في الشعر عفوية، لكنها عفوية مصنوعة، وليست تلقائية بالمصادفة. هي ممارسة لفن الإهمال الذكي، هي عفوية لا يمكن وصفها وبالتالي لا يمكن تعليمها. يمكن لتعليم الشعر أن يكشط قشرة موهبة دفينة، فيجعلها تتفتح في أفق من المحبة والحرية، تماما كما يمكن للتهميش والمصادرة المبكرة أن تقمع الموهبة أو تجعلها سجينة الإحساس غير قادرة على الترجمة إلى لغة. لكن لا يمكن خلق الموهبة من عدم، كما لا يمكن القضاء على الموهبة الشعرية نهائيا، وإن أمكن مصادرة حريتها في التعبير. فالشعر تعبير عن فرادة في البرمجة اللغوية العصبية، تجعل صاحبها شديد الحساسية للكلمة ومرادفاتها، وتاريخها أيضا، على حساب حساسية الصورة، ولذلك هو ضرب من الجنون.
يشترك مرضى الاكتئاب والشعراء بالتأكيد نفسيا في الحساسية اللغوية وإحالة المفردة إلى ما يشبهها صوتيا، الفرق أن الشاعر يدرك ذلك، هو واع لموهبته، وقادر على تطويرها وإزاحة ما هو غير ضروري من إنتاجها، يمكن القول أن الشعر هو جنون تحت المراقبة، بينما الجنون هو تدفق تلقائي للمفردات، مجاني بائس وموحش في اغترابه عن العالم. لكي نتأكد من العلاقة البيولوجية بين الجنون العاقل والعقل المجنون، علينا ملاحظة التاريخ الصحي الوراثي لعوائل عدد من الشعراء، وسنجدها تحفل بمرضى اكتئاب انحرف بهم جين الموهبة فمنحهم الجنون، بينما أصاب الجين في إخوة لهم فمنحهم الشعر.
المواهب التي تعرضت لسوء الفهم مبكرا، اختفت بضغط الخجل أو التحول لحقول أخرى، لكنها قدرتها على التذوق، مثلا، أو على اصطياد لوامع المعنى، أو احتفائها بالفن، كلها مظاهر تبرز كلما سنحت المناسبة، وبالتالي فهم أحياء من خيالهم يرزقون.
لعلنا لولا هذه المواهب الأقل حظا، لم نجد اليوم من يقرأنا أو يستمتع بقصيدنا. قراءنا الأكثر إحساسا بنا اليوم هم غالبا شعراء فشلوا في قول الشعر مبكرا، فاستعاضوا بتذوقه. أشدد هنا على كلمة (مبكرا) ذلك أن الموهبة الشعرية من الخطورة بحيث أن القمع المجتمعي أو التعليمي أو الإيديولوجي لا يجدي معها إلا إذا كان مبكرا وفي بداية طلوعها، تماما كالسرطان، أما إن شبت الموهبة عن الطوق، فقد فات أوان دفنها أو تشويهها إلى الأبد.
هذا الوعي الذي يميز الشعراء عن المرضى هو في الوقت ذاته مشكلة الشعر.
عودة إلى العفوية الضرورية لأي نص شعري يريد أن يبتعد عن الذهنية الباردة ويقترب من نهر العاطفة الدفيء، يصبح الشاعر هنا أمام سؤال حيوي جدا، وهو يبدع أكثر فأكثر بقدر ما يتمكن من الإجابة على هذا السؤال. طبعا لا أتحدث هنا عن الإجابة بوصفها (جيم) بإزاء (سين) بل عن صدور النص الشعري على خلفية هذا السؤال وهو: كيف يمكن أن يكون الشاعر عفويا وصانعا في الوقت نفسه؟ وبحيث لا تأخذه الصناعة للذهني ولا تأخذه العفوية للمجاني؟.
مرة أخرى هذه الأمور من الأشياء التي لا توصف بل تعرّف بالقرائن والنظائر الأخرى. إنها أشبه بقول الله تعالى لموسى (انظر إلى الجبل فإذا استقر مكانه فسوف تراني).
ومن أحلى النظائر التي يروق لي مضاهاة العفوية الشعرية بها، مكائد الأحبة وأحابيل العشاق. تخيل الشراك اللذيذة التي ينصبها العشاق (النساء غالبا) للإيقاع بالمعشوق، مثلا سقطة مصطنعة، مكالمة (خاطئة)، التمارض، إسقاط علبة سجائر، أو افتعال حادث تصادم بسيط لا يجرح ولكن لا يفوت، إنها نصوص مصنوعة بجهد كبير، يُبذل معظمه لإخفاء الصنعة وإظهار الإيقاع الطبيعي للأشياء.
مثل ذلك أيضا، تصميم تسريحة عابثة على وجه فتاة، لتبدو كأنها غير مكترثة بالحياة، بوهيمية شيئا ما، أو تصميم قطعة ممزقة (طبيعيا) من لباس الجينز، أو إلقاء إطارات الدراجات القديمة وصغار الحصباء في أسبلة المراكز التراثية لتبدو أكثر بساطة وإهمالا.
ذلكم هو تحدي الشعر الأكبر. تصغير القضايا العظيمة وتعظيم القضايا الصغيرة، حتى أن أهم ما يلفت الشعر في مشهد الحرب مثلا، هو نافذة لم يسعف الوقت أصحابها لإغلاقها كاملة قبل الهروب.
هكذا يصف محمود درويش فقد وطنه كحادث مروري:
صباح الخير يا ماجد صباح الخير / قم اقرأ سورة العائد وحث السير / إلى وطن فقدناه بحادث سير
وهكذا يعبر الناس على أشياء قيس في مجنون قاسم حداد:
خيط حرير أخضر، عود سواك يابس، خرجٌ ثقبته الريح، جزء ((عم يتساءلون))، عرق لبان.
إنها لغة توشك على الصمت. تلك العفوية التي أنا على استعداد لفعل أي شيء بما في ذلك الموت، للظفر بلمحة منها.
هذا ما أعنيه بالقول ((إن القصيدة تكتبني))، رغم أني بتُ أكره هذه العبارة لابتذالها في أكثر من لقاء على لسان أكثر من شاعر غير (شاعر) بأنه يكرر قولا معادا حتى الملل.
لكن هنا أقول، تكتبني، لأنها كحبيبة لا أكاد أذكر ملامحها، كانت تنصب لي المجازات، فتلقي مشطا أو خرزة، وأنا ألعب الكرة ظهرا عائدا من المدرسة أمام نافذتها الخشبية. أو كأخرى ترفع عباءتها لكي (لا) تغطي شعرها بشكل أفضل.
عفوية لن أصفها بأكثر من إنها باختصار بكارة المعنى التي كانت دائما هناك هرمة بما يكفي لتكون درسا وحكمة، ولكننا اكتشفناها الآن فقط، ونحن نظنها خطأ بكارة، ونحن نعلم بل نتلذذ بأننا مخطئون.