دعا الشاعر قاسم حداد إلى تفادي الوقوع في فخّ المصادرة على التجارب الشعرية الجديدة، قائلاً إن على الأجيال السابقة التحلّي بفضيلة الإنصات، وتوجيه غضبها نحو ( أماكن أكثر خراباً في المجتمع ).
واعتبر حالةَ العداء التي تهيمن على العلاقة بين أجيال الشعر المختلفة مسألة لا إنسانية، وأنها عادةً ما تؤدي إلى ( فرْزِ سلطاتٍ هيمنية جديدة تضاعف من السلطات التي نقع تحت وطأتها ).
ومن جهته قال القاص أمين صالح إن على الكاتب أن يكون محصناً ضدّ القيم الاستهلاكية في الإبداع، وأنه لا غضاضة لو اضطرّ إلى العيش في ( برج عاجي ) ، إذا كان ذلك كفيلاً بحماية تجربته من الابتذال .
ولجهة تلقي النص فرق أمين، بين متلق عام ومتلق فاعلٍ، مبدياً انحيازه إلى النوع الأخير، لأنه برأيه ( لايطالب المبدع بأي تنازل لكي يستوعب مايكتبه ).
وكان قاسم حداد وأمين صالح ضيفين في أمسية حوارية الأحد ديسمبر على رابطة الأدباء الكويتية؛ حيث تحدثا عن تجربتهما المشتركة في نص ( الجواشن ) ، بلْه جوانب أخرى تتعلق بمسيرتهما الإبداعية . وفيمايلي، تنقل ( الأيام ) نص الحوار كاملاً :
* اشتركتما معاً في كتابة نص ( الجواشن ). الآن لو حاولنا استعادة هذه التجربة، كيف أتت، ولماذا لم تتكرر مرة أخرى في نص مشترك آخر؟
أمين صالح : تكلمنا كثيراً عن الجواشن، وكنا في كل مرة نخترع شيئاً جديداً . أول ماطرأت علينا فكرة كتابة الجواشن، كان الهم أن نسرد تاريخاً معيناً .. تاريخ شعب معين . وبناءً على ذلك بدأنا بوضع خطوط أساسية نبتدئ منها لكي نصل إلى المسار المحدد . بعد فترة طويلة من الكتابة، وكما أتذكر الآن، بعد كتابة خمسين صفحة، عدنا ومزقنا جل ماكتبناه . إذ سرعان مافقدنا متعة الكتابة والاكتشاف، وكان ذلك نتيجة طبيعية للمخطط المسبق الذي أردنا الانطلاق منه . لكن حين وضعنا أنفسنا في موضع القاري، حين يقرأ كتاباً ولايمتلك أدنى فكرة عن النهاية التي سيوصله إليها الكاتب، استعدنا لذة النص ثانية . بمعنى أننا قررنا الانطلاق من نقطة معينة، هي نقطة الصدفة، دون أدنى معرفة عن الشكل الذي سيسير عليه النص، وإلى أين سنصل . لقد كانت التجربة بالفعل مغامرة لكل منا . هناك تجارب سابقة، بلاشك، علينا، ولكن هذه التجربة، هي بين شاعر وقاص . كان التحدي كيف يمكن لنا أن نتواصل في كتابة نص واحد، ثم بعد ذلك لايستطيع القاري أن يكتشف من منا كتب هذه الفقرة .. ومن منا كتب هذا المقطع . ولكن أريد أن أقول شيئاً أساسياً، هنا، يتعلق بالكتابة المشتركة . أقول إنه، لا الرؤية المشتركة، ولا اللغة المشتركة، ولا حتى اقتراب التجارب الفنية من بعضها، يمكن أن يحقق الكتابة المشتركة . الكتابة المشتركة تتحقق من خلال التماهي التام بين ذاتين مختلفتين، ولكن في لحظة تشعر أنهما ذات واحدة .. من خلال نبذ الغرور .. نبذ الأنانية .. نبذ القيم التي يمكن لها أن تعيق الكتابة المشتركة . وفيما يخص تجربتنا، لقد تسالمنا على أنه حين يتدخل أحدنا لاقتراح شيء معين على ماكتبه الآخر، أو العكس، أو أي اعتراض من جانب أحدنا على الآخر، قد يعيق الكتابة المشتركة، ويعطلها تماماً . اعتمدنا على هذه الطريقة، أن نكتب بذات واحدة، ككائنين ولكن في ذات واحدة، من غير الارتهان في أسر من منا سيتفوق على الآخر، أو ستكون له الأفضلية . لعلني، هنا، أبسط أموراً هي في الأصل مركبة ومعقدة، لكن ورداً على الشق الثاني من سؤالك، أقول : صعب كثيراً أن تتكرر تجربة من هذا النوع؛ إذ ربما نقع في الافتعال وفي الصنعة . قد يكون الكتاب الأول طاغٍ، وبالتالي إما أن نسعى لتجاوزه عمداً أو محاكاته بشكل من الأشكال .
قاسم حداد : أريد أن أضيف شيئاً، هنا، تأكيداً على كلام أمين صالح، وهو أننا حققنا ثلاث مسودات لـ(الجواشن ) ، في حين لم نعتمد إلا المسودة الرابعة، وهي التي طبعت . أما عن انطباعي في تجربة من هذا النوع، ومدى خطورتها على تجربتنا المشتركة، فهو أننا شعرنا في لحظة من اللحظات بالتقاطع المثير للانتباه في تجاربنا .. أمين قادم في تجربته السردية من لحظة بالغة الشعرية، ولغته الشعرية متألقة كما لو أنها تبحث عن أفق جديد . وفي المقابل، أنا كنت أيضاً في منعطفات كثيرة أنتقل من التفعيلة وقصيدة النثر إلى السرد عبر تجارب نصية مختلفة، فكأن هذه اللحظة المشتركة قد تقاطعت لتخلق نصاً من نوع ( الجواشن ). لعل هذا التقاطع، هو، ما أتاح لنا متعة بالغة طوال فترة الكتابة التي امتدت إلى حدود ثلاث سنوات . كنا مستمتعين وكأننا لانريد أن ننتهي من الكتابة . لم يكن أي واحد منا يريد الحفاظ على أسلوبه الخاص، كنا نريد البحث عن أسلوب آخر . ومن يدقق في لغة الجواشن، سيجد أنه يختلف بدرجة كبيرة عما كتبته، أنا أو أمين، قبله . بمعنى آخر، لقد استطعنا أن نمحو التخوم الواضحة الملامح في أسلوبينا، ولفرط التداخل النوعي بيننا في كتابة النص، ثمة مقاطع في ( الجواشن ) لايستطيع أي واحد منا أن يجزم من منا قد كتبها . وعن إعادة التجربة، فأنا أعتقد أنها ليست مأمونة العواقب .
الكتابة لعبة أيضاً
* لو أردنا الدخول إلى الجزء الإنساني من التجربة . إن أي كاتب لابد أن تكون لديه ( أنا ) عليا يريد إظهارها ويتحدى الآخر بها . فكيف تخلى كل منكما عن هذه ( الأنا ). المسألة الأخرى، نحن نعرف أن كل إنسان لديه مزاجه خاص، بمافي ذلك الشاعر أو الكاتب . فكيف استطعتما المواءمة بين لحظة الكتابة التي قد تكون في قمة تألقها عند أمين صالح، بينما قد لا تكون كذلك عند قاسم حداد؟
أمين صالح : هذا ما أردت قوله . ليست القيمة في الموهبة، كما ليست في الرؤية الفنية أو الفكرية، إنما هي في العلاقة الإنسانية الحميمة . وبالتالي، أستطيع أن أخبرك باعتداد، لم نشعر بحضور هذه النزعة غضون الكتابة أبداً، نزعة المنافسة . كنا نخلق عوالم، وكنا نشترك في خلق هذه العوالم . كان الأساس في تجربتنا، هو، كيف نتوصل إلى التعبير عن هذه العوالم وخلقها بمعزل عن أي شيء آخر . وأحياناً كنت أكتب جملة وفقرة، وأقترح على قاسم أن يدخل على الجملة بكلمات وجمل معينة، لكي تتشابك . يجب أن لاننسى أيضاً أن الكتابة هي في جانب منها لعبة ومتعة، أي ليست فقط رسالة معينة نريد إيصالها إلى القاري . لهذا السب - وكما ذكر قاسم - حين ننظر إلى ماكتبناه الآن غالباً مايختلط علينا الأمر . إلى جانب أنه ليس هناك شيء مخطط، ليس ثمة شيء نريد أن نصل إليه . وبالتالي كانت لدينا الحرية الكاملة في أن يكتب الواحد منا مايخطر على باله، من غير قيد أو شرط .
