من (صور) و (الوقت بجرعات كبيرة) إلي (ب.ب.ب) استطاع الشاعر اللبناني عباس بيضون أحد أبرز شعراء الجيل الثاني لقصيدة النثر أن يحفر لتجربته مجرى خاصا وأساسيا في تجربة قصيدة النثر عربيا ولبنانيا ، ويحقق تأثيرا واسعا علي تطور رؤيتها للشعر ذاته وللعالم بمختلف مفرداته ، فقد خرج علي تجربة الرواد التي اختلط فيها الشعر بالتنظير والبيان متجاوزا ومعمقا ومؤسسا لقصيدة نثر يرى أنها نوع أدبي أخر أحد صفاته أنه نوع بين أنواع ، يتغذي من هذه الأنواع ويبقي قلقا ومعلقا بينها ويفتح باستمرار عليها .
و لبيضون ما يزيد عن أربعة عشر ديوانا تشكل اتجاها ونسيجا رئيسا في تجربة قصيدة النثر العربية من بينها ( خلاء هذا القدح) و(صيد الأمثال ) و(نقد الألم )و( زوار الشتوة الأولى )و( مدافن زجاجية - حجرات )و( أشقاء ندمنا )و( لمريض هو الأمل)و( لُفظَ في البرد) وله عمل روائي بعنوان (تحليل دم) وهو من الأعمال الروائية المهمة التي صدرت في السنوات الأخيرة .
الشاعر الكبير كان ضيفا علي ملتقي الشعر العربي الذي عقد بالقاهرة أخيرا ، التقته (الشعر) وكان هذا الحوار .
** المتابع لمسيرة عباس بيضون المبدع والمثقف يمكنه أن يلحظ انعكاسا واضحا من رؤى الشاعر علي مواقف المثقف ومن مواقف المثقف علي آراء الكاتب ومن آراء الكاتب علي مواقف السياسي ، وهذا يجعلني أسألك عن مشروعك الشعري الذي عملت ولا تزال تعمل عليه إلي أي مدي أثرت عليه مواقف المثقف والكاتب والسياسي ؟
هذا سؤال صعب فيما يبدو لي ، لا أجد جوابا ، لا أعرف إذا كان هناك ثمة مشروع شعري فعلا لي أم لا ، إذا ووجد مشروع شعري لشاعر فهو علي ما أظن قائم وموجود في ضمير وسر ووعي العمل ،ولابد لهذا المشروع إذا كان موجودا واتفقنا علي وجوده ، وهذا ليس أكيدا ، قد يكون خفية عن الشعر ، كل ما أظن أنه يطور علي نحو ما فكرة أولى ، مقترب أول من العالم ، وأن هذا المقترب الأول ينمو ويتوسع مع الزمن . وشخصيا لا أعرف لي مشروعا ـ إذا جاز التعبير ـ إنما أحس أن الفترات العديدة التي يتقطع إليها عمل شاعر لابد أنها تحوي رابطا ما داخليا ولابد أن يتكون من ذلك كله ما أسميه عالم الشعر ، أظن أن الشعراء يبنون عوالم بمعنى ما أكثر مما يبنون مشاريع ، أظن أن هنا علاقة ماكرة وخفية ولا مباشرة قد توجد ما بين الشاعر وشعره ، بمعنى أن الشعر قد يكون قصاصات ، نوعا من البازل من حياة الشاعر ، شكلا من أشكال تشتيت الشاعر وتضييعه في عمل أكبر منه كما يفعل الحلم ، فإذا كان الحلم يشتت فكرة ويقطعها ويشتت موقفا ويقطعه ، فلابد أن الشعر يفعل فعل الحلم ، الشاعر يوجد في شعره كما يوجد المرء في حلمه ، بمعني أن هذا الحلم عبارة عن شتات وقصاصات مقلوبة ومشتتة ومبعثرة وضائعة في بعضها البعض .
إن حلم الشاعر بأن يصل بين حياته و شعره حلم قديم ، حلم خائب علي كل حال في كل مرة ، لكن هذا الحلم مستمر ، الشاعر يريد أن يكون شعره ـ إذا جاز التعبير ـ صورة عنه ، لكن الشعر يتفلت ويهرب ، الشعر له طريقه الخاصة ومساره الخاص ، هو لا يتحول إلي وثيقة ، ولا إلي اعتراف ولا إلي مذكرات ، إنما قد يوجد الشاعر علي نحو ما في شعره ، قد يوجد كنواة ، قد يوجد كعنصر صوت في القصيدة ، عندما أفكر في المتنبي ، طالما قيل لنا أن شخصية المتنبي في شعره ، وهذا كلام غامض ، لكن تستطيع أن تقول أن شيئا ما كالمتنبي في شعر المتنبي ، طبعا هذا مثل لا يقصد منه إطلاقا الكلام عن نفسي أو إيجاد شبه ما قريب أو بعيد بيني وبين عملاق كالمتنبي ، إنما أريد أن أقول أنه بالنسبة لي حرص الشعر حاليا علي أن يتوسع في الحياة ، علي أن يتوسع في كل أنظمة الفكرة الأخرى ، علي أن يتوسع في السياسة وفي المعيش وفي اليومي وفي العلم والفكر والفلسفة ، هذا بالنسبة لي حلمي الشعري ، بالنسبة لي ما يمكن أن يفعله الشاعر في الشعر العربي الآن هو توسيع رقعته ، بمعني أن هذا الشعر يستوعب ـ إذا جاز التعبير ـ كل ما يبدو لأول وهلة أن ما بينه وبينه حدودا . الشاعر عبارة عن تيار ، فعندما نتكلم عن حياة وسيرة شخصية فنحن لا نتكلم عن شيء متماسك ولكن نتكلم عن تيار، تيار من الأفكار والمواقف والآراء ، أظن أن علي الشاعر أن يتسع لهذا التيار.
