يعتبر العديد من الدارسين والباحثين، أن الأدب الأستوني، يعرف اليوم نهضة جديدة، وبخاصة بعد انحسار الحقبة السوفياتية ـ كانت استونيا واحدة من جمهوريات البلطيق ـ التي حاولت تشكيل الذاكرة بل حتى محوها وإبعاد كل الخاصيات التي كانت تميّزها.
في هذه النهضة، نجد العديد من الشعراء الشبان الذين يحاولون الخروج عن كل النمطيات التي كانت سائدة في الكتابة والتي قد تشكل عالماً مختلفاً، بحاجة إلى بعض الوقت بعد، كي يؤسس لحضور ذاكرة جديدة. (وفق الدارسين أنفسهم).
من هذا الشعر الجديد المكتوب بعد الحقبة السوفياتية، نختار هنا ثلاثة أصوات شابة نقدم لها نماذج من الشعر الذي تكتبه، وهذه الأصوات هي
عبر المطر
أنا همهمة قلب الصيف
خفقان البحر في الخلجان
أجيء في الظلام عبر المطر
أغلق باب الصيف
على الدرج في مطر من أوراق
وبهدوء ناديت اسمك
الخريف الحار يسقط على كتفيّ
سيصبح الليل رطبا ومعتما.
خليج الانطلاق
نحن هنا في خليج الانطلاق
أشرعة مرفوعة على البواخر
الزمن المطحون على كسور الثواني
يرتاح على أقدامنا فوق الرمل الأبيض
تلمس الكثبان القمر
اختفت الكلمات والأعداد
يبسط الفجر ذراعيه
لا أنا ولا أنت نعرف البقية.
أنهر سيبيريا
رحلت لتبحث عن عينيك
في أنهر سيبيريا العميقة
أفرغ نشيد التوندرا اللانهائي روحك
وصمت الغابات أحال عينيك كزبد
وحكت أصابعك
أطراف قرون الأيائل الصغيرة التي ولدت في السرّ.
ألهذا السبب
تجيد لمس
روحي برهافة
ولا تغرق
في مستنـقعات عينيّ الحالمتين؟
شربت الدم الساخن
من عنق البهائم المذبوحة
ولأشهر لم تكلّم أحداً،
سوى الأشجار والعصافير المزقزقة
ألهذا
يمكنك أن تراقبني باهتمام في هذا المقهى
مثلما ننظر
مساء، إلى غيمة قرمزية؟
وحيدا
نمت بعيدا ثلاثمئة ميلٍ
من أقرب قرية
بين جبلين ثلجيين
قدماك مدميتان
بوصلتك ضائعة
وقداحتك مكسورة
ألهذا السبب أنت
معتم ونهم
مثل الليل؟
ما من شاطئ
منذ اثني عشر شهرا
لم يتوقف المطر
والأنهار تفيض
منذ اثني عشر شهرا
أو منذ ستين سنة
لم نعد نميز الليل من النهار.
لم نعد نميز اليابسة من البحار
وخلف الحجارة تختفي حجارة أخرى
وخلف الآلام آلام أخرى
ما من شاطئ
لا شيء إلا المياه والبرد
والمياه، المياه، المياه...
في الليلة...
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
يضيع رجل
ولا يعود إلى منزله
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
يرتفع إله الكلاب ذات الرؤوس الذئبية
نحو السماء في عربة بدون عجلات
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
يعرض فيللو
عند ناصية شارع المحطة وشارع تيلول
سكينته الجديدة لمن يرغب
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
يرتعش برج إيفل
وتسقط آخر لوحات شاغال
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
ترغب جولييت في المزيد
لكن روميو لم يعد بإمكانه
لا شيء يسير نحو الأفضل إذا
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
يفترق فريق «الأبا»
و«البيتلز» يجتمعون مجددا
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
تنبثق في الغرفة المجاورة
ست سيدات عجائز
بشعرهن الطويل الرمادي المبلل بالدمع
يبكين وينتحبن ويصرخن بأغانٍ
مرعبة
تغور ساقاي حتى الركبتين في
دموعهن الوسخة
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
أرتجف من البرد
وليس لديّ سوى سروال داخلي لأرتديَه
وتعصف الريح في النافذة
وتعصف في وجهك
أنت البعيدة
في ما وراء الجبال العالية
في مدينة غريبة وقديمة
الرموش السوداء والعينان الشهوانيتان
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
لا ينجح ميهيس في الانتهاء من روايته
وألبير كامو لم يعد باستطاعته أن ينتج أكثر
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
يتحرك طفل وهو نائم
ويراني أمارس الحب مع أمه
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
تظهر بقع زرقاء على عنقي
ويُرسم خط طويل أحمر على خدي
ونقاط دم ساخنة
تسقط في دموعي
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
تحدث أشياء كثيرة
يُعرض في السماء فيلم ألماني
ينتصب برج وسط النهر
في الليلة التي أكتب فيها قصيدة
يحدث أمران أو ثلاثة
وعلى جسر الصداقة يتقلب
عضو كبير
من الضفة التي تسكن فيها مارغو
إلى الضفة التي اسكنها
التي أكتب فيها قصيدة
حين يكون الليل ملائما
حينذاك تأتي أشياء مرعبة
من الجهات الأصلية.
قصائد
إن وُجدتُ، سأكون أثرا حينذاك
أو خطوات فوق الرمل
أو نهرا
لا ينجح
في الوصول بأكمله إلى البحر
أو جوع
شيء لا
ينبت في أي مكان.
* * *
في الحقيقة أنا درب
لكني لا أعرف من يجتازني
ولا أين أقود
لست بحاجة إلى شيء.
* * *
اصنعي مني عصفورا
شكليني بيديك
ضعي منقارا جميلا وجناحين متينين
ثم اتركيني أطر
كي أستطيع
مرة في الأسبوع تقريبا
المجيء لأحط على كتفك
بنظرتي المتعبة
* * *
ما من درب واحد يقود إليكِ
في عالم آخر ممكن
نحن لسـنا سوى جملة واحدة.
السفير
20 فبراير 2009