عندما كان صغيراً، وما يزال، تعلم أن يقرأ الحياة في ضوء الأحلام الكثيرة التي تضيء ليل العالم، هو ذاك المريض بالموسيقي، تسكنه، ولا يبارح حفرها، تحفره إلى أعماقها، تتكاثر فيه..تتشظى..ما الجديد؟ لا يعلم!! هل من مزيد؟ إنه حتى لا يعلم..لا يعلم!! كل الذي يعلم هي إنها لوثته بالنشوة، والسعادة التي جاوزت به الحدود التي تموقعها لحظة ما مع من يحب مع أصدقاء الكلمة والصوت والصورة واللون.
عندما كنت صغيراً...
نشأت أنا خالدُ، في ربوع المنامة بين أحضان فريق الفاضل، عبثت بي شقاوتي إلى المبادرة وقيادة الآخرين في بيتنا أو خارجه، عجنت شخصيتي كالصلصال، ومثل باقي الشباب أغرتني الكرة، فركلتها، وغدت الشيء المهم في حياتي، هي حريتي وانطلاقي لعالم خارج أسوار البيت، هي الأهم. لكنني وبين البين وفي فترة من الفترات قمت بتسجيل الأغاني التي حفظتها، ودونتها في دفتري الصغير القديم جداً، ذاكراتي وعالمي الذي لم يمسك خيوطه أحد، سجلتها وغنيتها بكلماتها، فعادة ما نبدأ ممارسة نشاطنا الموسيقي والرياضي والأنشطة التي لا تحتاج إلى الدراسة بالتقليد، فتارة نقلد من يستهوينا من لاعبي كرة القدم، فنبدل قصارى جهدنا لنكون جيدين مثلهم في الملاعب، كما كنا نقلد المغني أو المغنية، من هذا المرسى، اكتشفت امتلاكي لقدرة غناء كلمات الأغاني بطريقة سليمة، مثلما التقطتها أذناي..كما اخترقت إحساسي..كيفما سمعتها، لأنتقل بعدها من طور كتابة ما أسمع إلى طور كتابة الكلمات بدافع الموسيقى ذاتها وليس بدافع أدبي أو تأليف شعري، وبحافز الرغبة في اكتشاف المكنونات طوعت كل ما وقعت عليه يداي من أوراق وأسطح الجدران، وأمكنة اختلاء، فجدران حمام بيتنا الأسمنتي الأسود تشهد على تلك الكتابات والتسجيلات لكلمات الأغاني التي حفرت في ذاكراتي واخترقتني وحفضتها مما جعل جميع من في البيت يرغب في معرفة سر مكوثي لفترات طويلة في ذلك الحمام.
ثمة أمر آخر لم يلاحظ من حولي وفي عمري البكر، تجميعي لمحصول عيديتي لشراء آلة موسيقية، وبالفعل اشتريت الآلة لدافعين كونها كهربائية أولاً، وموسيقية ثانياً، كنت مغرم العبث بالأجهزة الكهربائية، أفكك أجزاءها، أعيد تركيبها، أشعل منها ضوء باستخدام اللمبة، ثم أعيد تركيبها في مجسم لبيت خشبي، فعالمي هو الآلة..هي الكهرباء..هي الموسيقي في ذات الوقت. لكن الكهرباء سلبتني وقتها أكثر من الموسيقى، حتى تمردت الأخيرة وأناخت ثانية على الخط جنب إلى جنب تنافس كرة القدم، والاثنتان أثرتا كثيراً على مستوى تحصيلي الدراسي، فبدأت الصورة أكثر جلاءً لوالدي، فهنا العلة ليست واحدة..أنها اثنتان تؤثران سلباً على دراستي وأخطرهما هي اهتمامي بالموسيقي.
عندما كنت صغيراً وما أزال ...
في فضاء عالمي أزداد اهتمامي بالموسيقى أكثر فأكثر، صار التحدي أكبر مني، عندما لاحظت عزف أخي الذي يصغرني عمراً وقتها، قلت: لا..لا.. أنا من يعزف..هو أنا، أنا من يجب أن يعزف، وبدأت بتطبيق كل ما سمعته على الآلة التي ابتعتها من نقود العيادي، ومررت كما تعود العباد بتجربتي الصح والخطأ، يبدو لي أنني توافرت على ما يسمي في عالم موسيقانا بالعقل الموسيقي، عقلتُ تتابع النغمات وراء بعضها البعض، عزفتُ وأخطأت وصححتُ لنفسي في نفس الوقت، و كانت بدايات علاقتي مع الموسيقيين، بدلاً من اقتصارها على الرياضيين، حدث ذلك في سنتي الدراسية (أول ثانوي)، فصار التغيير المتوقع في سلوكياتي، وخروجي من البيت لم يكن بقصد الرياضة فقط، إنما للاشتراك في الأنشطة الموسيقية، وهذا ما فجر تضارب الرغبات بيني وبين والدي رحمه الله، قال لي ذات مرة: منذ حوالي 200 سنة عاشت هذه العائلة في كنف دينها الإسلامي والتقوى والمحافظة على التزامها في أداء الشعائر الدينية الإسلامية، ومسيرك في هذا الاتجاه مرفوض..مرفوض البتة، لكن الإرادة كبرت وتنامت أكبر فأكبر بعيداً عن المعارضة.
عندما كنت صغيراً وما أزال، تعلمت أن أقرأ الحياة في ضوء الأحلام الكثيرة التي تضيء ليل العالم لكنه .. تصادم هنا .. هناك تصادم .. وتمدد .. تجاوز الآفاق .. هي ذي تجربته .. هي ذي روحه.. كيف؟ دعه يقول .. دعه يمر..
