-1-
عندما توفي ناصر بن مرشد (1624 1649) كان البرتغاليون لا يزالون يحتلون ويتحصنون بقلعة مسقط، معقلهم الكبير في عمان. فلقد حاصرهم هناك هذا الإمام اليعربي بعد توحيده لأغلب نواحي شبه جزيرة عمان، ولم ينتج عن هذا الحصار إلا صلح مشروط اعتبر بمثابة الانتصار للعمانيين حينئذ. بعد وفاة ابن مرشد نقض البرتغاليون ذلك الصلح، فجهّز خليفته سلطان بن سيف (1649 1988) جيشاً كبيراً لاستعادة مسقط. ونظراً للتحصينات البرتغالية فإن تلك المعركة سرعان ما تحولت إلى حصار طويل الأمد. هنا، وكما تقول الحكاية التاريخية، حدث أمر لم يكن في حسبان أي من العمانيين.
فالوكيل التجاري للبرتغاليين في مسقط كان هندياً هندوسياً يُقال له نروتم، وأثناء ذلك الحصار، نشب بينه وبين القائد البرتغالي خلاف ذو طبيعة خاصة.
وعلى الأرجح فإن ذلك البرتغالي كان على علاقة مع ابنة التاجر الهندي، وعندما تقدم للزواج منها طلب الأب مهلة كي يفكر بالأمر. انه ممتعض من هذا الزواج، فإدارة شؤون البرتغاليين المالية شيء، وخرق تقاليده الدينية التي تُحرم مثل هذه الصلات شيء آخر.
لكن مصارحة القائد البرتغالي بالرفض ستجر على الهندي وتجارته عواقب صليبية. بهذا الدافع فكّر التاجر حسب قناعة مؤرخي تلك الفترة بالاتصال مع الإمام العماني الذي ما زال يحاصر القلعة، حيث اتفق معه على اختراق التحصينات يوم الأحد العاشر من رجب عام 1059ه (1650م)، أثناء عملية استبدال للمؤن والعتاد، وفي اليوم الذي كان فيه الجنود ينعمون بثمالة الأحد المقدسة.
استعادة مسقط كان نهاية استعمار برتغالي لمنطقة عمان والخليج استمر لأكثر من قرن ونصف، أمّا عن التاجر الهندي فلم يكن الوحيد في المنطقة. فلقد امتلأت أسواق هرمز قبل دخول البرتغاليين إلى المحيط الهندي بالتجار الهنود، واستمرت دفعاتهم على حلقات تزداد اتساعاً وكثافة حتى الآن. وتحفل الحكايات الشعبية في الخليج بالتاجر الهندي المسمى "بانيان"، ودراسة موقع هذه الشخصية في تلك الحكايات، قد تكشف عن النفسية التي تعامل فيها الإنسان هنا مع حضور كهذا.
إننا لم نذكر هنا الآثار القديمة التي تكشف عن صلة وثيقة بالوديان الاركيلوجية الهندية، ولا عند البعد الهندي إذا صح التعبير في حكاية السندباد البحري الخالدة. كما وصلتنا أدبيات مدوّنة عن الرحلة للهند، والتصور العربي للهند من تجار وبحارة خليجيين في سيراف وغيرها.
وحين نتحدث عن التجارة بين الخليج والهند فإننا نتحدث بالضرورة عن قائمة الطعام، عن طبخات الأرز (الذي يُسمّى عيشاً في الخليج) وعن القمح والشاي والبهارات وغيرها. كذلك فإننا نتحدث عن الملابس والزينة، وعن المحصول الأثمن حتى وقت قريب: اللؤلؤ، سيرته، تاريخه وعلمه، علوه وانهياره.
اليعاربة بدورهم لم ينته أمرهم مع الهنود، ولا مع البرتغاليين عند حصار مسقط. فلقد طاردوا الغزاة حتى الهند حيث كانت تنتشر في تلك الفترة العديد من التمركزات الاستعمارية الرئيسية لهؤلاء على طول سواحل الهند وجنوب آسيا.
