم بينها.
في عالم من الصمت و العزلة و الارتياب و التخيلات الليلية، يحاول هو أن يعيد خلق الوقائع العنيفة التي مرت أمامه في فترة صباه. و في هذا العالم المأهول بأطياف الماضي- أو بالأحرى، بأطياف تستحضرها نفسية مجروحة و مشطورة- تختلط الوجوه و الهويات.. إن وجه الأم (التي هي مثال للطيبة و العطف و الورع) هو ذاته وجه المومس الشريرة التي تحرض الزوج ( الأب) على قتل الأم، و هو ذاته وجه مديرة النزل القاسية و الصارمة التي يرغب في قتلها ( تؤدي الأدوار الثلاثة على نحو رائع ميرندا ريتشاردسون).. و مثل هذا الاختلاط يعبّر عن انفصام عميق في شخصية البطل.
إنه يتذكر و يرى – بوصفه الشاهد و التحري في آن، بوصفه الضحية و المذنب في آن- تلك الطفولة المضطربة، و تلك الأحداث المخيفة التي تصدم كيانه كله. إنه يظهر في كل مشاهد طفولته متفرجا على نفسه و هو طفل في العاشرة يعيش مع أمه و أبيه، دون أن يكون مرئيا، فيما الأطياف التي يستدعيها تعيد تمثيل " ما حدث": أبوه يقتل أمه و يستبدلها بالمومس التي تنتقل لتسكن معهما، و طوال الوقت ينكر اتهام الابن له بارتكاب الجريمة حسب تصوره أو تخيله.
و إذا كان هذا الشخص في طفولته يلعب دور المتفرج البريء الذي بلا حول ولا إرادة، فإنه – كشخص بالغ- ليس مجرد شاهد سلبي على ماضيه بل خالقا و منظما له. و لأنه هو الذي يستحضر الشخوص و الأحداث فإننا نراه يلقي حواراتهم أحيانا حتى قبل أن ينطقوها. و هو لا يتواجد في المشاهد التي يتذكرها فقط بل في تلك التي يخلقها أو يتخيلها أو ربما يهذي بها‘ فهو يدوّن كل شيء في دفتر ملاحظات.. على عجل و بشكل محموم و دون اهتمام بالصقل و التنقيح و الترتيب، إذ تبدو كتاباته أشبه بخربشات.
و هو أيضا ينسج من إسقاطات الذاكرة شبكة من الوهم أو التضليل الذي يخفي حقيقة لا يستطيع أن يواجهها. و لأننا نرى الأحداث من وجهة نظر هذه الشخصية ذات الذهنية المضطربة و المصابة بالانفصام، فإن الغموض و التشوش يغلف – بالضرورة- هذا الفيلم خصوصا من ناحية التمييز بين الوهم و الحقيقة، بين ما هو واقعي و ما هو متخيل. الفيلم ، بالأحرى، رحلة داخلية، باطنية، تنسجم مع تجربة رجل مضطرب عقليا و نفسيا.
إن "العنكبوت" لقب أطلقته عليه أمه، ربما بسبب طرائقه المتشابكة في التفكير أو طبيعته في نسج الأفكار و الرغبات، و هذا يتجسد بصريا في ما يفعله في حجرته حيث ينصب شبكة معقدة، و مشدودة بإحكام، من الحبال و الخيوط كما كان يفعل في صغره.
العالم الخارجي هنا يخدم كمجاز لعالم داخلي يصعب اختراقه.. أشبه بمتاهة. إن الرجل، سبايدر، يتحرك في فضاء خاص به. و إيقاعه البطيء يفرض نفسه على إيقاع الفيلم، هذا الإيقاع الذي ينسجم أيضا مع عزلته و مشاعره المكبوحة.
