بعد (آخر المهب) و(ملاذ الروح) ثمة (رهينة الألم) للشاعرة البحرينية فوزية السندي. السندي شاعرة، تسهم بكتاباتها في أكثر من مجال، في الإبداع والنقد وفي أكثر من منبر إعلامي عربي مقروء. مجموعاتها الشعرية مشغولة باللغة والإيقاع. في (مهرجان المرأة والإبداع) الذي انعقد مؤخرا في قصور الثقافة في القاهرة، التقينا الشاعرة السندي وكان هذا الحوار:
تتميزين بلغتك النثرية في نتاجك الشعري، هل من تباين ما، بين اللغة الفخمة ونجاح القصيدة الفني بمعنى ان الاعتناء باللغة على حساب عناصر القصيدة من صور وبناء؟
? لا أميل لتعبير (اللغة الفخمة) لكون لغتي الشعرية تخلقت ضمن تجربتي الحياتية وتناغمت لتصوير ما يعتريني من أحاسيس ورؤى تعبر عن طبيعة القلق الوجودي الذي أراني مسكونة به، العناية باللغة بالنسبة لي مسألة غير مفتعلة أو مقصودة لذاتها، بل هي تحقق لينوع مفردات وعلاقات لغوية تستوي في ذاكرتي ومخيلتي، كنتاج ضروري لرغبة الكتابة لدي، أو بتعبير آخر هي مكانيز ما تتصل بالمخيلة أجهل طرائقها تعمل على تخزين طاقة تعبيرية في ذاكرتي، لكونها متيقنة من حاجتي الشديدة الحساسية لحضورها في نصي.
لا أرى هذا الاشتغال العفوي الذي تخلّق لدي، يؤثر بشكل سلبي على عناصر النص الشعري الأخرى، بل بالعكس هو المصدر الوحيد لإثراء، وتأثيث هذه العناصر في النص الشعري، ان تأثير الصورة الشعرية، تشكيل البنية اللغوية، تفشي الامكانات الدلالية، حصول الإيقاعية البصرية والتكوينية في النص ترتكز بشكل أساسي على مدى ثراء اللغة الشعرية، القادرة على استكشاف علاقات دلالية ورؤيوية متفردة. آن الكتابة لا اجتهد لأفتعل ما أسميته بالتفخيم اللغوي أو غيره من المصطلحات، بل أستوي نحو القلب لئلا أتحقق بأقل من خفق الدم.
ما الذي أضفته، برأيك في نتاجك الأخير (رهينة الألم) على مجموع ما كتبت؟
? تجربتي الشعرية الأخيرة (رهينة الألم) تعبر عن ما اهتواني طيلة الوقت الذي امتد بعد كتابي (آخر المهب) و (ملاذ الروح) ، فيها دونت القليل مما احتمل ضمن نصوص شعرية، ربما استطاعت ان تعبر عن تجربتي الحياتية ومدى تشظيها في روحي، لا أعرف ماذا أضفت، ولا أثق أيضا بغير ذلك، كل ما هنالك أني احتملت ترجمة صمتي، أغويت ذاكرتي لتسرد لي ما أثقل جسدي كل هذا الوقت، كنت في رهينة الألم.. اكتب الشعر لا لأكتشف الألم بل لأعرف مداه.. كما كتبت:
(قبلف حرير دمي أكاد كالغيمة اجف دون هتك بروق حبري أكاد لا أكون.)
(قبل الورقة قلما أرى)
(وبعدها يضل النظر.) (ربما ارتديت دربا لا أعرف آخرته
لكني انتضيت خطوي
مذ علمني الطوفان طبيعة الطفو.)
ما نوع قراءاتك، لمن تقرأين وبمن تأثرت بشكل غير مباشر؟
- فعل القراءة شديد التنوع بالنسبة لي، يستهويني التاريخ كثيرا، لكونه مفعم بطاقة الذاكرة، مكتنز بعمق الخسارات، أيضا أغلب العلوم الإنسانية، الأدب بشكل عام، يستهويني أبو تمام والمتنبي كذلك ليلى الأخيلة، في الرواية ميلان كونديرا، سليم بركات، ميشيما، في الشعر الراهن أدونيس وسليم بركات وآخرين، تأثرت كثيرا بتجربة الشاعرة سنية صالح، تلك التي لم تنل ما تستحقه روحها الشعرية الشديدة الرهافة، أيضا الشاعرة الاميركية اميلي ديكنسون ورامبو، التأثر بإبداع الآخرين كان بالنسبة لي بمثابة الالتحام بتجارب حياتية اخرى مكتنزة بمقدرات المخيلة التي تستفز قدرتي على محاورة مقترحاتها التخيلية، بل مقاربة روحها الانفعالية بذات الاندفاع والاحتداد، دون ان أغفل عن أهمية مراعاة المسافة النقدية التي اعتمل بها، ان مقاربة نص الآخر يستهويني بحدة لأشتغل عليه كمختبر إبداعي، منه اكتشف طرائقه في تفسير ملمات الروح وتسريح أذى الجسد، بل احتفي كثيرا بتمايزاته واشتعل بطموح غريب لأحاول ان أتعلم منه مدى مثابرته لتحقيق قسوة ذاكرته، لأكتب:
(للحرف جنون يستهوي محترف الجن لذا يديم الجسد ليستنزل به.) (مذعورةما جبرت كسرا بالغ في فسخ بياض العظم عن مبتغى الدم توالى على هيكلي هشيم التشظي.)
