ما أرويه اليوم هو الحكايات التي كنتُ أترقّبُ
أن يرويها لي أحد.
ما أرويه ليس إلاّ جزءاً ممّا لم أرَ
ولو رأيتُ لما رويت.
نسافرُ حتّى نبتعدَ عن المكان الذي أنجبَنا ونرى الجهةَ الأخرى من الشروق. نسافر بحثاً عن طفولاتنا، عن ولادات لم تحدث. نسافر لتكتمل الأبجديّاتُ الناقصة. ليكونَ الوداع مليئاً بالوعود. لنبتعدَ كالشَّفَق يرافقُنا ويودِّعُنا. نمزّق المصائر ونبعثر صفحاتها في الريح قبل أن نجد - أو لا نجد - سيرتنا في كُتُب أخرى.
نسافر نحو المصائر غير المكتوبة. نسافر لنقولَ للّذين التقيناهم إنّنا سنعود ونلتقي بهم. نسافر لنتعلّم لغة الأشجار التي لا تسافر. لنلمِّعَ رنينَ الأجراس في الأودية المقدَّسة. لنبحثَ عن آلهة أكثرَ رحمة. لننزعَ عن وجوه الغرباء أقنعةَ الغُربة. لنُسِرَّ للعابرين بأنّنا مثلهم عابرون وبأنّ إقامتَنا مُوَقَّتة في الذاكرة والنسيان. بعيداً عن الأمّهات اللواتي يشعلن شمعةَ الغياب، ويرقِّقن قشرة الوقت كلّما ارتفعت أيديهنّ إلى السماء.
نسافر حتّى لا نرى أهلنا يشيخون، ولا نقرأ أيّامهم على وجوههم. نسافر في غفلة من الأعمار المبدَّدة سَلَفاً. نسافرُ لنبلّغَ الذين نحبُّهم أنّنا لا نزال نُحبّ، وأنّ البُعدَ لا يقوى على دهشتنا، وأنّ المنافي لذيذة وطازجة كالأوطان. نسافر حتّى إذا ما عدنا إلى أوطاننا أحسسنا أنّنا مهاجرون في كلّ مكان. هكذا بغتةً، ننفضُ عن أجنحتنا الشرفات المشرَّعة على الشمس والبحر. نسافر حتّى لا يعودَ ثمّة فرقٌ بين هواء وهواء، بين ماء وماء، بين سماء وجحيم. نهزأُ من الوقت. نجلسُ وننظرُ إلى المدى. نرى الأمواج تتقافزُ كالأطفال. يمضي البحرُ أمامنا بين سفينتَين، واحدة ترحل، وأُخرى من ورق في يد طفل.
نسافرُ كما ينتقلُ المهرّجُ من قرية إلى قرية، ومعه حيواناتُه تلقّن الأطفالَ أمثولتَهم الأولى في السأَم. نسافر لنخدعَ الموت، فنتركه يتعقَّبُنا من مكان إلى آخر. ونظلُّ نسافر إلى أن لا نجدَ أنفسنا في الأمكنة التي نسافرُ إليها. لنضيعَ فلا يعثر علينا أحد.
يحملُ إليّ هواءُ هذا المساء صوتُ الشاعرة اليونانيّة سافو. يحملُ الهندسة المقدّسة في صوتها حلماً ينبتُ على حافّة الليل أراهُ من شرفتي المطلّة على مطر خفيف يضيع في الضباب.
كيف ألمس نورها من وراء الحُجُب والشمس تغيب في زوغان عينيها المغادرتَين؟ كلّ الوعود بحياة أبديّة، كلّ الفراديس المتخيَّلة في صوتها، وكلّ أجراس أوديتها وسماواتها هي له وحده، للرجُل الخارج من المرأة وفي قلبه شيءٌ من قلبها. وفي قلبه شيء من الرجاء.
الرجاء واحد لا يتجزّأ. شجرة واحدة هي شجرةُ الرجاء. خدعة تُقاومُ حقيقة اليأس المتعدّد. بعيدة هي شجرة الرجاء، لا تنبت إلاّ في الأمكنة القصيّة دائماً. أمّا عشبة اليأس السامّة فهي في كلّ مكان. داخل الجسد وخارجه وفي كلّ مكان. هي المشاعر الوضيعة على أنواعها. الحقد والبغض والخبث والحسد. هي أيضاً الجوع والبرد والعطش والذلّ. هي مشيئة الحرب والمطر الأسود المتساقط فوق هيروشيما، ومنذ هيروشيما، فوق العالم بأسره. المطر الأسود الذي لا ينفكّ يتساقط ويلطّخ نفس البشر ببُقَع مَقيتة. هي نقصان الحبّ. لكن كيف لنا يا سافو أن نبتكر الحبّ الذي لا يحيي ولا يميت ولا يخفي شفرته الجارحة تحت جَناحيه المبسوطَين في عراء الزمن؟ أسمعكِ تقولين إنّ زمن البشر لم يأتِ بعد! تُرى متى يأتي وكيف؟ هل يأتي رأساً مقطوعاً محمولاً على الأكفّ؟ لقد تعبت الأجيال المتلاحقة من صَوغ الحكاية ومن تكرار المصائر ذاتها في دورة لا ترتوي ولا تهدأ؟
يحمل إليّ هواء هذا المساء صوتكِ. صوتكِ أنتِ بعد ألفَين وستمئة عام على اندلاعه للمرّة الأولى، قرب أنهار المأساة الإغريقيّة وقرب الأساطير التي يتصارع فيها البشر والآلهة. أتهجّى في صوتك:
جسدَ المرأة بعد الحُبّ.
الجثّة المسجّاة في انتظار أن نغطّيها بالنسيان.
السقوط المائل المحسوب رياضيّاً.
سقوط الأجساد التي نُحِبّ، الواحد بعد الآخر.
قياسات السقوط: المسطرة والبركار.
هندسة الهدم.
الهدم الهائل الذي لا يستقيم بدون تصوُّر هندسي هائل.
تدمير الهيكل تدميراً للطقس...
تسألين هل ثمّة حُبٌّ لا يزال يقيم بيننا. الحبّ القليل بين الإنسان والإنسان. بين الإنسان والحيوان. بينه والنبات. أم أنّنا بدأنا معركة جديدة لا حاجة فيها إلى الأسلحة القديمة.
تسألين هل البشر لا يزالون يفتحون كتاب الأساطير ويحرّكون رماد الموتى بحثاً عن نار خبيئة. أم أنّ الموت مات. وحنين الموتى، حتّى حنين الموتى إلى زيارتنا في الأحلام، نضب. الموتى الذين نحبّهم ونشتاق إلى رؤيتهم فيلبّون نداء الشوق ولا يتمهّلون. هم الذين ينتظروننا على الضفّة الأخرى يأتون لملاقاتنا عند حدود الأحلام. ولا يجرؤون على الاقتراب منّا أكثر حتّى لا ينكسر الفاصل.
