من بين الأحياء، هو السلف
الحقيقي الوحيد للحركة الحديثة.
( أندريه بريتون- 1925 )
ليس هناك من شخصية رائعة وغريبة في تاريخ الأدب الفرنسي أكثر من الشاعر سان بول رو، المولود في مرسيليا، والذي استقر علي شواطئ بريتاني، في بيت ريفي أشبه بقصر خرافي. وهناك عاش حياته المديدة مثل كاهن، مع الأساطير التي خلقها. وهناك أيضا مات بطريقة مأساوية في العام 1940 نتيجة اقتحام القوات النازية بيته، علي نحو عبثي وبلا هدف، في الثالث والعشرين من شهر يونيو وبعد أن قاوم هؤلاء الذين قتلوا خادمه وتهجموا على ابنته الوحيدة، ديفاين، التي يعبدها كما لو كانت آلهة.
عندما وصل بول رو إلي باريس في 1882 لدراسة القانون، سرعان ما انجذب إلي جو الوجد الصوفي المنتشر في مجال الحركة الرمزية التي كانت تتشكل لتوها، وقرر أن يسمو بنفسه وبرسالته علي الأرض عن طريق تغيير اسمه إلي سان بول رو. ونظرا لأنه لم ينجح في الانسجام مع أي فئة أو سلالة من الرمزيين الذين بينهم هو نمّى نوعية خاصة من المواهب، فقد تمّ إغفاله وإبعاده عن سجلاتهم كما تمّ تجاهله تماما من قبل نقاد ومؤرخي الأدب حتى جاء السورياليون واعتبروه واحدا من معلميهم. لقد كان الأقل شهرة خارج البلاد من أي شاعر فرنسي آخر، والأوساط النقدية الأدبية كانت تصر علي إهماله وتهميشه والحط من قدر إنجازاته.
إن علاقة سان بول رو مع السورياليين كانت قد تأسست بواسطة أندريه بريتون، الذي في العام 1923،بينما كان يقضي إجازته الصيفية المعتادة في بريتاني، وجد نفسه قرب المكان الذي يقيم فيه الشاعر الناسك، فكتب إليه رسالة إعجاب معبرا له عن مدى إعجابه بنقاء وصفاء شخصيته كشاعر، وإلي أي حد يستنكر الإهمال والاستخفاف الذي لقيه سان بول رو في عالم الأدب، حيث يقول في رسالته:
" إني أبدي إعجابا عميقا بموقفك الأدبي ( .. ) واعتبرك الرجل الذي لم ينصفه العالم وكان معه أكثر جورا من غيره ".
بعد المقابلة، التي سمح بها الشاعر، خرج بريتون الشاب وهو في غاية الابتهاج والانتعاش إلي حد أنه أهدى مجموعته الشعرية الأولى " ضوء الأرض " ( 1923 ) إلي الشاعر" العظيم سان بول رو، إلى أولئك الذين، مثله، يستطيعون منح اللذة العظيمة وهم في النسيان"
بعد فترة قصيرة من تنظيم الحركة السوريالية، وجه بريتون مع عدد من رفاقه تحية إلي سان بول رو، وذلك في العدد الصادر في التاسع من مايو 1925من " نوفيل ليترير" والذي احتوى، إلي جانب مقالة بريتون بعنوان" سيد الصورة " على مقالات أخرى كتبها أراغون، ايلوار، بيريه، ليري، ديسنوس، فيتراك، موريس، بارون، وجميعهم كانوا متأثرين باستقلالية سان بول رو كإنسان وكفنان، هذه الاستقلالية التي صارت ممكنة بفضل قراره التوفيق بين " الحرية والمنفى" من أجل أن يبقى نقيا دون أن يلوثه العالم الفاسد.