(مذعورة أعود جسدي
لئلا يعول علي.)
هل ما زلت تؤمنين بالشعر حيال مادية العالم المستشرية؟
? عندما يكون الشعر حصاري الوحيد الشاسع، عندما أكتب لئلا أموت، أثق كثيرا بي وبالشعر، لا تعنيني مدى شراسة العالم ما دمت قادرة على فضح شراسته، بل كلما ازداد شراسة تشبثت أكثر بالشعر لكونه سلاحي الوحيد، سلاح القتيل: هكذا:
(لأقسو.. لكم ان تزدادوا شراسة..
بلا اعتذار.. بذرة تعذر عليها الالتحام بذريعة الحياة تقود الأنياب إليها لتشفى من تفرس لا تعلم مداه تمادوا أيضا وأيضا متاحة لي خليفة الحبر.. شهوة البئر كل إغماءة توقظني لأحترف الحرف كما كنت أحيا أستحيل قشة إذ يراني الحقل أخوض معارك تغمرني بالجثث أحيا كالصمت.. صوت الموت مذبوحة بما يحدث بما لا أقوى كالحديث عنه..)
حدثينا قليلا عن محيطك الشعري؟
? تتعرض التجربة الشعرية في البحرين لهجمة الاستهلاك التي تشكل أقسى المعتركات، بمعنى حلول الاستهلاك الثقافي الذي هو نتاج حتمي للاستهلاك الاقتصادي التسليعي لكل شيء في هذا الوطن، بدءا من تسويق السلع حتى تسويق القيم الاستهلاكية، للعمل على إلغاء الذاكرة ومحو التاريخ وتدمير الهوية العربية، هذه الهجمة تعتري أغلب البلدان العربية وفي مقدمتها دول الخليج، هذا التفتيت لكل المنجزات الحضارية والمكتسبات التحديثية التي تحققت طيلة تلك السنوات، عبر كفاحية هذه الشعوب، نراها الآن تتعرض لتدمير بطيء يطال كل شيء، من الصعب إذلال الشعوب العربية سياسيا واقتصاديا دون إلغاء ذاكرتها الثقافية والإبداعية عبر كسرها واحتلالها بترهات لا تنتمي للحياة بل تعتنق الموت البطيء، هذا ما يحدث لنا الآن. فيما يتعلق بالشعر، هناك اهتمام محموم لتسييد الشعر العامي، الشعر الموسوم بالنبطي، الذي تم إعادة استيراده من تاريخ قديم اندثر بمعطياته وتدابيره الفنية، تم معاودته للعمل على تشويه ثراء تراثه، عبر تعميمه بتكلف باهظ، لمداولة أثاث الصحراء الغابر والكتابة بلهجة لا تتصل براهننا الثقافي أو الحضاري ولا تكترث أيضا بمشكلاته ولا أسئلته، كما تم تسطيح اغلب منابرنا الثقافية والمؤسساتية والإعلامية للترويج لهذا الشعر الاستهلاكي، بالرغم من صعوبة تلك التحديات، إلا ان هنالك العديد من التجارب الشعرية الرصينة والالتماعات الشعرية الجديدة، تعمل بجد من اجل التفلت من مؤثرات هذا التدمير، بل تجتهد لإيصال تجربتها المتميزة، بالرغم من كون الإصلاحات السياسية الأخيرة في البحرين حققت هامشا مهما لحرية التعبير والفعل الثقافي، إلا ان حلول هجمة الاستهلاك ببشاعتها الأخطبوطية تشكل إحدى أهم التحديات لمآلات الثقافة في البحرين، تلك التي أثق كثيرا بقدرتها على قبول بل مجابهة هذه التحديات.
إقرأ أيضاً: