من بين شعراء التسعينيات لا يمكنك إغفال اسم الشاعر كريم رضي. لأكثر من سبب. فهذا الشاعر وعلى رغم قلة إنتاجه الشعري استطاع أن يكوّن له حضوراً ملفتاً. ليس عن طريق الشعر وحسب. وإنما من خلال حضوره المتميز كمثقف فاعل في مجتمعه.
فكريم رضي لا يمتلك الشعر فقط وإنما هو ناقد أيضاً وكاتب صحفي ومناضل عمّالي بارز. ذو نشاط وحركة لا تتوقف، وبحث مستمر عن كل جديد. إلى الدرجة التي أصبح يشار فيها إلى حضوره الملفت في مختلف الفعاليات الثقافية والاجتماعية والسياسية.
ورضي لا يجد غضاضة في الجمع بين كل تلك الاهتمامات، فهو بالدرجة الأولى شاعر كما أنه مناضل نقابي. وهي الصورة التي يجد فيها التمثيل الأفضل للشاعر. إذ لم يعد الشاعر ذلك القابع في أعلى البرج ينظر إلى الناس من عل. وإنما هو واحد منهم يعيش بينهم ويتأثر بقضاياهم ويكتب عنها.
وهو في هذا اللقاء يضيء جوانب عدة من رؤاه الشعرية والفلسفية تجاه الحياة والوجود...
* للشعر لغة أخرى غير الكتابة الصحفية والعمل النقابي. فأين موضع هذه الحِرف من حياتك؟ هل أنت في تلك الأعمال تشاكس لغة الشعر أم إنهما من بطن آخر لا علاقة له بالشعر؟
- تنبع هذه الفكرة من عقيدة قديمة بأن الشعر متعال على الوجود وأنه مسألة إلهام بل وحي، وقال البعض إن الشعر يأتي من واد بعيد هو وادي عبقر، ولذلك كيف يستساغ أن يكون الشاعر عاملاً في مصنع للحديد مثلاً أو أن يكون نقابياً خائضاً في شؤون المادة، أو تاجراً يبيع ويشتري، ولكن هذه العقيدة لم تعد اليوم محل اتباع وتقدير. لقد هبط الشعر من برجه العاجي وأصبح مليئاً ليس بالورود فقط بل بالحديد والألمنيوم والذهب والرصاص والنحاس والزنك، وصارت إشارة المرور قصيدة، وأسفلت الشارع قصيدة وتنكة الصفيح قصيدة ولوحة البورصة قصيدة، وحذاء السمكري ومفك الميكانيكي وكومبيوتر المكتب والشيك المالي وطابور البنك وخبزة التنور وباختصار كل ما هو دوني حسب النظرة المتعالية السابقة، صار قصيدة. وصارت قبب المصارف وأبراج العقارات تضارع المباني المحسوبة على رومانسية الروح كالمعابد والمحاريب براعة وانسياباً وجمالاً. في عالم كهذا لا مكان للتساؤل عن مشروعية الجمع بين أن تكون مناضلاً نقابياً وشاعراً في الوقت نفسه.
* تأخرت كثيراً في إصدار ديوانك الأول، وهناك من يرى أنك وبسبب تاريخك في الشعر ولأنك عضو بارز في أسرة الأدباء والكتاب ولأنه لم يكن من المناسب أن ينشر لك ضمن مشروع الإصدار الأول تم اختراع مشروع النشر المشترك إرضاء لغرور الشاعر كريم رضي. فما ردك على ذلك؟
- أن يكون مشروع النشر المشترك قد اخترع من أجل عيوني فذلك شرف لا أدّعيه بل لا أستحقه، أنا أقل بكثير من أن يكون هناك مشروع بهذا الحجم من أجلي. وحين فزت بالجائزة الثانية العام 2004 كان المشروع قد قطع دورتين أو أكثر قبل ذلك. وثانياً لم أكن أصلاً سأشارك لولا جهود اثنين مشكورين من أصدقاء الكار هم علي الديري وحسين المحروس اللذان أنقذا قصائدي من كسلي وعملا وكأنهما صاحبا التجربة من إعداد الديوان للنشر وحثي على المشاركة حتى أنني أتذكر الآن أني لم أقم أصلاً بما يقوم به الكتاب عادة لإصدار كتاب، لقد وجدت ديواني فجأة أمامي وكأنه كتاب شخص غيري.
