في عام 1987 حصلت على جائزة (بوليتزر) للشعر، فكانت بذلك ثاني من يحصل عليها من الأدباء والأديبات الأفرو ـ أمريكيين، منذ عام 1950 حين نالت الجائزة شاعرة سوداء بدورها هي غويندولين بروكس. وفي عام 1993 سُمّيت (أميرة شعراء) أمريكا... فكانت هذه المرّة أوّل من يحظى باللقب من الأديبات والأدباء السود، على امتداد تاريخ الولايات المتحدة. (أليس الأمر أوضح دليل على طبيعة السياسة الثقافية في هذا البلد؟) تساءلت ريتا دوف Rita Dove آنذاك، كأنها تشدّد على خطّ جديد/قديم في نسيج موضوعاتها الشعرية: علاقات الأسود والأبيض. غير أن ريتا دوف كانت ستصل إلى إمارة الشعر في كلّ حال، إنْ لم يكن في العام 1993 ففي العام الذي يليه، أو الذي بعده. وكان روبرت بن وارن قد تقلّد الإمارة في سنّ الثمانين، ولم يكن في وسع الولايات المتحدة أنّ تدفع المنصب بعيداً عن ريتا دوف بعد أن تقلّده أمثال جوزيف برودسكي ومارك ستراند. وإذا كان واجب أمير الشعراء في بريطانيا يدور أساساً حول (قرض) الشعر في المناسبات الملكية السعيدة (حفلات الزفاف، مختلف أنواع اليوبيلات، الولادات والترقيات الكبرى...) مقابل (جعالة) سنوية تتألّف من 70 جنيهاً بريطانياً وصندوق نبيذ، ليس أكثر (كانت هذه جعالة الشاعر الراحل تيد هيوز)، فإنّ واجب أمير الشعراء الأمريكيين أكثر ديمقراطية، وأشدّ تعقيداً، و...أجزي أجراً (35 ألف دولار). وبهذا المعنى يمكن الوقوف على أهمية تقليد شاعرة متميّزة (وامرأة شابة، سوداء، ومتزوّجة من ألماني أبيض!) أرفع منصب شعري في الولايات المتحدة مطلع التسعينيات، في طور يبدو فيه المشهد الشعري الأمريكي مزدحماً بقدر ما هو متماثل، ومضطرماً بقدر ما هو ساكن. لكنّ ريتا دوف كانت تستحقّ الإمارة، بامتياز وجدارة ووعد بتحقيق الكثير. ويكفي التشديد على أنها اليوم رائدة في جيلها دون أن تضطر إلي الإنفكاك عن أفضل تقاليد الشعر الأمريكي الحديث والمعاصر، وأنّ شعرها متورّط تماماً في وعي وطأة التاريخ على الوجدان الأمريكي حين ينفصل إلي أبيض وأسود، وأنّ مقاربتها في استعادة جذور الذاكرة الجَمْعية السوداء بدأت من إدراك المحلّي، وانتقلت إلي الإنساني، وتتسع اليوم لتشمل الكوني. والحقّ أن موقفها من التاريخ لا ينطوي على تعقيد بالغ، وينهض على إدراكها لحقيقتَيْن: أنها لم تُمثّل في التاريخ كامرأة وكامرأة سوداء تحديداً، وأنّ من عادة التاريخ أن لا يمثّل البشر العاديين. وهي تقول في هذا الصدد: (من الواضح أنني، كامرأة سوداء، معنية تماماً بمسائل العرق. ولكن من المؤكّد أنّ قصائدي لا تدور كلها حول حقيقة أنني سوداء! إنها قصائد عن الإنسانية، هذه التي يحدث أحياناً أن تكون سوداء)! وإذا كان شعرها يتناول أطوار العبودية وسيكولوجية الزنوجة، فإنّ واحدة من أجمل قصائدها تحمل اسم (البقدونس) وتروي قيام المستعمرين الأسبان بذبح آلاف المواطنين الهايتيين لأنهم عجزوا عن لفظ حرف (r) في الكلمة الأسبانية preemie (بقدونس). وشخصياً لا أجد حرجاً كبيراً في اعتبار ريتا دوف أوّل شاعرة سوداء تبني مكانتها اعتماداً على مكانة الشعر أوّلاً، وليس اعتماداً على مكانة الشعر وقد انقلب إلي بيان سياسي ضد العنصرية البيضاء. والحال أننا يندر أن نعثر على شاعرة أو شاعر أسود طوّر برنامجه الجمالي على غرار ما فعلته في الرواية أسماء مثل توني موريسون، أليس ووكر، غلوريا نيلور، ودافيد برادلي. وإذ يصعب على المرء استحضار اسم شاعرة أو شاعر أسود لم تنهض شهرته على استثمار مناخات النضال ضد العنصرية البيضاء أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات، فإنّ من الصعب أيضاً العثور على اسم كبير واصل تلك الشهرة بعدئذ، اعتماداً على معطيات البرنامج الشعري وحده. وريتا دوف تكتب القليل فالأقلّ من القصائد التي تتناول التمييز العنصري هذه الأيام، وتميل أيضاً إلي التخفيف من ــ أو تتفادى تضخيم ــ التوتّر بين حلقات الماضي وحلقات الحاضر. ولعلّ حرصها على برنامجها الجمالي (الذي يظلّ، رغم ذلك، إنسانياً وكونياً) هو الذي يزوّدها بيقظة فائقة تجاه الفخاخ التي تُنصب للكاتبة والكاتب الأسود: فخاخ الارتداد الأبدي إلي (ذات) سوداء سكونية، أو التقوقع حول هويّة سوداء غائمة، لا يُطمس فيها شيء قدر تلك التفاصيل العادية الثرّة التي ترسم معالم ذاتٍ إنسانية... يحدث أنها سوداء. ولأنها نجحت في تفادي العديد من تلك الفخاخ، وابتكرت عشرات الحلول الجمالية والفكرية والسيكولوجية لتحييد تلك الفخاخ، فإنّ شعرها أخذ يكتسب رحابة ثقافية كونية قلّما نعثر عليها عند مجايليها من الشعراء الأمريكيين. ولا يصعب على قارئها غير الأمريكي (في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية) أن يعثر على بعض رموزه واستعاراته وأساطيره، لا كما تبدو عليه اليوم فحسب، بل أيضاً كما بدَتْ ذات يوم في العصور السحيقة من عمر البشرية. وثمة سمة مركزية سائدة في معظم شعر دوف، هي خصوصية استخدامها للألوان (ليس الأبيض والأسود أوّلاً كما قد يظنّ البعض، بل الأحمر والبرتقالي والأزرق والأصفر) في سلسلة مدهشة من العلاقات اللغوية والصرفية والمجازية والتصويرية، وفي وظائف رمزية وأسطورية وفولكلورية متعددة. سمة مركزية أخرى هي الإيقاع الموسيقي الذي تحرص دوف على تحويله إلي سلاح أساسي من أسلحة القصيدة، وهي تقول عن دور الموسيقي في استقبال القصيدة: (الكلمات ليست وحدها سبيل القصيدة إلى إقناعنا، وكذلك ليس معني الكلمات، بل صوتها في أفواهنا، ومدى ما ترفعه أو تخفضه من ضربات قلبنا، ومقدار النَفَس الذي نحتاجه لقَوْل عبارة شعرية ما، ولماذا قد ينقطع نَفَسنا عند قول عبارة أخري، وما