تحدث بعض الأعطال الطفيفة في طائرة "جكرخوين" التي تعود به من كوردستان الفيديراليّة إلى السويد، فتضطرّ الطائرة للهبوط في مطار القامشلي لإجراء التّصليحات اللازمة ثم الانطلاق. ينزل" جكرخوين" مصابا بجروح بسيطة. كان"جكرخوين" يعتقد أنّ كوردستان تركيا هي التي ستكون شرارة تكوّن كوردستان مثلما كان ماركس يعتقد بالثورة الشيوعيّة وانطلاقها من انكلترة وألمانيا أوّلا، حيث كوردستان تركيا هي الأكبر وجماهيريّا الأكثر جمهورا وظروفها أيضا أكثر نضجا حسب تقديراته.
- على كلّ حال، إنّها فرصة كي أزور مدينة عامودا وأجري بعض تصفيات الحساب هناك وألتقي بعض الأصدقاء! يقول "جكرخوين" في نفسه.
يأخذ باصا من باصات الجمعيّة التعاونية والباص بطيءٌ ويتوقّف حاملا الركّاب من على الطريق بين السّاعة والسّاعة:
- تبّا لهذا الباص السخيف، لقد وصل البشر إلى القمر والمريخ وباصاتنا لازالت هي هي، جمالٌ بطيئة أو حميرٌ مكلومة الظهر، مريضة.
يقول"جكرخوين" هذا بصوت جهوريّ غاضبا ويمسح العرق من جبينه. يلتفت الركّاب إلى جهة الصّوت ويتعرّف بعضهم على" جكرخوين"
- أيّها السيدا العزيز، أكاد لاأصدق عينيّ. لماذا لم يخبرنا أحد أنّك هنا. كنّا نريد أن نستقبلك استقبالا يناسب مقامك.
- لقد مللت من الاستقبالات والزّيف الاجتماعي. آتي إليكم بعد أكثر من عشرين سنة من الإقامة في السّويد وأنتم لم تتطوّروا قيد شبر في حياتكم. أنتم لازلتم نائمين وصرخاتي في شعري، يبدو أنّها ذهبت هباء منتشرا منثورا.
- ماذا نفعل"سيداي جكرخوين" ! قيدُ الطغيان على لساننا وأولادنا وقمحنا وزيتوننا!!
- تبا لكم ولهذا التمسكن!. لماذا تتصوّرون أنّ الطغيان أبدي ولايُقاوم...!؟
يصمت الرّجل حين يسمع هذا الكلام الناريّ من الشّاعر الذي طغت شهرته على كلّ عين ولسان وزمان. ويمضي الباص متثاقلا باتّجاه عامودا. والركّاب يتهامسون ويغمغمون بوجل وفرح.
في محطّة الجمعية التعاونيّة في عامودا ينزل"جكرخوين" فيبصر الشّاعر الشعبي" صبري خلّو سيتي" في ثيابه البالية يقول بعض الأبيات لشباب مراهقين التفوّا حوله.
- آه، صديقي" صبري خلّو سيتي"، لازلت تتسكّع على الشّوارع، تقول الشّعر الاصلاحي للنّاس. ألم يحن الوقت أن تكتب أشعارا ناريّة كي ينبعث الأموات ويثوروا على جلاّديهم!؟
- "سيداي جكرخوين"! أهذا حلم أم حقيقة! أنت في عامودا... على عيوننا أنت... على رؤوسنا أتيت. أريد بأشعاري وأبياتي أن أجعل اللغة الكورديّة محبوبة لدى الفتية. المضمون إن كان اصلاحيّا أم ثوريّا لايهمّني في المقام الأوّل، بل نشر اللّغة والحبّ للسان الكوردي... هذا أولآّ يا سيدايَ الغالي.
يسمع عمّي"شيخ صدري" أنّ جكرخوين" في عامودا. يذهب إلى السوق ويشتري خمسين كيلوا من سكاكر النعناع. تلك السكاكر البيضاء الصّغيرة الغائرة نحو الدّاخل قليلا على وجهيها. يلبس الجبّة الشيخيّة الخضراء ويشتري حجلين من جاره بيت" منجولي". يأتي بدواوين "جكرخوين" التي يملكها، يراجعها كلّها ليتثبّت من صحّة حفظه لها كلّها على الوجه الأصحّ. يحمل هو وولده" ضياء الدّين" سكاكر النّعناع ويوزّعونها على المارّة بالقرب من دار بلديّة عامودا. يحمل الحجلين، يطلق أحدهما ويبقي الآخر تحت قفطانه، سأعطيه ل"جكرخوين" يقول ذلك ويدندن بأهزوجة من أشعار الجزيري الكلاسيكيّة.
يأتي " الملاّ سليمان" و"صدقة" إلى مكتب أبي "الشّيخ عفيف" وبعدهم يأتي عمّي"شيخ صدري"
- هل سمعت"شيخ عفيف"، جكرخوين في عامودا. إنّه الآن في بيت آل" جلبي"
- لقد قرأت بعضا من أشعاره الأخيرة...إنّه يشطّ في تناوله للإسلام ويجعله سبب تأخّر الكوردِ وبقائهم تحت نير المستعمر وأيضا هناك بعض الخلل في الأوزان الفراهيديّة والقوافي أيضا مفتعلة في الكثير من المواضع.