الأكثر شبابا من بين كل سورياليي تلك الفترة، جاك بارون، كتب في تحيته: "نحن آخر من يكون مخدوعا ومضللا في قرن زائف وفاسد، نحن الذين تعلمنا الصلابة الحزينة للوجود، نحن الذين نناضل في هذا العالم بغضب بارد لا يتحلى به إلا البشر الأحرار، نجد أنفسنا أخيرا أمام رجل حر، أمير عظيم وحقيقي، ذي عقل نقي"
ما استمده السورياليون من إرث سان بول رو كان موقفه الشخصي كشاعر. وكما قال أراغون: آه، أيها العظيم: أنت لم تساوم ولم تتواطأ مع الحياة ". حياة سان بول رو كانت مكرسة تماما للشعر.. كان يعيش حياة شاعر. وبخلاف معاصريه الرمزيين هو حاول أن يعيد تحديد رسالة الشاعر في العالم الحديث.
إن انسحابه الشخصي إلي الطرف الأقصى من القارة الأوروبية، نحو المحيط الأطلسي، لم يقلل من إدراكه بالحاجة إلي تغّير جذري في فلسفة الحياة وضرورة أن يكيف الشاعر وظيفته مع روح إبداع جديدة في مجالات أخرى من المعرفة. في هذه الناحية ، هو - مثل أبو لينير_ واجه الأزمة في الفنون واقترح وسائل بها يستطيع الشاعر أن يشغل موقعا في الصف الأمامي من الباحثين عن المعرفة: عالم المستقبل حيث، عن طريق تحويل العناصر والقيم الروحية في مفترق طرق المعرفة الكونية وفي مجال مناخ مشترك، سوف يغيّر نوعنا صفته وقدره"
من ناحية أخرى، كان السورياليون منجذبين كذلك إلي سان بول رو لما كان السبب الرئيسي في نسيانه بين معاصريه: حقيقة أنه امتنع على التصنيف الأدبي. ففي نهاية قرن التناقض الزائف بين الرمزية والطبيعية، مصحوبا بجمالية " الفن للفن "المهجورة، كان سان بول رو الفرنسي الوحيد الذي كشف عن قدرته علي التوفيق بين الواقعية والتأويل الرمزي للفن، وعلي النجاح في إنتاج تكتل وانصهار سماه " واقعية نظرية " أو" المافوق طبيعية " والذي هو في الواقع النواة لما أطلق عليه فيما بعد تسمية " السوريالية ". إذا كانت الرمزية تغييرا لشكل أو مظهر الطبيعة ، فإن سان بول رو قد تنبأ إذن بعملية متطورة أكثر، والتي ربما تدعى" ما وراء التشكيل": ليس وراء الشكل والمظهر، إنما تغيير فعلي له ضمن كينونته الخاصة. هذا كان في الحقيقة تسليما ورفضا، في آن، للواقع.
كل مرة تكون فيها الكلمة " الخالصة " والصور الذهنية النقية وغموض الرؤية، هي النمط، يكون هو قد أعاد تأسيس الاتصال بالعالم، عالم غير شائخ وكئيب كما هو مرئي من وجهة نظر الرومنتيكيين المعاصرين، إنما العالم الذي تخيله هو والذي يوجد باستمرار على حافة الرؤيا، ممسوسا بأشياء وافرة ومتعددة العناصر أو المظاهر والتي بوسع الشاعر- في هيئة ميرلين، ساحر القرون الوسطى - أن يحولها إلي عجائب، أشياء مثيرة للدهشة,عبر مجال رؤيته,وعبر هذيان طبلة الأذن,واستخدام مرآة باطنية:" لقد حصلت إذن، على مرآة خرافية تجعلك ترى ما بالداخل". هكذا يصل إلي ما كان يدعي قبل حلول المصطلحات الفرويدية " جزيرة باطن الكينونة ". واستكشاف العلاقة بين هذه الذات الداخلية والعالم الخارجي أصبح جوهر أعماله الشعرية التي نشر الكثير منها في المجلات الدورية الصادرة في ذلك الحين. تلك الكتابات، أغلبها قصائد نثرية ، جمعت في ثلاثة كتب بين عامي 1885-1900 ، وحملت عناوين مضللة : الوردة وأشواك الطريق/ من اليمامة إلي الغراب عن طريق الطاووس/ أرض الخرافة الداخلية . ومع أن طبعة جديدة منها ظهرت في العام 1946، إلاّ إنها من بين الأعمال المختارة التي يصعب جدا العثور عليها حتى في باريس، وهي بالتأكيد غير متوفرة في المكتبات التجارية أو المكتبات العامة الرئيسية في أمريكا.. والمكان الوحيد الذي استطعت أن أجد فيه نسخة من هذا العمل كان في القسم الفرنسي من جامعة كولومبيا.