إذا كنّا في ذلك كله نمارس وظائف فيزيائية طبيعية أم نفعل ذلك لأننا ــ ببساطة ــ نقرأ الشعر). مجموعتها الشعرية الأولي (البيت الأصفر عند الزاوية) صدرت عام 1980 وتضمّنت موشوراً عريضاً من الموضوعات اللائقة بمشروع شعري متأهّب متوثّب: قصائد غزل، حكايات رومانسية، ترحال في الزمان والمكان، سياقات حُلُمية، وشذرات أخّاذة في امتداح تفاصيل الحياة في كنف أسود. مجموعتها الثانية صدرت بعنوان (معرض) (1983)، ولم تبدّل دوف موضوعات هذا الموشور العريض ولكنها (صبّرتها)، إذا صحّ القول، في (معرض لمحتويات الذاكرة وغبار الحرب والترحال بين الشرط والتاريخ). ثمة أسماك في الحجر، ونمل صاعد إلي سماء كورنثيا، وصبيّة اسكندرانية توبّخ الإمبراطور الروماني، وزوجة صينية تعلّم زوجها فنون الحياة، وثمة غنائية رهيفة لصيقة بالقصيدة أنّي ذهب موضوعها. وتخفيض صوت هذه الغنائية، ثم أخذه جهة الملحمة، سوف يكونان أبرز مشاغل ريتا دوف وهي تكتب قصائد مجموعتها الثالثة (Thomas and Beulah)، (1986) التي يعتبرها الكثيرون أهمّ أعمالها. وتوماس هو جدّ ريتا دوف، وبَعُولة (1) هي جدّتها، والقصائد تروي حكايتهما مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ مطلع القرن، في حلقات شعرية ـ حكائية، مترادفة ومتشابكة وبانورامية، تُروي في قسمَيْن: على لسان الجدّ أوّلاً، ثم الحكايات ذاتها من منظور الجدّة. وقد أصدرت دوف بعد ذلك الأعمال التالية: (الأحد الخامس) (1985) وهي مجموعة قصص قصيرة، (هوامش الحُسْن) (1989) مجموعتها الشعرية الرابعة، (عبر البوّابة العاجية) (1992) وهي روايتها الأولي، بالإضافة إلي مسرحية بعنوان (وجه الأرض الأكثر سواداً) (1995). في أرض قصيّة قصيّة حيث الرجال رجال والنساء شمس وسماء، يتمشّي ملك الثلج. والضوء يسدل غشاءً ذهبياً على الفضاءات البيضاء حيث تستلقي عصافير الدوري متجمّدة في مداخل الأروقة. وها هو يبكي على عصافير الدوري، ذات الأجنحة المطبقة: أين الصيف الذي يدوم أبد الدهر، وأين الليل النديّ كعين الظبي؟ يجوس ملك الثلج الفضاءات المحشوّة بالمِلاط الأبيض، وقلبه المشقّق نارٌ بطيئة، وعقيق أحمر. في الجِوار العتيق، كلّ جنازة رواق وكلّ رواق أتقَنُ صنعةً من سابقه. الأزقّة تعبق بروائح الشرطة، وبالمسدسات المرتطمة بالأفخاذ، كلّ حجرة مسلّحة برصاصة زرقاء ناعمة. شُرفات رخيصة الأجرة، ترتصّ صاعدة نحو السماء. ولدٌ يلعب الغمّيضة مع قمرٍ وَخَطَتْهُ هوائيات التلفزة، والأحلام التي ابتلعها حبّة فاصوليا زرقاء. تشرّشُ في أحشائه، تنبتُ وتصعد إلي الأعلى في شعبتَيْن، الدوالي تتجعّد حول الجوارب، وتحكم إغلاقها. وهذه السماء، المنعقدة مثل ربطة عنق سوداء؟ ورجل الدوريّة، غير مكترث، يقبض على كلّ حبّات الفاصوليا. شهر آب. الأمهات يومئنَ ماضيات، يحملنَ قلباً شائكاً علي كمّ القميص. أُبرهنُ على نظرية فيتّسع البيت: النوافذ تتخلّع لتحومَ عند السقف، والسقف يطفو مبتعداً، متنهداً. وإذْ تحرّر الجدران نفسها من كلّ شيء ما خلا الشفافية، يستعدّ أريج القرنفل للمغادرة معها. وأنا أقف في العراء وفوق النوافذ أقعَتْ فراشات هي ضياء الشمس المتلألئ، منقسماً إلي شرائح. إنها، كلّها، تسافر إلي نقطة ما، حقيقية ولكن لا يمكن البرهنة عليها. (آن الأوان لكي يتحرّك الإنسان، أو يظلّ عبداً إلي الأبد). في الثانية، أخلدتْ باحة الحظيرة إلي سكينة رهيبة ــ تلألأَ السندانُ، ومضخّة الماء كأنّ كلّ شيء كان في انتظار وصول الخطوة الأولي. خطَتْ داخلةً إلي العراء. الريح ارتفعت ــ وراءها، والحقول نشرت أشرعتها. (ثمة نجمة هناك في الأعالي، وطُحلب على الأشجار). اكتشفتْ أنها تستطيع السير أبد الدهر، إذا حافظت على خطوٍ ثابت. أعجبتها الفكرة، فدندنت نشيداً لنفسها. ولاحَ أنها كلما أوغلت صوب الشمال، زادتْ حريّتها أكثر. كانت النجوم أطباق لحم طيّب المذاق؛ ولو أنها وصلتْ، فلعلّ النجوم ستلتمع منقلبة إلي قِطَع نقود. هدوء بارد. تدافَعَ الليل فوق التلال. الغابات هَسْهَسَتْ بأعشابها القصيرة ذات الرؤوس الصوفية الصغيرة. أحسّت أنها كبيرة، أكبر من هذه الظلال الصديقة التي، مثل السنجاب، لا تدنو إلا بمقدار. كانت ركبتها غارقة في عناقيد العنب حين راقبَتْهم يجيئون، قاصفين أغصان الأجمة. إنهم يبتسمون والبنادق مصلّبة على صدورهم. سارتْ وحيدة، كما تفعل كلّ صباح. لها الممشى الجانبي الضيّق، ولها عمود القنديل المتآكل. القبّرات أرعَشَتْ هواء المشمش. والصلبان الشائكة على مَدّ السماء، وهالات الغبش حول مصابيح الشوارع ــ ذكّرَتها بيسوع على مذبح مُمَوّهٍ وتذكّرتْ ماما، تصلّي بمريلة زرقاء. أين كانت ساعات منتصف الليل، ساعات الفُسوق الزيتية؟ امرأة ذات أطراف صلبة، شقراء بإبطَيْن سوداوين ــ أين كانت، ما خلا أنها تجيء أبداً من قلب الزمهرير؟ كاترين الإسكندرانية محرومة من التعلّم، ومن فرصة السفر، لا عجب أن القداسة جاءت على هيئة صوت إلى سريركِ ــ وما كان يجري بعدها كلّ ليلة كان لا يليق بآذان أخري سوي أُذنَيْ يسوع. سوي نَفَسه الليلكي. عذابه اللولبي. كلّ صباح كان قميص الليل ينتفخ أعلي خصركِ ــ إنه وعدٌ مصان، وخاتم حليب. (2) كاترين إبنة سَيّينا قطعتِ طول إيطاليا سيراً على الأقدام للعثور على مَن تحادثينه. كسّرتِ الجُلمود على مفارق الطُرُق لأنّ للقدر أبوابه في كل حدب وصوب. وتحت قبّة السماء المغسولة بالنجوم الدافئة والمظلمة مثل المنسوجات الصوفية المتكدسة على رفوف خشب الأرز، هناك في الموطن، في دكّان أبيكِ. صلّيتِ حتى خطّت الدموعُ شرائطَ في السماء. لا أحد تعثّرت خطاه على طريقكِ. ولا أحد أرخي قبضتَيك حين تنامين. (3) |