- لابأس" شيخ عفيف" تستطيع أن تقول له نقدك، إنّه يتقبّل النقد. فلنمضِ إليهِ إلى بيت "آل جلبي"!
يأخذون والدي معهم ويذهبون إلى" جكرخوين". حين يدخلون الغرفة، يطلق عمّي" الشيخ صدري" الحجل الذي كان يخبّئه تحت جبّته. يطيرُ الحجل مذعورا في الغرفةِ. يندفع إلى إحدى الشّبابيك، ويرتطم بها محدثا الكثير من الضجّة وناثرا أرياشا هنا وهناك.
- أخرجوا هذا الحجل اللّعين! مَن الذي جلبه!؟ إنّه رمز الخيانة. أمر الكورد عجيب. بدّلوا الحجل بنسر أوعصفور ولاتجعلوا الحجل رمزا لكم.
- الحجل هو حدود كوردستان، أين حطّ الحجل، فتلك الحدود حدود كوردستان.
- ما هذه الخرافات التي تؤمنون بها. حدود كوردستان هي العلم والتنوّر والماركسيّة الّلينينيّة. واعداد القوّة واشعال الثّورة...!!
يسمع عمّي"الشيخ صدري" ذلك، فيغتمّ قلبه. "جكرخوين"الذي كان يعرفه في عامودا قبل عشرين عاما، لم يكن غضوبا هكذا. كان يحبّ الحجل وألوانه البديعة. منقاره الأحمر ومشيته الحرّة. كان يدرس علوم الدّين بشغف، كان أيضا يلقّب ب"ملاّ جكرخوين". ماذا حدث له في الغربةِ، في ديار الملحدين!! يبدو أنّه هوأيضا صار ملحدا وإلاّ كيف يطلب من النّاس أن يؤمنوا بالماركسيّة وهي ليست إلا كفرا وإلحادا..!! حينذاك يقول عمّي" الشيخ صدري" بعض الكلمات الغامضة بالكورديّة، فيأتي الحجل ويدخل إلى تحت قفطانه..!
- أنتم الشيوخ، لا تقولون الحقيقة للناس وبهذه الغمغمات والشعوذات توهمون النّاس البسطاء أنّكم تتكلّمون مع الطّيور. بدل القرآن اقرأوا رأس المال لكارل ماركس أو ما العمل لفلاديمير إيليتش لينين. بدل الحجل ربّوا الدّببة الروسيّة وبدل اللبن، اشربوا الفودكا...!!
لايتحمّل أبي" الشّيخ عفيف" كلام الشّاعر الذي يحبّ شعره في بداياته، حين كان"جكرخوين" يقلّد أشعار الشّاعر الأكبر" ملايي جزيري" ويكتب قصائد الغزل والحبّ متغزّلا بهذه الطريقة بأرض كوردستان وجمال طبيعتها البديعة بالجبال والحجل والغزلان. لايتحمّل أبي ذلك، يستأذن من الجماعة، متعذّرا بظروفه الصحيّة التي تفرض عليه أنْ يذهب.
أمّا الشّاعر"جكرخوين" فيستمرّ في إلقاء كلماته الناريّة، محرّضا الكورد أن يثوروا على الإقطاعيّين، أن يسترجعوا الأرض منهم ويزرعوها بأنفسهم. أن يقتلوا الآغوات ويكفّوا عن تقبيل أيدي الشّيوخ والتبرّك بخرقهم. يستمع النّاس في المجلس إليه بورع وقداسة، لكنّهم يتململون ويضجرون شيئا فشيئا، خاصّة حين يبدأ "جكرخوين" بنقدهم وتعنيفهم والتهكّم على معتقداتهم ودينهم تهكّما حادّا، متجاوزا فيه ومفرطا في خطبة طويلة عريضة. يبدأ الكثيرون منهم بالإستئذان، واجدين لهم الأعذار المختلفة. ويبقى فقط في المجلس بعض مضيفيه من "آل جلبي" وأيضا "صدقة"،"مُلاّ سليمان" وعمّي" الشيخ صدري". هم أيضا كانوا يريدون المضي، لكنّ حبّهم ل"جكرخوين" يعميهم تقريبا عن شططه واسرافه وإلحاده...
- قولوا ل"الشيخ عفيف" أنّه مصيب في الكثير من نقده لأشعاري وخاصّة من النّاحية الشكليّة والعروضيّة، حيث لا ألتزم التزاما دقيقا بالأوزان الفراهيديّة، الأهمّ عندي هو المضمون الثوري، الماركسي اللينينيّ. ويجد الفنّان"شفان برور" حلولا موسيقيّة لشذوذات الأوزان والقوافي بعد ذلك. لكن مع ذلك، قولوا له أنّ يجمع نقده في كتاب ويطبعه. نقد الشّيخ نقد ذكي وأعرف أنّه قارىء نهم لمجلّة الهلال المصريّة وتتلمذ في الأدب على أيدي العقّاد ومبارك والرّافعي. المهمّ عندي هو التغيير السياسي الاجتماعي ثمّ يأتي بعد ذلك في مرتبة ثانويّة الشكل والموازين والصّور والخيال..!!