مع ذلك، علي الرغم من تعذر الحصول علي أعماله، فأن سان بول رو قد تلقى أسمى آيات الثناء والتقدير من شعراء مثل أ".يه بريتون وبول إيلوار، ومن نقاد مثل رولان دي رينيغييه . كما أن منتخبات من كتاباته، إضافة إلي مقالات نقدية وأخرى تتصل بالسيرة الذاتية قد نشرت في سلسلة " شعراء اليوم " .
في أعمال موسومة على نحو محتوم ببصمة، لا سبيل إلى محوها، من الرمزية، ما الذي يوجد هناك والذي يشكل حداثته ؟ من بين الأوصاف العديدة التي وصف بها مختاراته، المتغايرة الخواص والعناصر، من القطع الأدبية، ثمة عبارة واحدة تبرز على نحو خاص: " سحر الظواهر ". إنه المفهوم الذي سبق لرامبو أن ألقى ضوءا قويا عليه حيث اعتبر الشعر ضربا من السحر، وأن الشاعر هو الساحر الذي، ليس بالعصا السحرية بل بالكلمة، يحول رتابة ووتيرة الواقع الكائن.
سان بول رو يمضي خطوة أبعد. بالنسبة له، الوسيلة الوحيدة للتعويض عن فقدان الإيمان بالما فوق طبيعي، أو الخارق للطبيعة، هي في خلق نمط جديد من المعجزة، وفي استبدال الخالق الخارجي بالخالق الداخلي.. " الخالق سوف يصير ماديا والإنسان سوف يصير ميتافيزيقيا "، أما الشاعر فسوف ينظر إليه بوصفه القادر تماما على صيانة الجوهر الخفي، وعلي منحه اتجاها جديدا. في وقت ما، عندما كان الشاعر وإحساسه القديم بالجمال مهددا بالانطفاء الكامل، نادى سان بول رو، بوصفه رائيا، بتحويل شفق الشاعر إلى فجر جديد، فيه الشاعر الذي يمتلك جرعته الخاصة من القداسة، قادر أن يصوغ عالمه الخاص.
" لقد انتهى زمن الأحلام العقيمة، أيها الصديق، وقد عشنا كل الأكاذيب. لا، أيها الشاعر، لم يعد ثمة حيز آخر للوريثة الهائمة، وريثة الآلهة الملغية، ليس لها إلاّ أن تلتمس ملاذها بحصافة في روح الشعراء حيث هناك إمكانية للبقاء. كف، إذن، عن البحث في أي مكان إلاّ داخل نفسك عن الجمال.. المبعد عن فراديسه المهجورة".
هذا الخالق في الداخل، كما يقول سان بول رو، هو الكلمة, اللغة تمّ نفيها من قبل أولئك الذين حسبوا أن التنقيب عن قواف ذهبية في قاع محبرة سوداء هو كل ما يتعين على الشاعر أن يفعله. لكن يجب على الشاعر ألا يبحث عن اللغة التي تمثل أفكارا قديمة ورؤى معلومة، بل تلك التي تخلق فكرا جديدا وتعيّن الآفاق الجديدة:" سوف يتعلم الإنسان أن يعيد تشكيل الصوت الأول والفكر الناتج. ومثل لوتريامون، هو آمن بأن تقدم إنسان واحد هو تقدم الكل، في الشعر كما في العلم، والعمل يجب أن ينشأ من النفس الجماعية وأن يكون متماهيا مع الكوني : " الشاعر الحقيقي ليس كينونة بسيطة بل مركبة... أرغن في الغابة يحجب صوت عندليب الأنانية العتيقة ". وهو قد مضى أبعد حتى من فكرة لوتريامون عن " الشعر الذي يخلقه الكل وليس الفرد الواحد " وتخيل حالة مستقبلية آتية فيها كل الفنون سيكون لها غرض جماعي وأداء جماعي.. " كل الفنون تشكل فنا واحدا."