** بدأت الكتابة في أوائل السبعينيات ونشرت أولى أعمالك (الوقت بجرعات كبيرة) عام 1982 وكان عمرك وقتئذ ثمانية وثلاثين عاما أي أنك عشت الثورة الشعرية اللبنانية إذا جاز التعبير في أواخر الستينيات وخلال السبعينيات ، هل كانت هذه الثورة أحد أسباب تأخرك في دفع أولى أعمالك للنشر خاصة وأن ديوانك (صور) يسبق في الكتابة هذا الديوان ؟
مجموعة صور عبارة عن قصيدة طويلة كتبت بعد انقطاع سبع أو ثماني سنوات عن الكتابة ، كتبت علي أعتاب الحرب الأهلية ( كتبت سنة 1974 )، والحرب جعلتها بالنسبة لي ولفترة طويلة ماضية ومتجاوزة لأسباب لا أريد الآن أن أدخل فيها ، هذه قصيدة ملحمية ذات فضاء تاريخي ومكاني ، وكل ذلك تفتت بفعل الحرب وضاق وتجزأ وتحول إلي ذرات صغيرة ، المكان والزمان تجزآ بفعل الحرب وتحولا إلي زنزانات مغلقة ، ولحظات ضيقة ، وبات بالنسبة لي مستحيلا البدء بنشر ـ كتابة ذات حيز فضائي ومكاني وزماني وتاريخي واسع كما هو الأمر في قصيدة صور ـ كتابة إنشادية وملحمية ، وتأخرت مرة ثانية لمدة خمس سنوات بدون كتابة إلي أن عثرت مجددا وعبر قراءاتي وتفكيري علي كلمتي الشعرية .
في الواقع هناك تاريخ من الانقطاعات ، لكن لا في (صور) ولا في كتابتي التالية كنت معنيا بما تسميه الثورة الشعرية اللبنانية ، أنا من الشعراء الذين كان شعرهم ردا ضمنيا علي هذه الثورة ، ولا أنتسب شعريا إلي مجلة (شعر) مثلا ولا أنتسب شعريا إلي الشعراء اللبنانيين المعروفين ، بالعكس شعري كان ردا علي التجريدية والشمولية والتشخيصية والجمالية المفرطة والفصاحة والدراماتيكية المفرطة والبطولية ـ بطولية الشخص بعد الشاعر أن يبدو كبطل لشعره ـ ، شعري تماما في المقلب الآخر ، وأرد ذلك في الواقع إلي ماركسيتي ، كنت آتيا من ثقافة أخرى ، كنت آتيا من الجنوب سيرة أخرى وآتيا من الماركسية من ثقافة أخرى ، وآتيا من الشعر العالمي من منبع آخر ، وحتى عندما كتبت قصيدة (صور) مثلا كانت تملك رؤية تاريخية وثقافية وسياسية ـ إذا جاز التعبير ـ لا تشبه الرؤى المجردة والتشخيصية والطوبوية سواء كانت الطوبة المضادة أو الطوبة الشعرية التي نجدها في الشعر اللبناني ، تأخرت لأسباب عديدة بعضها ذكرته عن النشر ، كتبت (صور) ورأيت أنها ماضية بسرعة وبفعل الزمن والحرب ، واقتضي الأمر وقتا طويلا لأفكر أن (صور) ليست ماضية وأن بوسعي أن أعيد نشرها ، وانتظرت خمس سنوات حتى عدت للكتابة عام 1978 ، ثم هناك كسلي الشخصي عن النشر ، لقد نشأت في جو لا يحترم كثيرا بروز الأسماء ، كما اقتضي الأمر وقتا طويلا حتى أهتم باسمي .
** هل نفهم في ضوء ذلك أن مجلة (شعر) تركت تأثيرا سلبيا علي مجمل التجربة الشعرية العربية ؟
لا أريد أن أقول أن (شعر) كان لها تأثير سلبي علي الشعر العربي ، هذا كلام غير تاريخي ، نحن لا نستطيع أن نحاكم الآن فترة ماضية ، كانت (شعر) ابنة فترتها ، هذا ما أريد قوله ، لنتوقف عن عبادة (شعر) وعن تصنيم (شعر) ، كانت شعر ابنة لحظتها ، وهذه لحظة متجاوزة ولا يمكن تخليدها عمليا ، هذه اللحظة متجاوزة ثقافيا وفلسفيا وشعريا ، الآن نحن في عصر آخر وعلي الشعراء أن يعرفوا ذلك ، وأظن أن هذا معيار لفعاليتهم الشعرية أن يعرفوا لحظتهم .
