للحديث مع عباس بيضون نكهة راهنة. لا تستطيع ان تؤجله ففي تأجيله ما يجعله فاسداً. الفساد ليس امراً يمكن ان يلاحظه القارئ. لكن عباس بيضون دائماً يفسد أمسه. يجعله غير قابل للاستعمال. من حسن حظنا ان عباس ليس زعيماً سياسياً. لأنه في هذه الحال سيجعلنا مجرد حمقى ندور في فلك غامض من الفساد والتحلل السريع. لكن فساد الحديث عند عباس لا يجعل حديثه غير ذي أهمية. على الإطلاق، مع شخص مثل عباس يمكنك ان تكتشف الخسارات وعمقها. انه يفسد الأمس الذي كان جميلاً. يفسده أملا في غد آخر، ليس بالضرورة أجمل ولا ارق، لكنه ما ان يبدأ بتذكره حتى يفسده كما لو كان قد ضاق عليه.
إذا نحن على المحك. نقرأ عباس لندرك ان ما سيكتبه غداً هو بالضبط التخلي عما نقرأه اليوم. وحين يكون المتخلى عنه على هذا القدر من الجمال والرقة والشفافية، تدرك خاصية فريدة في هذا الرجل تستحق ان ننقب عنها جيداً: انه كريم، ولن تضارعه كرماً. وستتمسك بما قاله حتى لو بدا له بائتاً وفاسداً كحليب تعرض لشمس ساطعة.
هذا اعتذار عن تأخير. لكنني كنت أدرك ان كل وقت سيكون متأخراً. ما ان لفظ بيضون جملته الأخيرة في الحديث حتى أدركت ان الحديث غدا بائتاً بالنسبة له ويجدر بنا ان نعيده من أوله. لكنني كسول، كسول إلى الحد الذي جعلني لا أتورع عن تحريف صيغة السؤال والجواب لألزمه بما قاله. أنا أيضا رغم صداقتي العميقة لهذا الرجل يتعبني كرمه.
لا أعيد قراءة أشعاري كثيراً، وغالباً ما تكون علاقتي بما كتبته قريبة من علاقة قارئ عادي به. أظن ان القارئ العادي يبحث في القصيدة عن مواضع قليلة، لا يهتم بغيرها، أو يكتفي من القصيدة بقليل يشعر انه يستفزه. أنا أيضاً اهتم بالقليل الذي يستدعيني في شعري. استبقي من القصيدة سطوراً قليلة واشعر كما يشعر قارئ عادي، لأن في النص فجوات كبيرة. اقرأ القصيدة فأجد هنا قدراً من التخريج والصناعة وهنالك ضعفاً واضحاً، بعض الأسطر تستوقفني بقوة وبدون أي تحفظ كما لو ان شخصاً غيري كتبها. أظن ان الشاعر الذي يمتلئ أثناء الكتابة من قصيدته يفرغ منها بعد كتابته بوقت. النشر هو مناسبة لتسليم القصيدة إلى القراء على أمل ان تكون أجمل في أيديهم. نفترض ان القراء اقل علماً بالقصيدة وفجواتها من كاتبها، وان في القراءة تسامحاً أكثر مما في الكتابة. والواقع ان الأمر ليس دائماً كذلك فالقراءة متسامحة لكنها سريعة وإذا كانت لا تمر كثيراً على السيئات فهي أيضا لا تمر كثيراً على الحسنات، وغالباًَ ما يجد الشاعر ان في القراءة قدراً غامضاً وملعوناً للقصيدة. إذا عليها ان تتعذب مرتين، مرة إبان الكتابة ومرة أخرى إبان الهدر المتواصل من القارئ. أظن ان امراً كهذا يقود إلى فكرة واحدة هي ان النص غالباً ما يولد ميتاً. ان النشر هو نوع من الزوال التدريجي للنص. ما الذي يدفع مع ذلك كاتباً إلى ان يواصل الكتابة؟ هل هو استدراك نقص دائم وجوهري في ما كتبه؟ هل يكون كل كتاب تصحيحاً لكتاب آخر أو على الأقل تنقيحاً؟ لا استبعد ذلك لكني لا أصر عليه. في ما يتعلق بي، اكتب تقريباً بدون أسباب قوية، فأنا لست من الذين يبذلون جهداً كبيراً ليفعلوا شيئاً. اكتب لأني إلى الآن لم اشك في نفسي ككاتب، إذ وجدت هذه القدرة معي بدون سعي كبير لامتلاكها. وجدتها كما لو كانت إرثا. رأيت ان الكتابة أسهل عليّ من أي شيء آخر، انها تناسب طبعي الذي لا يميل إلى المواجهة، والذي يرتبك لدى اقل تدخل أو عدم انتباه أو إهمال من الخارج. اكتب لأني حتى الآن لم افقد هذه القدرة بعد، ولا اخفي إني دائماً في خوف من فقدانها. أنا لا انشر كتابي الجديد بل انشر دائماً الذي قبله، ليبقى لي كتاب للنشر. "شجرة تشبه حطاباً" هي كتابي الأخير الذي نشرته وأمامه كتابان واحد عن بيروت وآخر عن برلين. هكذا فعلت دائما. حتى حين مررت في أزمة عصبية كنت دائماً اكتب مقالاتي مبكراً خشية ان يأتي يوم لا استطيع فيه الكتابة. بدأت في النشر متأخراً جداً، فقد كنت في السادسة والثلاثين حين نشرت كتابي الأول، "الوقت بجرعات كبيرة". انقطعت سنوات طوالاً عن الكتابة، لكن كان عندي ملء الثقة في أن الكتابة موجودة دائماً معي وان الأمر يعود إليّ. فما ان أقرر المواصلة حتى أغدو كاتباً. لا أعرف من أين اجتلبت هذه الخرافة. لعلها بسبب تحدري من أب كاتب. ربما كنت اشعر ضمناً بأنه أورثني اللغة والكتابة وبأن هذا حق مستحق لي لا يستطيع احد ان يحرمني إياه. وربما كان ذلك بسبب من شعوري دائماً بأن النصوص التي أقرأها والكتّاب الذين أقابلهم لا يصعقونني ولا يجعلونني اشعر بأن ذلك فوق مطالي. يمكن القول ببراءة إني لم احترم كثيراً النصوص التي قرأتها من الجيل الذي سبقني ولم اشعر ان في هذه النصوص حملاًَ لا استطيع ان ارفعه. أظن ان الأمر ليس ذاتياً تماماً. حين أعود مثلاً إلى مجلات تلك الفترة ونتاجاتها، اشعر ان رأيي لا يزال هو نفسه. إذا شئت أريد ان أقول لك ان هذه النتاجات بدت لي في حينها ذات نقص فادح أو انها ساهية تماماً عما اطلبه من الكتابة، وعما أجده في كتابات كبرى ليست عربية. وفي وقت كان كل بيت من "أربعاء الرماد" مثلاً يصنع شيئاً فيّ، فإن قصائد كثيرة من شعراء تلك الآونة وكتّابها كانت بالنسبة إليّ مبتدئة ووعرة ومتكلفة إلى حد كبير.
قرابة الشعر والموت
لنعد إلى ما كنا فيه، أعود إلى القول إني لم أجد نفسي في طاحونة مباراة كبيرة ولم يقتلني الاحترام لمن سبقوني، وهذا ما جعلني بسهولة قادراً على الكتابة. لا بل جعلني اشعر ان في وسعي العثور بسهولة أيضا على مفاتيح فاتت سابقيّ. أو إني أجد بسهولة مطارح لم يكونوا لسبب ما قادرين على النفاذ إليها. إذا كان هناك حديث عن الاختلاف، فهو في هذه الناحية. انه اختلاف بدون قصد. لمجرد ان تكون أو لمجرد ان تبحث وحدك تغدو مختلفاً. انه اختلاف بدون قصد في الواقع. ليس في هذا الاختلاف أي معارضة. كل ما في الأمر انك تذهب إلى أماكن لا يريد الآخرون ان يذهبوا إليها أو لا يشعرون أصلا بوجودها. طبعاً هذه السهولة ليست دائماً نعمة. انها تجعلك في أحيان كثيرة مدّعياً أكثر مما يجب، وبدون ان تنتبه فإن ادعاءات الآخرين تسهّل لك ان تدّعي إذا كان الشعر بالنسبة إلى الكثيرين اختراعاً متعالياً أو انفجاراً لغوياً أو درساً من فوق في الفوضى، فإنك قد تفعل مثلهم. أحيانا لا تنتبه إلا متأخراً جدا انك فعلت ذلك. لم تفعله فقط بسبب المباراة الضمنية ولكن بسبب استعداد غير مشرّف لصنعه. بالنسبة إليّ فإن ما عنيته هو ذلك الطلاق الذي يبدو أحيانا واسعاً وغير محتمل بين الكتابة والنفس. لا أتحدث عن النفس في وصفها كلية، هذا موضوع بسيكولوجي لسنا في صدده، بل آخذها ببساطة وكما تستعمل عادة، لأقول إن هذا الطلاق بين الكتابة والنفس يجعل الكتابة بحثاً موارباً عن النفس وسعياً إلى قولها بقدر هائل من التحويل وبطبقات متراكمة من اللغة بحيث ان هذه النفس تتجلد في الكلام وتذوب وتصمت فيه. بكلمة واحدة تظهر النفس في الكلام شبه ميتة شبه صامتة وشبه مشلولة.