* ولكن هل يمكن أن يكون الاندماج بينكما إلى هذه الدرجة؛ بحيث لايستطيع أي منكما التمييز بين ماكتبه، هو، وكتبه الآخر . ثم أن المسألة لاتكمن في أن أحدكما لايزعل لو تدخل في نص الآخر، المسألة ذات طابع حسي ووجداني ومستوىً من مستويات القداسة قد يستبطنها كل واحد منكما حيال ماكتبه؟
قاسم حداد : الحقيقة رؤيتنا للكتابة أبعد من نقطة أن النص الذي أكتبه، هو، نص مقدس . أنا مثلاً، وبمعزل عن أمين صالح، لدي عشرات القصائد التي مزقتها، عشرات القصائد التي حذفتها من حياتي الأدبية، وبالتالي فأي نص أكتبه أنا بالنسبة لي على الأقل، قبل أن يصل للقارئ هو نص مقدس . وبالنسبة لأمين، وهو بالمناسبة أول قارئ لما أكتبه، حين أعطيه نصاً، فإن أي ملاحظة من أمين على النص تخلق لديّ شعوراً أنها ملاحظة حقيقية . لأننا حتى في نصوصنا غير المشتركة نتشارك في نقدها . فالذائقة والنقد الأدبي ليس له علاقة بالصداقة، بقدر ماله علاقة بالرؤية الفنية والحساسية والذائقة . هنا الصدق .... وأمين صالح حين يقول لا الأفكار ولا اللغة هي التي تخلق نصاً مشتركاً، إنما هي الذات المتداخلة، فهذا شيء صحيح، وهو ماحدث في تجربة ( الجواشن ). لقد كان لدينا شغف المغامرة في الكتابة واكتشاف الأشياء، وكنا نستمتع بذلك .
لاتوجد خشية على الشعر
* نعرف أن هناك مدرستين في الشعر، الأولى : مدرسة الشعر العمودي، والثانية : مدرسة الشعر الحر التي التزمت بموسيقى الشعر ولم تغادرها . ولكن في الآونة الأخيرة، ظهر مايطلق عليه النثر الشعري الذي لايلتزم بأي من عناصر الشعر المتعارف عليها . الخشية أن تكتسح هذه الموجة السهلة الساحة وتؤثر على الشعر والشعراء . أصبحنا نخشى على الشعر من هذه الموجة . كيف ترى الأمر من جانبك؟
قاسم حداد : أقدر ملاحظتك، وهي ملاحظة مطروحة . فالكثيرون يعبرون عن خشيتهم على الشعر العربي من التجارب الجديدة . أولاً، أنا شخصيا لا أخشى على الشعر، لأن الشعر الحقيقي متين وقادر على أن يظل بشروطه الجذرية والأصيلة عبر الزمن . ولكن إذا نحن أرخينا الاستنفار أمام التجارب الحديثة قليلاً، وأدلفنا بنظرنا ناحية التجارب الأولى للشعر العربي الحديث في بدايات القرن الماضي، تجارب مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي . نستطيع استحضار ردة الفعل القوية جداً وأحياناً العنيفة التي ووجهت بها تجارب هذا الرعيل، بالرغم من أنهم كانوا يكتبون ضمن سياق البحور وعناصر الموسيقى السائدة . ولعلنا نجد نفس اللغة والمفردات التي نسمعها الآن . خشية على الشعر واتهامات كثيرة . ولكن مع الوقت صارت هذه التجارب من كلاسيكيات الشعر، صارت الآن مستقرة وواضحة . ممايشي ذلك أن التجديد والاجتهاد الإبداعي في كل حقول الحياة، لابد أن يساء فهمه أولاً، ولابد أن يؤول سلبياً ثانياً . يجب أن ننظر إلى المشهد بذائقة مختلفة . فمن الظلم حقيقة، أن