رباعيات الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا، نقلها الى العربية الشاعر إسكندر حبش. وحبش، ذو الثقافة الشعرية والأدبية الأجنبية الرفيعة، وذو الرهافة، والتعمّق في واقع الشعر العالمي، ها هو ينخرط في لعبة جميلة، يحبها، ويدمنها، وهي ترجمة الشعر، فما بالك إذا كان فرناندو بيسوا، الذي تخصص به حبش وقرأه بلهفة، وشغف، وبعمق. رباعيات بيسوا على يدي إسكندر شفافة، لماحة، بلا ثقل، ولا أوزار، ولا غرائب. استل روح النص وإيقاعاته، ومناخاته، وحملها حملاً الى العربية، بكل ترابها وماويتها ونضارتها. حبش وضع مقدمة للرباعيات.
ننقل جزءاً من هذه المقدمة الجدية وكذلك مقاطع من نصوص بيسوا.
في البداية كانت هناك الحقيبة. تلك الحقيبة السحرية الشبيهة بمغارة علي بابا. الحقيبة التي صاغت الأسطورة، التي أطالت الشعائر وضاعفت احتفاليتها. القضية برمتها، تكمن إذا في هذه الحقيبة التي تتقدم شيئاً فشيئاً، التي تفتح لنا قلبها رويداً رويداً، فبفضلها لم يعد الشك مسموحاً، إذ كل شيء صار ممكناً. هل اختفى الشك بذلك؟ من دون شك، كان فرضية واختفى. لم تكن هذه الحقيبة فارغة في يوم من الأيام. هل كانت مليئة ذات يوم؟ حتى هذه اللحظة، تشكل الحقيبة ذلك الانمساخ الأخير لكل "هؤلاء البدلاء". عبرها، جاءنا كل ما عرفناه عنه بأسمائه المتعددة، وربما سيجيء إلينا بدلاء آخرون: أسماء أخرى، ذات تواقيع لا تزال مجهولة بعد. الحلم مسموح في هذه الحالة. مسموح، لأن من سيأتي قد يتقاطع مع المعروفين من قلبنا. وربما أيضاً، يزيدون في تضاعف أعمال فرناندو بيسوا، لغاية أن "يخففونها"، ربما، إن نشرت بالطبع كل كتاباته التي لم تنضب حتى اليوم.
لقد ترك فرناندو بيسوا، إذاً، حقيبة خلفه. حقيبة واسعة. مليئة بالمخطوطات. وفي هذه الحقيبة ذات الشهرة المجيدة، التي يمكن أن ندعوها صندوقاً أيضاً، مغلّف عليه بطاقة لاصقة مكتوب عليها "الرباعيات". مغلّف يحوي ستين صفحة مخطوطة، من الصعب قراءتها، كما يقول لنا من استطاع فك رموزها (قام جورج رودولف ليند، بمساعدة جاسينتو دو برادو، بإعادة "تركيب" 325 رباعية. وقام الإثنان بنشرها وتقديمها في المجلد التاسع من "أعمال فرناندو بيسوا الكاملة" الصادرة عن "منشورات أتيكا في لشبونة").
انطلاقاً من هذه الأوراق، جاء ديوان يتضمن 325 "رباعية ذات نكهة شعبية". أتاحت القصائد والأوراق المؤرخة (وهي قليلة في الواقع) بأن يعاد تركيب نوع من التسلسل الكرونولوجي. لقد كُتِبَت الرباعيات الثماني الأولى ما بين سنتي 1907 و1908. في تلك الفترة كان فرناندو بيسوا قد نشر لتوه قصائد بالإنكليزية (نعرف أنه كان يتكلم هذه اللغة بعد إقامته الطويلة، في شبابه، في جنوب افريقيا). في تلك الفترة أيضاً، بدأ يكتب بالبرتغالية. ومثلما يتراءى لنا فيما لو اتبعنا مسار حياته (راجع كتاب روبير بريشون (Etrange Etranger) الصادر عن منشورات "كريستيان بورجوا" في باريس، العام 1996)، فإنه لم يكن قد نشر قبل هذه الرباعيات الثماني، سوى نص واحد بلغته الأم. ست من هذه الرباعيات الثماني، تبدو لنا وكأنها تحيلنا الى مرجع ذي واقعة محددة تتجلى في موت كائن عزيز. تمضي 26 سنة ـ إن صدقنا تواريخ الأوراق التي بُعِثت من الصندوق ـ قبل أن يعود بيسوا لتأليف رباعيات أخرى. لقد كتب المئات منها خلال العامين الأخيرين من حياته، بدءاً من تموز 1934 وحتى حزيران 1935 (توفي فرناندو بيسوا في لشبونة يوم 30 تشرين الثاني من العام 1935 عن 47 عاماً).