أظن ان هذا هو العمل الشعري بامتياز: بناء ضريح من كلمات للنفس. أحيانا كنت أفكر ان الشعر، لهذا السبب، قريب من الموت. انه نوع من موت المعنى والإحساس وموت النفس. أظن ان هذا كان أيضا بسبب طبيعتي المكبوتة والخجولة والتي تخاف من أي حرج وأي سخف يجره الإفضاء أو التعبير الصريح. في الأرجح فإن رعبي من السخف والابتذال كان مقيماً دائماً. كان عليّ لذلك ان اكتب شعراً صفته الأولى التجنب. شعر سلبي يهتم قبل كل شيء بأن لا يكون ثرثاراً أو سخيفاً أو مدعياً أو متفلسفاً. شعر يتجنب كل فكرة صريحة أو مفهوم محدد أو عبارة سائدة أو صورة محتملة. أي إني كتبت هذا النص الذي كانت قوته الكبرى في استغلاقه. بدون أي مساومة وبدون أي مفاتيح وبدون أي لعبة ظاهرة وبدون أي تنميق معلن أو إثارة لغوية أو أي رسالة صريحة وبدون أي دلالة سائدة. هذا شعر كان بالنسبة إليّ مشرفاً، لكنه كان يعاني حصانة ما ضد القراءة، اعتبرتها، في فترة ما، حمى حقيقياً وسياجاً للنص، لكن الأمر كان ينتهي باستغلاق النص عليّ أنا نفسي، بحيث يغدو بعد فترة محمياً مني، واشعر حياله كما يشعر أي قارئ آخر. يغدو مغترباً عني ولا استطيع النفاذ إليه.
نواصل الكتابة بلا سبب
بالطبع لا انصح أحدا بهذه القراءة. هذه قراءة بسيكولوجية تقريباً. حين أغدو قارئاً لنصي فإني لا أتحول قارئاً عادياً يستطيع ان يهجر النص ما ان يعجز عن التفاهم معه. إذا كان هذا القارئ هو كاتب النص فإن الأمر سيكون مختلفاً بالطبع. سيشعر الكاتب ان هذا النص يعيده إلى الصفر وانه لم يقل شيئاً، أي انه لم يبدأ أو انه بدأ على نحو ينبغي استدراكه. لكن المسألة ليست تماماً متسلسلة مستقيمة ولا تتدرج من الصمت إلى الإفضاء ومن البعد إلى القرب. فالمسار هو عبارة عن قفزات. أثناء ذلك كل التعريفات الضمنية تخوض اختباراً سرعان ما يغدو خاسراً. انها مطحنة استهلاك مخيفة: يكون الشعر صمتاً ثم نضجر من الصمت، يكون لغة ثم نضجر من اللغة، يكون خيالاً بعيداً ثم نضجر من الخيال البعيد، يكون سرد حياة ثم نضجر من السرد. يمكن ان يقال في هذا الصدد إننا نبحث عن الشعر. يمكن ان يقال إننا نبحث عن بداية إنما من الأفضل القول ان الكتابة هي نوع من تبديد هائل للنفس وانك في الواقع تنتقل بين تقمصات عدة، في كل مرة تتقمص شيئاً لا يلبث ان ينفصل عنك.