يمكن للمرء أن يزعم بأن سان بول رو هو في الواقع سلف المدافعين عن الميديا media المختلطة . إن اندماج الفنان ينبغي أن يكون مصحوبا باقتران أكبر ، حتى في رؤيته , للعلم والسحر مع الفنان بوصفه الوسيط الطبيعي: " الكيمياء سوف لن تهزأ بعد الآن بالخيمياء."
كل مفاهيم سان بول رو، الإنسان والشاعر الذي سبق زمنه فيما يتصل بالأيديولوجيا، إن لم يكن بالطرائق التقنية ، كان عليها - هذه المفاهيم- أن تتقدم كمقدمات منطقية أساسية للأيديولوجيا السوريالية وجمالياتها.
في قطعة أدبية نشرت في الجزء الذي يحمل عنوان " أرض الخرافة الداخلية" يتهم سان بول رو بالجهل أولئك الذين لم يدركوا بعد " أن على البشرية أن تهندس فردوسها الخاص، ولكي يصبح الإنسان سعيدا ينبغي أن يتحول إلى خالق". إن الواجب الأسمى للإنسان هو أن " يطالب زمنه بالوعود البعيدة التي أطلقتها الأديان وأن يجعل من حلم المستقبل، الذي لا سبيل إلى تحقيقه، واقعا حاضرا. السعادة تعني القوة والصحة، أي الإلوهية "
نطاقه الجديد، حيث طرف منه مغموس في الذات الباطنية والطرف الآخر يمتد إلي المراكز الأقصى من التخوم الفيزيائية المتخيلة، يحتوي على لوحة ألوان ليست خاصة بفن تقليدي قائم على المحاكاة بل من أجل إبداع صرف.
الشاعر يتخيل مرونة جديدة للزمن. ومع انه ساكن إلاّ أنه يقوم برحلات نحو عوالم كانت بالأمس محض وعود.
هذه الحالة من الأمل والقوة التفاؤلية كانت بعيدة جدا عن اتجاه زمنه، حيث اللامبالاة وعدم الاكتراث بالعالم الخارجي، وكانت متعارضة مع العدمية والرؤية الفردانية الأنانية. ومع أن هنا ثمة طموح نحو المقدس كما عند رامبو ، إلاّ أن لا صدى لثورته ولازدرائه للعالم والمجتمع . لقد قدم سان بول رو إيمانا هائلا بطاقات الإنسان، وإذا كان يطلب من الإنسان أن يحرك مخيلته فليس ذلك من أجل تمجيد شخصي ولإشباع نرجسية عقيمة، بل علي العكس، هو لبس هيئة الرائد أو ممهد الطريق، وفي استعمار المطلق كان هو يبدي اهتماما بالجنس البشري من كل أعماق النفس. أحلام الماضي تبدو فارغة وعقيمة بالنسبة إليه. عناية الشاعر الرئيسية ينبغي أن تكون موجهة إلى المستقبل." صدقني، الإنسانية، التي يجب أن تكون اهتمامك الوحيد، سوف تجد مباهجها في تجسد حبك، وبذلك فإن موت الحلم، الذي لا سبيل إلى تحقيقه، سوف يفيد في التمهيد للحقيقة الخالصة. أكتب بلا خوف وبفخر لأجل المستقبل. "
تلك كانت رسالته فيما هو مشدود لإلقاء نظرة على قمة القرن الآفل، وتهيئة نبرة التوقع والأمل التي سوف يتبناها بعد سنوات قليلة أبو لينير ويمررها إلي السورياليين: خيط رفيع، لكن متواصل ولا ينقطع، من الإيمان بقدرات عقل الإنسان الذي يوما ما سوف يلفت الانتباه بوصفه توكيدا فريدا علي تميز الإنسان في قرن موسوم، على نحو واسع بتشاؤمية أدبية.