... اغتنيت العود، أخفيته خارج البيت، غطيته (باللحاف) بسجادة المسجد، لن يكتشفه مخلوق، لن يقهره بشر، وتطور الموضوع، واشتريت كماني هو الآخر أخفيته أسفل السرير، ثم تلتهما الطبلة، فنشأ حينها مجتمع موسيقي في بيتنا، فمن أخواتي من طبل وزمر، ومن غني، فكانت هواية للجميع، بعدها لحنتُ و(مُوسقةُ) أي كلام أغراني، واستعملت آلة التسجيل، هل تعلمون؟ إن هذه التسجيلات ما تزال بحوزتي، ولأنني قلدت المغنين، تولدت بالضرورة الحاجة إلى فرقة كورس تلك الفرقة التي شكلتها من أخواني وأخواتي، إنه لأمر طبيعي جداً، أن يحدث هذا الموقف في أكثر بيوت الموسيقيين، ولا يعني بالنتيجة أية دلالة على بروز موهبة موسيقية في الأسرة. نشطت فرقتنا الصغيرة في غياب وسفر الوالد، لكنها من أسف تحل ذاتها بذاتها بمجرد وصوله من الخارج، لم أكتفي ..أو أستكين عبثاً..وتشاقي فساهمت بتكوين فرقة أخرى خارج البيت من شباب الحي (الفريج) المغرمين بالموسيقى والمتلهين بها، تجمعنا مع بعضنا البعض في (مقر عشتنا) التي توسطت ساحة بيتنا الخالية، نشطنا وأسسنا مسرحاً صغيراً وذلك باستغلال مساحة الأرض الخالية اللصيقة ببيتنا أيضاً، وأقمنا في عشتها العروض، ففي غفلة من الوالد وأثناء سفره، نفذنا بعض المسرحيات ودعونا أولاد الحي (الفريج) لحضور العروض ومشاهدتها مقابل رسم دخول زهيد تراوح ما بين 25 إلى 150 فلساً (أو الروبية آنذاك)، ومن بين من شاركنا النشاط وغنى مجموعة من الشباب الهنود والباكستانيين، والإيرانيين، و عندما علم الوالد لم يستقيم الحال وحطم (العشة) على رؤوسنا، وتحطمت على إثرها آمال المسرح والموسيقى وأنتهي كل شيء، انتهت الفرقة. ظللت على حال من يضرب على رأسه كلما حاول الطلوع إلى فوق، حتى أدركت لحظة ما، أن وراء هذا النشاط مردود مالي، وأنه جيد للظهور، فقد تنبه أصدقائي الذين يكبرونني سناً، وكانوا وقتها يحيون الحفلات، إلى ماذا تنبهوا؟ تنبهوا إلى حبي للموسيقى ولاحظوا بأنني لم أكن أجيد عزف أي لحن، كنت في طور ملاعبة الآلة فقط، عرضوا علي المشاركة نظير مبلغ من المال شريطة معرفتي للعزف، فشكل هذا الأمر حافزاً خطيراً، ليس بسبب مردوده المالي، إنما لفكرة الظهور على المسرح، وهذا ما حدث مراراً. ولم يتركني القدر..فانكسر الكمان صدفة بسبب جلوس والدي على السرير الذي أخفيت الكمان تحته، وظل عودي بمأمن في حمايتي ورعايتي، أظهره تارة وأخبئه تارة أخرى، ومن أول الأغاني التي أجدت عزفها (يما القمر عالباب للمطربة فايزة أحمد). ومنها بدأت التعرف على ما بمخزون ذاكراتي من أنغام موسيقية، وقتما لعبت يداي على الآلة، اكتشفت كل المخابئ في داخلي، فأحسست أنني أمام اكتشاف جديد، فأم كلثوم شكلت لي السحر الذي لا أستطيع عزفه، لأن إيقاع عباراتها طويلة، ولم أستطع استيعاب حدودها كي أعيد تكرارها، أما أغاني عبد الكريم عبد القادر ويحي أحمد، وفيصل جاسم وهم من مطربي الكويت آنذاك، فكانوا التمرين اليومي الذي أعزفه، ولم يظهر بعد ما ينبىء بأنني سوف أصل في مرحلة لاحقة جداً إلى فقد زمام المشروع كله، وأن أقاد من قبله بكل الأشكال والاتجاهات وإلى مواقع لم أكن أتخيلها..أن يكون له مردوده المالي الذي لم أكن أتخيله، أن يعطيني صورة وسمعه، وشهرة لم أكن أتوقعها، المشروع أخذ نفسه وتمادى في هذا الاتجاه حتى لحظة معينة، عندما قلت فيها: (قف) فأوقفته، ومن هنا .. كي انطلق من جديد وبالجديد.
لست وحيداً ..
تضاربات .. معيقات، العائلة والدين، وخطى الموسيقى والعالم الجديد .. حرية الآفاق.. فهو ليس وحيد .. وحيد لا .. إنما يتقاطع بين أركان عالم المخيلة وعالم الطيف، يعيش الزمان والمكان حيزاً بحيز، تتناثر الوقائع حوله تاركة خلفها مياه تجري بين التباعد.. تتلبس فيها الرغبات حيناً، وتتزاوج محطاته بين الواقعي والمتخيل .. يجمعهما الإحساس .. والعقل مدبر سيداً إلى أبعد التخوم، يحفر قوامه بالبحث عن المجهول .. صافي الأمل .. أين الوطن الإنسان .. أين أحلامي...دعه يمر.. دع أحلامه دعه ينهض..