أحكّم ذائقتي في جيل آخر أتى بعدي . أنا لا أزعم بأنني أستطيع أن أحكم وأصادر، لأن جيلي مر بنفس التجربة وتعرض لهذا العسف . فمن باب الرحابة الإنسانية أن نصغي على الأقل . أنا معك، هناك في التجارب الحديثة اجتهادات غير موهوبة .. واجتهادات فاشلة، ولكن لابد أن نقتنع هنا أن هذا الشعر الكمي هو يتعرض أيضاً للتصفية والمنخل الحقيقي ممثلاً ذلك في الزمن والتجربة . ومن الظلم حقيقة أن نطلق الأحكام العامة . وأتمنى أننا لانخشى على الشعر لأنه عاش كل هذه الفترات والسنين ولم ينضب أو يضمر .
* في الواقع كنا ننتظر منك إجابة تنهي موضوع التجارب الحديثة . إنني أرى إمكانية للمقايسة بين تجربة بدر شاكر السياب والتجارب الحديثة . وإذا افترضنا جدلاً أن تجربة هذا الجيل الطالع، هي في الموازاة بحيث تتلاقى مع تجربة السياب، فأين الجديد إذن . أفلا تكون مبتذلة . ما أود قوله، إن قاسم حداد المؤثر حالياً في جيل من الشباب في الكويت وأيضاً في البحرين، ألا يشعر أن هؤلاء الشباب الذين ينتمون له، هم، بلا هوية؟
قاسم حداد : لا أزعم بأنني أستطيع إقناعك، صعب عليّ أن أقنع شخصاً، لأنني أصغر من ذلك . ولكنني أظن أنك تبالغ بدورك، حين تجلعني أستاذاً، فهذا شيء غير صحيح . ذكرت السياب، ولكي لانعمم من الأفضل أن نفترض تجربة بحجم السياب من الأجيال الجديدة . أعتقد أنه من الظلم مقارنة السياب بالتجارب الجديدة المبتدئة، لأنك مثلما أعطيت السياب الوقت الكافي، لابد أن تعطي في المقابل التجارب الجديدة الوقت الكافي . السياب في وقته كان يهاجم وكان لايعتبر بشعره . وعباس محمود العقاد مثلاً، حين كان في المجلس الأعلى للثقافة، أبعد قصائد في الشعر الحديث من ضمنها قصائد الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي . الآن أحمد عبدالمعطي حجازي لايرى فيما تكتبه الأجيال الجديدة شعراً . لا أقدر أن أقنع حجازي أو أقنعك، إنما التجربة وحدها قادرة على ذلك . أنا أستغرب لماذا نستنفر ونعلن الغضب الكبير على شباب يكتبون ويعبرون عن أنفسهم . أتمنى أن هذا الغضب يذهب لخراب أكثر في المجتمع . في رأيي أن الإنسان حينما يكتب قصيدة فاشلة فإنه لايشكل خطراً على الكون . أنا أظن بأن هذا شيء غير إنساني . من الطبيعي أنني قد أحضر أمسية وأجد أشعاراً قد لاتعجبني، ولكن في المقابل من المتوقع أن يحضر في نفس الصالة أشخاص يعجبهم هذا الشعر . أظن أن هناك حدوداً بين الذائقة والثقافة والهوى الذاتي للفنون وبين أن نتهم هذا الشاعر أو ذاك بالابتذال . هناك أشعار كثيرة قد لا أطيق سماعها، ولكن من المستحيل أن أتهمها بالابتذال واللاأخلاقية أو أطالب بمنعها . وهذا أخطر شيء، لأننا نفرز سلطات مضاعفة على السلطات التي نقع تحت وطأتها . لذا لاتتوقع أنني أقنعك، أو أقول لك كلمة حاسمة، لأنها مبالغة لا أحتملها شخصياً . أتمنى فقط أن نصغي للجميع .