مجلة (شعر) بصورة أو بأخرى كانت بنت ما سميته في مقال أخير عصر البراءة ، عصر الطوبة الشعرية ، عصر الأمل بالشعر ، وعصر التشخيص والدراماتيكية في الشعر ، وعصر البيانات الشاملة ، وعصر تقديس الشعر ورفعه إلي الملكوت الأعلى وعزله عن الخارج والواقع والمعيش واليومي والسياسة والفكر ، من أجل ذلك كان لمجلة (شعر) محظوراتها التي تفوق المحظورات الكلاسيكية ، وتنظيرتها الضيقة كثيرا في بعض الأحايين ، وأنا لا أنتقد هذا وإنما أريد أن أقول أنه لا مكان له بعد .
** أيضا يلاحظ أنك تقدم وتؤخر في نشر أعمالك لكني لا أستحضر مثالا واضحا لكنك قلت مرة بشأن أحد نصوص ديوانك (ب ب ب) وهو نص (كفار باريس) كتب منذ فترة طويلة حوالى 12 سنة بينما برلين بعد فترة وبيروت بعده.. هل من سبب فني وراء ذلك ؟
في الواقع أن نص (كفار باريس) نشر في ديوان (لفظ في البرد) وأعيد نشره في (ب ب ب) ليكون الكتاب كتاب أمكنة ، وليس هناك من سبب آخر ، لقد أخرّت فقط نشر (صور)لأني اعتبرت أن (صور) تنتمي إلي ماض شعري وثقافي كنت لا أريد أن أقدم فيه نفسي أولا ، قدمت نفسي بـ (الوقت بجرعات كبيرة) الذي كتب تقريبا عام 1978، بعد أربع سنوات علي كتابة (صور) ، كنت أظن أن (الوقت بجرعات كبيرة) لا يقدمني فقط ولكن يقدم لحظتي ، لكن بعد وقت فكرت وفكر معي أصدقاء أن (صور) ليست متجاوزة علي هذا النحو وأن الشعر ليس حدثا سياسيا ليتجاوز علي هذا النحو ، وبالفعل أعدت نشر (صور) ، والغريب أنني لم أعد نشر (صور) فقط بل أعدت كتابتها عدة مرات أخرى .
** حمل الجيل الثاني لقصيدة النثر عبء البناء بعد تأسيس الرواد باعتبارك أحد أبرز شعراء هذا الجيل كيف كنت تنظر وتقيم تأسيس جيل الرواد وقت أن بدأت الكتابة وكيف تنظر إليهم وتقيمهم الآن ؟
عندي كل الاحترام للرواد لكني لا أؤمن بأن للريادة حقا علي التاريخ وحقا علي الشعر ، الريادة مسألة تاريخية وزمنية وينبغي أن نضعها في هذا الإطار ، والرواد مثل غيرهم ينظر إليهم انطلاقا من إنجازهم وعوالم ومساهماتهم الشعرية ، لا أريد التبحر في الجواب ، أريد أن أقول أن شعر الرواد كان مختلطا ببياناتهم ونظرياتهم وكان مختلطا ـ إذا جاز التعبير ـ باللحظة التاريخية التي نشأت فيها الريادة وهي لحظة مشروع تاريخي كبير ولحظة قومية ولحظة حلم عربي ما لبث أن زال سريعا ، لكن عمل الرواد اختلط ببياناتهم الشعرية التي تجعل الشعر محركا للثقافة العربية كلها وللمستقبل العربي كله وللتاريخ العربي كله ، واختلطت أيضا أعمال الرواد باللحظة الكبرى التي هي لحظة الحلم العربي ، فبتنا نقرأ أعمالهم انطلاقا من هذا الخليط بدون أن نفرز الشعر عن النقد والبيان واللحظة التاريخية ، ونحن إلي الآن لم نفرز الشعر عن مجمل هذا الخليط ، وأظن أننا لو فعلنا ذلك لاستطعنا أن نجد أن شعر الرواد لا يطابق لا بياناتهم الشاملة ولا اللحظة الكبرى التي كان شعرهم فيها ، ولوجدنا أن هذا الشعر مثله مثل كل شعر يعاني ما يعانيه كل شعر ، وأذهب إلي القول أن هذا الشعر لا يتعدى الشعر حتى في العمل الشعري ، لأن العمل الشعري كان يضع نصب عينه أحيانا أنه بيان حياة وفكر وتاريخ ، لذلك نجد أن هذا الشعر أكثر من الشعر ، وفي أحيان كثيرة يتعدى الشعر ، وأن فيه كثيرا من الأيديولوجيا وكثيرا من البيان الثقافي ، وكثيرا من ـ إذا جاز التعبير ـ الدعوة الفكرية العامة ، عندما نقرأ مثلا مديح شاعر للرفض ، ماذا يعني مديح الرفض؟! هذا موقف ومقام أيديولوجي ، ونقرأ صخبا وصراخا واحتجاجا ليس شعريا بالضرورة ، في نظري وبكل بساطة أن عمل الجيل الثاني كان أكثر استقامة إذا نظرنا إليه من منظور الشعر كان إنجازا أكثر مما كان عمل الرواد ، وكان إنجازا بصعوبة الإنجاز ودقته وإشكاليته ، شعر الجيل الثاني لم يكن يملك البيانات الكبرى لشعر الرواد لأنه كان ارتدادا علي هذه البيانات ، ولأنه كان في جانب منه تأملا ونظرا نقديا في استحالة هذه البيانات وفي تفاوضها أحيانا وفي سطحيتها أحيانا كثيرة وفي أيديولوجيتها أيضا .