كان بيسوا قد أبدى اهتمامه بهذا الشكل الشعري حين كتب مقدمة لديوان رباعيات صدر العام 1914 (ديوان (O missal de trovas) لأوغوستو كونيا وأنطونيو فيرو)، كذلك نجد أن العديد من قصائد هذا الديوان، القصيرة أو القصيرة جداً، موجودة بين قصائد فرناندو بيسوا وقصائد بدلائه. (...) غالبية هذه الرباعيات هي قصائد حب. ربما كانت تشكل وحدها قصائد الحب في شعر فرناندو بيسوا، إذ لا نعرف للحب أي موضع آخر في قصائده العديدة، في أسمائه المتعددة. إنه الحب الخجول، الحب المتواضع، الحب العذري، الحب الشهواني، الحب المليء بالغيرة، الحب الذي لا يشعر مطلقاً بالاكتفاء، الحب الحالم، الحب اللطيف، الحب المنتقم، الغياب، المرارة، تلك المسحة من كراهية النساء. ثمة فتاة شابة "تسيطر" على مناخ القصيدة. شابة مغناج، خرقاء، غير مبالية، صادّة أو بالكاد يلحظها... شابة تأسر شخصيتها بلباقة، تغلي أحياناً بوقاحة موسومة. يحدث له أن يحدثها باسمه الشخصي عبر ريشة الشاعر مثلما نجد ذلك في "أناشيد الصديق" (Cantigas d'amigo) عند "التروبادوريين".
تنتظم القصيدة حول عناصر من الحياة اليومية الشعبية: "كشتبان الخياطة"، لفيفة الصوف، الثوب، أصيص الحبق، القبعة، القرط، التنورة الزرقاء، القميص الأحمر، الدبوس، الشال، المروحة، المقص، حبة القهوة، الخيط، الأغاني... إلخ. كذلك نجد "أشخاص" القصيدة في العمل، أمام الغربال، يسهرون لأنهم لا يستطيعون النوم، ينظرون من زاوية النافذة، يتنزهون كي يبرزوا أنفسهم ولكي يشاهدهم المارون الآخرون، ينسجون الصوف والدانتيلا، يأكلون "القريدس"، يشترون الأسماك، يحضرون الحلوى، يتمشون في الساحة، يقفون أمام الكنيسة. ونحن معهم أيضاً فوق الدروب بأسرها، في الريف، في المدينة. أشخاص يراقبون ملامح الطبيعة بانتباه، يراقبون رمزية الغيوم. يستحضرون حقول القمح، الحصاد، الطواحين،
الرباعيات
(1)
كمراكب فوق اليمّ
هي أغاني البرتغاليين
ترحل من روح الى أخرى
تخاطر بالغرق.
(2)
نظمت كل لآلئ
هذا العقد لأهديه إليك.
اللآلئ قلبي
والخيط، حزني.
(3)
الأرض بلا حياة. لا
شيء آخر يحيا سوى القلب
تلفك الأرض الباردة
لا حنيني!
(4)
دعيني لهنيهة أعتقد
أنك لا تزالين قربي.
حزين ذاك الذين يظن
أنه بحاجة ليخدع نفسه بنفسه.
