كنت نشرت منذ فترة قصيرة، (السفير الثقافي في 10 كانون الأول الحالي) جزءا من قصائد جان جينيه التي قمت بترجمتها إلى العربية، والتي ألقاها في المركز الثقافي الفرنسي في نابلس وغيرها من المدن الفلسطينية، الممثل رجب ميتروفيستا، حيث شكلت هذه القراءة سلسلة من قراءات متعددة، في أكثر من مدينة وبلد، تحية إلى الكاتب الفرنسي الراحل.
هنا جزء ثان من هذه القصائد التي عرف بها جينيه على الشكل التالي: «أهديت هذه القصيدة إلى ذكرى صديقي موريس بيلورج الذي لا يزال جسده ووجهه المشع يؤرقان ليالي الساهدة. عبر الروح، ما زلت أحيا مجددا معه الأيام الأربعين الأخيرة التي أمضاها، مكبل القدمين، والمعصمين أحيانا، في زنزانة المحكومين بالإعدام في سجن سان ـ بريو.
كانت المعلومات تنقص الصحف. لقد دبجت مقالات رعناء كي تزين موته الذي صادف مع بداية مهمة السفاح ديفورنو. وفي تعليقها على موقف موريس أمام الموت، قالت الصحيفة التحفة: «كان هذا الصبي جديرا بمصير آخر».
باختصار لقد أذلوه. بالنسبة إليّ أنا الذي عرفته وأحببته، أرغب هنا، وبأهدأ طريقة ممكنة، وبحنان، في أن أؤكد بأنه كان جديرا، من خلال بهاء روحه وجسده المزدوج والفريد، بأن يستحق موتا مماثلا. كل صباح، حين كنت أذهب ـ بفضل تواطؤ أحد الحراس الذي سُحر بجماله وشبابه ونزعه الشبيه بنزع أبولون ـ من زنزانتي إلى زنزانته كي أحمل له بعض السجائر، كان ينهض باكرا ويدندن ويحييني مبتسما: «مرحبا، يا جانو الصباح!».
تمّ اعدامه في 17 آذار (مارس) من عام 1939 في سان ـ بريو».
آه لتجتز الحائط؛ وإن توجب الأمر سِرّ على حافة
السقوف، المحيطات؛ غطِّ نفسك بالضوء،
استفد من التهديد، استفد من الصلاة،
ولكن تعال، آه يا فرقاطتي، ساعة قبل موتي.
مخبئي المعشوق في ظلّك المتحرك
اكتشفت عيني سرّا بالصُدفة
نمت غفوات يجهلها العالم
حيث ينعقد الرعب.
أروقتك المظلمة منعرجات القلب
وحشد أحلامها تنظم بصمت
آلية تملك من الزجاج
شبهه وقساوته.
ليلك يدفع عيني وصدغي إلى الجريان
موجة حبر ثقيلة جدا لدرجة أنها تُخرج منها
نجوم أزهار كتلك التي نراها دفعة واحدة
حين أبلل الريشة بها
أتقدم في ليل سائل حيث تتحدد
مؤامرات غير محددّة ببطء.
من أنادي لنجدتي؟ تتحطم جميع حركاتي
وصرخاتي تصبح رائعة.
لن تعرفوا شيئا عن ضيقي الأصمّ
سوى هذا الجمال الغريب الذي يفشيه الليل
ينهمك الداعرون الذين أسمعهم بعد دورانهم
المستمر بالهواء الطلق.
يرسلون إلى الأرض سفيرا وديعا
طفلا بدون نظرة ترسم مساره
نازعين الكثير من الجلود حتى تكتسي رسالته
الفرحة بهاءها
تشحبون من الخجل حين قراءة القصيدة
التي يخطها المراهق ذو الحركات المجرمة
لكنكم لن تعرفوا شيئا من العُقد الأصلية
الخاصة بعنفي المعتم.
لأن العطور الفائحة في ليله، قوية.
سيوقع اسم بيلورج، وسيكون تعظيمه
المقصلة الواضحة التي تنبجس منها الورود
وأثر الموت الجميل.
حركاتك التي من دانتيلا، تلفك برهافة
كتفك مسنود على نخلة تحمرّ
تدخن. ينزل الدخان في بلعومك
بينما السجناء، يرقصون بوقار،
بجسامة، بصمت، كل واحد بدوره، يا أيها الطفل
سيأخذون من على فمك قطرة معطرة
قطرة، لا اثنتين، من الدخان المدور
الذي يسيلها لسانك لهم. يا أيها الأخ المنتصر
يا ألوهة مرعبة، خفيّة وشريرة
تبقى هادئا، حادا، من معدن واضح
منتبها إلى نفسك فقط، موزعا قدريا
مرفوعا فوق خيط أرجوحتك التي تغني.