يقول"جكرخوين" ذلك، ولكن الجميع يبقون صامتين، وجلين خوفا من أين ينقدهم ويصبّ جام غضبه ونظريّاته هذه الجديدة على أرواحهم البسيطة المحبّة في رومانسيّتها وشوقها. يدرك"جكرخوين" أيضا أنّه بالغ في التهكّم والنقد والسخرية من الناس وحياتهم ومعتقداتهم حتّى انفضّوا من حوله وبقي فقط أكثر المحبّين له.
- أعرف، لم يعجب النّاس ما قلته عن نعاسهم وخمولهم وبقائهم حميرا ومريدين. لهذا فرّوا واحدا تلو الآخر من مجلسي. وبقيتم أنتم الثلاثة الذين حبّكم لي أكبر من أن تنقدوني وهذا أيضا يزعجني. رجاء، لاتجعلوا منّي صنما وشيخا بدل شيخ. أنا أيضا انسان مثلكم.. دلّوني على حانة ولنرَ بعد ذلك...
تتهلّل أسارير عمّي" الشيخ صدري" ويقوم منتشيا، مستشهدا ببيت من القطب الأكبر سيدايي "ملايي جزيري"
- ديسا ﮋنو بي حاله دِل ساقي ورين جاما زجاج
يردّد البيت منغّما إيّاه على طريقة الفقهاء، مظهرا إيقاع التفعيلات بشكل بارز، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، ديسا ﮋنو بي حاله دِل، مستفعلن، ...، جاما زجاج...
- أنا منتش من الخمرة الربّانيّة"سيدايي جكرخوين". أنا منتش من حضورك ووجودك في عامودا بيننا. أكحّل عينيّ برؤيتك ومرآك يا شاعري الكبير. يقول عمّي"الشّيخ صدري"
" المُلاّ سليمان" ينهض أيضا من مجلسه ويميل بجسده الطّويل يمنةً ويسرة على ترنيمة البيت الذي ينشده عمّي. و"صدقة" يأخذ "جكرخوين" إلى مقربة من دكّانه، دكّان القرطاسيّة والطوابع ودواوين الشّعر الكورديّ. هناك حيث بالقرب منه حانة" بيت هيلوني". يدخل"جكرخوين" الحانة لوحده وينتظره" صدقة" في دكّانه ريثما ينتهي"جكرخوين" من شرب الخمرةِ البشريّة المسيحيّة في عامودا وطبعا يجوز للشّاعرو ل"جكرخوين" خصوصا ما لايجوز لغيره.
بعد ما يقارب السّاعة يخرج"جكرخوين" محمّر الوجه قليلا من تأثير الشّراب. يأخذه"صدقة" ويذهبان إلى عمّي و"ملاّ سليمان" .
- يا عزيزي" الشيخ صدري" هاتِ رمزنا، الحجل الذي تخبّئه تحت جبتك الخضراء، جبة المشيخة. كم أنا ممتنّ لك، كم أنا شاكر لك.
يعطيه عمّي الحجل، فيتأمّل جكرخوين في أرياشه. يمرّ بيده على جناحيه وبطنه، يقرّبه من فمه ويقبّل منقاره القرمزيّ. يأخذه إلى صدره ويبقيه عدّة دقائق هناك، حاضنا إيّاه بلذّة ورقّة.
- اللعنة على لينين والدّببة وماركس. هلاّ أخذتموني إلى أحد الأعراس...
- بلى، يا أستاذنا الغالي. اليوم على مشارف طريق القامشلي، بالقربِ من مخازن الحبوب يقام عرس أحد أبناء "آل الدقوري".
يذهبون إلى العرس، يلتقون بالشاعر الشعبي الذي سبقهم إلى هناك"صبري خلّو سيتي". العرس على قدم وساق. الطبول تدوّي والأبواق ترافقها. سريعا ينضمّ"جكرخوين" إلى حلقة رقصة "الشيخاني" أخذا من كلا الجانبين بالأصبع الصّغرى لفتاتين فتّانتين. يدخلُ عمّي" الشيخ صدري" في وسط دائرة الرقص بجلبابه متمايلا وراقصا، يخرج الحجل ويطلقه بالقرب من رأس "جكرخوين":
- لقد عاد"جكرخويننا"، عاد كبدنا المدمّى، حان للكبد المريض أن يشفى وحان للحجل أن ينطلق. ثانية القلب حاله تعيسه، فلتجلب أيّها السّاقي جام الخمر الزلال...ديسا ﮋنو بي حاله دل...بي حاله دِل...ساقي ورين جاما زجاج... جاما زجاج...!!