(5)
ميتاً، سأبقى الى جانبك
بدون أن أعرف شيئاً، أن أشعر بشيء...
يكفيني هذا الأمر
لكي يكون للموت فضل.
(6)
لا أعرف إن كانت الروح تحيا في الماوراء
إن متّ ـ رغبت في الموت.
لأنني لو حييت، لرغبت في رؤيتك. وإلاّ
لن أستطيع نسيانك إلا بالموت.
(7)
بلى، هواء البارحة كان أتعس
على بابك مرّ أيضاً
إسمعي: يحمل تنهيدة
تعرفين جيداً من أرسلها لك.
(8)
أعطيتك قلبي.
أنظري كيف عاملته!
لم تعيديه إليّ بعد
ربما ـ لأنه محطم.
(9)
العلبة التي من دون غطاء
تبقى دائماً مفتوحة
أعطني واحدة من ابتسامتك
لا أتمنى شيئاً آخر.
(10)
تحملين مروحتك منبسطة
لكنك لا تستعملينها
أيها الحب الذي يفكر مطولاً
ارحل لتنتهي أو إبدأ الآن.
(11)
إنتظرتك ساعتين.
سأنتظرك سنتين.
هل أنتظر بعد؟ لا تجيئين.
هل لأن النهار لا يزال مشرقاً؟
(12)
طيلة الليل، سمعت المياه في الحوض
تنزل نقطة نقطة.
طيلة الليل، سمعت في روحي:
لا تستطعين أن تحبيني.
(13)
النهارات هي النهارات. الليالي
هي الليالي. لا أنام أبداً...
لأني لا أراك نهاراً،
لأني أفكر فيك ليلاً.
(14)
تحملين زهرة في يدك
قطفتها، بلا انتباه...
لكن، هل قطفت
قلبي، بانتباه؟
(15)
عيناك حزينتان، تائهتان،
لا تركنان الى شيء...
آه، يا حبي، يا حبي
على الأقل لو كنت هذا اللاشيء!
(16)
بعد النهار يأتي الليل،
بعد الليل يأتي النهار
وبعد الحنين يأتي
الحنين المستبدّ بنا.
(17)
في الحفل حيث يرقص الجميع
أحدهم لا يرقص.
من الأفضل عدم الذهاب الى هنالك
أفضل من أن يكون هناك وهو غائب
(18)
أيستحق الأمر أن أكون رزيناً؟
لا أعرف إن كان يستحق العناء.
الأفضل أن أبقى ساكناً.
أن أنظر الى وجه مطمئن.
(19)
إكليل الجبل الذي أعطوني إياه،
إكليل الجبل الذي سأعطيه،
كل السوء الذي أصابني
سيكون الخير الذي أعطيه.
(20)
توقفت ساعتي.
دوماً أتّكل عليها.
الساعة مرتبكة
وتحمل الوقت باستمرار.
(21)
حين يحين موسم القمح،
يحين وقت الحصاد.
الحقيقة كوّة
لا يأتي ليحدثها أحد.
(22)
ترتدين خفّين،
يضربان الأرض بنعليهما.
الأجدر أن أموت، قبل
أن لا أسمعهما مجدداً.
(23)
تنورتك أفضل بكثير
من تنورة كشمير
على أي حال، أنت جميلة
والجمال هو الأسوأ.
(24)
تديرين رأسك لتسألي
تبدأ أقراطك بالرقص
مثل سنونوتين مملّتين
لا تعرفان الطيران بعد.
(25)
تحملين زهرة في يدك
لا أعرف إن كنت ستعطيني إياها.
أما الزهور التي على وجهك
فتعرفين كيف تحتفظين بها.
(26)
لنذهب كي نتنزه في الريف
لنذهب في نزهة الى الريف.
لا شيء أتنشقه
لا يكون نشوة بالنسبة إليّ.
(27)
أوعية "النوريّة"
تجيء وتذهب بلا انقطاع.
تدخل، تخرج
لا تجيد التوقف.
المستقبل -17- آذار- 2007