إحدى الغزوات الكبيرة التي نفذها اليعاربة ضد البرتغاليين في الهند كانت على موقع يُسمَّى الديو قريباً من خليج بومباي (1670)، ويُقال بأن غنائم العمانيين من مثل هذه الغزوة هي التي مكنتهم من بناء قلعة نزوى التي ما زالت مهيبة في المدينة العمانية.
حين يتحدث المؤرخون عن الغنائم التي تبني قلعة، فإن تفكيرنا يتجه، على وجه التحديد، نحو الأخشاب الهندية التي لم تستخدم فقط للقلاع ومنازل علية القوم، وإنما للسفن أيضاً. فاليعاربة إذا كان يتذكر ذلك أحد بنوا اسطولاً بحرياً من السفن الشراعية وغيرها، كان يعد وقتها رابع أسطول بحري حربي في العالم، وحتى انقراض آخر سفينة خشبية من الخليج، فإن حياكة من هذا النوع تعبر عن خيوط صلة عميقة بين هاتين الضفتين من المحيط.
وقريباً من الأخشاب أيضاً، فإن سيف بن سلطان الأول (1692 1711) قد لقب بقيد الأرض، لأنه أصلح الري والأفلاج ونظمها مطوراً الزراعة، كما طور الأسطول البحري التجاري. ويُقال بأن الإمامة اليعربية في عهده امتد نفوذها السياسي عملياً حتى وادي اندس في الشرق.
"قيد الأرض" هذا، وأثناء انشغاله بالزراعة في عمان، أدخل إلى هذه الأرض أشجاراً ونباتات جديدة لم تكن معروفة من قبل كالزعفران والقهوة وغيرها. وعلى الأرجح فإنه من ادخل المانجو أيضاً، لأن تسميتها المحلية: "الهنبا"، تشير إلى تربتها الهندية الأولى.
-2-
في رأس الخيمة عام 1721م، نظم محمد بن صالح المنتفقي قصيدة طويلة يرثي فيها بعض الصوفية الحضارمة. وكان منهم العلامة السيد علي بن عبدالله العيدروس الذي ولد في حضرموت، لكنه قضى حياته، أغلب حياته في سورت الهندية معلّماً في حلقة دينية وصوفية بين جالية حضرمية كبيرة (كانت وما زالت)، وظلّ كذلك حتى توفي هناك ليرثيه المنتفقي بعد ذلك. من تلامذة علي بن عبدالله، رجل يدعى علي بن مصطفى بن علي العيدروس، وولد هو الآخر في حضرموت، وسافر إلى الهند، إلى سورت بالذات، وهناك لازم حلقة علي بن عبدالله، "متلقناً منه علوماً كثيرة".
لكن ما كان ينتظر علي بن مصطفى كان شيئاً آخر. ففي سورت تعرف إلى ابنة سلطان المدينة، وتزوجها (ينبغي علينا هنا تذكر الزواجات المتواصلة بين الخليجيين والهنود) مما حول "مظهره القديم الباهت إلى مظهر الوجهاء والأمراء المثرين، وقد قوي لسانه في اللغة الهندية والرطانة بها كأحد أفرادها".
بعد سنوات عاد ابن مصطفى إلى حضرموت فاستقبلته المدينة استقبال الفاتحين والأمراء و"أعظم المثرين". إلا انه ارتضى ترك كل مظاهر الدنيا، وملازمة القطب الصوفي الكبير عبدالله الحداد (أحد من رثاهم المنتفقي في القصيدة المذكورة أعلاه)، "مع اقتناء الدور وغرس النخيل وبناء المساجد وإقامة قباب الصوفية ورعايتها".
وقبل ان يموت عام 1713 عتق اماءه وأرقاءه "موقفاً عليهم أوقافاً يكفي ريعها لمؤونتهم ومعاشهم مدى الحياة". وقد كثر المادحون له في حياته و"في كل مكان"، كما "رثاه جماعة بمراث مؤثرة".
-3-
في عام 1836 ولد في الكويت الشاعر عبدالله الفرج، لكن ومنذ صغره أخذه والده كي ينشأ في الهند.