** بعد تجربة رواد قصيدة النثر ثم تجربة الجيل الثاني إلي أين تمضي التجربة الآن ؟ هل أنت راض علي ما حققته علي يد الأجيال الجديدة وإذا كان ثمة خلل أصاب التجربة فما هي أسبابه وكيف نقومه ؟
ليس المسألة رضى أو عدم رضى ، من أنا لأرضى أو لا أرضى ، أنا جزء من هذه التجربة ولا أستطيع أن أضع نفسي فوقها أو خارجها ، إنما أقول أن هذه التجربة وهي تجربة أجيال عديدة ولا أستطيع أن أنسقها ـ إذا جاز التعبير ـ في صف واحد ، هي عبارة عن أجيال وأساليب وعن رؤى وعن مقتربات وعن ثقافات ، وما يمكن أن تعانيه هذه التجربة أولا عبادة الرواد ، لأنه في بعض مواضع هذا الشعر أشعر أن الشعراء يكتبون وكأن الشعر انتهي واستقام تاما كاملا في مثالات لا يمكن تعديها وأجد رغاء لا يعدو أن يكون استعادة لشعر الرواد ، ثانيا أن ما يمكن أن يشكو منه شعر هذه الأجيال ـ وهو ما تشكو منه الثقافة العربية بشكل عام ـ هو الاستهلاك الثقافي السريع ، الاستهلاك السريع لرؤى ومقتربات ، بمعنى أن القصيدة سرعان ما تجد مثالها وتقف عنده ، وأن الشعر سرعان ما يتحول إلي تنويع وإعادة إنتاج ، ثالثا أخشى علي هذه التجربة من بعض الادقاع الثقافي باسم الحياة والمعيش واليومي والتفصيلي والسردي إلي آخره ، وأخشى علي هذه التجربة من أن تبني فقط علي التراث العربي وأن تجد أن التراث العربي يكفي مرجعا ، أظن أن علينا أن نكرر تجربة الرواد في التواصل مع العالم وأن نعتبر هذه التجربة في التواصل مع العالم تقليدا في شعرنا لابد من الحفاظ عليه ، رابعا أظن أن المشكلة الكبرى هي البحث عن توسيع الشعر ، وتوسع الشعر لا يمكن أن يكون فقط باتجاه اليومي والمعيشي ، لابد أن يتم توسيع الشعر باتجاه الفلسفي والعلمي والفنون الأخرى ، وأظن أن قدرة الشعر علي التواصل مع أنظمة فكرية وعلمية وفلسفية الآن معيار قدرته علي البقاء والاستمرار .
** يرى البعض أن الشعر العربي بكل أشكاله في مأزق ويردون الأسباب إلي شعرائه تارة وإلي قصدية تحجيمه من قبل بعض المؤسسة الرسمية الثقافية حينا ، وكثيرا ما يحملون الأجيال الجديدة أسباب هذا المأزق ، كيف ترى الأمر ؟
لا أحب كلمة مأزق ، وإذا شئنا فكل حياتنا في مأزق ، إذا كنا نعني بالمأزق التعليق و الجمود والاستبقاء وعدم الحركة ، فكل حياتنا في مأزق وليس الشعر وحده ، والرواية أيضا يمكن أن تقع في المأزق نفسه ، والفكر بطبيعة الحال والثقافة كلها والسياسة .. إلي آخره .
لا يهمني في الواقع تشجيع المؤسسة الرسمية ، أنا آت من بلد الثقافة فيه حرة وليست مؤممة ، ومازال الشعراء لا يحتاجون كثيرا أو قليلا إلي هذا التشجيع الرسمي ، كما أن فضيلة الشعر أنه فن لا يطلب من صاحبه ورشة عمل ولا جمهورا واسعا ولا تمويلا كبيرا ، وأن الشاعر يمكن أن يكون شاعرا بمجرد أن يملك ورقة وقلما ويملك إنترنت ، ولذلك لا أعلق كثيرا علي المؤسسات الرسمية ودعك من المؤتمرات ، المؤتمرات كلها وخاصة العربية ليست سوى جزء من فلكلور ثقافي ولا تزن شيئا قليلا أو كثيرا في مسيرة الشعر ولا في تقييم الشاعر .