آه، أشر إليه في شيخوخته التي تشتعل
واذهب لتضنيني! لديّ وقت قليل
وإن جرؤت، تعال، اخرج من بُرَكِك
من مستنقعاتك، وحلك الذي تصنع منه فقاعات
يا أرواح الذين قتلتُهم! اقتليني! أحرقيني!
يا ميكل أنجلو السقيم، نحتّ في الحياة
لكن الجمال، يا سيدي، خدمته دائما،
بطني، ركبتاي، يداي الزهريتان من الاضطراب.
ديكة القَنّ، القُبّرة الغالية،
عُلب بائع الحليب، جرس في الهواء،
خطوة على الحصاة، بلاطي الأبيض والواضح،
هو اللامع الفرح على سجن الأردواز.
سادتي، لست خائفا! إن استدار رأسي
في صوت السلّة مع الرأس الأبيض،
بفرح أضع رأسي على وركك النحيل
أو لمزيد من الجمال، على عنقك، يا فروجي...
انتبه! يا ملكا مأساويا ذا فم موارب
أصل إلى حدائقك التي من رمال موحشة،
حيث تنتعظ، مذهولا، وحيدا، واثنتان من أصابعك في الهواء،
ورأسك مغطى بحجاب صوفي أزرق
وعبر هذيان أحمق أرى قرينك الصافي!
يا حب! يا أغنية! يا ملكتي! أهو شبح ذكري
شُوهد خلال الألعاب في حدقتك الشاحبة
من يتفحصني هكذا على جصّ الجدا؟
لا تكن قاسيا، اترك ماتين تغني
لقلبك البوهيمي، امنحني قبلة واحدة...
يا إلهي، سأنكسر بدون أن أستطيع دفعك
في حياتي ولو لمرة على قلبي أو قضيبي!
أو دون أن أشيخ، أموت، أحبك يا سجني
مني تنساب الحياة إلى الموت المجدول.
تمّ رقص الفلس البطيء والثقيل بالمقلوب
كل واحدة تردن بمنطقها الرفيع
بشكل متقابل.
لدي بعد مكانا واسعا ليس قبري
كبيرة هي زنزانتي وصافية نافذتي.
وفي الليل الجنين أنتظر أن أولد مجددا
أترك نفسي حيّا عبر شارة أعلى
من الموت
ما عدا السماء، أقفل أمام الجميع
بابي، ولا أمنح دقيقة صديقة
إلا للسارقين الشبّان الذين تنتبه لهم أذني
من أي أمل قاس يجيء النداء لنجدتي
في أغنيتهم المنتهية.
نشيدي ليس ملفقا إن ترددت أغلب الأحيان
بعيد هو ما أبحث عنه تحت أراضي العميقة
وأحمل دائما مع الآلات عينها
منتقيات كنز دُفن حيّا
منذ نشأة العالم.
إن استطعتم رؤيتي منحنيا على طاولتي
وجهي مهزوم من أدبي
لعرفتم كم تُنفرني هذه المغامرة
المرعبة في أن أجرؤ على اكتشاف الذهب المخبأ
تحت الكثير من النتانة.
سامحني يا الهي لأني أخطأت!
دموع صوتي، حرارتي، عذابي،
ألم أن أطير من بلد جميل كفرنسا،
ألا يكفي هذا، يا الهي، كي أذهب وأنام.
مترنحا من الأمل.
في ذراعيك العــطرتين، في قصـــورك الثلجية!
يا سيد الأمكنة المعتمة، ما زلت أعرف أن أصلّي
إنه أنا يا أبي، من صرخ ذات يوم:
المجد للعلى للرب الذي يحميني
يا هرمس القدم الحنونة!
أطلب من الموت السلام، النعاس الطويل،
نشيد الساروفيم، عطرها، زينتها،
ملائكة الصوف الصغيرة ذات النثار الساخن
وآمل بليالي بدون أقمار وشموس
فوق أراض ثابتة.
لن أعدم بالمقصلة هذا الصباح.
يمكن أن أنام مطمئنا. في الطابق الأعلى
حبيبي الكسول، لؤلؤتي، يسوعي
يستيقظ. سيضرب ببسطاله القاسي
جمجمتي الحليقة.
فجر فرح يتشظى في عيني
يشبه صباحــا صافــيا كســجادة على البلاط
لتخنق مشيتك عبر متاهة
الأروقة المخنوقة التي تضعها عتبتك
عند البوابات الصباحية.
السفير
31-2010