...بيتنا لم يرفض الموسيقى يوماً، لم يرفضها قط، فالموسيقى عند أبي وأعمامي لم تحرم.. لم تجرم، تعرفت على أم كلثوم من أبي، هو من أحضر اسطواناتها، وأتي بجهاز التشغيل، عرفت من أغانيها (سيرة الحب) و(أمل حياتي)، وحتى قبيل وفاته طالع أبي كتابات تناولت الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب. لم يكن مشروع والدي لي مشروع ديني إنما وظيفة في السلك الدبلوماسي، أن أدرس العلوم السياسية والاقتصاد، منطلق اهتمامه نابع من أسباب الوجاهة ليس إلا، لذا خاف على مشروعه، ليس بسبب كرة القدم، إنما لأسباب الفن والموسيقى، حيث أن مستقبل هذا الأمر سيكون مزمناً، و سيطرة على باله فكرة ضبط إيقاع الشاب، فإن لم يستطع منعي في هذا العمر من الشغف بالموسيقي فأنه لن يستطيع ذلك مستقبلاً أبداً. قبل وفاته بفترة بسيطة، قال لي: احمد الله أنني أسمع عنك كلاماً طيباً، فعادة ما ارتبطت ممارسة الموسيقى بالسلوك الشائن، قوله هذا يعني أنني حصلت على شهادتي .. أي بعد معارك ضارية طويلة، لطالما التهبت علاقتنا بسبب الموسيقى، وكلما اقتربنا من موضوعها انفلت أمرنا من بين أيادينا، غير ذلك كنا على وطيدة العلاقة دائماً، فوالدي عنيد لا يتنازل عن أحلامه التي رأى ضياعها في شخصي واختاري. وتفهمتُ مع الوقت لعدم تمكن والدي من تصور طبيعة ما أعمل فيه، وماهية ظروفه النظيفة والجميلة، ربما وصله ذلك أخيراً فمنحني شهادته وغفرانه، شهادة بأنني باتجاه الفن المتميز غير السائد.
الموسيقى تؤنس وحشة الكائن .. و الحياة بدونها خط
مستلزمات الموسيقى لا يكفيها الحس .. لا يرويها الحب.. قد تتناثر وراءها مفاتيح المجداف والمعول، و يبقى قوامها غير قوام الأوهام.. غير بطولات طائر الأثير مع ريح الغياب .. مستلزماتها كسر السائد، تفكيك أغلال النواطير وإشاعة أماكن الاختلاط التي تشترط البوح والإنعتاق من اليأس والإذعان .. كان لابد من الفرار من ثبات ضد ثبات باتجاه الحلم إلي إطلالة العلم .. إطلالة المنشود ...دعه يمر.. دعه يقول..
...مشواري التعليمي للموسيقى بدأ في بداية السبعينات، فانتظمت طالباً لعدد من شهور السنة في المدرسة النظامية التي حملت أسم جاسم العمران وهي الفترة التي سبقت ذهابي للجامعة، درست فيها آلة الكمان الموسيقية، وشأت الصدف لقاءي مع الشخصية الكويتية السيد محمد اشكناني الطالب معي في جامعة الكويت آنذاك، منحني من وقته الشيء البسيط وتعلمت على يداه ألف باء الموسيقى وعلوم النوتة الموسيقية، مما ساهم في إيقاظ المؤلف الموسيقي عندي، وبهذه المعرفة استكملت دخولي إلى علم الموسيقى الذي غير من الأمر الكثير، فمن الطبلة إلى ما ترجم نفسه في انجذابي نحو معرفة أصول وقواعد الموسيقى. وعندما اضطررت لمغادرة الكويت بسبب ظروف المرحلة، انتظمت في معهد الكونسرفتوار بالقاهرة، وذلك بعد قبولي طالباً بالمرحلة التحضيرية أي بما يعادل الصف لما قبل أول ثانوي، فقد استغرب من أشرف على امتحان قبولي في المعهد بقرار ترك دراستي للعلوم السياسية والانتظام في مرحلة تحضيرية جنب إلى جنب مع من يصغرني سناً، فكان معظم زملائي أطفال وأنا أكبرهم، وقبلت كطالب مستمع في المرحلة الثانوية تحت إشراف الدكتور جمال عبد الرحيم في قسم التأليف الموسيقي. كنت طالباً مخلصاً للحلم الذي تمنيته طيلة عمري، وحولت الأوقات السعيدة لبعض زملائي البحرينيين ممن كانوا يدرسون الموسيقى في ذلك الوقت في القاهرة إلى أوقات غير سعيدة بسبب إصراري على التعلم والفهم الموسيقي منهم، وأعتقد أنني ما أزال أحتفظ بالصفات المزعجة السعيدة إياها، لكن هذا الحلم انتهي بتركي لمقاعد الدراسة في القاهرة بعد مضي عام، واضطراري للعودة ثانية إلى البحرين لأنتظم للعمل في شركة ملاحة أجنبية أمضيت فيها فترة ما يقارب الخمس سنوات، و لن أنس ما حييت سعادتي بالمكافأة التي منحوني إباءها عندما تركت العمل لديهم، هذه المكافأة التي خصصت لمساعدتي على استكمال دراسة الموسيقى. بدأ بعدها مشوار الألف ميل الذي أختطه لنفسي مشوار التعلم الذاتي الذي تراكم من خلال تجاربي السابقة واللاحقة، هنا بالطبع ساهم في دفعها وبقوة شديدة الأستاذ عبد الجليل شبر، وهو من أوائل البحرينيين الذين افتتحوا معهد موسيقي خاص بالاشتراك مع الأستاذ جلال بن علي إبراهيم، حيث كان مقره في قرية الكورة، وانتقل بعدها إلى منطقة العدلية، وثم إلى المنطقة الدبلوماسية حتى استقر في منطقة الجفير. فيه ذلك المعهد تحولت من طالب يتتلمذُ على يد الأستاذ شبر، إلى مدرس متخصص يدرس آلة العود وبالذات لنظريات الموسيقي، وهي الفترة التي بذلت فيها مجهوداً كبيراً لكي أكون مقبولاً عند الطلبة ليس كمدرس فقط إنما كموسيقى، ونجحت في كوني طالب ومقبول من طلبة الموسيقى أثناء الشرح، وعند تدريسي لآلة العود، تعلمت كل مناهج عزفه خصوصاً تلك التي اعتمدتها المعاهد المصرية، فكانت أن شكلت تلك الحقبة من عام 1980-1984 أهم مرحلة من حياتي، لأنطلق بعدها في مشواري الإنتاجي مع النظائر الذي بدأ منذ عام 1983 في باكورة إنتاجي لألبوم (كلما كنت بقربي)، وكانت الرحلة الجديدة في عالم الموسيقى إيذاناً بالالتزام الجاد بالعلم وتحصيل المعرفة الموسيقية، فنقلت إلى الممارسة كل ما تحصلت عليه طيلة السنوات السابقة، واستمر هذا الوضع لغاية عام 1990، عند غزو الكويت، فتوقفت بعدها لمدة ست سنوات عن الإنتاج، المسافة طويلة هي بمثابة العودة إلى أصولي وجذوري، هي العودة إلى عالم الموسيقى التي افتقدتها، لأبدأ بعدها بالمواظبة المنتظمة على تحصيل معلومات خاصة بعلوم الكمبيوتر والاهتمام بالإطلاع المتعمق في نظريات الموسيقى العالمية، والثقافة الموسيقية بشكل عام، و بالتركيز على الإطلاع والقراءة المستمرة من المصادر الأجنبية، كما قمت بعمل الكثير من التجارب العملية والتعاون مع بعض الفنانين والمشتغلين بالفن انطلاقا من أفكار تجريبية، في محاولة لتجريب المذاقات الموسيقية الجديدة التي تذوقتها أثناء فترة التوقف وتشربتها، فهذه الفترة أغنتني لما تمثله من استكمال لمرحلة ما قبل الإنتاج (أي مرحلة دراسة كل ما يتعلق بالموسيقى، وثقافة الإنتاج، والمعاهد الموسيقية). رافقتني في رحلتي هذه مكتبتي المزدهرة بالمصادر والمراجع العربية والأجنبية التي كونتها منذ مراحل دراستي الأولي في القاهرة، و يشهد سور الأزبكية القديم على كم الكتب القديمة المستعملة التي ابتعتها وأغنيت بها مكتبتي الموسيقية الفريدة من نوعها الرائعة الجميلة.
مكاني آمن للحب..على مبعدة من العقل ..عن كثب من الجنون ..مكاني آمن للحب
... في ذات السياق يقول مصطفى ناجي: العلم وما قتل، إنه يحذرنا من مغبة الاعتداء على التلقائية بكثرة البحث والتقصي، هناك احتمالية فقد أثمن ما لدينا من موهبة بسبب ما نتعلمه، بسبب تعمقنا وبحثنا، كنت واعياً بما يكفي وأنا العابث بتلك التقائية، نجحت في مسك خناقها في فترة من الفترات، ولو واصلت عبثاً بها فلن أكن لأحصل عليها ثانية. في التلقائية تهذيب وتخليص من ذكريات الحقل كما يقول صديقنا قاسم حداد، قالوا في شأنها -أي التلقائية- قد تأتي بعمل مشابه لأعمال أخرى وهنا علينا التدخل لتنقيتها من ذكرياتها الأصلية، أستطيع القول بأنني توقفت عبثاً بالتلقائية، سأحافظ على فني قدر ما أستطيع، لأن التلقائية لها طابع مختلف مغاير عن البحث والتقصي والسؤال. واصلت غوصي في البحر العميق بحثاً وتقصياً وسؤالاً، استوقفتني الإجابة على الأسئلة، أزمنة متقطعة، ما الذي يؤثر ويفرز هذه الأشكال اللحنية الموسيقية الإيقاعية دون غيرها؟ أن أفرز هذا الصوت بذاته؟ اكتشفت في لحظة ما أن لكل منا صوت متميز، يطوعه حيناً للكتابة وآخر للتشكيل، أو في الرواية والقصة، لكنه صوته الخاص طريقته في الحياة، طريقته الفريدة، أيقنت بمواصلتي طريق الفن وأن لا أخدش فنيتي عندما أكون تلقائياً، كما أواصل البحث والتفكيك في آن واحد أخذاً برأي شاعرنا أدونيس: فكك لكي تنفذ من التقليدي (فكك، اخترق، وأخرج) فكلما فككنا نحن نسأل .. ماذا فككنا؟ فالتفكيك عبارة عن السؤال ماذا؟ الأغنية العربية بها كلام وموسيقى، وهي تجسيد حي للعقلية العربية في شتى صورها وأشكالها الأخرى، في طريقتها في النقاش والحلم وتحليلها للأمور في الصراخ، في الزعيق في التفاهة، في الجد كل أشكال العقلية العربية تجدونها في الأغنية العربية، فالمقاربة هنا بين الموسيقى واللغة مشروع قديم تم الحديث عنه كثيراً لكن المقاربة بين الخطاب الموسيقي والخطاب السائد في المجتمع العربي لا يصعب الوصول إليه، فبدل من القول أن أحمد ذهب إلى المدرسة قد تأتي المدرسة يوماً إلى أحمد. لو عدتم إلى الوراء معي ستجدون أن أنتاج الموسيقى كان بدافع وجود شعر، الشعر بقوالبه المكتوبة عكس نفسه على الموسيقي فكان لابد أن تكون الموسيقي تابع، تخدم الشعر، والقصيدة لا تقدم معلومات جديدة على صعيد الإيقاع، وبالتالي فالموسيقي المرافقة لهذه القصيدة لن تقدم شيء على صعيد الإيقاع هي الأخرى، إلا في بعض الحالات النادرة، الحديث هنا عن عموميات وليس خصوصيات، فالكلمة الموسيقية مرتبطة بالكلمة الأدبية، انفعال الجملة الموسيقية مرتبط بانفعال الجملة الشعرية، التصور النهائي للإيقاع في الأغنية هو التصور النهائي الموجود في القصيدة، الأجواء العاطفية الحادة الرقيقة..الانفعالات..الغضب..الضحك..اللين..الشدة..القسوة كل هذه الانفعالات في القصيدة، تقدمها الموسيقى، عندما يحزن الشاعر، الموسيقى تحزن، وعندما يضحك الشاعر الموسيقى تضحك، الشاعر يصرخ، الموسيقى تصرخ، وهذا بحد ذاته تقليد بدائي..الموسيقى تقلد الشعر، وعليه تم إنتاج مئات الآلاف من الأغاني في الوطن العربي مع وجود تجارب استثنائية، الإعاقة هنا هو بقاء هذه الأشكال مخزونة في الذاكرة السمعية فقط، إذ هي التي تمثل المنفذ الوحيد لكي تخرج في هيئة موسيقى، من غير ذاكرة لن نستطيع عمل شيء، هذا المخزون به كل أجزاء الأغنية العربية، إذ بمجرد وضع الكلمات أستطيع الحصول منها علي أي جزء من الأجزاء التي أرغب فيها، وأستطيع إعادة تركيبها واستخلاص منتج متكامل منها، هذه علاقتي بالكلمة..جدل وتكامل وتواصل.