بين الممثل والكاتب شبه كبير. انها ادوار ليست تماماً من صنعك، تستعيرها مع قدر كبير من المهارة في إخفاء ذلك، أما ما يجري في كواليس نفسك فيبقى لك وحدك. انها ادوار، ومن دور إلى آخر لا تتوقف عن القول انها نفسك. طبعاً خرافة النفس هذه ضرورية للشعراء. بعض الشعراء ينخدعون بها إلى درجة يظنون معها انهم من جواهر أخرى. يمكنك ان ترى كم يبدون ساذجين ما ان يلجوا إلى هذا الموضوع. يتكلمون عن أنفسهم كأنهم يقرأون في صحيفة صباحية. بالنسبة إليّ من المهم جداً ان يبقى ما تسميه نقصاً وإلا كيف نستطيع ان نكتب من جديد إذا لم نشعر أننا ضيّعنا مجدداً طريق البداية. لكن هل من المهم فعلاً ان نستمر في الكتابة؟ في سبيل مَن وفي سبيل ماذا نفعل ذلك؟ لا شيء يؤكد ان هذا واجب احد، وبالطبع ليس هذا واجبنا تجاه الثقافة والشعر. لو كنا نملك واجباً تجاه الاثنين لكان علينا ان نجد مرة واحدة القصيدة التي نريد. نحن نواصل الكتابة بلا سبب. بلا سبب كبير. أسبابنا صغيرة العادة، المكانة، والاسم. هذه أسباب كافية لكنها ليست محترمة جداً. لا نكتب في سبيل أحد لكن الكتابة عملية غنية. انها تقودنا إلى ان نكون أفضل من أنفسنا. تقودنا أحيانا إلى التزامات كبرى. لحظة البحث ولحظة الكتابة ذات نواة شبه صوفية. انها الذهاب بعيداً في أي شيء، اللغة أو الخيال، التأمل والتصور. لكن الذهاب بعيداً يجعلنا نعثر غالباً على أسباب قوية لكتابتنا.
الذهاب بعيداً يحيلنا على لحظات اتحاد مع شيء أعظم منا. لم نكن لنكتب شيئاً ذا أهمية لولا هذا اللقاء بما اسمّيه "الكون" في لغة هايدغرية. الكلام غدا معقداً قليلاً ومن الأفضل ان لا استمر على هذا النحو. لكني أظن أننا نبحث عن سبب للكتابة ليس فيها تماماً. سبب أخلاقي على الأقل. وأحياناً نجد هذا السبب أثناء الكتابة نفسها. دعك من نرجسية الكتاب، فالكتابة نفسها لا يمكن ان تكون عملاً نرجسياً. لا يستطيع الكاتب ان يكون فعلاً ما هو عليه في كتابته وإلا فلن تنتج الكتابة إلا السخف والميلودرامية والابتذال. الكتابة فرصة لنخلق في موازاتنا شيئاً اكبر منا. تجعلنا نبدو أفضل بدون ان نكون كذلك فعلاً. لذا أظن ان الكتابة نوع من حياة موازية، من حياة أخرى.
جماليات القسوة
قد تكون ملاحظتك عن القسوة في محلها تماماً. أظن ان هذه القسوة هروب وخوف وربما هي ادعاء. انها هروب من أي إثبات يجعل النص في مرمى المحاكم. حين تقول نعم، حين ما ان تثبت شيئاً يمكن الآخرين دحضه. لكنك حين لا تقول سوى قسوتك فإنك تنجو. هناك خوف فعلي من السخف الذي لا يشك الكاتب انه موجود فيه وانه مغطّى بقشة، وان كثيراً من الاسترسال وعدم التجنب يؤديان إلى إظهاره. ثم هناك ادعاء ان نقول كلاماً لا يمكن إزالته في ما بعد، لمجرد انه لا يثبت شيئاً وكأننا بهذا نمنحه للخلود. أظن تستطيع أحيانا ان تلمح في كتابتي ملازمةً للمفارقة وخوفاً دائماً منها في آن واحد. ربما كانت الماركسية في أصل هذا الإحساس بالمفارقة بإشكالية الأشياء لكونها جميعاً مغزوة بغيرها، بكونها جميعاً مجرد تقاطعات. لا تملك الأشياء أي كينونة في هذه النصوص. انها موجودة بدرجة ما تحت سؤال ما، في علاقة ما، في تضارب ما. موجودة دائماً في استعداد للنفي والسلب. انها موجودة دائماً في وصفها إشكالات. هذا ما يجعلني هذه المرة أتجرأ على نصي لأقول ان الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا النص هو السخرية الخفية والصامتة. إذا كان الفراغ هو وحده النواة الفعلية لكل هذا الكلام، فإن