كلمتكِ هي أردّدها لتكون كلمتي. نتركُ الآخر كمن يترك مسكناً ما عاد يرغب في الإقامة فيه. أين هم الذين كانوا يرتعشون في الهواء، يتحرّكون وراء المربّعات الزجاجيّة، يقهقهون ويعطّرون قلوبنا؟ أين هم أولئك الذين تركونا نبحث عن لون للسأَم، عن كلمة نسمّي فيها الرطوبة الأبديّة لكنائس أوروبا؟ فحيثما نحن اليوم، لا نعرف هل الطريق إلى الأمام أم إلى الوراء. أين الطريق وإلى أين تكون الخطوة المقبلة؟
لا ليس هو مطر الذهب المتساقط فوق داناي. فوق جسدها الملتوي من الوجع. أسمعها من وراء الستارة التي تفصل بيننا تتنهَّد وتقول: كيف نتخلّص من الوقت إذا لم نتخلّص من الحياة نفسها، ولا نريد أن نتخلّص منها فماذا نفعل؟
هل لنا أن نبني عالماً بدون أنقاض ولا ذكرى؟ نقترب من الأشياء البسيطة، بدون هدف أو مرمى. في ضوء القمر الذي يروِّض في طريقه الجبال، ويدعوها إلى الجلوس معنا على الشرفات. وأنتِِ لا تنفكّين تغيبين، تمتدّ أمام مسكنك مساحات خضراء لا تنتهي.
ثمّة أصوات نستعيض بها عن الموسيقى. أفكّر الآن في المرثاة الأولى لدْوينو. في الحيوان الصغير الذي رافقني شهراً واحداً في طفولتي وأفكّر في عينيه. في البحار التي بقيت وعداً في الكُتُب. وحين يهبّ الهواء الكبير فوق أمواجها المتململة كبطن امرأة في شهرها التاسع، إنّما هو يهبّ في رأسي. لا، لم أسافر بعد. وما زلتُ أحلم في السفر.
لم نرَ وجوهنا في الماء. الكؤوس الملوّنة المرميّة في البحر هي كؤوس البندقيّة عند اشتعال القناة الكبيرة. ومعها المرآة وخاتم الذهب وضفيرة من شَعرك البندقيّ لا تلمس القاع أبداً، قريباً من متحف "لاكاديميا" حيث تستريح عذراء بلّيني، أجمل امرأة في إيطاليا.
في طريق العودة، سنجلس حيث تعوّدنا الجلوس. عالياً سنجلس وأمامنا أشعّة الشمس الغاربة المنهمكة في نقل أشجار الشربين إلى أمكنة أخرى. ولا نفقه إلى ما يجري حولنا أو أنّنا نتظاهر بأنّنا لا نفقه. يا عصفوري الصغير المختبىء في ظلّ الأوراق والأغصان، لا أعرف إن كنتَ تموت أو تختبىء.
يحمل إليّ هواء هذا المساء صوت سافو، ناصعاً وقوياً كشمس الجبال بعد المطر. الجبال الوفيّة التي تلقي مرساتها في الأرض، هنا، قريباً من خبز الصباح.
في الغرفة المظلمة لا يأتي الضوءُ من نافذة أو من كوّة في الجدار، بل من التحام اللثّة ومن انفراج الشفتَين الممتلئتَين بغبطة.
لا يمكن أحداً أن يمتلك أحداً ولا شيئاً. لا يمكن أحداً أن يمتلك حتّى نفسه. تُرى ماذا يمتلكُ النهرُ المتدفّق؟ النجمةُ المضيئة، ماذا تمتلك؟ الشمس التي تقذف براكينها؟ الشجرة الواقفة بصمت والتي تبدو ثابتة في مكانها؟ حتّى الصمتُ الشاسع حيث يحلو لنا أن نبني بيتاً...
تقف أمام المرآة ولا أحد في المرآة. فاقدُ البصر مُدركٌ أنّ ما نراه أقلّ بكثير ممّا يُرى. ما نراه يخبّىء شيئاً آخر لا تمكن رؤيتُه بالعين. لا تمكن رؤيته أبداً. هل تمكن رؤية المشاعر؟ الهواء المأهول؟ السهل المنبسط وسربُ الطيور المُغادِر دائماً؟ هي هذه الحاجة إلى الرؤية ما يجعل الأرض قاعة انتظار فسيحة لما يوجد خارج الأرض. أو بالأحرى خارج المُدرَك من الأرض.
هل الغرفة مظلمة حين لا يكون المرء وحيداً؟ حين تغصّ بالأنفاس، ويتّكىء المقيمون فيها على شرفات لا حدّ لها. كنتُ أراقب صدركِ العاري في المرآة نصف المظلمة. هل صحيح أنّ ما نراه أقلّ ممّا يُرى؟ أراقب مجيء الطفل في بطنكِ المتكوِّر، هذا الجبل العظيم. الجبال التي نستعيض عنها بالشعر هي الجبال التي لا نبلغها على الإطلاق. بدل أن نكتب عنها لماذا لا نُراقبها؟ نتأمّل المنحوتة المتحوِّلة يوماً بعد يوم. نلامسها ونتبارك بها. الشجرةُ الوحيدة مظلّتي. الشجرة التي تنمو خارج السماء والأرض.
هل الغرفة مظلمة حين أمامها تنفرج الشفتان. شفتاكِ؟ وهذا الضوء الذي لا نعرف من أين يجيء. في لوحات كارافاجيو ورامبرانت. وفي صروح الرخام المخصّصة لأميرات الموت. من "تاج محلّ" ورخامه الأبيض ينهشه الوقت، إلى مروج الياسمين. من قصور البتراء الورديّة إلى زجاج الكاتدرائيّات المعشَّق. من قصر "الحمراء" في غرناطة إلى قُصَير "عمرة" في الأردنّ وحمّامه وجداريّات عارياته الملوَّنة وصوت مائه الدفين. مَن الذي ينحتُ ضوءكِ في الظلام؟ ولمَ الوقوف هناك، في الردهة الفسيحة، تحت مظلّة؟ هناك، حيث يعانقنا الموت ولا نموت. نتدلّل. يتدلّل واحدنا على الآخر ونبتكر في عمق الليل المتفسِّخ صباحاتنا.
هل تبقى الظلمةُ ظلمةً حين يثور الجسد على أكفانه. يمزّقها، ويعاود تكوّره في بطن الأنثى. في أوّل بطن يدعوه إليه. إنّها لحظة التكوّن الأولى الأكبر من الكون. خارج المرآة وخارج المظلّة معاً. بعيداً عمّا يسمّي الروح روحاً والجسدَ جسداً.
ما الذي يبقى من الظلمة حين تسدلين الستائر وتسيرين في الغرفة الموصَدَة حافية وبيضاء. تلامسين القشرة الملساء، ويطفو زبدُك فوق الجسد المسجّى لأجلك؟ أما رأيتِ الزبد الغافل عن ينابيعه، المنحرف عن سُبُله القديمة، الصاعد في يقظة الروح؟ زَبَدُ الظلمة هو، تدركني حرارته ولا أدركه. لؤلؤك الأسود اللزج. معدنُكِ الرخو المتململ في الأعماق.
في الليل المتفسّخ، تبدأ اختلاجاتُ الولادة. تُطبق المرأة جفنَيها وشفتَيها على مزيد من الأسرار. هي التي تعلّمت الإصغاء إلى همس الجنين، تنصت إلى ما يأتيها ممّا قبل الولادة. وحين ينبجس الحليب من صدرها ملبّياً نداء الجوع، تفكّر في الينابيع الغائرة في ليل الأرض، قريباً من نبض براكينها، ولا يعود الظلام سابقاً للنور أو تابعاً له.
في الغرفة المظلمة، تجلسين بقربي وتلتفتين نحوي وتتكلّمين. في فمي تتكلّمين. وكلّما اقتربتُ من همسك، حامت غيمة فوق الجبال. أسمّيكِ ما لا يُسمّى. وأنتِ تتلفّظين دائماً بالكلمة ذاتها.