في فترة لاحقة، تمردت قلت: ماذا سيكون لو قمت بالتخريب، واختراق مألوف القصيدة، أن أسبر بها من اليسار إلى اليمين عوضاً عن سيرها الأصلي من اليمين إلى اليسار، لحظتها اكتشفت صور جميلة، لست في وارد الحديث هنا عن صحة أو خطأ التعبير الشعري، إنما أتماهى لكي أرى كيف تتخلص الموسيقى من أسر الشعر وتلحقه بها وتقيده خلفها، فاتجاهي إلى قصيدة (لما ترأت عند مرو منيتي..الخ) في تجربة وجوه، كان اتجاه موسيقى صرف وليس لكلمات، العالم الذي نعمل به عالم، الصوت فيه مليء بالعجائب والحيل والبدع، عالم قد ينقلك من العصر الحجري إلى عالم اليوم، بكل أجهزة التقنية التي تعلبه، تسجله وتبيعه، لنفكر في أية استخدامات غير استخدامات الاتصال،..لنفكر دوماً بالموسيقى.
ألغاز العود
رهبة الموج.. خرافات السفر.. أدوات متعبة ... دقت يداه .. من فرط عشق.. أي بوصلة؟ أهي اختزال الأسئلة.. والوعد الذي اختلج؟ هل قبل الأرض..التراب..الولادة المجنونة؟ كيف كان في غفلة الهزيج يصفح العود من القلب.. يصفح ردهات المتاهة .. العبور.. كيف؟ .. كيف؟ .. يا أم يا عود اشتعلت القناديل..
...كان العود بالنسبة لي لغزاً، وضعت يدي عليه من بدايات تعلقي بالموسيقى، تعلمته ذاتياً، أعطاني مردود قوي على أعمالي، هجمت كاسحاً به كل إنتاجي، خلقت صورتي عند المستمع.ريشتي. .. ريشة خالد الشيخ مختلفة، العزف عليه يمثل لي نوع من أنواع القراءة الشخصية الذاتية جداً لآلة العود، أتعلق بمصطلح القراءة، لماذا؟ لأن القراءة مع الآلة لا تنتهي، هي اكتشاف، لا تنتهي ألغازها .. وغموضها اللامتناهي، قلت لكم قصة أول عود دخل بيتنا، أما الثاني فكان حصيلة تبرعات شخصية من بعض طلبة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين فرع الكويت، أثناء دراستي في جامعة الكويت، ابتاعوه لي من (سوق واقف)، وقدموه كمفاجأة لم أتوقعها، كما ابتاعوا لي عود آخر من سوريا من سوق الحميدية، عندما كنا في رحلة طلابية إلى هناك، ولا أنسي أبداً فرحتي و عزفي بذلك العود طيلة طريق العودة من سوريا إلى الكويت مروراً بالعراق. عندما بدأ نشاطي الإنتاجي يزداد في فترة من الفترات، ابتعدت عن قراءة العود (ممارسة العزف عليه)، في أي من الحفلات أو الجلسات، إلى عودتي إلى قراءته ثانية والنظر إليه ليس من زاوية المنفعة، بل للتواصل مع الذات واستنطاق الآلة للاستمتاع بها، أقرأها كما يقرأ عشاق الكتاب كتبهم يوميا.
الحوار الحي و الحميم .. زيت آلة الحياة
في مواجهة الواقع، و حمى الرؤى، أن ترتقي عن الظلال اليابسة بحالات الاستبدال المتواصل، أن تبدع، تؤلف، تلحن، تستعين بكل المنسوبات التي تجري حولك.. مذاق ليس كالذي اعتاده الزمن، أكانت الضرورة تعي تنوع تلحين الأغاني؟ أهي تخلد أم تشكل؟ أم هناك سيل من الدلالات التي لا نعرف؟ أكان درباً لعبور الآخرين؟ أم نفق لفضاء المسيرة الفنية؟.... دعه .. دعه... يقول ... إنه يقول...