السخرية تستطيع ان تحل محله بجدارة. استطيع ان أتكلم عن جماليات القسوة وليس في هذا جديد. تملك القسوة جاذبية لغوية بالنسبة اليّ. الكلام لن يكون مصيباً ودقيقاً ومحدداً إذا لم يتعرض هو نفسه لهذه القسوة. فالقسوة هي قسوة على الكلام أولا، وقسوة على اللغة. اللغة هي التي تعاني من جعلها صارمة ومروّسة بهذا الشكل. لست قاسياً على المستوى الشخصي، الذين يعرفونني يعرفون كم ان طبعي غير قادر على هذه الدرجة من الصلابة. لست صلباً بما يكفي، بعض أصدقائي وصديقاتي يقولون إني اخفي قسوة ما في داخلي تظهر في لحظات نادرة. في الواقع أخفي في داخلي شعوراً كبيراً بالسخف وقدرة هائلة على السخرية الصامتة التي نادراً ما أجد تمثيلاً لها، لأنها في الغالب اكبر من أي تعليق أو نكتة. انها علاقة بالعالم قائمة على التجنب وربما على السلب. أظن ان إلحاداتي المتتابعة وآخرها الإلحاد بالماركسية جعلتني على هذا النحو. لم استطع ان أهضم هذه الالحادات أو أتجاوزها. إني أعيش في تكيف مستمر معها. وكما ان الشعر في أحيان معجزة، فإن الحياة على هذا النحو هي أيضا معجزة. انها تعني، كالشعر تماماً، ان تصنع شيئاً من اللاشيء، ان تتخذ موقفاً من لا موقف، ان تحب من لا ثقة، وان لا تستطيع الكره كما لا تستطيع ممارسة أي إيجاب كامل. ان لا تستطيع الكره لا يعني ان تكون نبيلاً، بل يعني ان تسقط فريسة للخوف من أي عداوة. يعني ان تتصرف كما لو ان لا شيء يستحق أكثر من ابتسامة خفيفة وهزة رأس وسخرية داخلية ومبارحة لقدر من الرقة.
القصيدة طبيعة أخرى للشاعر
أحاول في هذا الحديث ان أجد تساوقاً بين طبيعتي وكتابتي. ذلك شيء لم أفكر فيه من قبل وأجده الآن بفضل هذا الحديث ممكناً. لكني لا أصل إلى حد القول ان الشعر دون غيره يمكن ان يكون نتيجة طبع ما. لا أظن ان هنالك طبعاً ما ينتج الشعر. الخوف والبارانويا قد ينتجان مرضى وأصحاء وتجاراً وسياسيين. أظن ان الكتابة تبدأ من الكتابة، من هذا الشعور بأننا نستطيع ان نؤلف. وإننا نملك علاقة ما بالكلمات. انها تبدأ كإيقاع، كفن، بعد ذلك تبدأ بالبحث عن مضمونها. أولا، عن الشخص الذي يصنعها، تبدأ بالدخول في نفسه وعالمه. هذه العملية صعبة جداً وتستهلك كل أعمارنا الكتابية. لا نعرف كيف تصل الكتابة إلى كاتبها وكيف تتغلغل فيه وكيف تسترجعه وبأي طريقة يتم هذا الاسترجاع. لا نعرف على الإطلاق ما هي الغاية من ذلك. ليس مهماً للكتابة، على ما أظن، تخليد صاحبها، وليست هذه هي مهمتها أصلاً. إنما نبدأ من اللعب بالكلمات وبعد وقت تستولي هذه الكلمات جزئياً علينا وتبدأ باللعب بنا. نبدأ باللعب بالكلمات لكنها، من جهتها، لا تكتفي باللعب، بل دائماً تبحث عن أبعاد أخرى. هكذا نعثر في أحيان كثيرة على قضايا. هكذا يمكن بناء خرافة الكاتب الملتزم، أو المناضل. أقول خرافة ليس استنكاراً أو تقليلاً بل لأن كل هذه التمثلات اياً يكن مرماها لا تعدو كونها خرافات. قد أجد، كما سبق ان حاولت، في أجوبة سابقة تساوقاً بين طبعي وكتابتي. الآن أجد هذا ممكناً ولكن فكّر في أني قريباً سأبلغ الستين ولم أصل إلى هذه النتيجة إلا بعد أربعين من الكتابة. يعني أن هذا الاستنتاج متأخر إلى درجة تشكك في صحته. ما استطيع قوله ان الكتابة طبع آخر، وان قصيدة شخص هي طبيعة أخرى له. لماذا لا نرى الأمور على هذا النحو. يمكن البسيكولوجي ان يجد صلة ما بين الطبيعتين. الكاتب يفعل ذلك من دون وعي. أظن ان هذه العلمية السرية تعطي قوة ومعنى للكتابة. لكنها سرية وغير واعية.