** في كلمته بافتتاح ملتقي الشعر العربي قال الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أن الشعر في خطر ، برأيك ماذا قصد بكلمة خطر ؟
الواقع أن الشعر في حالة احتضار وليس في خطر فحسب ، تجاوز الشعر مرحلة الخطر وأصبح في العناية الفائقة ، هذا ما نعرفه بوضوح ، يكفي أن تقرأ مجلة أدبية فرنسية لتجد علي مائتي صفحة تفتقر إلي صفحة واحدة للشعر ، فتعرف أن الشعر بات في الغيب ، بات في العناية الفائقة ، بات في السر ، بات فنا هامشيا ، وبات الشعراء شيعة خاصة .
لماذا صار الشعر هامشيا إلي هذا الحد بعد أن كان رئيسيا ، هناك أسباب كثيرة بطبيعة الحال علي رأسها أن الشعر ما عاد مطابقا لمفهومه ، الشعر بمفهوم الأول هو تغني بالحياة ، وتغني بالحب ، وإذا جاز التعبير هو تجميل للحياة ، وإعطاء أمل ، الشعر حاليا دخل في مفهوم أخر للثقافة مفهوم شكي ونقدي وعدمي وإحباطي ، والشعر سبق الرواية في كونه فنا شكوكيا ونقدا نقديا للنقد ورؤية بلا أوهام للعالم ، وإذا تحول الشعر إلي رؤية بلا أوهام وإلي ثقافة لا تتغنى ولا تتجمل ولا تعطي أملا أصبح فجأة غير ضروري . شعر الغناء لازال حيا ، لأن الغناء مازال يتغني ومازال يعطي أملا ، بينما الشعر الشعري لم يعد كذلك وانحاز إلي مفهوم آخر ، مفهوم نثري بالكامل حتى لو كان موزونا .
** هكذا تظلم الشعر ؟
لا أظلم الشعر إطلاقا ، أنا شاعر من هذه الزمرة ولا أجد نفسي في هذا العصر وفي هذه الثقافة قادرا علي بيع الناس أوهاما ولا علي تجميل الحياة وتزيينها ، في وسع شاعر أغنية أن يفعل ذلك ، أن يتكلم عن الحب بوصفه طوبة وعلي الوطن بوصفه مثالا وعلي الحياة بوصفها فتنة ، أنا لست مع هذا الوارد ، لأنني أنتمي لثقافة أخرى وإلي رؤية أخرى للعالم ولا أستطيع أن أنفصل عنها ، لا أستطيع أن أبيع الناس جمالا وغناء ، وعليّ أن أقبل المصير الذي اختططه لنفسي ..
هناك شاعر كـ (برنال نويل) وهو شاعر فرنسي كبير يرى في ذلك جانبا إيجابيا أن الشعر يتحرر من الميديا والعولمة والجاليري والسوق ، ويجد أن الشعر بذلك يصبح فنا حرا ، ولا يهم (برنال نويل) مجديا أو لا مجديا ، فاعلا أو غير فاعل ، في أحيانا كثيرة أفكر كـ (برنال نويل) ، وفي أحيانا أخرى أفكر (لا) وأن علي الشاعر بدون أن يبيع الناس أوهاما أن يساوم ، أن يعقد مساومته الخاصة ، هذه المساومة الخاصة هي مساومته ، يعني ليست مساومة موصوفة أو لها شروط مسبقة ، لكل شاعر أن يصنع مساومته ، وأظن أنني واحد من هؤلاء الذين يقومون بمساومتهم الخاصة . وأظن أن كتابي (ب ب ب) هو جزء من هذه المساومة التي أحبها ولا أعتبرها خيانة ، لكن علي كل حال ما هي الخيانة ؟ من يستطيع أن يتنصل من الخيانة .
** من خلال متابعتي لمؤتمر قصيدة النثر الذي عقد بلبنان العام الماضي والذي أعتبر الأول عربيا لهذه القصيدة ، نشأت خلافات تكشف عن اختلاف الرؤى ظهرت علي صفحات جريدتي السفير والنهار .. الأمر الذي يدعو للتساؤل حول المشهد الشعري عامة و لقصيدة النثر في لبنان خاصة حاضره ومستقبله ؟
أولا مؤتمر قصيدة النثر كانت متواضعا لأسباب مالية ، ففات المؤتمر دعوة كثيرين ، وبالتالي مسألة الدعوة كانت عنصرا أساسيا في نقد المؤتمر، وهي لم تكن عن إهمال ولا عن اعتبار ولا عن انغلاق لبناني أو غير لبناني، وإنما لأسباب مالية .