...عادة بعد فترة تتراوح ما بين عشر إلى خمسة عشر سنة من ممارسة الشيء ذاته، وخصوصاً في فضاء الموسيقى، يتبن لنا ما إذا كنا نريد قول شيء ما مغايراً أم لا نقوى على ذلك؟ فالبدايات دائماً ما تكون لاسترجاع المخزون السمعي وإخراجه بشكل وآخر بقليل من الاختلاف عما سبقه، وربما متطابقاً، ولكن بعد تلك الفترة يكون الوضع مختلفاً، فبعد تلحيني للأغاني الفردية انكشفت محاولتي للتخلص من أشكال وابتكار أشكال أخرى، أو لنقل إعادة تقديم نفس الأشكال بطريقة مختلفة مغايرة عما هي عليه أو متطابقة، هي بالضبط عمليات إحلال أكثر منها تكرار، إحلال شيء محل شيء آخر، لون عوضاً عن لون، قالب مكان قالب، فالتنوع في تقنيات العزف والتسجيل ساعد كثيراً في هذا الإحلال، فتصويت أغنية في السبعينات غير تصويتها في الثمانيات غيرها في التسعينيات، والإكسسوارات هي الأخرى تتغير ويظل المبنى أمامنا كما هو، إلا أنني دوماً مع المباني الجديدة، إنها تبقى على جمالها حتى لحظة تزينها بالإكسسوارات القديمة، أغاني المناسبات حققت غرض وهدف مناسبتها، طوعت لها، ومنها تميزت بعض الأغاني المميزة المتمردة عن إطارها أساساً، وفي عمل المسرحيات، لم أكن أعرف كيف أنفذ أغنية مسرحية، إنما أغنية للمسرح أي للمسرحية وأقدم منها أغنية فردية أي عادية تميزت فقط بعرضها في المسرحية، فأداء الأغنية للمسرحية وكما تدركون يحتاج لاستخدام جميع أدوات المسرح من التعبير الدرامي إلى الميلودراما المستندة على الحوارات الغنائية التي تشكلت حسب اعتقادي من حصيلة معرفية في استيعاب ما تعاملت معه الأفلام المصرية القديمة، عندما تحول المغني فيها إلى ممثل فكان لابد من حصول الممثل على لحن يتميز بالحوار، فضلاً عن البعد الحركي في المسرح الذي يفرض نفسه هو الآخر على الموسيقى، المسرح حركة، في الأغنية الفردية لا يوجد حركة، لذا على الموسيقى أن تتعلم كيف تتحرك مسرحياً .. أن تبكي مسرحياً .. تصرخ مسرحياً .. تضيء مع الإضاءة .. تخفت مع الإظلام، وهذه كلها أدوات مسرح وخبرات سطحية جداً لم نمارسها كثيراً في أعمالنا، بسبب قصور النشاطات التي لا تتوافر على متطلبات هذا النوع من الأدوات في بلداننا، ومن يتصدى لهذه المهمات هو المؤلف الموسيقي أكثر منه ملحن الأغنية.
لوجوه النار.. الحصار.. لا للفشل
بهدوء اقتحم وجوه الآخر.. فكانت غربته والدهشة جمرته الخفية.. بصمته.. لست البريء منها أبداً.. كل الوجوه..التي أخذت استداراتها بلا منازع.. الريشة.. الكلمة..الصوت.. الصدى.. هل بقى من حضور الآخر غير نتف.. تتوازى وتصفر مع الريح.. بين أوتار العود.. ودف الكمنجة.. في أياويد الزمن الغائبين.. وفي نيرانه الملتهبة.. أهي النبض .. أهي استكانة الخوف .. الهزيع الأخير .. الوجوه التي تطايرت أبوابها .. ثم ما لبثت .. مكثت..لا ..لا.. دعوني أقول الذي.....
... دعوني أصحح مسألة، كلمة الموسيقار تعني ممتهن الموسيقى هي لصيقة بعازف البيانو الأول ولصيقة بالطبال، هي ليست تميز، الأوبريت بديلاً لكلمة استعراض، والأوبريت عادة ما يكون مسرحية غنائية تتخللها بعض المشاهد الفكاهية، لا علاقة لها بما نعمل فيه، أميل إلى كلمة موسيقي أكثر من موسيقار وإلى الاستعراض أكثر من الأوبريت.
أفصلُ عمل وجوه عن أي عمل قمت به، صحيح، أنه في الأخير موسيقى، ووضعنا فيه غير متساوي، لكن الموسيقى هي الفن الوحيد الذي تقاطعت معه الفنون الأخرى، أنت لا تستطيع حمل مرسم الفنان إبراهيم بوسعد والمضي به، وإن أردت حمل الكلمات فما عليك وقتها إلا حمل ديوان قاسم حداد الشعري، أما موسيقى الفنان فهي الوحيدة التي حملها معظم الزائرين وهم يغادرون. وجوه هي بالضبط .. هي ما وراء الحدود التي وصلتُ لها، كان قاسم حداد دائماً وراء الحدود في كتاباته وحياته وكل ما يشكله، يكفي إنه بدأ مشروعه بكلمة (لا للفشل)، عندما جاءني النص و شاهدتُ اللوحات في مرسمها، أيقنتُ أن هذا العمل بحاجة إلى مؤلف موسيقى، وليس بالضرورة أكاديمي من حملة الشهادات، لكن من المحتم لديه إمكانية الخلق، والإجابة على الكيف (كيف يعمل موسيقى؟)، من غير كلام. تجربتي مع الكلمة غنائية وإن كنت دائماً ما اشتغلت ضد الكلام، لكنني أميل دوماً للصورة الذهنية أكثر منها المجردة التي تقدمها الموسيقى من غير كلام، آخذاً في اعتباري الصور الذهنية لشعر قاسم حداد غير الموجودة في الذاكرة، وجوه هي لغة جديدة، من البساطة تلبيس اللحن والموسيقى عليها، لكن المبتغى كان في خلق موسيقى من خلف ذاك النص، أن تنزع النص فتبقى لك الموسيقى، هذا هو عملي التأليفي الذي مارسته في الوجوه، فكانت عملاً لما وراء الحدود التي وصلتها والتي دائماً ما أطلق الحداد عليها "حدود المجهول..الجميل..غير المعروف"، لم أعرفه من قبل، إلا مع قاسم حداد، عندما انتهينا من العمل وسمعناه، تذكرت قول أحدهم (الله من قام بهذا العمل..) لحظتها كنتُ وصلت للمنطقة التي لا يوفرها الواقع، هي مرحلة اللاعودة للأنا ..أللارتباط بالواقع، الانتقال أو الانتشاء .. الصوفية .. التجلي، التوحد بعيداً عن الشعور بالواقع المعروف.