المثقفون يخافون الكلام
ويخافون أنفسهم
بعد أربعين سنة اخجل ان أقول إني أيضا أجد بدايات أخرى واني لولا هذه التجربة الطويلة التي مرت لقلت ان البداية هذه المرة هي البداية الصحيحة. لكن كما ترى ان هذا سيكون مضحكاً. كنت في زيارة محمد الماغوط من فترة قصيرة. وضع كتابه أمامي وقال انه أفضل كتبه. طبعاً جميعنا كنا نعرف ان الماغوط كتب أفضل كتبه من ثلاثين سنة على الأقل ولم نعلق على كلامه. لكني اذكر هذه الحادثة لأقول ان الشيء الذي يجعلني ربما اقل موهبة من الماغوط هو إني لا املك هذه السذاجة التي تخولني القول انه بعد كل هذا العمر وجدت طريقي. أريد القول إني في هذا العمر وكل عمر أريد ان استطيع مجدداً ان أبدأً. لكن بعد هذه الأربعين اشعر إني أتحرر قليلاً كإنسان من بعض تابواتي. ان خجلي بنفسي الذي يتحول إلى قسوة، يقل، واني استطيع الآن ان أقول بدون قلق كبير عدداًَ كبيراً من جوانب ضعفي. وان اضحك أحيانا منها كما يضحك الآخرون. انه أمر محزن ان نحتاج كل هذا العمر لنعرف إننا لسنا آلهة. وأننا أخيرا نشبه كثيراً البشر الذين لا نفضل ان نكون منهم. ربما بدا هذا في ما اكتبه. ليس الكلام سهلاً بالطبع أما الكتابة مهما تكن، فهي صعبة وهي مقيدة وهي تحت سيطرة نجم غامض وبعيد، نجم الإيقاع ونجم الوحي، ولا نستطيع ان نكتب بالحرية التي نتكلم بها. لكننا دائماً نحسب انه هناك إمكاناً ما. ان هناك عملية معقدة ومواربة تجعل قدراً من حريتنا ينفذ إلى عملنا عبر كل هذا العدد من الحواجز والرقابات. ان هذا يشبه المعجزة. لكن الكتابة هي دائماً معجزة. ان تقول المعنى عبر الصوت ان تقول ما ليس لك وان تتكلم ابعد من نفسك واكبر من نفسك. هذا طبعاً معجزة. نحلم ان معجزة أخرى تقع، هي ان تجد نفسك اللعبة الكافية التي تجعلها تتهرب عبر كل التعقيدات إلى داخل كلامك. ما أقوله هو ان مزاجي اللغوي، مزاجي الكتابي، يتغير. انه يبحث الآن عن كلام يشبه المباشرة أكثر. عن كلام يشبه أكثر المتعة الذهنية واللغوية التي أجدها في نصوص غير شعرية وأحيانا غير أدبية، يشبه أكثر التشبيك الذي أحبه بين عدد مختلف من الأنظمة الفكرية والكلامية. يشبه مثلاً، إذا استرشدنا بالتشكيل، التجميع والكولاج وحتى التجهيز والفن المفهومي.