"الكذب"، تقولين. "تَقاسُمُ الكذب".
ما الذي تقوله اللغة الرّثّة، الأداة التي ما عادت صالحة للضحك ولا للبكاء؟ ما الذي نقوله حين يتجمّد الكلام بين الأضلع؟
أقف أمام الزجاج. ألهث وأمرّر سبّابتي فوق البخار المتجمّع في بقعة واحدة. أرسم خطّاً لا يودي إلى مكان.
...
لم أحلم قبل اليوم مثل هذا الحلم. وقفنا جنباً إلى جنب ننظر إلى لهيب الشموع المتصاعد أمامنا. دنونا أكثر، وأمسكنا شمعة واحدة. أشعلناها معاً، ثمّ زرعناها بين بقيّة الشموع، وقلتِ: "ليتمنَّ كلّ منّا أمنية في قلبه". وأطبقتِ جفنيكِ للحظات، كأنّما لتؤكّدي أمنيتكِ فتنحفر فيكِ وتستقرّ. وسرعان ما فتحتِ عينيكِ فالتمعتا، بل، ولفرط صفائهما أمام أنوار الشموع المتلألئة، لاحت لي الدمعة المحبوسة داخل العين وقد ضاعفَت من جمالها. لكنّي تنبّهتُ فجأة إلى أنّكِ عارية واستغربتُ كيف لم ألحظ ذلك من قبل. كنتِ عارية تماماً. ليس عريكِ الذي أشتهيه، بل عرياً آخر أجهله فيكِ. عرياً غريباً وموجعاً. كنتِ عارية كجسد المسيح. مجروحة ومستسلمة للنظرة التي تحطّ عليكِ، وهي طعنته الأخيرة. وتلك الابتسامة، ابتسامتكِ التي تضيء الظلام، صارت ندوباً تملأ الهواء.
بعد منتصف الليل بقليل، يرتدي الميدان حلّة أخرى. يدخل طقوسه السريّة، لكن على مرأى من العيون.
من السكاكين العديدة التي يملكها الجزّار، يختار السكّين الأطوَع والأجمل. تنبري وحدها في الساحة كمسلّة وحيدة مضيئة. بَوصلة المكان إلى الروح. يرفعها لتصبح قبالة عينيه. يتأمّل شفرتها، ثمّ يحاول أن يلامسها بظفره. ولشدّة ما يدنو منها، تبدو كأنّها تلهث في وجهه.
في لوحة الفنّان الهولندي رامبرانت يتدلّى العجل المذبوح بأبّهة، مصلوباً خارج الآلام والأوجاع، مسكوناً برهبة الريشة التي رسمته. أمّا في الساحة، فالعجل المهيّأ للذبح مكبّل ومطروح أرضاً. وفي لحظة محدّدة، أي حين يأتي الحبل فيلفّ عنقه ورأسه بعد أن يكون قد لفّ قوائمه وأحاط بأنحائه، يعرف أن ما من شيء عاد ينفع، لا حراك الرأس الضخم ولا القوائم الأربع، فيستسلم مكرهاً مقهوراً لسكّين الجزّار. لكن قبل أن يُجزّ عنقه بثوان معدودة، يطلق صرخة مكتومة مدوّية تقول الموت وما هو أبعد من الموت. كأنّها صفّارة الرحيل تطلقها السفن الكبيرة قبل أن تغادر الشواطىء. وهي تطلقها في قلب الذين يشعرون بأنّهم لن يعودوا. لا ليست هي صرخة فحسب. إنّها، بتسمية أهل المكان، "جَعرَة"، أو "جَعير". وهذه الكلمة البليغة الحاسمة يطلقونها، أحياناً، على البشر، في لحظات الغضب الأقصى.
كيف تكون شاهداً لتلك الصرخة ولا تقترب؟ من أيّ وجع قديم تطلع الصرخة؟ وهل يستطيع الهواء أن يلوكها ويبعثرها؟ أم أنّها تظلّ جاثمة هناك في هواء ساكن لا يتحرّك ؟
وما حيلتك حين يستيقظ فيك، فجأة، قتلى الثأر، أولئك الذين زيّنوا طفولتك بزينة الموت، وأطلقوا في سمائها أجراسَ الملاك الهارب، وهي، بلا ريب، أجراسٌ حزينة ؟
نقتلُ لنأكل. نصطادُ الطيرَ في سمائه والسمكة في بحارها. نذبحُ الحيوانَ والعشبة نقطعها من الجذور. وثمّة مَن في الخفاء يقتلنا ويأكلنا.
لا يعني الطبيعة إلاّ النسل.
لو كان يعنيها شيء آخر، لما تركت الفقراء يُنجبون.
الحشراتُ وأجنحتها الشفّافة، السقّايات التي تثير الاشمئزاز في النفس، وحيد القرن، الخنازير، الدببة، الجرذان، الأفاعي، السنّوريّات، الحيوانات الغامضة وفي مقدّمها النمور [وقيل إنّ مَن يستطيع أن يفسّر الإشارات المطليّة على جلدها قادرٌ على معرفة أسرار الكون]، السُّرعوفة الراهبة المفترسة، الحيوانات المنظورة، وتلك التي لا تمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، الحيوانات المرتاحة والحيوانات البائسة وغيرها ممّا يرهب الموت، وجميعها يدور في دورة لا تملّ ويكرّر على الأبد حركاته ومصائره...
لا يعني الطبيعة إلاّ النّسل. هل يعنيها النّسل فعلاً؟
أخذونا إلى الجبهة لكي نموت ولم نمت. الذين ماتوا منّا نصّبوهم شهداء. أمّا نحن، فلقد انكفأنا على أنفسنا وخجلنا من عودتنا إلى أهلنا أحياء.
قالوا: "لا تخجلوا من أنفسكم. انتهت معركة ولم تنته الحرب. ستكونون وقوداً لمعارك مقبلة". فحمدنا الله تعالى.
وما هي إلاّ هنيهة حتّى صرخ قائد الفرقة بصوت عال: "كلّ واحد وعُدَّته المهلكة بيده". ثمّ فتح كتاباً كبيراً كان بين يديه، وجعل يقرأ: "سيسير في وسطكم رجل لابس الكتّان، وعلى جانبه دواة كاتب. سيعبر في وسط المدينة وستعبرون في المدينة وراءه وتضربون. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخَ والشابَّ والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك. ابتدئوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت. املأوا الدور قتلى. اخرجوا".
خرجنا. على شفاهنا ابتسامات، وفي قلوبنا غضبٌ وحنين إلى الطعن. نُطعَنُ أو نَطعن. نَقتلُ أو نُقتل. وصار لكلّ منّا شبه شكل إنسان وتحته الشكل الكاسر الذي اتّخذناه للتّو عندما اشتعلت في دواخلنا روحُ الحيوان.
سمعنا صوتاً يقول: "نحن اللحم، فتقدّموا". تقدّمنا.
وفي وسطنا "الرجُل اللابس الكتّان الذي الدواة على جانبه".
تقدّمنا. ترنّمت الأرض بخطانا. استبدّت بنا الحماسة. والفضاء ملأناه بالأناشيد. وإذا بيننا رجُل يبكي. فسأله القائد عن سبب بكائه، فقال: "لقد تأخّر الموكب وما عدتُ أحتمل الصبر".