أما السجال الذي دار بين جريدتي السفير والنهار فكان سجالا بين أشخاص، وربما كانت هناك اختلافات في الرؤى وقد حاولت في المقال المتأخر أن أقول أن الخلاف هو بين شعراء لم يعرفوا أن عصر الرواد انتهي وأن أنسي الحاج ليس آخر شاعر نثر ، وأن شعر الرواد كان فعلا ابتدائيا فقط في قصيدة النثر ، وأن العمدة في قصيدة النثر علي الأجيال الأخرى ، وأن هناك خمسة أجيال في الساحة الآن لا نستطيع نسيانها ، وأن إنجاز هذه الأجيال الخمسة عبارة عن مكتبة كاملة ، ومن ثم ينبغي أن ننظر لقصيدة النثر ابتداء منها ، وأنه ليس مهما القول أن هذه الأجيال الخمسة وأن هذه الإنجاز في الشعر العربي انحرف عن تعريف قصيدة النثر الفرنسي لنكون قلنا شيئا مهما ، لأن هذا الانحراف يتحول إلي خصيصة في قصيدة النثر العربية ويتحول إلي عنصر بنيوي ، وينبغي علي النقد أن ينطلق منه ، وأن هذا النقد الذي يقول أنه ينبغي أن نلغي هذه التجربة لمجرد أنها لا تطابق نظر بودلير لقصيدة النثر وليس شعر النثر إلا جزئيا كلام اعتباطي ، وأخيرا أن النظر إلي تاريخ قصيدة النثر وإلي التعريف الفرنسي لها كان بالنسبة لي وافيا جدا في المؤتمر، وأوفي بكثير من مقالة محمد بنيس مثلا المتعالمة كثيرا ، والتي في نظري كانت أقل بكثير مما ذكره كاظم جهاد وعبد القادر الجنابي اللذان قدما تعريفا وافيا جدا لقصيدة النثر بالمفهوم الفرنسي .
وبالنسبة للمشهد الشعري في لبنان أظنه مشهدا جيدا علي مستوى قصيدة الشعر وقصيدة النثر ، لأن هناك شعر وزن وشعر تفعيلة في لبنان وهو شعر جيد وأقيمه كثيرا ، وأظن أن لبنان في هذا المنحي أفضل البلدان ، لا تزال قصيدة التفعيلة فاعلة ، ولا تزال تحمل قدرا من الابتكار والتجديد ، فيما أظن أن قصيدة التفعيلة في حالة جمود تقريبا في كل العالم العربي عندما نتكلم عن الأجيال الجديدة ، وأن الذين يجددون هم الرواد مثلا محمود درويش ، لكن محمود درويش ليس شابا ، ونحن ننتظر التجديد والابتكار في قصيدة التفعيلة من الأجيال الجديدة التي هي في الغالب لا تفعل سوى التنويع علي قصيدة الرواد كما أرى وألاحظ عمليا .
وهناك قصيدة النثر في لبنان وسمتها الأولى هي التواصل ، بمعنى أنها لا تعاني انقطاعات ، هذه القصيدة بدأت مع مجلة شعر وتواصلت منذ ذاك الحين ، فهي قصيدة لها تراث ، وهي قصيدة متواصلة ومتصلة ، وهذا ما يسمح لها إلي حد كبير بأن تكون لها شخصية وأن تبدو وكأنها قصيدة تبني علي أجيالها علي بعضها البعض وتبدأ من بعضها البعض ، هذه في رأيي ميزة قصيدة النثر اللبنانية ، مما يعطيها بعض التماسك الذي لا نجده دائما في قصائد النثر العربية .
وأظن أن قصيدة النثر اللبنانية كشقيقاتها في العالم العربي تبدأ من رؤى ومقاربات مختلفة، يعني هذه القصيدة تبدأ من السينما ومن الرصيف ومن المدنية، وأظن أنها في الأساس قصيدة مدينة ، حاولنا في مؤتمر قصيدة النثر أن ندل إليها .
قصيدة النثر تتوسع بتوسع الحياة المدينية والثقافة المدينية، تتوسع بتوسع تحول الثقافة إلي ثقافة مدينية أي ثقافة ـ إذا جاز التعبير ـ تمتلك الحيز المكاني والزماني المديني ، الحيز الزماني السريع والمتنوع، والحيز المكاني المتكسر، والحيز الثقافي المتعدد، وأظن أن قصيدة النثر اللبنانية تعاني في هذا المجال ما تعانيه قصائد النثر الأخرى وتبحث كما تبحث قصائد النثر الأخرى، وتواجه أحيانا باختلالات وعلل تواجهها قصائد النثر الأخرى ، لكن ما زالنا نقول أن قصيدة النثر بقدر ما تبقي مفتوحة بقدر ما تبقي قلقة، وبقدر ما تبقي قلقة بقدر ما تبقي بلا تعريف ، بقدر ما تبقي بين أنواع وليس بديلة عن الشعر، هناك شعر، هناك قصيدة تفعيلة هناك قصيدة نثر، وأظن أنه ليست إحداهم بديلة عن الأخرى ولا تطمح لأن تكون بديلة عن الأخرى، لأن قصيدة النثر نوع أدبي أخر أحد صفاته أنه نوع بين أنواع، يتغذي من هذه الأنواع ويبقي قلقا ومعلقا بينها ويفتح باستمرار عليها، وكلما انغلق قليلا أعاد فتح الأبواب، وكلما تهدد بأن يتحول إلي قالب وإلي مثل وجب عليه أن يكسر ذلك وأن يعيد الصلة مع الأنواع والفنون الأخرى .
