هذه مجموعة مختارةٌ من قصائد الشِّعر الإنجليزيّ و الأمريكيّ المعاصر، انتقتها الشاعرةُ والمترجمةُ الشابة فاطمة ناعوت، لكي تقدِّمها - كباقة وردٍ أو كحزمةِ قمحٍ - لقارئِها المصريّ والعربيّ، وقد اختارتْ لباقتِها (أقصدُ لحزمتِها) عنوانًا جميلا مُلتبِسًا، مستلاً من أحدِ نصوصِ الكتاب هو " مشجوجٌ بفأس".
و لا غرابةَ في مثل هذا الاختيار الغريب، فالمترجمةُ شاعرةٌ مميزةٌ من شاعرات الجيل الذي يسميه هواة التصنيفات العقدية "جيل التسعينات". وهي تهوى العناوين ذات الطابعِ العمليّ الماديّ الحاد، المبتعد عن رهرطة العاطفة المفروطة، والنائي عن ليونة الرومانسية الليّنة. هذا ما نجده في عناوين دواوينها الثلاثة التي أصدرتْها، حتى الآن: نقرة إصبع، على بُعد سنتيمتر واحد من الأرض، قطاع طوليّ في الذاكرة".
وليس عندي شكٌّ في أن الشاعرة/المترجمة قد انتقتْ هذا العنوان الغريب من بين العديد من الجمل الجميلة التي تحفل بها قصائدُ الشعراء الواردين في هذه المختارات، لسببٍ أساسيّ، هو أن تدفع القراءَ من أمثالي إلى السؤال:
من هو ( أو ما هو ) المشجوج بفأس ؟
هل هو الشاعرُ - صاحبُ النصِّ المترجَم ؟ حيث هو منقسمٌ بين عقلِه وقلبِه، وبين وعيه ولا وعيه، وبين الصَّنْعة والفطرة، وبين الواقعِ والحُلم، وبين الذات والجماعة، وبين انطلاق الخيالِ المنطلقِ وقيودِ الأرضِ المقيِّدة، وغير ذلك من انقساماتٍ متعارضةٍ أو متجادلةٍ يمكن أن نسمّي معركتَها: مأساةُ الشاعر.
هل هو النصُّ (الشعر) نفسه؟ حيث هو منقسمٌ بين أن يكونَ "وصفةً للجنون" و أن يكون "سربًا من عقائد"، وبين أن يصدرَ من مبدأ الوضوح و أن يصدر من " مبدأ التخفّي"، وبين أن ينحاز إلى " أجيرٍ مطرودٍ لتوّه" و أن ينحاز إلى ترقية الإدراك الجماليّ عند القراء، وبين أن يكون "محض حيل بسيطةٍ" و أن يكون تركيبًا معقدًا عميقًا، وغير ذلك من انقساماتٍ متعارضةٍ أو متجادلةٍِ مما يمكن أن نسمّي معركتَها: مأساةُ الشعر.
هل هو المترجم(سيما إذا كان شاعرًا)؟ حيث هو منقسمٌ بين أمانتِه تجاه اللغة المنقول عنها واللغة المنقول إليها، وبين ثقافةِ النصِّ الأول(المناخ الحضاريّ للقصيدة /الأصل )، وثقافة النصِّ الثاني (المناخ الحضاريّ للقصيدة/الصورة)، وبين خيانة "جسد" النصِّ وخيانة "روح" النصِّ (مع الاعتذار للفصل بين الجسد والروح، وللصوفيين العرب الذين اعتبروا "الجسد قبّة الروح") وبين تبعية المترجِم للنصِّ أونديته له، وغير ذلك من انقساماتٍ متعارضةٍ أو متجادلةٍ مما يمكن أن نسمّي معركتَها: مأساةُ المترجم.
هل هو القارئ؟ حيث هو منقسمٌ بين أسرار لغتين: المنقولة والناقلة، وبين طبيعة مُتعتيْن: متعة الجمال الأول بدون تدخّل المترجم ومتعة الجمال الثاني بعد تدخّل المترجم ( وقد يغدو تدخل المترجم جمالا أوّل )، وبين المعرفة التي يكتنزها النصُّ في لغته السابقة والمعرفة التي يكتنزها النصُّ في لغته اللاحقة، وبين "الجريمة" المضمرة في حرفيّة الترجمة و" الجريمة" المضمرة في الانحراف عن حرفية الترجمة، ليجد القارئُ نفسَه أمام جريمةٍ في الحالتين، حائرًا في الاختيار بين الجريمتين، وغير ذلك من انقسامات متعارضة أو متجادلةٍ مما يمكن أن نسمّي معركتها: مأساة القارئ.