قالوا لنا أن نقتلهم ونقطّع أوصالهم. كذلك قيل لأعدائنا أن يقتلونا ويقطّعوا أوصالنا. قالوا لنا أن نبيدهم. كذلك قيل لأعدائنا أن يبيدونا. وبتنا ليلنا الذي سبق ذهابنا إلى المذبحة ونحن نشعر بفرح عظيم.
ما كنّا نظنّه رملاً وسراباً، صار جيوشاً تتقدّم نحونا. ووجدنا أنفسنا، فجأة، نخوض معركة بالسلاح الأبيض. نطعنهم ويطعنوننا. نتبادل القبلات والشهادة على مقربة منّا، ندركها حيناً وتفوتنا حيناً آخر. كانت دماؤنا تسيل ونضحك من دمائنا. كانت عيوننا تُسحب من عيوننا. وكنّا نعرف ونحن نحارب، أنّ الأقمار الصناعيّة تلاحقنا وتنقل هذا الصليل كلّه. وكنّا على يقين من أنّ الجالسين أمام الشاشة الصغيرة ينتظرون منّا الكثير، وينبغي ألاّ نخذلهم، فلا نترك رأساً إلاّ ونحصده، ولا ذراعاً إلاّ ونقطعها من أصلها. وننعم النظر في الجرح بنشوة من ينتشي. وحين تشتدّ حميّة الكرنفال ويصير وَقْع الحديد على الحديد محرّضاً على الرقص، نرقص حتّى تخور قوانا ونسقط فوق الجثث المشبعة بالعراك. وحين لا يعود ثمّة من نقتله، نبحث في أجساد المقتولين عن بقعة لحم حيّ. نرفع الخراب إلى شفاهنا نشرب نخب الخراب. نُشيد ممالك الجرح والإعصار.
نستبدل المعادلة: نكون أو لا نكون تلك هي المسألة، بمعادلة أخرى: نكون أو لا نكون تلك هي المهزلة.
نتقدّم. كان الخوف الأكبر هو الذي يحمينا من الخوف. كانت رؤية أجسادهم تتحلّل هي التي تمنحنا مناعة ضدّ التحلّل. نقتلهم ونتساءل ما إذا كانت أجسادهم تتّسع لموتنا الكثير. ثمّ نرتدي قمصان الموتى كأنّما هي طريقنا الأجمل إلى الموت.
تنتهي المعركة ولا ينتهي العراك.
طالما أنّ الأنثى تُنجب لا ينتهي العراك.
طالما أنّ الأنثى تنجب نبتكر وسائل جديدة للقتل، أجملها يسجّل صراخ الضحيّة.
طالما أنّ الأنثى تُنجب...
جميلة هي الأرض.
جميلة هي السحابة المتهادية لوحدها في سماء زرقاء، كطائر ضيّع سربه وشرط طيرانه. جميلة النجوم وغريبة أنوارها الحائرة، حارسة المدى اللانهائي، تراقبك من بعيد، تعرفكَ هي وأنتَ لا تعرفها. تُرى أترأف بك لأنّك لا تدرك ما الذي ينتظرك عند العتبة، أم أنّها تدرك أنّ مصيرك ومصيرها واحد؟
جميلة هي النسمة الرحيمة في صيف الجُزُر البعيد تلفح الجباه. جميلة هي الأمطار الرشيقة فوق الأعشاب العطشى. وجميلٌ عطر الأنثى المجهولة التي تمرّ بقربك ماضية في سبيلها.
جميلٌ لقاؤنا قبل أن يتعثَّر بالتفاصيل. يأخذُ شكلَ هلالٍ نُعَلِّقُ فوقه أحلامَنا.
جميلة هي الأرض حين تغادرها روحي وألتفت إليها كما رائد الفضاء من مركبته فأراها زرقاء مضيئة من داخل. ترفع أشرعتها البيضاء وتتقدّمني، تسبقني إلى حيث أمضي، كأنّها تدلّني على الطريق.
جميلةٌ هي الأرضُ الماضية إلى حتفها بسرورٍ نادر.
يتراءى للجائعين في المدن أنّ حقول القمح البعيدة، هناك، تمتدّ إلى ما لانهاية، وأن لا جوع تحت الشمس.
جوع المدن أتعرفه؟ جوع المتاهة التي لا تفضي إلى أرض وإلى شجرة. الجوع الأعمق من كلّ جوع. الجوع إلى الآخر المتواري حتّى عن نفسه.
I
أنا الحلاّج المصلوب الكئيب. أنزفُ عطشي. أنظر إلى أهلي ولا أعرفهم. ولا أعرف الأصدقاء المتسربلين في عباءة المال. ولا أعرف حيوان البريّة الذي جاءني في المنام وأيقظني هذا الصباح. أجهل اسمي. أجهل التراب الذي أنجبني، وذاك الذي ينتظرني عند العتبة. بين الولادة والموت اسمٌ لا يُسمّى. قوس لا ينطلق... أرسم طلاسم روحي على الورق وبقايا جسدي المتناثر في المكان. جسدي الذي ليس لي ولستُ له. جسدي الآيل إلى مصيره وأنا الذاهب إلى مصيري. ساعدني أيّها المشتعل فيَّ لبلوغ هذا المصير.
ساعدني يا من لا أرى وجهه لكنّي أرى نوره. خلّصني ممّا يبعدني عنك ويؤجّج رغبتي فيك. لا اسم لما أتهجّاه وأسمّيه. أنظر إليك وأرى أغصان المرجان. أرى الماسة لحظة تكوّنها. ينفلق الفجر يترقرق منه الصباح. معك أنا خارج الحبّ والحقد. فارغ من الدنيا والآخرة. خارج الأرض التي تدور. المدى الذي أحيا فيه هو أنت، ولا موضع لي سواك.
لا يحتويني جسدٌ ولا مكان. لا سهل يحتويني ولا جبل. دمائي تفيض من جسدي وجسدي يفيض منّي. ولا أطيق سقفاً فوق رأسي. في لحظات الخطف والتلاشي أقول الشيء ونقيضه، ولا يثنيني أمرٌ عن قول الحقّ. أنا كاتبُ ما يُنسَبُ إليّ وما يُنسَبُ إلى غيري، أتطهّرُ بالألم وأزداد وَجْداً، ولا أخاف. حين جيء بي إلى الإعدام ورأيتُ الخشب والمسامير، ضحكتُ ضحكاً عظيماً. وحده القادر على الغفران، المستتبّ فوق الخير والشرّ، قادر على مواجهة العالم.
خشبةٌ طويلة تتقاطع مع خشبة أقلّ طولاً. خشبتان متفاوتتا الحجم تسبحان في الفضاء. خشبة لتستريح فوقها يداي وأخرى أسند إليها رأسي وجذعي وأرتفع فوق هذا المركب الخشبي مصلوباً في الهواء. عائماً ولا فرق بين جسدي وروحي. ممدّداً بكامل قدرتي على التمدُّد. بسيطاً وخفيفاً كريشة عصفور. صليبي متحرّك يحملني صعوداً وهبوطاً، يدور بي يميناً وشمالاً وفي جميع الاتجاهات، بسرعة حيناً، وحيناً آخر بهدوء. ثمّ بسرعة هوجاء قبل أن يستقرّ فجأة كأنّه طائرٌ حطَّ في الهواء. وإذا برأسي في أسفل الخشبة. ومن أسفل أرى السماء. أراني قريباً منها ومن أزرقها الساطع ومن جروحي تهطل عليّ كندف الثلج. وبقدر ما كنتُ أقتربُ من الموت، أشعرُ بلذّة غريبة ونادرة لا يعرفها الأحياء الذين لم يقفوا مثلي عند الحدود الفاصلة بين العالَمَين ولم يكن دليلهما هو دليلي. ساعدني أيّها الدليل لاجتياز تلك الحدود...
II
أنا رابعة العدويّة لا يعنيني من الوجود غيره. أقصد هوَ. الكلّي المطلق. من لا يعرفني لا يصدّقني. وأنا لا أصدّق نفسي. من أجله تركتُ العالم، وفتحتُ ذراعيّ لمجهول لا يتحدّد كنهه إلاّ به. الواحد الأحد. لا عيب فيه ولا خطأ. وليس كمثله شيء. يأخذني الحنين إليه. لا ليس حنيناً بل شيء يشبه الموت. تُرى لو كان هو الموت؟
أنا رابعة البصريّة ولستُ رابعة بنت إسماعيل، وقد خلطت بيني وبينها الكُتُب. جئتُ إلى الدنيا في كوخ فقير لا نقطة سمن فيه للخلاص، ولا مصباح للنور، ولا قطعة قماش تقي من البرد. كان أبي يصلّي مئة ركعة كلّ ليلة، وفي ليل الجمعة أربعمئة. توفّي وأنا طفلة، فسرقني أحد اللصوص وباعني بستّة دراهم. كنتُ أحسّ أنّ الحياة أيّام معدودة فأعبث بها. أسهر طويلاً، وأخشى أن أنام فلا أنهض من نومي. تعذّبتُ لكن ثمّة ما كان يتجمّل ويتزيّن في قلبي، وما كنتُ لأشعر بأنّني من هذا التراب. كنتُ في وحدتي ليلاً أسمع ألحاناً آتية من بعيد، وأشمّ عطراً خالداً، فعرفتُ أنّ في داخلي سرّاً. كتمتُ وانتظرتُ شمسي. وفي إحدى الليالي وكنتُ في خلوتي أتلوّى من الحزن والوَحدة، سمعتُ صوتاً يقول: "لا تحزني، ففي يوم الحساب يتطلّع المقرّبون في السماء إليكِ ويحسدونكِ على ما تكونين فيه". منذ هذه اللحظة أدركتُ أنّ النور آت لا محالة. ورحتُ أعزف على الناي وأسبّح ضوء الصباح الذي ينفخ في الكائنات من روحه.
في إحدى يديّ نار وفي الأخرى ماء. ناري هو ومائي. أحترق فأبترد بالماء، وأثلج فأتداوى بالحريق. ووجهه لا يغيب عن وجهي. هو الذي يملأُني ويؤاسيني. وحين أبكي، وأنا بكّاءة، يخترقُني كشعاع يخترق الغيم الأسود. يرتعش فتنتابني رعشته. هو يريدني له وأنا أريده لي. أتوجّه إليه وأناديه. أناديه بأعلى صوتي ولا يطلع منّي صوت :
"أتوقُ إليك ويضيقُ بي جسدي. يتعثّر لساني فأقول ما لا يصلح لقول. حرّرني من حواسّي الخمس واطلقني في رحابك. اجعلني بذرة في أرضك وسحابة في سمائك. ولا تحرمني من رؤية وجهك. أعرف أنّ وجهك لكي يطلّ يقتضي دم الدنيا بأسرها".
أناديك: "أمهلني قليلاً لأكون أنا كما تحبّني أنت أن أكون : عارية إلاّ من حنيني إليك. ما الذي يمكن أن تأتيَه نقطة مثلي لظامئ كالبحر مثلك؟ أنت البحر والعصف. وأنتَ الدمعة فوق خدّي. وأنتَ زبَدي. بالغةُ الزهو تلك الكرات الذهبيّة وتلمحُكَ. تفوقها زهواً أنت. أينما توجّهتُ ببصري، أعرف أنّها لا تخطئك منّي. كقناع إفريقي متأهِّب للحرب أو للمطر. كرفيق على درب قاحلة، دعني أمسك بيدكَ جيّداً. بخلاياك. بدمك. بسمائك ونجومك. كلّ ما حولي يتزيّن لك. والقلب. حين القلب يأخذ دقّة ضخمة. طويلة وللعمق... حتّى لأحسبه غاص في الدقّة. ثمّ، مَن قال : ما وُلِدنا معاً؟".
III
أنا القدّيس فرنسيس الأسيزي، أحبّ طيور السماء والنساء الحوامل. أحبّ الأثداء الكبيرة ولا أحتاج إلى طعام لأعيش. وأنادي الأشجار بأسمائها. أوجّه العصافير إلى أعشاشها. أتكلّم مع الذئاب ولا أخشى أنيابها. وأحبّ كلارا. كلارا الجميلة الرائعة التي تركت أبويها وحلقت شعر رأسها من أجلي. أحبّها لأنّ شفتيها لا تنفتحان إلاّ تعبيراً عن دهشتها أمام انبلاج فجر أو ترقرق ساقية فوق الحصى أو انقصاف غصن حين تهبّ ريح قويّة. في صمت قلبها تصغي إلى حركة الأرض الدائبة. كانت تجلس تحت شجرة الشربين عند الغروب كأنّها تجلس بالقرب من روحها. وأنا أجلس تحت شجرة شربين أخرى وبيننا المزيد من أشجار الشربين والسرْوِِ والزيتون والصبّار والأكاسيا.
كانت الأشجار تغرق رويداً رويداً في الظلام بعد أن تهدأ زقزقة العصافير بنحو الساعة من الزمن، وكنتُ ألتفت إلى حيث تجلسين فلا أتميّز شيئاً على الإطلاق، وألتفتُ إلى السماء فأرى النجمة المشعّة الأولى. وحدها في هذا الملعب الشاسع. أراها متلألئة وتُعلن دائماً بدء الاحتفال. في تلك اللحظة بالذات، كان يراقبني، على غفلة منّي، رفاقي في الصلاة. كانوا يرونني وقد تخضّب جبيني بالزيت ورشح منّي نورٌ كثير وارتفع جسدي بضعة سنتيمترات عن الأرض، وأحياناً ثلاثة أمتار، أو بعلوّ شجرة حَور باسقة. وأحياناً أخرى، كانوا يرونني أحلّق في الفضاءات العالية محوطاً بهالة من ضوء.
كلّما استغرقتُ عميقاً في الصلاة أو تأمّلتُ كلارا وهي جاثية تصلّي أو جالسة بصمت قُرب الشجرة، رآني أحد رفاقي في الصلاة أرتفع عن الأرض. وما كنتُ لألحظ ذلك يوماً لأنّني أكون في حالة من التأمّل والذهول، فلا أرى شيئاً ولا أسمع شيئاً. والأغرب أنّني لم أسعد في حياتي مثل السعادة التي ذقتها حين توفيت كلارا بغتةً. صحيح أنّ هذه المرأة كانت الأعزّ إليّ، لكنّ حضورها فيّ كان طاغياً إلى درجة أنّه غالباً ما كان يلهيني حتّى عن الصلاة. كان جمالها يرعبني فأتحاشى أن أنظر إليه. وكأنّها كانت تدرك ذلك في أعماقها ككلّ أُنثى تملك قلب رجُل. كانت تجلس تحت شجرة الشربين تلك، وتنوس كلّ غروب حتّى الانطفاء. تنطفئ، يوماً بعد يوم، حتّى ليخال للناظر إليها أنّها تحوّلت جزءاً من هدأة المساء الساقط سهواً في تلك البقعة النائية من القرون الوسطى.