تعلم هناك الهندية، وتعلم الانجليزية، وكذلك تعلم.. الموسيقا. فأصبح شغوفاً بدراسة أصولها. وعندما عاد بعد ذلك إلى الكويت، تغير حال "فن الصوت" تماماً. يكتب الباحث الموسيقي يوسف الدوخي: ".. لقد احتفظ تاريخ الفن الكويتي باسم الشاعر الفنان عبدالله الفرج بوصفه أول رائد وضع أصول الموسيقا الكويتية، لقد تلقى هذا الفنان الشاعر دراسة واسعة في الموسيقا بحكم نشأته في بومباي بالهند، وكان بجانب ذلك يحضر مناظرات الأدباء والفنانين المهاجرين من حضرموت واليمن، وكان يسمع منهم بعضاً من الأغاني والضروب العربية القديمة، وبعدما نفدت ثروته لكثرة مصاريفه وعدم استفادته من التجارة، وعدم اشتغاله بها رجع إلى الكويت، وفيها استطاع ان يولد الفن الكويتي المعروف بالصوت، فكان ان اتخذ من تلك القاعدة منطلقاً إضافة لمعرفته ومعلوماته، فأصبح فنه فناً قائماً بذاته يختلف عن فن اليمن أو غيره من الفنون".
ثم حكاية تؤسطر هذه البداية، وتضفي بعداً آخر على الجهد التنويتي والتدويني الذي بذله الفرج. تقول الحكاية: ان الفرج كان يعشق فتاة في الهند، وكانت الفتاة تصده. ماذا يفعل العاشق يا ترى؟
في كل مساء، كان العاشق يجمع البحارة القادمين من الخليج، يحملون الأدوات الموسيقية المتوفرة والطبول.. وربما بعض الأواني ويذهبون ليجلسوا تحت شرفة الفتاة يغنون حتى الصباح.. ومن هنا، كما تقول الحكاية، ولد فن الصوت، "الكويتي"، الجديد.
ربما كانت عشيقة الفرج، في الحكاية، راقصة. تماماً كانديرا، الراقصة الهندية التي تغزل بها الشاعر صقر القاسمي في إحدى قصائده.
ابنة الشاعر، ميسون صقر، وفي مجموعتها الشعرية الأخيرة: "رجل مجنون لا يحبني" كتبت قصيدتين عن انديرا. في القصيدة المعنونة: "مشية على أطراف الأصابع" تكتب ميسون مخاطبة انديرا:
"أفضلُ لك ان ترقصي
كي يتبدد العالم بقدمٍ ودُفّ
أفضلُ ان تدوري
كي يستوي برقصة"
العالم يهتز في أعماقهم من الرقص الهندي، أولئك الذين كانوا يتسربون من المدارس، أو يجمعون الدراهم من مصروف جيبهم النادر كي ينسلون إلى القاعات المظلمة في السينما الأولى. في الشارقة أو خورفكان أو العين، منغرسين في المقاعد الخشنة وهم يلهثون وراء أقدام البطلة راكضة في مراعي الأحلام الشاسعة.
-4-
في عام 1856 عاد الفرج إلى الكويت، وقبل ذلك بعام ولد في مكة عبدالرحيم العسيري (أو الحجازي أو اليماني)...
ارتحل عبدالرحيم إلى الهند، وفي عام 1913 زار البحرين، ولم تكن هذه زيارته الأولى على كل حال. ولكن في هذه المرة تعرّف إلى فنان شاب حينئذ يدعى محمد بن فارس.
بعد التعارف، تكررت لقاءاتهما، و"اعجب" -كما يكتب مبارك العماري- "محمد بن فارس بعزف عبدالرحيم على العود الذي كان مغايراً للمألوف بين المطربين الشعبيين في الخليج آنذاك، حيث كان عزفهم رتيباً ومتأنياً، بينما عبدالرحيم يتلاعب بالأوتار بطريقة غريبة أعجبت محمد بن فارس وصار يدرب نفسه عليها، كما أخذ ينقل منه نصوص الأغاني التي يستمع إليها، ثم يشرع في ادخال التحسينات والتجديدات على ألحانها لتظهر في ثوب جديد غير ذلك الذي سمعه من عبدالرحيم، أو ما ألفه الناس في الخليج".