أتدركون..تجربة قاسم حداد الحياتية العريضة في الوطن، أو في العالم، كشفت لي عن إنسان آخر أنا لم أعشه، عن حلم التعرف على ذلك الإنسان، الحر من الأشياء، فما أمامك من نص لا يفرض عليك شيء..لا يقترح، لا يثقل على كاهلك، تستطيع قرأته كيفما تشاء .. أعلى إلى أسفل .. من أسفل إلى الأعلى، أي الطرق التي ترتئيها، هذا هو قاسم .. نص كل الوجوه الصغيرة التي عرفها واحداً.واحداً...، متعة الموسيقيين الذين تشاركوا في هذا العمل هي انعدام معرفتهم بالموضوع، عندما أسمع وجوه مراراً يصيبني الذهول، أنا لا أصدق أنني ساهمت بهذا العمل لماذا؟ لماذا؟ .. هل تدركون شيئاً .. اللغة العربية لها قدسيتها، تثير في الذاكرة في الذهن حالة من الانتشاء، تأخذك للمنطقة التي تبتغيها الموسيقى والكلمة، التي لا يوفرها أي فن من الفنون الأخرى، هي ذي المساحة التي لا يمتلك المرء فيها من الإمساك بذاته.
الكلمة .. فضاء.. أعراس.. صباح وليل..حزن وجنون..
الكلمة هي تجربة الحب والكراهية، الذهاب مع الكلمة هو ذهاب إلى المعروف المتصور، الذهاب مع الكلمة أو ضدها هو اكتشاف آخر، قد تعطي الصورة الذهنية لكلمتي (افتح الباب) شكل معروف لكنها في الموسيقى قد تؤدي إلى شيء آخر، قد تصبح موضوع آخر، عندما اعكسها في الموسيقى تغدو شيء جميل..مختلف، الكلمة هي إحدى أدوات الإحماء للملحنين يستخدمونها ليكونوا لائقين موسيقياً، وقد نتواطأ معها لأنها الصورة التي من خلالها يقدم فيها الموسيقي نفسه للجمهور، وهي تتحكم أحياناً كثيرة في مدى تعاطف الجمهور مع الموسيقي، خصوصاً في حال تحوله من الموسيقي إلى أكثر منه مغنياً، إذا أردنا عمل أغنية لابد من وجود نص، الأغنية معناها شيء يغني،في عالمنا العربي الحديث عن الأغنية يعني حضور الكلام، لكن هل نخلق موسيقى ظل للكلام، أم نخلق موسيقى تكافئ الكلام إن لم تستطع السير بدونه؟
في عالم اليوم، انطباع الصورة الأولي في ذاكرة الجمهور الجمعية، هي التي تسهم في خلق ما بعدها، وعند الحديث عن تغييرها قد نمر ببعض الصعوبات، جمهوري هو صناعتي وصناعة عوامل أخرى متنوعة ومتعددة، قد تلتقي رغبات كل الأطراف من منتج، موسيقي وجمهور مع بعضهم البعض في لحظة ما، لكن لا أصبح أسيراً إلى فكرة الجمهور بعد موقعي في القيادة، قد يتخيل بعضهم أن القيادة دائماً ما تكون في يد الجمهور، لكن التجربة أثبت أن أهمية قيادة العمل والإنتاج بتميز ومسئولية، مما يحتم على ضوءها تقديم عمل يستمع له الجمهور، وقد لا يستمع إليه، لأسباب خارجية لها علاقة بالإنتاج، الدعاية والإعلان، لا علاقة لها بالعمل الموسيقى أساساً، أصبحت فرص الظهور شحيحة، أسبابها زيادة من يمارس الغناء الموسيقي، الوقت المتاح لأي موسيقي هي الأخرى قصيرة، عوامل عديدة تؤثر على العمل الموسيقي، من التحضير له، إلى كيفية تطويع فلسفة الإغراء في تسويق ذلك العمل. ما نفتقده في بلادنا، الكيفية التي نشجع بها الأعمال..أن لا تركن في المخازن، توفر لها كافة التسهيلات، فالعمل الموسيقي والفني يشكل حقيقية الوطن، إنه كبير كبير في نظر الآخرين، وهذا ما يحفزنا للسؤال ما إذا تعطل في بلادنا الحلم؟ ما لم نحلم سنموت، يبدو أن الحلم فقد على كل الأصعدة، قد لا أجد من يحلم وقد يجد غيري من يحلم، لكنني لا أري المؤسسات تحلم، كثر من الحالمين لكن حلمهم مغطى ووجوه حلم مكشوف، توفر له أن يكشف عن نفسه وبعد الانكشاف كان عليه أن يواصل، لكنه تغطى... لكنه انكشف... وتغطى...
صوتي ..وصدى الآخر
وللآخر كان يصغي..يصغي لجمال وبلاغة الكلام..يصغي..لكنهم قالوا هناك رأي آحادي..لا فقد وصل للتو إلى دائرة لا تقفل أبوابها..لا تغيب الشموس عن نوافذها..يقرأ الآخر..يصغي..أنه يصغي..
تعاونت مع الكثير من المغنيين والمغنيات المحليين والخليجيين والعرب، ومحمد يوسف أول من غنى لي رسمياُ عن طريق منتج، وفي فترة لاحقة و قصيرة جداً من معرفتي بالوسط الإعلامي كممارس، تعاونت مع مجموعة كبيرة المغنين والمغنيات ممن لهم وزنهم ومكانتهم الفنية في تلك الفترة، فمنحني ذلك التعاون دفعة قوية شخصياً وإعلامياً، وللتاريخ ساهمت هذه التجربة في حرق مراحل من مسيرة تجربتي الفنية، وفي تعزيز ثقتي.