باعتباره " مهندس المطلق " هو يجتاح الأبدية ويحصّن نفسه مثل واحة مفعمة بالجمال. إنه يصوغ بلدانا يضفي عليها كينونة، ويصبغها بسوائل جسده وقوته العضلية. هل هذا هو التسامي ؟ لا ، يقول سان بول رو . التسامي يعني تغيير المادة الكائنة إلي شيء أثيري، في حين أن ما يجاهد من أجله هو العكس تماما، إنه تبلور الجوهر، تحويل المثل العليا إلي قيم ملموسة قابلة للفهم، والمعجزة تتحول إلي واقع.
كيف هو يستطيع إحداث ذلك؟ ليس من خلال علم الرياضيات الذي، بهذا المعنى، قد أنتج اليوم شعرية التكنولوجيا، لكن عبر إيمانه بالكلمة، بتحريرها من الأسر الذي كانت معتقلة فيه لقرون، باستخداماتها المحتملة، بتعددية المعنى، بما سماه أندريه بريتون في مقالته عن سان بول رو " قوة الزلازل "
في مقالة وثيقة الصلة بالموضوع ومهداة إلى أندريه جيد، يتأمل سان بول رو في قدر الكلمات: " الكلمات المعبر عنها منذ نشوء الأعراق والسلالات تصبح في آخر الأمر استحضارا مفردا، متواصلا، والتي عبر السنوات تستقطب وتحشد قوى فعلية حتى تمتلك السلطة السحرية أخيرا اشتدادها المفاجئ. كائنات وأشياء كانت مستحضرة، متماسكة، تنشأ وتتخذ صفات مميزة تكشف نفسها قليلا أو كثيرا، لتقطن إمبراطورية الحواس الراسخة". سان بول الذي يبني ". واقعيته الشخصية " على أساس تذكير هيجل بأن الفن لا يجب بعد الآن أن يحاكي الطبيعة، يمضي مع صولجانه من الكلمات في بحثه المتقد عن صور من خلالها سوف يصفّي براهين حواسه.
إن " سيد الصورة " حسب وصف بريتون، لم ينفذ دائما الوعود التي قطعها في نظرياته الجمالية. الكثير من اللغة المجازية والتخيلات التي تملأ الأجزاء الثلاثة من كتاب Reposoirs إضافة إلي الجزء الأساسي من مسرحيته الشعرية الوحيدة " السيدة ذات المنجل " التي يصعب تمثيلها على الخشبة، هي ضمن الاتجاه الرمزي.
لكن بالتقدم من صفحة إلى أخرى، يكتشف المرء بعضا من تلك الشرارات الإعجازية التي منحت الرجل العجوز، ذا اللحية المتدلية، ذلك الترحيب الدافئ بين الجيل الشاب وأكسبته لقب " العظيم "
قبل شيوع علم النفس، هو أدرك القوة الهذيانية التي يمتلكها اللاعقلاني، وأظهر أنها مصدر للإبداع الشعري لابد من الاستفادة منه. محدقا بإمعان في الحالة اللاسوية عند الأبله والمجنون هو طابق استبصاره مع رؤيتهم المحتملة. في إسقاطه لمثل هذه الصور ، لا بد من ملاحظة أنه يقوم بتجاورات غير منطقية ، بتقدير تقريبي لأشياء غير متجانسة، وفي أحوال كثيرة يقبل ، على المستوى ذاته من الواقع ، خاصيات تجريدية ومادية . هذه كلها ميزات سوف تشكل المبادئ الأساسية لتقنية الرسم والشعر السورياليين.
لقد جعل سان بول رو الأكثر تخلفا والأكثر تحضرا يسيران معا متشابكي الأيدي. إن اتصاله المباشر مع المجنون Lefol هو بمثابة رحلة في عالم الميتافيزيقا. المحضة في افتتان سان بول رو بالاتجاه الحسي والصوفي عند المجنون Lefol ثمة نظرة عامة تمهيدية للاهتمام الذي كان على بريتون وزملائه أن يظهروه بشأن السلوك الهستيري ومحاكاة مراحل الجنون . إن " مجنون " سان بول رو هو الإنسان الذي لا يفقد اتصاله بالواقع ، بل هو على العكس موهوب بالقوة وبالقدرة علي جعل ما يعتبره الآخرون تجريديا أو غير كائن يبدو ملموسا وماديا ، وهو قادر أن يلامس " أشياء العدم الصغيرة " وأن يلاطف لدانتها غير المرئية . لقد خلق محيطه الخاص وجعله مأهولا بالحياة في شكل مشرق ومفعم بالحيوية إلى حد أن الزائر يقبل عن طيب خاطر أن يكون عرضة للتضليل أو الخداع. ملاحظا حالة الرضا عند " المجنون " يتساءل الشاعر عما إذا حس الامتلاك المادي للحلم ليس هو الحظ الأسمى الذي إليه يطمح الإنسان.