وفي يوم من الأيام، كان قاضي البحرين الشرعي جالساً على دكة قرب بيته مع زواره، فرأى امرأة تمر في السكة ثم تدلف إلى الغرفة التي يقطنها عبدالرحيم، بعد ان سمعت عزفه على العود وأخذ منها الطرب والعجب مأخذه، فما كان من القاضي سوى رفع الأمر إلى الحاكم، "وقال انه يخشى ان ينتشر الفساد في البلاد بسبب عبدالرحيم وأمثاله، وبالطبع استجاب الحاكم لطلبه لأن الأعراف والتقاليد في مجتمع البحرين آنذاك تجعل الناس تنظر إلى المطرب بشيء من الاحتقار والازدراء".
على اثر هذا، امتطى عبدالرحيم الباخرة وقفل عائداً إلى الهند. بينما "بقيت ذكراه ومودته عالقة في ذهن ابن فارس حتى ان الكثير من جلسائه يسمعونه حين يستبد به الطرب وهو ممسك بالعود، يصرخ: عاش عبدالرحيم".
في عام 1922: محمد بن فارس غدا مطرب "صوت" معروفاً ومشهوراً. يدخل بومباي. يجد تجار الخليج وعرب جنوب الجزيرة مقيمين هنا. ويجد المطربين .. والملاه العربية ومقاهٍ يتجمع فيها البحارة.
أحد الأثرياء العرب ويدعى خالد المشاري يقسم عليه أن قيم عنده طالما هو في بومباي، وفي المنزل المشاري التقى ابن فارس بالتجار كما التقى بالأدباء مثل: عبدالله الزايد (المتوفى عام ،1945 وصاحب أول مطبعة وأول جريدة في البحرين) وقاسم الشيراوي. بحث ابن فارس عن عبدالرحيم فوجده. لم يعرف الكثير عن هذا اللقاء لكنه كان الأخير.
في عام 1935: مطرب الصوت المعروف: محمد زويد توفي عام ،1982 وأحد تلاميذ ابن فاس يزور أستاذ أستاذه فالذين عرفوا عبدالرحيم في البحرين "لا يترددون في زيارته إذا ما وصلوا بومباي" لأنه "يعقد لهم جلسات السمر ويأنس بهم" لكن زويد بالذات لم يلتق عبدالرحيم في البحرين.
محمد زويد وربعه ذهبوا لعبدالرحيم في بناية محبوب بسوق راج كومار مقابل سوق الخضار، واللحم والدجاج، رأوا الافريزات أو الرواشن في غرفته مليئة بالكتب، ورأوا أيضاً دولاباً به زجاجات بها أدوية مختلفة، حيث إن عبدالرحيم يمارس الطب الشعبي كذلك.
في مرة ثانية اصطحب زويد إلى بومباي رجل يدعى عبدالله الطبعان. وظل يتردد على عبدالرحيم الذي صار شيخا طاعناً في السن. زويد "مكث عدة أيام يدعو خلالها عبدالرحيم لزيارته في موقع سكناه في غرفته التي قسمها إلى قسمين بستارة من القماش، وحينما يغني عبدالرحيم كان محمد زويد يجالسه ويشاركه الغناء بينما يقوم عبدالله الطبعان بتدوين النصوص من خلف الستارة دون علم عبدالرحيم".
-5-
في عام 1901 ينوي الفقيه المتأثر بالطريقة الرفاعية الصوفية والنظام محمد بن حمود الشحي الحج، يركب باخرة من دبي، على الأرجح، ولكنها تمر على بومباي قبل الاتجاه من هناك إلى جدة.
يتعرض الشحي للمدنية في الهند، فيقول:
وأهل الهوى واللهو في كل محفلٍ |
| | ترى الجهل منهم في ارتكاب المناكر |
ولا ناهياً عن منكرٍ ورذالة |
| | كما البُهم تمشي حافراً بعد حافر |
فما همهم إلا الدراهم والغنى |
| | ولا شغلهم إلا حساب الدفاتر |
فكنت بها في محنة وكآبة |
| | وفي ضيق أحوال وتنكيد خاطر |
ولم يخرج الشحي من هذا الضيق إلا رجل فصيح بليغ يدعى إبراهيم بن محمد اعتنى بالحاج وأكرمه.