و عن إيقاع الشخصية يقول الممثل رالف فاينس:
" الإيقاع الذي خلقته للشخصية كان بطيئا وفق معايير أغلب الناس لأنني أظن أن هذا الشخص ( الذي أمثله) يتفاوض مع كل الأصوات التي يسمعها بداخله. بالنسبة له، كل لحظة و كل شيء يمتلك حياة خاصة به أو يمثل تهديدا محتملا له.. حتى مقبض باب خزانة الثياب. بالنسبة للمصابين بانفصام الشخصية- حسبما قيل لي- فإن حتى ملامسة و إدارة هذا المقبض يستلزم منهم اتخاذ قرار خطير بشأنه، إذ ربما يكمن وراء الباب شيء يشكل خطورة. لذا فقد تخيلت أن كل شيء- الأنوار في الغرفة، صوت مكيف الهواء- يشتمل على أمور مجهولة و التي من المحتمل أن تكون خطيرة".
في حديث للمخرج ديفيد كروننبرغ عن الفيلم (مجلة sight & sound – عدد يناير 2003) يقول:
" أثناء كتابة السيناريو، كنا نفكر في روايات صمويل بيكيت ( مولوي، مالوني يموت) و حتى هيئة بيكيت نفسه.. ليس عظام الوجنتين بالطبع لكن طريقة حلاقة الشعر، لغة الجسد، و صورة بيكيت و هو يذرع شوارع باريس حاملا مفكرة يدوّن فيها ملاحظاته.
كنت أيضا أفكر في كافكا و دوستويفسكي. لكن فيما كنا نحقق الفيلم، لم أكن أدرك، بوعي، أن الفيلم- رغم أنه يتحدث عن جريمة و ذاكرة زائفة أو مضللة أو ملوثة- هو أيضا عن الفن، أن يكون المرء فنانا. و البطل (سبايدر) هو فنان على نحو أو آخر.
في الرواية، هو يكتب يومياته (روايته) و هذا يعني أنه كائن أدبي، ماهر لغويا، و واع لذاته. الكاتب باتريك ماكجراث في مسودته الأولى للسيناريو جعل سبايدر يكتب بلغة انجليزية جيدة, و جعله يقرأ من الرواية بصوت خارج الشاشة.. و هي حيلة قديمة. لكن حيلتي هي أن نتخلص من ذلك. قلت لباتريك، لدينا شخصان مختلفان جدا. سبايدر الذي خلقته بنفسك للسينما لا يستطيع أبدا أن يكون سبايدر الذي يقرأ هذه المادة.. إنه صوت مختلف.
في ذلك الموضع، كان بإمكاني كذلك أن أقول بأننا لسنا بحاجة إلى إظهار اليوميات، إظهاره و هو يكتب في مفكرة. لكنني شعرت بأننا نحتاج إلى شيء فيزيائي، شيء جسماني، يفعله سبايدر لإبراز هواجسه و استحواذيته، و محاولته لتنظيم أفكاره، و رصف ذكرياته. لذلك اقترحت أن تكون يومياته مكتوبة بلغة خاصة به، لغة مبهمة. و قد طلبت من الممثل رالف فاينس أن يبتكر و ينمي هذا النوع من الكتابة بالشيفرة لأنني أردت منه أن يشعر بارتياح و هو يكتب. و في مرحلة المونتاج فقط أدركت أن فكرتي هذه تمثل النموذج الأصلي للفنان، الترجمة الكابوسية لفنان يغمغم لنفسه على نحو مشوش و غير متماسك فيما يذرع الشوارع و يكتب بشغف و على نحو استحواذي، معطيا عناية فائقة للتفاصيل، و بلغة مبهمة لا يسبر غورها أي شخص آخر.. ربما حتى هو نفسه."
و في ما يتعلق بالتماثل مع الكاتب صمويل بيكيت، فإن الممثل رالف فاينس يؤكد هذا التماثل قائلا:
" مع سبايدر يبدو الأمر كما لو أن ثمة مونولوجا يستمر بداخله طوال الوقت و الذي لا تستطيع أن تسمعه إلا في شكل همهمات. لقد اكتشفت بأن كتابات صمويل بيكيت نافعة جدا كمفتاح للشخصية.. تلك الأجزاء في روايته (مالوي) حيث البطل ينقل الحصى من جيبه الأيسر إلى الجيب الأيمن، و كذلك التفاصيل الاستحواذية بشأن ما تحسه ساقاه. كلانا – أنا و كروننبرغ- استخدمنا بيكيت كمفتاح.. ليس فقط كتاباته بل حتى وجهه.. لقد حلقت شعر رأسي لأبدو مثله."