** أيضا من خلال متابعتك للمشهد الشعري المصري ، كيف تراه وما تقييمك لما آلت إليه قصيدة أبناء جيلك من السبعينيين الذين لا يزالون يصرون علي التفعيلة والإيقاع الكلاسيكي والبلاغة الكلاسيكية أيضا وبرأيك لماذا لم يكن هناك من بينهم من انحاز لقصيدة النثر؟
أعرف أن الجيل السبعيني المصري كتب قصائد نثر وأن هناك شعراء نثر في هذا الجيل ، أعرف أن حلمي سالم كتب الكثير من قصائد النثر وكذلك عبد المنعم رمضان ورفعت سلام ، وبالتالي أعرف أن دعوة قصيدة النثر كانت جزءا من الدعوة السبعينية ، وما يتضمنه سؤالك من نقد لتجربة الشعراء السبعينيين لا أستطيع بهذه العجالة أن أتبناه إجمالا ، وإنما أقول أن قصيدة النثر المصرية هي شغل الأجيال التي تلت الجيل السبعيني ، ليست صنع الجيل السبعيني .
قصيدة النثر المصرية كما أراها الآن هي عمل الجيلين الثمانيني والتسعيني وما بعد هذين الجيلين ، ومنذ سنوات لم أزر مصر لكني كنت أعجب وأندهش كلما زرتها من هذه الوفرة الهائلة من الشعراء الجدد ومن هذا الانتشار الغريب لقصيدة النثر وللأسماء الجديدة التي لا تستوعبها ذاكرتي إجمالا ، وأجد في انتشار هذه القصيدة الواسع وفي تعميمها الكبير أنها قصيدة اقتحامية ، بمعني أنها تنتشر في مجال ثم تلوي عنه ثم تنتقل إلي مجال آخر ، مثلا في فترة لاحظت النزوع السردي الهائل وتحولت قصائد النثر التي قرأتها إلي نوع من الأقاصيص والسرديات الصغيرة ، الآن ألاحظ أن هذا تغير ، والشعراء ينتقلون إلي مجالات أخرى ، وأظن أن هذه الحيوية في حد ذاتها مهمة جدا ، كما أنني أقدر دون ذكر أسماء الآن عددا من شعراء قصيدة النثر المصريين وأجدهم إلي جانب آخرين في هذا العالم العربي أعمدة في هذه القصيدة .
** ليس تهجما علي النقد القول بتراجع دوره وعدم قدرته علي رصد وتقييم ظواهر التجربة الشعرية العربية تحديدا منذ مطلع الثمانينيات وحتى الآن فهذا أمر حقيقي لأي متابع راصد ، برأيك ما هي الأسباب ؟
في الواقع النقد الأدبي كما ألاحظه في الكتابات والمؤتمرات التي أحضرها أحيانا بائس، وأكاد أقول أن النقد لم يبدأ في عالمنا العربي، وأن ما نسميه نقدا هو مجرد تعليقات علي هامش الأعمال الأدبية، وهو في أحيان كثيرة مضغ واجترارا لبضع كيشهات جرى إنتاجها في عصر الرواد وعلي أيدي الرواد أنفسهم، وأن البيان الشعري الأول والبيانات الشعرية الأولى ، وهي بيانات في الواقع فقيرة وعامة، مازالت خبز النقاد الأصلي، كما أنني ألاحظ أن النقاد في الواقع ليسو نقادا إلا بالمعنى المجازي للكلمة، فهم يقرأون بعض المقتطفات من النقد الأجنبي وينسخونه ويعيدون كتابته فيبدون فجأة منظرين من الطراز الأول وهم لم يفعلوا عمليا سوى تلخيص وتوضيح وشرح بعض النتائج التي جاءت علي أيدي باختين وتيدروف وبارت وآخرين، وأقول تلخيص لبعض بعض الخلاصات ولا أقول تلخيص العمل والإنجاز الفعلي لهؤلاء، لأنني أحسب أن هؤلاء لا يلمون كثيرا بمن ينقلون عنهم، لا يعرفون كثيرا باختين ولا تيدروف ولا جرماس ولا بارت ولا الآخرين، يكفي أن تقرأ بعض نقد الشعر بلغة أخرى لتلاحظ بؤس هؤلاء النقاد وتحولهم إلي مجرد مدرسين قليلي المعرفة لبعض النقاد الكبار في العالم، غالبا ما تستنتج ذلك لما تلاحظه من اختلاط الخلاصات النقدية لهؤلاء النقاد الكبار مع كيليشهات وعموميات نقدية تعلموها عن طريق الرواد أو عن طريق مجلة شعر أو عن طريق عموم ثقافي لا نعرف له اسما ولا مرجعا، عن طريق عامية ثقافية لا نعرف لها اسما ولا مرجعا ولا مؤلفا، أما الملاحظة الأخرى أنه علي الرغم مما يبدو علي هؤلاء النقاد من معرفة نظرية تجدهم لا شيء عندما يتحولون للنقد التطبيقي، حيث يتحولون إلي مجرد شارحين للنص الشعري ومعلقين بائسين عليه، ويأخذون كلامهم عن التأويل وما تحت اللغة ورمزية الشعر والعلاقات الداخلية للنص، يتحول هذا الكلام إلي هراء ويتحولون إلي مجرد قراء سطحيين ويأخذون الشعر بمعانيه الظاهرة والبارزة ولا يقومون بأي عمل تأويلي فعلي .