أتوق إلى لغة مغايرة
* هل تتوق أحياناً إلى لغة أخرى على يد الشعراء الشباب غير ما قدمت أنت وجيلك، نراك متميزاً في اهتمامك بالشعراء الشباب والحرص على حضور فعالياتهم وأمسياتهم؟
- نعم أتوق إلى هذه اللغة المغايرة، وأعتقد بأن تجارب الرعيل الأخير من الشعراء وأعني هنا علي الجلاوي وحسين فخر وجعفر الديري وأحمد رضي ومهدي سلمان وفاطمة محسن ووضحى المسجن وأحمد الستراوي، وهي تجارب تستحق الإنصات والبحث عما فيها من جديد يغاير ما سبقها. علينا أن نكرس فضيلة الإصغاء إلى من يأتي بعدنا، هذا البلد عانى كثيراً من تجاهل السابق للاحق وعلينا أن نقول كفى لهذه الظاهرة.
* ما بين الغناء والموسيقى والشعر يقف المبدع أحياناً عن أن ينساق إلى ثيمة محددة فتؤثر على بقية الثيمات. كريم رضي أين هو من كل الثيمات؟
- قلبي مع الغناء والموسيقى وعقلي مع النثر. على رغم كوني شاعراً أستمتع كثيراً بقراءة السرد وخصوصاً الرواية. وأحسد السراد على الكتابة الروائية خصوصاً وعلى استعداد لمقايضة الدرهم بالدينار بأن أعطي عشرة من دواوين شعري مقابل من يجعلني أكتب رواية واحدة جيدة تستحق أن تقف في رفوف الروايات الكبرى التي صنعت تاريخ القراءة. أكثر من ذلك أرى -وقلت ذلك مرات- أن السرد وليس الشعر هو العلامة الأبرز للحداثة، السرد صناعة المدنية والشعر صناعة الفطرة والطبيعة والقرية، وإنما تطور الشعر باقترابه من السرد والنثر وبتركه لبدائية الفطرة ودخوله في الصنعة التي هي بامتياز خصيصة سردية.
هل تعلم أن هناك من الطغاة الذين صنعهم الشعر أكثر مما هناك من السراد. الشعر بطبيعته موقظ لحس المجد الغابر وسلطة الغيتو الطائفي أو القومي أو العرقي بينما السرد تفكيك لهذا الحس. هل تعلم أنه لا يوجد من السراد جبابرة مثل رادوفان كرادزيتش ويزيد بن معاوية وإدولف هتلر الذين هم إما متذوقو شعر أو شعراء. يزعم أدونيس مثلاً أن الحداثة العربية الحقيقية حدثت فقط في الشعر وأنا أصدقه ولكن أضيف ذلك لأن القدامة والتقليدية الحقيقية كانت في الشعر أيضاً قبل غيره من الكائنات اللغوية العربية فالاستجابة على قدر التحدي. وعلى رغم تقديري لهذا الجيل الأخير من الشعراء في البحرين أعتقد بأن ثمة مشكلة خطيرة فيه وهي أنه جيل يخلو تقريباً إلا فيما ندر من كتّاب السرد. ثمة مشكلة هنا وهي أننا ننتج المونولوج الشعري أكثر مما ننتج الديالوج السردي.
جيل التسعينات لم يطرح مشروعاً موحداً
* لا يخلو لقاء معك إلا بإشارة إلى شعراء التسعينات. بصراحة ما سلبيات هذا الجيل وإيجابياته؟ وهل تجده قدم شيئاً يستحق الذكر؟
- أبرز سلبيات هذا الجيل هي إيجابياته في الوقت نفسه وهي أنه لم يكن جيلاً بالمعنى المتعارف عليه من الترابط والتآزر بل والتآمر لصناعة مجموعة حقيقية تتسيد المشهد وتحل محل سابقيها. وهذا لم يكن خياراً على الأرجح بل هو عائد إلى عوامل موضوعية من أهمها عاملان: الأول أن هذا الجيل جاء من منابت إيديولوجية مختلفة ما جعله يعمل على تجربته لكن بعيداً عن التنادي والتعاضد و''الكتلة التاريخية'' إذا صح لنا أن نستخدم غرامشي أو العصبة الخلدونية في هذا السياق. الثاني هو أن هذا الجيل برز في أعقاب خراب ممالك الأحلام في شرق العالم وبالتالي انهيار الحافز الرمزي الذي شكله هذا الشرق والذي كان الملهم الأول لتجربة جيل السبعينيات. هذا ما جعل التجربة التسعينية تحصل على الاحتفاء بها بقدر ما تجتهد هي في ترشيح ذاتها إبداعاً وتواصلاً أكثر مما هو نتيجة لعوامل خارجة عن الإبداع مثل الانتماء والتعاضد الأيديولوجي أو السياسي وهذه إيجابية.