في لحظات اللاوعي نتأثر بكل ما نسمعه، بكل أصوات البيئة، حتى الأصوات غير الموسيقية، وفي لحظات الوعي عندما نقصد الاستماع لشيء معين، تستوقفنا المرحلة التي تم فيها تأليف وإنتاج وعزف الموسيقى، مثلما يحدث ونحن نستمع للسيمفونيات العالمية، قد يحدث الأمر لغرضين أحداهما غرض الاستمتاع والآخر غرض الكشف عن الحالة الموسيقية السائدة في ذلك الوقت، تأثري تمركز حول الإجابة على الأسئلة الصعبة التي تواجهها مهنتنا، لماذا؟ لماذا؟ من أسفي الشديد أن لا تتوافر هذه الإجابات في عالمنا العربي، أسئلة تدور حول: كيف نستطيع القول، هذا فلان فناناً وآخر غير فناناً، الأمم الأخرى أرست الأرضيات والمعايير، ولم تظل على حالها إنما تطورت، فقامت بفرز المهن مثل مهنة الطب وبمعايير واضحة، وكذلك الهندسة والصيدلة، لكن في العالم العربي مهنة الفن غير مفروزة، هي على مستوى الشارع وليست على المستوى الأكاديمي، وما هو بمستوى الشارع هو بالضبط اللاعبون في الحي، ممارسة الموسيقى ما تزال مثلها مثل ممارسة لعبة كرة القدم في الحي، أي ليس بالضرورة أن تكون لاعب، لكي تلعب، في ممارسة الطب لا تستطيع التطبيب إلا إذا كنت طبيباً، هذه أسئلة أبحث عنها وهي صعبة، هنا بالطبع أقول: الفن ليس مهنة، إنما هو الصفة الأفضل..الأسمى التي تضاف للمهن الأخرى، هي في قمة جبل المهن الأخرى، فأي يشخص يجيد مهنته نقول عنه (فنانا)، أن الاشتغال في المجال الفني وارد، وتوجد مهنة للفن نظرياً، لكنها بالتأكيد لا توجد مهنة للفن عملياً، و جميع المهن تقبل الفنية إذا تمت إجادتها.
موزع الأغاني الفردية والتجارية ومن منطلق إنتاجي هو غير الملحن، أو المؤلف للعمل الموسيقي، هو من يضيف وجهة نظره عن طريق تشكيل الصوت من مجموعة من الآلات، فإذا ما ترافقت مع اللحن الرئيسي، عملت كسند وداعم له أو عملت ضده، من وجهة النظر الأكاديمية يعتبر التوزيع الموسيقي أحد أهم العمليات التي يقوم بها مؤلف العمل الموسيقي نفسه، وفي تجربتي مع من تعاونت معهم من موزعي الأغاني (وحيد الخان، مصطفى ناجي، أشرف محروس، شعبان أبو السعد، طارق عاكف، محسن عدلي، عماد الشاروني..)، كان لكل عمل من أعمالهم معي مذاقه الخاص، نكهته المتميزة، لقد أسهموا مساهمة كبيرة في إخراج صوت جميل لألحاني.
ومن الدراما المحلية تعلمت التعامل مع المفردات والمسلسلات البحرينية ساعدتني كثيراً في تطوير المدى الحواري وفي تشكيل عباراتي، بدأتُ أميل إلى التعبيرية في الجملة تلك التي لا تبقى ظلاً لنص معين، وهذا تحقق عند تعاملي مع أغاني المسلسل، كما تحقق لي إضافة التنويع الإيقاعي للثلاث أو أربع الدقائق الأولى من عمر المقدمة، أغنية المسلسل سمحت لي باستخدام ألحان أكبر وأصوات أكثر، وتعبيرات غير مستحبة في الأغنية الفردية، و أعني بها ..استخدام الصوت البشري بطريقة مختلفة عن أداء الكلمة بمعني أن الآهات، الصراخ، الانفعال بالغضب قد لا يظهر في الأغنية الفردية، لكنه من المؤكد ممكن إظهاره في أغنية الدراما للمسلسل البحريني، الذي أضاف الكثير إلى قاموس مفرداتي الموسيقية، لم أعامل أغنية الدراما مثل معاملة الأغنية العادية، ثمة مساحة جيدة أظهرتني في هذا الشكل من الأعمال وقمت باستغلالها جيداً في كل من ملفي الأياويد، وبوجاسم، سعدون ونيران، فلكل عمل من هذه الأعمال شيئاً مختلفاً عن الآخر، ولا أغفل القول بأن المشاهد الداخلية حرضت على الموسيقى أكثر من تحريضها على الأغنية، أشاهد المشهد وأقوم بتأليف الموسيقى عليه، تقمصت شخصية لمؤلف بسبب انعدام وجود مؤلف، وتكرر ذلك في العدد من الأعمال المختلفة.
حريتي هي خاتمتي
النهار مشحون بالشهوة .. بالبوح، حريتي هي خاتمتي .. هي خلقي .. والليل مركب .. سارية لا قيد على شموعها، أرخيتُ مع الوقت أغصانها..أخفتَ أجنحتها .. لكن الوادي يتسع للمدى لا يدع نسيان شرفات اللامتناهي أسراب الأمل .. الحلم..
هل تجاوزت المألوف، غادرت عباءته؟ كل الذي أدرك أن المعروف لا يقدم معلومة، وأنا دوماً مع من يقدم معلومة، هل أبالغ في اتجاهي..في توجسي؟ كل الذي أستدركه أنني وقتما أتجاوز المعروف لا ألغيه..لا يعني أبداً إنني أستسيغه. هل غنيت في الزمن الخطأ؟ ربما غنيت في الوقت الخطأ وفي المكان فالمكان الخطأ هو ذاك الذي لا يحتاجني .. إنه للموسيقى مؤلم..مؤلم. التفرغ في القاموس العملي (تفنيش)، لا بل هو من المفروض أن يكون تكليف، والتكليف هو تفرغ المبدعون لما يحتاجه الوطن، أن يحرروا من عوائق تحد من إبداعاتهم، يتفرغوا ويكلفوا بمهام ومشاريع تسند بالدعم الكافي، نزيل عن أكتافهم الأعباء. والاعتزال لا مكان له في عالمي لأن الموسيقى تحاصرني، تطوقني، قد اعتزال عن الظهور في نشاط من أمام الجمهور، و لأسباب صحية ليس لها علاقة بالموسيقى، لكنني لا أعتزل من يحاصرني في يقظتي وفي منامي في عشقي للموسيقى لا أعتزل.