منازل تستقبل التائهين كانت كثيرة في الهند، فعبد الرحمن المدفع تاجر لؤلؤ من الشارقة حول منزله إلى دار ضيافة لأهل الساحل طول مدة إقامتهم في بومباي، وهناك غيره كثر.
فبومباي على الأخص استقطبت التُجار، وهؤلاء فتحوا محلات، واستملكوا عقارات، وتزاوجوا مع الهند، فكونوا عائلات: آل البسام، آل إبراهيم، آل القصيبي، آل القناعي .. الخ.
أولاد الأعيان والتُجار يرسلون من الخليج إلى الهند للدراسة (... في جامعة عيلكرة مثلاً)، وآخرون يذهبون للعلاج، إضافة إلى تجار ودلالي اللؤلؤ: سعيد النومان من الشارقة على سبيل المثال.
سعيد النومان هذا ذهب إلى الهند أصلاً لدراسة اللغة الانجليزية برفقة أخيه، فتحدث إضافة إليها: الأوردية والكجراتية والفارسية والمراتية، الاصلاحي محمد زينل انشأ مدارس كثيرة في الهند، وفي الجزيرة العربية بما فيها مدرسة في دبي ولحماية مصالح التجار الخليجيين فتح صلات مباشرة مع مراكز بيع اللؤلؤ في باريس ولندن، حميد بن كامل تاجر من الشارقة كان مقيماً في بومباي ارتحل إلى باريس، عند انهيار أسعار اللؤلؤ، وضاع لفترة هناك.
ولأنه فتحت مدارس عربية في الهند فتح مايوازيها في الخليج، وفتحت أندية ثقافية في الهند، وفتح ما يقابلها في الخليج، فالبحرين، كما تكتب نورة القاسمي، أصبحت "محور التقاء الثقافة الشرقية الإسلامية في الهند بالثقافة الإسلامية الإصلاحية في مصر، وأثمر ذلك الالتقاء تأسيس نادي إقبال أوائل ،1913 ثم جاء النادي الأدبي بعد ذلك بعشر سنوات".
قريباً من هذا: "أسس المنتدى الإسلامي في الشارقة بين عامي 1910 -،1915 ومن هنا احتضن التجار وقد كونوا ثروات طائلة، الإصلاحيين والمعارضين: أبرزهم المعارض البحريني عبدالوهاب الزياني الذي استمر في حملته ضد مشيخة بلاده، كاسباً مؤيدين كثراً من العرب والهنود، حتى أن محمد علي جناح مؤسس الباكستان تفرغ للمحاماة والدفاع عنه وظل في حملته تلك حتى وفاته في بومباي عام 1925.
وكان ينفى للهند أو يزورها كثير من القيادات العربية: طالب باشا النقيب قضى بعض سنوات حياته فيها، حينما نفاه البريطانيون عام 1915من العراق، وزارها: رشيد رضا (1912) وحافظ وهبة (1913) ومحب الدين الخطيب (1915) وأمين الريحاني (1923) وعبدالعزيز الثعالبي (1923 - 1936) ... الخ
-6-
في عام ما من مطلع القرن العشرين وقفت بارجة حربية بريطانية أمام ساحل أم القيوين، وكانت هذه البارجة في الحقيقة لا تخوض حرباً مع الأشباح وإنما تطالب بتسليمها رجلا واحدا لا غير كان هذا الرجل هو عالم الدين المتشدد والناظم: محمد بن حسن المرزوقي:
حاكم أم القيوين في تلك الفترة راشد بن أحمد المعلا (من 1904 إلى 1922) رفض تسليم المرزوقي، ودفع غرامة مالية كبيرة للعفو عنه. ولم يتوقف احتضان الشيخ لهذا الداعية الحاد عند هذا، بل وكان المتكفل بطباعة كتيباته الصارخة في دلهي في الهند.