بعد موتها بقليل، أحسستُ أنّني قد أموت فوراً إذا لم أوظّف تلك الطاقات المعتملة في داخلي والتي كانت تُستَنفَد، بجزء كبير منها، في تركيزي عليها، وهي تركت العالم من أجلي واعتبرت أنّي طريقها إلى الخلاص. منذ ذلك الحين، حين لم يعُد ما يلهيني عن حركة الكائنات، الصغيرة منها والكبيرة، رحتُ أزرع الأرض وأربِّت على التراب بيديّ. وأضع التبن للحمار الواقف ساعات بأكملها تحت الشمس الساطعة. إلاّ أنّ خير ما قمتُ به هو أنّني رمّمتُ كنيسة "السيّدة مريم العصافير" وتواريتُ عن الأنظار. صعدتُ إلى الجبل. بعد أربعين يوماً من الصيام والصلاة، زاغ بصري وصرتُ أرى ما لا طاقة لبشريّ أن يراه. الجحيم والنعيم في كوّة واحدة. الأحياء والأموات معاً، وأولئك الذين لم يولدوا بعد. صرتُ أجد نفسي أحلّق عالياً فوق سهوب "أومبريا" الجميلة. وفي المساءات المتلوّنة، أمسك بطرف خيط الأفق وأنزعه من مكانه' فلا يعود ثمّة أفق ولا فاصل بين الأرض والسماء. وأتابع طيراني مترنّحاً، خافق الجناحَين، متململاً، ثمّ أهدأ وأرتمي ساكناً في الهواء، فاتحاً أجنحتي إلى أقصى أطرافها، منسكباً في الفضاء اللامتناهي.
في إحدى المرّات، في اليوم الثالث والأربعين، وجدتُ نفسي عارياً فوق الجبل والمطر ينهمر كطوفان. كنتُ أشعر بعطش شديد. رفعتُ رأسي نحو السماء وفتحتُ فمي ورحتُ أشربُ من مائها. أحسستُ أنّ جسدي بأكمله يرتوي. وما هي لحظات حتّى توقّف تساقط المطر وانقشعت الغيوم، ولاح ضوء غامر وعجيب بهر بصري. فتحتُ ذراعيّ وابتهلتُ، وإذا بخمسة أشعّة قويّة، متداخلة في ما بينها، تتّجه مسرعة نحوي، فتخترق يديّ وقدميّ وخاصرتي. وتختفي الأشعّة ومعها الضوء الغامر العجيب. فألتفتٌ إلى يديّ وقدميّ وخاصرتي وأرى جروحاً تسيل منها الدماء. وتنحسرُ الدماء فأرى ندوباً كالتي أحدثتها المسامير في جسد المسيح لدى صلبه.
آلاماً مبرّحة تألّمتُ، كأنّني بألمي هذا إنّما آخذ عنه قسطاً من الألم. وأُخفّف من معاناة المصلوب منذ مئات الأعوام, في اليوم التالي، استيقظتُ باكراً، وأنا مُصاب بعمى شبه كامل. فتحسّستُ المكان من حولي، ومجّدتُ الفجر العالي والشمس التي ستنبلج بعد قليل، والطبيعة الكريمة وحيواناتها : الذئب والعصفور والحمَل والسمكة. وأصبحتُ، منذ ذلك الحين، شفيع المهتمّين بشؤون البيئة. وعرفتُ، في وقت لاحق، أنّ الفنّان جيوتّو روى حكايتي في جداريّاته القائمة في كنيسة "أسيزي" وروى أحوالي، وأنّ هزّة أرضيّة ضربت تلك المنطقة المعروفة بكثرة اهتزازها فهدّمت جدران الكنيسة والجداريّات وقضت على قطعان الغنم التي كانت ترعى في السهل، وذلك قبل حلول القيامة بوقتٍ قصير.
أنا صديق الحيوان والجماد، أيّ قوّة خفيّة دفعت بي إلى الهاوية؟ إذا كنتُ لا أندم على شيء في حياتي، ولا حتّى على العذاب الذي سبّبتُه لوالدي الذي هاله ما رآه منّي، فإنّي نادمٌ فقط على إقدامي على التبشير. من أسبانيا وعرب الأندلس، إلى مصر وسلطانها. وأظنّ الآن أنّ الذنب ما كان ذنبي بالكامل، بقدر ما هو ذنب المرحلة التي جئتُ فيها، وهي مرحلة وعظ وتبشير بامتياز.
IV
أنا القدّيسة تيريزا الآبليّة. أحبّ الرجال الذين يثيرون في أعضائي نوازع لا تنطفىء. أحبّهم لكن ماءهم قليل. أحبّهم فيه هو الواحد الذي لا تحصى أعداده، وهو الذي يروي ولا ينضب. أحبّ كتابة الرسائل وله وحده أكتب. أكتبها بجسدي وبالعرق الراشح من جبيني. وبالحمّى المشتعلة فيّ بعد منتصف الليل. أشتاق إليه وأبكي له من حرقتي واشتياقي. أشتاق إليه وأحترق. حبيبي هو وزوجي.
خفتُ من محاكم التفتيش تحاكمني على قولي إنّ الموت هو التمتُّع بقُربك. المحرقة أمامي وفي لوحات فيلاسكيز وغويا تفضح سلوك البشر على الأرض. أهوال الجحيم الأرضي على يد مَن يدّعي حُبّك. خفتُ من الحشود التي تحلّقت حولك أيّام الشعانين، ركعتْ أمام قدميك، وتباركت بلَمس ثيابك، وفي اليوم التالي رفعت صليبك مع الذين صلبوك.
كلُّ شيء باطل وقصيرُ الأجل. أنام قليلاً وعندما أستيقظ لا يبقى شيءٌ ممّا كان. جاءني ملاكٌ وفي يده سهم وفي طرف السهم شرارة تتلألأ. إليَّ نظرَ نظرتَه المشعّة، ومن وراء ابتسامته الغامضة صوّب سهمه إلى قلبي. ولجَه مرّات عدّة. بلغَ أحشائي ثمّ انتزعه منّي وتركني مشتعلةً بحبّه.
هوذا الملاك يمتلكُ قلبي ويأخذني إلى نعيمه. مُبَلسمي هو وعزائي. طَعْنَتُه بجانب قلبي. الطعنة التي تثير فيّ آلامَ الشهوة، ولا كآبة بعدها أو شعور بنقصان. وحده برنيني عرف كيف يصوغ لذّتي. عرفني في أقصى وجعي وأقصى نشوتي وكنتُ على حافّة الموت. في صفاء حَجَره أرتاحُ، وفي حَيرة رُخامه. وأمامي الملاك الجميل يراني ولا أراه. وكيف لي أن أراه وأنا لستُ في مكان؟
من سيَر فرسان القرون الخوالي والحكايات الخرافيّة، ومن أخبار الرحلة التي قام بها أخي على متن إحدى السفن الأولى التي عبرت المحيط الأطلسي في اتجاه "العالم الجديد"، وجدتُ المعالم الأولى لطريقي. من تلك المعالم أختار حكاية واحدة أرويها لكم الآن، لأنّ ساعة الكلام أتت :
قبل ثلاثة أيّام من سفره أخبرني أخي حُلُماً غريباً. قال إنّه وجد نفسه داخل إحدى السُّفُن التي كانت تقلّ السود المكبّلين بسلاسل الحديد. وكانت المرّة الأولى في حياته يلتقي برجال ونساء بشرتهم سوداء. كانوا مجمّعين كالخنازير في الطبقة السفلى من السفينة. وكان من مهمّة أحد أفراد الطاقم دفعهم إلى الرقص يومياً وذلك لإنعاشهم قليلاً ولتحريك أعضائهم المكبّلة المصابة بخدَر لفرط ما تبقى مكدّسة في الظلمة. وكان يُضرب بالسياط كلّ من يرفض الدعوة إلى الرقص. كان العبيد يرقصون وهم مقيّدون بالسلاسل. وعلى مرأى من هذا المشهد، كانت النسوة يرمين بأنفسهنّ في المحيط...