أمين صالح، أنت تدعو للعزلة وترى فيها اختياراً لحريتك الحقيقية . وتفضل الاتصال بالمفهوم الإبداعي دون الاتصال بالمفهوم الاستهلاكي . هلا فسرت ذلك بشكل أكثر وضوحاً، علماً أن البعض يرى أن هذه القناعة لديك قد أسهمت في انتشار نصك بشكل أقل مما يستحق؟
أمين صالح : بالنسبة لمسألة الاتصال، أعتقد أن هناك جمهوراً خاصاً للكتابة، هناك نخبة . وفي المقابل هناك الجمهور العام الاستهلاكي لأي كاتب . ولكن مايعنيني في عملية الاتصال الإبداعي، كيف أن القارئ يكون فاعلاً حين يقرأ نصي، كيف يكون مبدعاً . بحيث، حين أعطيه صورة معينة، هو، يخلق منها أيضاَ صوراً أخرى . يأخذ هذه البذرة ويشكل منها صوراً ثانية وثالثة . هذا القارئ المبدع الذي يتمناه أي كاتب يحترم كتابته . أما الجمهور العام، فهو مستهلِك، وينساك بعد فترة قصيرة، ولايتعامل مع نصك بجدية كبيرة . لذلك أقول إن القارئ الفاعل والخلاق هو ما أتمسك به أكثر؛ لأنه لايطالبني بأي تنازل لكي يستوعب ما أكتبه . بالنسبة للعزلة، لا أعرف ضمن أي سياق ورد الكلام عن العزلة، ولكن ما أقصده بالعزلة ليست العزلة عن الناس والعالم، فهذا شيء غير ممكن، إنما هي عدم الخضوع للواقع . لاينبغي للواقع أن يستدرج الكاتب لأماكن بعيدة عنه نفسياً . لابد أن تكون لديه حصانة معينة . كتبت عن البرج العاجي، وقلت إن كل كاتب يحتاج لهذا البرج العاجي، وما أعنيه أن يكون الكاتب محصناً من قيم استهلاكية مضادة له .
أسأنا فهم وظيفة الأدب
* نريد أن نطرح سؤالاً يلح في الخاطر دائماً، هل استطاع الشعر أن يفعل أي دور في المجتمع سواء اجتماعياً أو اقتصادياً؟ وهل تجد أن الشعر في العالم العربي كان بلاهوية أو لم يقم بهذا الدور التفعيلي في وقت حدوث الإشكاليات الاجتماعية الكبرى التي تزامنت مع التقدم العلمي؟
قاسم حداد : هذا السؤال يذكرني بمرحلة ماضية، حين كنا نعتقد أنه بعد القصيدة بثلاثة أيام سيتغير الكون . وأظنّ أننا لم نكن واهمين كثيراً، إنما كان أملنا فوق طاقتنا على الاستيعاب . بنظري إن ذلك ناتجٌ عن سوء فهمنا لدور الأدب . من الصعوبة تحميل فنون إبداعية مسؤولية تغيير مادي مباشر في المجتمع، لاسيما التغيير الاقتصادي من خلال " قصيدة ". في إحدى الحوارات، قلت إن الشاعر ليس موظفاً عند أحد أو جهة . وهذا الكلام أثار البعض، وكان يتساءل كيف لهذا الكلام أن يخرج من كاتبٍ آتٍ من تجربة التزام . أظن أن علينا الآن إطلاق حرية المبدع إلى أقصى حد، ولا نطالبه بمهمات آخرين . الوضع الاقتصادي غير مسؤول عنه الشاعر، ولا الوضع الاجتماعي . يجب أن نسائل سلطات أخرى غيره . ليس من الضرورة الآن التمسك بنفس الفكرة القديمة التي عوقت مواهب كثيرة . مواهبٌ لو أطلقت مخيلتها بمعزل عن شروط الالتزام، لكانت مازالت تعطي . الدليل على ذلك أن عدداً كبيراً من الأسماء، ونتيجة للانهيارات الشاملة قد تعرضت إلى انهيار حقيقي في بنية تجربتها، بسبب أن الكاتب والشاعر الذي يؤمن بهذه الفكرة كآلية عمل وقناعة تعرض لصدمة كبيرة لأنه يتكئ في كتابته على ماهو خارج ذاته . عندما ينهار هذا الخارج ينهار معها . لكن الشعراء الذين يصدرون عن أعماقهم لاينهارون، لأنهم يفعلون في حقلهم ولايتوهمون العمل في حقول أخرى . يجب أن نكون مستعدين للتخلي عن أوهام كثيرة .