ربما المصادر الأكثر استمرارية للدهشة أو العجب بالنسبة للشاعر، كانت هي الأشياء التي تحيط به كل يوم، وما سوف يدعوه أراغون بعد سنوات " المعجزة اليومية "
الآن ، الرومانتيكي ينتحل لذاته الجمال المدرك في الشيء أو يعزو إلى الشيء خاصياته الروحية . أما الرمزي فقد رأى كينونة متوازية بين نفسه والرموز في طبيعة فيزيائية. إن طريقة سان بول رو في فهم الموضوع يختلف عن أي من الطريقتين السابقتين. المحيط الجامد والبشري للإنسان هو مصدر دائم لإثراء قدراته الإبداعية: " النفس فاغرة أمام سيمفونية الأشياء ومجد الكائنات". ويسمي نفسه " شاعرا فيزيائيا " لأن الأشياء من حوله هي مصدر اهتمامه الرئيسي، مع ذلك هو لا يشملها في واقع ضيق مقيد. " إن مشهد الزهرة الأكثر وضاعة يحرر عيني، والعالم بأسره يجتاحني في دفقة من النسيم، ومباشرة أدرك الجمال الإلهي المتحرر من الكهنة وأكاذيبهم ".
هذه الطاقة القادرة على قلب الأشياء المرئية في تسلسل هرمي من القيم، هي ما يجعل ألان جوفروي يسمي سان بول رو " الباروكي الحديث الأول ". بهذا التركيز علي الأشياء يحدس سان بول رو بأدب " النظرة " le Regard الذي ميّز الشعراء المحيطين
بالشاعر فرنسيس بونج، ويتنبأ بمفهوم " الشعر الملموس". لقد استنبط، قبل أبو لينير، قصائد " يوجد " ilya ، حيث الأشياء تشكل الأفكار في انقلاب حقيقي للمجاز.
اثنتان من قصائده، أشياء choses وأمواج ondes ، تخلقان مشكالا من الصور المختلفة الألوان، والتداعيات المخالفة للمنطق ( والتي سوف تدعى بعد وقت قصير: كتابة آلية ). هذه الصور تؤثث عالم سان بول رو، الموسع بجرعة من الصوفية في الشاعر وقوة الكلمات" المحررة " التي تخدم بوصفها جسرا له بين الواقع والميتافيزيقا، الكلمات المجنحة التي تتنقل ذهابا وإيابا بين أرض الخرافة وحقل الأشياء"
أما إلي أي مدى كان يتعلق بهذه " الأشياء " فيمكن رؤية ذلك في إحدى قصائده الأخيرة " التي ينبغي أن تلقى في جنازة الشعراء"، والتي فيها يدعو حفاري القبور أن يكونوا شديدي الحرص علي تابوت الشاعر لأنه مليء بتشكيلة لا متناهية من الأشياء، من بينها: أشكال حية ومواد من صنع الإنسان، ابتسامة وقوس قزح، إكليل غار وقبلة، عش وتاج، غنائم وجرة، قوائم مفرطة في الوصف.
لكن، في عريها، تلخص الكلمات وجود الشاعر على الأرض، وثراء هذا الوجود ومداه.
عن كتاب: Surrealism: The Road To The Absolute / الطبعة الثالثة 1986 *Reposoirs كلمة فرنسية تعني المذبح المؤقت الذي يقام لفترة قداس من اجل مناسبة عابرة، أو تعني ملاذا على طرف الطريق يلجأ إليه العابرون.