قال أخي: "طالت الرحلة في البحر، وشعرنا بالإرهاق الشديد، فيما السود المكبّلون في الطبقة السفلى، كانوا يموتون من الإرهاق والمرض، الواحد تلو الآخر، وفي الصباح يُلقى بأجسادهم في البحر. من تلك الحمولة البشريّة، لم يصل معنا إلى اليابسة إلاّ النصف تقريباً. الأصحّاء الذين واجهوا المرض والجوع والتعب هم وحدهم القادرون على العمل في زراعة المزارع والعمل في المناجم والأديرة. لدى اقترابنا من اليابسة في الصباح، استقبلنا أولادٌ ونساءٌ عراة. وراح الأولاد يقتربون من الشاطئ، بينما النسوة، وعلى أيديهنّ أطفالٌ رُضَّع، ينظرن إلينا من بعيد، باستغراب وريبة. اختفت النسوة عن أعيننا ليحلّ محلّهنّ فجأة جمع من الرجال، وكانوا عراة أيضاً، متوحّشي الشكل ويحتاجون إلى تَحَضُّر. عندما رسَت السفينة، كان أوّل النازلين منها هم المبشِّرون، حملة الصلبان، فغرزوا الصليب الأكبر حجماً في الأرض ورفعوا أيديهم نحو السماء والتفتوا إلى الرجال الواقفين مشدوهين فسألوهم أن يتّقوا الله، بينما كان الرجال المسلّحون يسألون عن الذَّهَب. وما كان أحدٌ يفهم أحداً".
عرف أخي لاحقاً أنّ الشواطئ التي رست فوقها السفينة في الحلم، هي شواطىء المكسيك، وكان المكسيكيّون القدامى يحلمون هم أيضاً، وفي الوقت ذاته، برجال ملتحين تقودهم حيّة مريّشة يأتون أرضهم من وراء البحار، أي من حيث تُشرق الشمس. من خارج هذا المنام، جاء كورتيس ممتطياً حصانه. وعندما صعد كورتيس ورجاله إلى القمّة التي بُنيَ فوقها الهيكل وطلب من الملك موكتيزوما أن ينكر آلهته، لم يستطع الملك المكسيكي، القائد الروحي لأكثر شعب متحضِّر هناك، أن يتمالك نفسه فأطلق غضبه المكتوم قائلاً : "لو كنتُ أعلم أنّك ستنطق بمثل هذه الكلمات المهينة لما كنتُ أطلعتك على آلهتي أبداً". وحين حاول كورتيس أن يمعن في إذلال الملك، جاءه منه الجواب الآتي: "ماذا تريد منّي بعدُ، وأنا ما عدتُ راغباً في الحياة؟"...
أنا تيريزا الآبليّة، أُقِرّ اليوم بأنّي أخطأتُ في تفسير الحلم الذي رآه أخي في المنام، كما أخطأتُ في الوقوف إلى جانب الفاتحين، أبناء بلدي، وقد خفتُ عليهم وصلّيتُ من أجلهم في رحلتهم الطويلة نحو القارّة الجديدة، وكانوا، بالنسبة إليّ، مُخَلِّصي أرواح. أنا تيريزا الآبليّة، أراقب من حيث أنا الآن تلك الغابات الشاسعة بأشجارها الكثيفة وأنهارها وشلاّلاتها وصخورها، وأسمع ما بقي من صدى كلمات الهنود الحُمر والغصّة في قلبي : "إنّ كلّ صنوبرة ملتمعة، كلّ ضفّة رمليّة، كلّ سحابة في الغابات المظلمة، كلّ فُرجة مضاءة وكلّ طنين حشرة، كلّها جميعاً مقدّس في ذاكرة شعبي وتجربته... عندما يتوارى آخر إنسان أحمر عن هذه الأرض، يستمرّ ذكرُه ظلاًّ كما ظلّ غيمة فوق الحقول. وسوف تبقى الضفاف والغابات مسكونة بأرواح شعبي، لأنّنا نُحبّ هذه البلاد مثلما الطفل الرضيع يحبّ دقّات قلب أُمّه."
V
أنا سمعان العمودي. غريبٌ أنا على هذه الأرض وأريد أن أرتقي. أنام قليلاً وأصحو طويلاً ولا يكفيني صحوي للصلاة. من أعلى عمودي أرى من السماء ليلاً ما لا يراه أيّ مرصد سماوي. وأصغي إلى هنّات آتية من عالم بعيد. من قال إنّ الكائنات الآتية من كواكب أخرى لم تصل أرضنا بعدُ. لقد وصلت منذ أزمنة بعيدة. لكنّها لفرط تقدّمها علينا باتت غير منظورة. هي هنا، حولنا وفي كلّ مكان.
أنا سمعان. أحبّ علمَ الفَلَك والمراصد الجويّة. ولا سقف لأحلامي. أحبّ الريح والمطر والفصول الأربعة. تدور الشمس حولي سبع دورات تذكّرني بأنّني عابر وبأنّ العمود، عمودي المرفوع هنا، سيبقى دليلاً على عبوري. مَن أنا لألجم ليل الأسرار؟ لأحمل كلّ هذه الأنجم على رأسي؟ لأتابع حركة الأمواج المتدفّقة في قلبي؟ لأجعل المسافة بين الأرض والسماء واهية كخيط العنكبوت؟ من أنا لأجمع في قلب واحد كلّ هذه الأحوال والتناقضات. لأسرّح روحي كما تسرح الغيمة الوحيدة المتأخّرة عن سربها وروحي صغيرة كحبّة حنطة؟
كنتُ راعياً للبقر، أميّاً وساذجاً، لكنّي كنتُ قويّ البنية، عظيم الشكيمة. كالأيّل، أركض وأنطّ في البادية السورية. أسابق ظلّي إلى مكانه وأنفاسي إلى هوائها. تركتُ أهلي وهربتُ من فقري وأويتُ إلى الدير. كنتُ أتناولُ الطعام مرّة واحدة في الأسبوع، فيما رفاقي في الدير كانوا يأكلون مرّة كلّ ثلاثة أيّام. وهذا ما أثار سخط الرئيس الذي نهرني حتّى كاد من شدّة غضبه وغيظه يقع أرضاً، وضربني بعصاه الغليظة وأمر بوضعي في قبو مظلم أشبه بسجن انفرادي بعدما اتّهمني بأنّني أخلّ بالنظام العامّ. وهناك وجدتُ حبلاً خشناً مضفوراً بخيوط النخيل، فرفّ له قلبي، وأخذته على الفور وزنّرتُ به خصري. ألصقته على الجلد وشددته بقوّة. ولم تمضِ عشرة أيّام حتّى طفق الجرح ينزف قطرات من الدم. رفيقي في الدير، ذلك الذي يحمل لي كلّ يوم طاساً من الماء وقطعة خبز يابس، وقف أمامي في أحد الأيّام وقد أحسّ برائحة غريبة تفوح منّي. فاقترب ولمسني في الموضع الذي لففته بالحبل. وخرج من هناك وآثار دمائي على أصابعه. وما هي لحظات إلاّ سمعتُ وطء أقدام مسرعة وصاخبة. ينفتح الباب أمامي ويبهرني الضوء فلا أرى، لكنّي أسمع صوت رئيس الدير، الصوت الراعِد ذاته، ينقضّ عليّ. يقترب منّي وينهال عليّ بالضرب من جديد، ثمّ يلتفت إلى حزامي ويروح يشدّه لينزعه عنّي بالقوّة. لكن عبثاً حاول لأنّي أوثقتُ الحزام حولي بقوّة حتّى أصبح جزءاً منّي. إلاّ أنّ محاولات الرئيس زادت من تدفُّق سيلان الدم. وهذا ما ضاعف من غضبه فراح يضربني بيديه ويرفسني برجليه، وهو يجرّني نحو الباب ويلقي بي في الخارج طالباً منّي بأعلى صوته ألاّ يرى "خلقة" لي بعد اليوم.