** لك عمل روائي رائع بعنوان (تحليل دم) هل تعتقد أن شهرتك كشاعر طغت علي أهمية هذا العمل ولماذا لم تكرر التجربة ؟
عندي ثلاثة أعمال روائية، هناك عمل عبارة عن سيرة ذاتية ولا أجرؤ علي نشره لأسباب خاصة ومازال مخطوطا منذ أحد عشر عاما، وهناك رواية أنجزت كتابتها منذ بضعة أشهر وحتى الآن لم أعد قراءتها لأعيد كتابتها ومن ثم لأنشرها .
من يعرفني يعرفني كشاعر، ربما يرى هؤلاء أنه ليس من حق الشاعر أن يكون روائيا وأن رواية الشاعر قد لا تكون سوى شعره علي نحو آخر، والحقيقة أن هذه ليست مسألة عربية فحسب، هذه مسألة شائعة وواردة في كل الآداب، هناك شعراء يغلب الشعر علي روايتهم وهناك روائيون يغلب الشعر علي روايتهم، وهناك أسماء لا تحصى، بول أوستير الروائي الأمريكي هو شاعر بقدر ما هو روائي لكن الناس يعرفونه روائيا ، بالمقلب الآخر داريل (كاتب رباعية الإسكندرية ) كتب شعرا ولا يعرفه الناس كشاعر، أيضا أريجون كتب كما هائلا من الروايات ذات الحجم الكبير ولا يقدره الناس إلا كشاعر، أظن أنه في أخر الأمر نحن لا نحتمل حتى حين يشتهر الكاتب لا نحتمله متعددا، نريده من جانب واحد، نريده شاعرا أو روائيا أو رسما ، وحين يجتمع الشاعر والرسام والروائي مثلا كما يجتمع كل ذلك في الكاتب العالمي كونترا جراس لا نفكر في الرسم ولا في الشعر ولكن في الرواية ، وأنا أكتب الرواية أساسا لأنني أحب النثر وأحب الرواية لأني شاعر نثر أساسا، النثر لم يكن اعتباطا في هذه التسمية، شاعر النثر هو شاعر يكتب شعرا علي نثر ، وهذا الشعر ينبع أساسا من النثر ، أنا أحب النثر بقدر ما أحب الشعر ، وأنا أستلهم الجاحظ في شعري وأستلهم المعري ، وأستلهم روائيين كما أستلهم شعراء .
** أيضا في ظل الأوضاع القائمة الآن في لبنان كيف هو حال المثقف والثقافة هل دخلا في التقسيم السياسي الطائفي ؟ وما الدور الذي يلعبانه للخلاص أو المساهمة في الخلاص من نير هذا التقسيم ؟
هذا سؤال محزن بالنسبة لي، أظن أن الأمر الآن شديد الخطورة، علي الثقافة والمثقفين، في غضون ثلاثين عاما من الحرب والوصية السورية، بقيت نخبة المثقفين اللبنانيين ذات نظر نقدي وموضوعي ومحايد ولم تغرق في الانقسام، الآن ما ألاحظه أن عددا من المثقفين يغرقون في الانقسام، وأن لهذا الانقسام جاذبيته علي كثير من المثقفين، وأن بعضا من النخبة المثقفة ينحاز بدون نظر نقدي (علي عماها) كما نقول، وهذا يؤلمني كثيرا لأنني من الذين يرون أن للأفكار ولو تأخر الوقت فعالية ما، وأننا حين نلقي فكرة في الأرض فإن هذه الفكرة قد تزهر فيما بعد ولو بعد وقت طويل، ثم إنني أرى أن الجدل في لبنان الآن في وجه منه جدل ثقافي حتى بين الفرقاء المتحاربين، وأن الفرقاء المتحاربين حين يتغذون من مثقفي النخبة فإن هذا يزري بالثقافة، أنا شخصيا لست محايدا أنا أقول ببساطة وبكل أسف أنني مع 14 آذار، لماذا ؟ لأنه بالنسبة لي 14 آذار هم تقليديون ولا يبنون دولة ولا يعول عليهم في شيء مستقبلي وإنما هم ضد الحرب ومع عودة طبيعية للمجتمع والدولة وأظن أنه بعد ثلاثين عاما من الموت والقتل والعنف والانقسام الأهلي بتنا بحاجة إلي السلام، ولكن مع ذلك لا أتوقف عن نقد جارح وعنيف لمجموعة 14 آذار لقلة مخيلتهم ولقلة ذكائهم ولانتهازيتهم .
أظن أن المثقف ينبغي أن يكون عينا نقدية وشاهدا وينبغي أن لا ينخرط ولا يغرق نهائيا في مستنقع الانقسام ، مهما كان انحيازه فهو لابد أن يكون حتى في انحيازه علي مسافة .
بمجلة الشعر المصرية
عدد رقم 126 يوليو