هذه مشكلة أخرى، حالياً أتمنى ان اكتب ما يمكنني على الأقل قوله. افعل ذلك بمقدار. أبدو لذلك كأني في نصوص أخيرة أتجاسر أكثر على السخرية من نفسي. لكني في الواقع افرق بين الكلام والكتابة. أظن للحديث دوراً يختلف عن كتابة المقال إذا لم يوجد هذا الدور أو تلك الوظيفة فلا سبب لأحاديث صحافية. إذا كانت الأحاديث الصحافية ستكون مقالات شفوية فلا حاجة لها وقد لا يكون هذا الحديث شيئاً آخر. الواقع إننا نخاف من الكلام. قد تكون هذه صفة من صفات المثقفين. يخافون من الكلام بقدر ما يخافون من أنفسهم، بقدر ما يعتمدون على نصهم في تقديمهم بدلاً من ان يعتمدوا على أنفسهم. انهم يخافون من الكلام. فكّر كم يبدون بليدين أمام التلفزيون. أظن ان المشكلة تقع أولا في الثقافة التي يجعلها الكلام المباشر تظهر على ضحالتها وعموميتها بحيث يبدو الكلام افتضاحاً لما وراءه. وقد يكون افتضاحاً للنص الأدبي نفسه الذي ينكشف بالكلام. ثم هناك ثانياً هذه العلاقة الصعبة مع النفس والموجودة لدى مثقفين لم ينموا في الغالب بشكل متوازن، وفي شخصياتهم من التفاوت والتضارب ما فيها. الكلام يكشف غالباً هذه الفجوات التي يمكن تغطيتها عادة بالكتابة. فللكتابة طرائق على الأقل لتبدو ذات مظهر جيد. والكتابة أحيانا ليست سوى مظهر، وبقليل من التدريب يمكن إنتاج كتابة لها شكل ولها طرف وذيل. الكلام فن أكثر من الكتابة، وأظن ان كثيرين لا يتقنون هذا الفن أساسا. ثم ان ما ينقص أحاديثنا عادة قدر كبير من التواضع والخجل واللعب مع الذات، إذ يبدو ان المتحدث يسترشد فوراً بنمط أو مثال قائم على ادعاء الكمال والصحة واليقظة والاستباق والنباهة في كل ما يفعل. أنا كما تعلم صحافي وأقوم بأحاديث صحافية متوالية، واذكر إني في غير مرة كنت أقول لأديب هل وصلت إلى ما وصلت إليه في الشكل والحبكة والتركيب بسبب المزاج أو المصادفة، لأن هؤلاء الكتاب كانوا يصرون على انهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه بسبب كونه الأفضل والأصح والأنسب والأسلم. اذكر ذلك الرسام الذي كان يقول انه يرسم "صح" وعبثاً كنت أقول له ان الصحيح لا صلة له بالفن وان الفن قد يكون انحرافاً وتهجيناً وأي شيء باستثناء ان يكون صحيحاً. على كل حال أود ان أقول إني كل مرة أجريت حديثاً ندمت لدى قراءته منشوراً إذا إني في كل مرة أجد شيئاً من التهريج والتخريج في ما قلته واني تشاطرت في لحظات لكنه بدا في النتيجة مبتذلاً ومفضوحاً، لذلك لا أعرف لماذا استمر في الأحاديث. أظنه لأسباب غير مشرفة ان أقرأ اسمي، أن أرى صورتي، ان أعامل كإنسان مهم يمكن الحديث معه وتقديمه للآخرين. ذات يوم أجريت حديثا مع صحافي سوري بداعي الخجل. لكن الخجل في أمور كهذه اشد سخفاً لأننا ينبغي ان لا نفعل الخطأ نفسه مرتين فنخجل حيث لا ينبغي الخجل ونقول سخفاً حيث يجب إلا نقول السخف. وعوقبت حيث ان هذا الصحافي أعاد تبويب كلامي بحيث بدا مهزلة. واعترضت لكن لات حين اعتراض. فهذه البلاهات نشرت وقرأها من قرأها، وكان عليّ ان اتعظ ولا اتعظ. إنما أفكر دائماً ان اعتزل الأحاديث أو إبقاء حديث واحد كل عام. لأني إلى الآن لا اعرف ما هو الحديث الصحافي. إذا لم يكن مقالاً شفوياً فماذا يكون؟ كيف يمكن ان نخرج الكواليس والملابسات التي تسبق العمل الفني. ان نخرج التجربة الفعلية التي تولد الفكرة والسؤال والنص. هذا مهم لكنه فن آخر، مثقفونا لا يعرفونه، ولست أظن إني أفضل منهم في هذا.
النهار الثقافي
الأحد 8 أيار 2005