طوال إقامتي في القبو المظلم حيث بقيتُ تسعة أيّام وتسع ليال متواصلة اكتشفتُ قدرتي على تحمّل الجوع والعطش. أدركتُ أنّني ابنٌ للضوء لأنّني ما حزنتُ لفقدان شيء ممّا على سطح الأرض حزني لافتقاد أشعّة الصباح تسرّ في عينيّ سرّ المكان الوافدة منه. نهضتُ عن الأرض وجسدي معفّر بالتراب. ورحتُ أمشي متهادياً مترنّحاً من التعب. مشيتُ طويلاً حتّى غاب عن وجهي الدير، وشعرتُ فجأة بأنّ ما جرى لي هناك كان مجرّد حلم. وتابعتُ سيري فوجدتُ صهريجاً خاوياً نزلتُ فيه. في اليوم التالي، مرّت قافلة بالقرب من الصهريج وسمعت أنيني. هو الأنين الذي يخرج منّي وأنا نائم. لكنّي أحبسه في صدري عند اليقظة. اقتربوا منّي وأخرجوني من ذلك الصهريج الملتهب ومرّروا قطعة قماش مبلّلة فوق فمي وكنتُ على آخر رمق. عندما عاد إليّ بعض عافيتي، توجّهتُ إلى تلّة عالية مكشوفة من جميع النواحي، وبنيتُ فوقها عموداً أقمتُ فوقه 37 سنة متواصلة. وفوق العمود أثبتُّ خشبة من 3 أذرع وربطتُ نفسي إليها بحبال حتّى إذا ما خارت قواي من الصوم المتواصل لا أسقط فوق العمود مغمىً عليّ وإنّما أبقى واقفاً طوال الليل واليدان مبسوطتان نحو السماء، منتصباً على مرأى من الجميع مرفرفاً في الأعالي. فلا تعود حياتي كحياة الآخرين ولا موتي كموتهم، أنا "الشهيد الأقدس الفضائي" الوحيد في تاريخ البشريّة ولا يمكن جمعي في تدوين أو كتاب.
لكنّي أنا الهارب من العالم، رآني أحد العابرين يوماً، فأدهشه ما رأى وذهب فأخبر أهله وأقرباءه الذين راحوا يتوافدون، الواحد بعد الآخر، لرؤيتي، فيندهشون ويخبرون بدورهم من يلتقون بهم. كان البعض يُذهل لرؤيتي على هذه الحال ويعتبر أنّني جُننتُ، والبعض الآخر يؤمن بي ويتقرّب منّي متباركاً. وهكذا أجدني، كلّ ليلة بعد أن يمضي الجميع، أعمل على جعل العمود أكثر علوّاً. وكلّما ازداد تدفُّق الجموع من حولي، وبعضهم كان يأتي من أصقاع بعيدة، عملتُ على إعلاء العمود حتّى بلغ طوله 17 متراً، وكان يقيني بعلوّه كثرة الحشود الباحثة عن خلاص. وبعضهم كان يأتي ليحلّ مشاكله عندي. فيلتقي أبناء قبيلة بأبناء قبيلة أخرى ويتشاجرون بعنف، فكنتُ أضطرّ، أحياناً، إلى تهديدهم من فوق العمود ونعتهم بالكلاب، وأحياناً أخرى كنتُ ألجأ إلى الصراخ كالمجنون لتفريق العابثين. ويأتيني أحياناً بعض الساخرين فيسخرون منّي، واقفاً كنتُ أم ساجداً. لاحقاً بنوا بقربي حظيرة ثمّ حظيرة ثانية لتمضية الليل. ولم يكتفوا باقتفاء أثري، بل راح بعضهم يقلّدني كالسعادين حتّى تحوّلت المنطقة من حولي غابة من الأعمدة، وبينها عمودي الأكثر علوّاً. وكان يزداد توافد الجموع بعدما بلغ الناس أنّي قادر على شفائهم من أمراضهم. ولستُ أدري كيف لمريض موجوع مثلي أن يشفي المرضى؟
لا جوع تحت الشمس.
جوع المدن أتعرفه؟ جوع المتاهة التي لا تفضي إلى أرض وإلى شجرة. النهدُ الفقير ممتلىءٌ بالحليب الفقير. يسافرُ المسافرُ وحيداً. يلتفتُ نحو السماء وينادي: أينَ أنتَ وماذا فَعَلتَ؟ ولماذا تركتَني؟ أنتَ يا من يَهبُ ناراً للبراكين، هَبْ ماءً لظمإي. هَبني لحظة سكونٍ واحدة بحجمِ الأرضِ والعالم.
(من كتاب "عين السراب"، دار النهار للنشر، بيروت 2000)
عيسى مخلوف
شاعر وباحث وإعلامي لبناني. يقيم في باريس منذ العام 1979. درس في جامعة - السوربون- وحاز منها على شهادة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية. وهو يعيش على مفترق بين الثقافات المختلفة، العربيّة والفرنسيّة والأميركيّة- اللاتينيّة. وقد نقل إلى العربيّة العديد من النصوص الأدبيّة والفكريّة من اللغتين الفرنسيّة والأسبانية. وهو من المساهمين في التعريف ببعض أوجه الأدب الأميركي- اللاتيني، وبالأخصّ بنتاج الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس.
من مؤلّفاته، في الشعر: - نجمة أمام الموت أبطأت - ، - عزلة الذهب - ، - هُيامات - (مختارات نقلها إلى الفرنسيّة جمال الدين بن شيخ ورافقتها ستّ محفورات للفنّان التشكيلي أسادور - )، و - عين السراب - . في البحث: - بيروت أو الافتتان بالموت - ، - الأحلام المشرقيّة / بورخس في متاهات ألف ليلة وليلة - (دراسة وترجمة)... ولقد أشرف على كتابين: - بلند الحيدري، اغتراب الورد - (بالعربيّة)، و - جبران الفنّان والرؤيوي - (بالفرنسيّة).
يعمل حالياً مسؤولاً عن - مدار الأخبار - في - إذاعة الشرق- في باريس، وكان عمل في صحيفة - النهار - ومجلة - اليوم السابع - وكان مشرفاً على القسم الثقافي فيها، كما عمل أستاذاً في - المعهد العالي للترجمة الخطيّة والفوريّة - في جامعة باريس الثالثة.ح