لكن سلبية هذا التشظي تتمثل في أن هذا الجيل حتى اليوم لا يستطيع الزعم بأنه طرح مشروعاً موحداً كموجة تكتسح ما سبقها وتشكل معه قطيعة كما شكلت تجربة الرواد السبعينيين قطيعة مع المرحلة الرومانسية والإحيائية.
* قلت ذات مرة إنك وشعراء جيلك اضطررتم إلى قراءة أنفسكم بأنفسكم وتبادل الكتابة عن بعضكم. هذا فيما يتعلق بالشعر، ويمكن قبوله. ولكن ما لا يمكن قبوله أنكم حتى في الكتابة الصحافية أو المقاربات النقدية. تتبادلان الأدوار والدفاع عن بعضكم. فعندما يكتب حسين السماهيجي مثلاً مقالاً معيناً نجدك تستشهد به وتنتصر له. أليس ذلك تخندق في مكان واحد قد يعشي أعينكم أحياناً عن أمكنة أخرى؟
- دعني أقول إننا أصدقاء بل أكثر. أنا أكبر أفراد هذا الجيل سنّا وأقلهم إنتاجاً وأقلهم إخلاصاً للتجربة، لكني ربما أكون أعمقهم إحساساً بالانتماء لهذا الجيل. دعني أقول إن هذا الجيل عانى واجتهد كثيراً ليكتشف الطريق. وقد لا يكون حقق نجاحاً كبيراً في ذلك. إحساسي تجاه هذا الجيل ليس عابراً ولا ردة فعل. كل إساءة لفرد من هذا الجيل تحزنني كثيراً. إحساس بُنيَ عبر عشرات الأمسيات واللقاءات التي جمعتنا في الملتقى الشبابي بأسرة الأدباء في مبناها القديم بشقة العدلية ثم في المنازل بعد تفكك الملتقى عشية حرب الخليج. هذا الجيل حاول فعلاً بصدق وبراءة أن يكون منعطفاً. هذا الجيل تميز - بالقدر المتيسر من التعميم - بالقراءة والبحث والجدية، وهو جيل تفرقت اليوم به السبل لكني أشعر شخصياً تجاهه بالتضامن والحب وحتى مداخلتي التي رأى فيها الزملاء والزميلات قسوة، لو أعادوا قراءتها فسيجدون فيها مرافعة في الوقت نفسه عن هذا الجيل. والسماهيجي على وجه الخصوص أكثر من صديق وانتصاري له وفاء لا أتبرأ منه.
عندما نموت فسيكون ذلك آخر يوم نموت فيه
* هل لي أن أسالك سؤالاً ربما يكون صادماً لك، هل تفكر في الموت؟ هل له تأثير على مخيلتك. هل تسكنك بعض الأخيلة الشعرية المتعلقة به؟
- هناك مسألة أريد توضيحها بشأن الموت. وهي أننا حين نموت لن يكون ذلك أول يوم نموت فيه بل آخر يوم ننهي فيه عملية الموت التي نمارسها حالياً بالتدريج. يقول زوربا في رواية كازنتزاخيس: ''من جسد العجوز تنبعث رائحة الجثث''. وهذا منطقي بغض النظر عما في ذلك من تنفير وتقزز، فبعد الأربعين تبدأ خلايا الجسم في الموت ولا تولد خلايا جديدة وهكذا حتى تموت آخر خلية في الجسم. فالموت إذاً ليس مشكلتنا نحن طالما كنا على أي حال ماضين إليه ونمارسه في كل لحظة، لكنه مشكلة الآخرين غيرنا من الأحبة والأصدقاء والأعداء. بهذا فالموت ملهم للقصيدة حين تفكر في الحبيبة التي عذبتها دون أن تحقق لها ما وعدتها به من الطوباويات، والأم التي اعتذرت عن إطالة الجلوس معها عشرات المرات لانشغالك، والكتب التي لم تمسح عنها غبار الهجران، والصديق الذي غيرت موعدك معه في آخر لحظة، والطفل الذي لم تسمح له أن يبقى وقتاً أطول في غابة الألعاب، والشمس التي لم تصح يوماً مبكراً لتراها لحظة شروقها، والصلاة التي لم تعطها ما يكفي من جوهر قلبك، والشاعر المبتدئ الذي لم تتركه يسمعك ما كتب. تشعر أنك كما يقول العظيم درويش: ''وأعشق عمري لأني إذا متُ أخجل من دمع أمي''.