ليست كتيبات المرزوقي وحدها ما طبع في الهند، الاصلاحي الشيخ مانع بن راشد المكتوم نشر في مطبعة بومباي العربية عام 1914 خريطته عن مغاصات اللؤلؤ في إحدى زياراته إلى هناك التقى الشيخ مانع بعبدالعزيز الثعالبي ودعاه لزيارة دبي. جاء الثعالبي وتحولت هذه الزيارة إلى تظاهرة لا تنسى.
ليست خريطة مانع وحدها. طبع في الهند أول ديوان للماجدي ابن ظاهر. ليس ابن ظاهر وحده، فالشاعر الدبوي خلفان بن يدعوه طبع ديواناً له في الهند، ولم يصدر له بعد هذا الديوان عمل آخر هنا في وطنه: الإمارات. وحتى الآن.
لطاغور صورة فوتغرافية وهو في الإمارات: ومنذ ان افتتحت قناة السويس بدأت الكتب والمجلات الصادرة في مصر تصل إلى الخليج عن طريق الهند. هكذا كان يتابع سالم بن علي العويس أو مبارك الناخي أو إبراهيم المدفع الإصدارات الجديدة.
مع الكتب والصحف وصلت الأقلام والأوراق كذلك كانت الطاولة معدة كي يجلس أبناء الشفاهية والفقر والظلام أمام سبورة نور السوداء.
-7-
عندما وصل الراديو إلى الإمارات، امتلكه بعض الاعيان، أو وضع في المقاهي.
في أحد مقاهي دبي كان يجلس الزبائن، وبجوارهم القدو (نارجيلة البحارة) ويستمعون عبر المذياع إلى القسم العربي في إذاعة عموم الهند دلهي.
الصوت الذي يسمعونه، يعرفونه جيداً. انه صوت الشاعر: أحمد بن سلطان بن سليم الشاعر، وربما أول مذيع من أهالي المنطقة.
كان ابن سليم لا يزال طالباً حينما دبج قصيدة ترحيبية بمناسبة زيارة عبدالعزيز الثعالبي إلى دبي عام 1924. الثعالبي قال لابن سليم: "يا بني لا تنس انك شاعر عربي شاب. وينبغي ان يشمل شعرك من المعاني كفاح أمتك من أجل الاستقلال والتقدم".
أثر ما قاله الثعالبي عميقاً في ابن سليم فقال قصائد نهضوية فصيحة عرفت وانتشرت على نطاق واسع في شبه جزيرة عمان. ولظروف غير واضحة اضطر ابن سليم إلى مغادرة دبي إلى الهند في عام 1938 أو 1939 وبقي فيها ما يقارب العشر سنوات أو أكثر.
قال ابن سليم في فترة النفي هذه قصائد عامية وفصيحة يشتكي فيها من فرقة الأحباب والبعد عن الوطن.
عاد ابن سليم إلى الإمارات عام ،1948 وكان في التشكيلة الوزارية الأولى لاتحاد الإمارات. وبعد ان توفي عام 1976 لم يجمع أحد أعماله الأدبية، واختفت عنا، نحن القراء، "تغريبته الهندية" تلك. العلاقة مع الهند، علاقة الخليج مع الهند، استمرت، بل واشتدت بعد السبعينات وان بصورة أخرى كلياً. بصورة مختلفة، وبشيء من النظرة الدونية للعامل الهندي.
كتبت نورة القاسمي دراسة جيدة عن الوجود الهندي في الخليج، ولا نعرف شيئاً يذكر عن الثقافة الهندية لا الحديثة ولا القديمة. في هذا المقال: صور متفرقة عن العلاقة الثقافية بين الخليج والهند منذ اليعاربة وحتى قيام الدول الخليجية الحديثة، لكن لم ينشغل أحد بتوثيق وقراءة هذه العلاقة بتركيز أشد، لم يبذل ما هو جدير بالذكر على هذا الصعيد: فقط.. مجرد صور، مشاهد، أغان، قصائد.. انديرا التي ما زالت ترقص، وعبدالله الطبعان مختبئ خلف الستارة يدون ما يغنيه عبدالرحيم.
athani@myway.com
الخليج الثقافي- 2005-05-23