مأزق فرانكفورت
* في وقتٍ كان الشاعر في الخليج يعجز عن النشر في بعض الأماكن نتيجة لتلبس البعض بنظرية المركز والهامش، ظهر موقع جهة الشعر ليلم الأطراف جميعها . فإلى أي مدى يمكن أن يصل قاسم في جهة الشعر، وإلى ماذا يطمح؟
قاسم حداد : حقل جهة الشعر مفتوح وأفقه لامحدود . وإذا استطاع هذا الموقع أن يحقق شيئاً فبسبب مشاركة العديد من الشعراء والكتاب والمترجمين . هؤلاء هم من يمنحون هذا الموقع أهمية . وهو أحد أشكال الحوار الحضاري، لأننا نتكلم كثيراً، أقصد العرب، عن الحوار الحضاري بين الثقافات، في الوقت الذي نهمل مؤسسياً أهم شيء في هذا الحوار وهو الثقافة والإبداع . وأظن أن تجربة معرض ( فرانكفورت ) دليل على الخلل الكامن في مفهوم العرب للحوار الحضاري . ذهبوا إلى هناك لكي يطرحوا بروباجندا في الوقت الذي ظلوا خلال سنوات يصادرون الثقافة ويمنعون عنها الدعم الحقيقي ويغلقون أمامها الآفاق . وإذا صحّ أن تجربة جهة الشعر هي تجربة فردية، فإنه يبدو أن التجارب الفردية في العالم العربي هي التي ممكن أن تنجح، لأنها تصدر عن حرية . إذا كان هناك أفق أمام جهة الشعر تذهب إليه، فإن طاقة وزيت هذا الذهاب هو القلق الحقيقي للوصول إلى المعرفة التي تتيحها لنا هذه الوسائط، لامتناهية الإمكانات . أظن أن جهة الشعر هي واحدة من النماذج لأمثال كثيرة في الواقع العربي تصدر عن اقتراح شخصي . ومن المؤكد أن العمل في جهة الشعر هو الآن لم يعد عملاً فردياً . جميع الشباب والأجيال في العالم العربي يسعون برحابة صدر للتعاون معها .
* أمين صالح، بما أنك عضو في مسرح أوال، وكان لكم تجربة مشتركة في المسرح . هل هناك تجارب أخرى لجمع جهود الفنان التشكيلي مع المسرحي مع القاص مع الشاعر، مثلما كان ذلك في تجربة ( وجوه ). ولماذا لم نعد نطلع على جهد آخر في الكويت لهذه الفرقة المسرحية؟
أمين صالح : تجربة ( وجوه ) هي تجربة فريدة من نوعها . باعتبار أنها لم تكن مسرحية في الأصل . كانت في الأساس نصوصاً شعرية، ثم أدخل عليها عنصر الموسيقى، وبعد ذلك التشكيل . في المرحلة الأخيرة بدأ المخرج عبدالله يوسف يشتغل عليها مسرحياً . منذ فترة بسيطة انتهيت من كتابة نص مسرحي ( أخبار مجنون ) ، وحالياً يعمل المخرج خالد الرويعي على تحويله إلى مسرحية .
الأيام
22- 12- 2004