هكذا أرادت المترجمة الشاعرة (باختيار هذا العنوان الملهمَ المشجوجَ بفأس) أن تشيرَ إلى أن " المشجوجَ " هو الشاعر والنصُّ و المترجِم والقارئ، جميعًا، موضحةً كميّة المآسي الكامنة في عمليةٍ بسيطة وضرورية هي: ترجمة الشعر.
" ترجمة الشعر" كان عنوان قطعة من قطع قصيدتي "رفع العيون من الجثث"، في ديوان "يوجد هنا عميان"، حاولت فيه أن أصوّر"مأساة" مترجمٍ كبير، هو الناقد المصريّ المعروف د.فاروق عبد الوهاب، الأستاذ بجامعة شيكاغو، حينما زرته في منزله بشيكاغو (بصحبة الصديق الشاعر أحمد طه) عام 1995، حيث تتبدى حيرة المترجم بين هويّته وهويّة النصّ، وبين مصريته وعالميته، وبين حرارة الفيزيقا و رفرفة الميتافيزيقا، وبين سِحْريْن وهميّين: روحانية الشرق وماديّة الغرب:
" أعرف أن زوجته انجذبتْ إلى ندّاهة الفيمينزم،
وتركته يداعبُ التلميذاتِ
اللواتي يشدُّهن سحرُ الشرق،
ربما إحداهن هي التي تعدُّ لنا الأرزَ بينما
فخذاها يقطران من حرارة المطبخ.
لم يشْكُ من ساقيه، لكنني أحببته لأنه كان فظًّا:
ليس في وطني مكانٌ أمارس فيه شغلتي الوحيدة:التعليم.
ألم تلاحظْ تحوّل المدرجاتِ إلى مساجدَ،
وتحوّل المساجدِ إلى غرفِ عمليات ؟
كنت أودُّ أن أحتضنَه على الطريقةِ المصرية،
لكنني تركته على كرسيّه المفضَّل،
يفكّر في مرادفٍ دقيقٍ لمصطلح:
اقتصاد المرايا. "
واضحٌ إذن، أنني كنتُ دائمَ النظر إلى المترجم باعتباره "شخصًا في مأزق"، لا يحلُّ طرفًا من أطراف مأزقه إلا على حساب طرفٍ آخر من أطراف المأزق، فهو الخاسرُ لا محالة في كلِّ وضع. ذلك أن اختياراته جميعًا مشوبةٌ بالجُرْم.وهو في كل اختيارٍ مذنبٌ، وكأنه"البطل التراجيديّ"السائر إلى حتفِه، وهو يبصرُ الهاويةَ السحيقة.
هذه هي "شَعْرةُ معاوية" التي تدركها الشاعرةُ المترجمة نفسُها، حينما أوضحتْ ذلك في مقالٍ لها بعنوان "ترجمة الشعر: إبداع"* قائلةً:
" أن الاعتداءَ على حرمِ الفنِّ و مباغتة حصونِه متعةٌ.فلا بأس إذن من بعض المكرِ والإجازاتِ الشريرة.لكنها اللعبةُ الخطِرة التي يجب أن تنطوي على مهارةٍ فائقة ووعيٍ بالأدوات، حتى تتم "الجريمة الكاملة" بغير خدشٍ لجوهر المادةِ الأصل، أو تشويه لفكر المبدع الأصليّ.تلك هي المعادلة الصعبةُ التي يحلُّ طرفيْها المترجمُ."
نحن إذن أمام مترجمةٍ تعلمُ حقَّ العلم أن الترجمةَ (سيما ترجمة الشعر) هي محنةٌ ومنحةٌ في آن.
قارئُ مختارات "مشجوجٌ بفأس" سيلحظ أن هناك ثلاثة ملامح فكرية فنية تربط بين نصوصها في جديلةٍ واحدة:
الملمح الأول هو الطابع الكوزموبوليتانيّ الذي يسِمُ معظمَ القصائد ومعظم الشعراء. ولعلّ هذا الملمح يفصحُ عن تفضيلاتٍ وانحيازات لدى المترجمة الشاعرة نفسِها ، مما يشي بميلِها إلى التياراتِ الشعريةِ التي تجعل موضوعَها "الإنسان" ذاته ، بعيدًا عن "زمان"(عصر) بعينه ، وعن "مكان" (وطن) بعينه ، وعن "وضع اجتماعيٍّ " (طبقيّ) بعينه.
في هذا الملمح الكوزموبوليتانيّ يبرز "جوهر الإنسان" لا "عَرضُه" وتتجلى قضاياه وهمومُه وأحلامُه من حيث كونِه "إنسانًا كونيًا" لا من حيث كونه "مواطنًا سياسيًّا" أو "علامةً اجتماعيةً" على تراتبٍ طبقيٍّ قاهر أو مقهور.منبع الشعر- في هذا الملمح- هو "قدَرُ الإنسان" كلُّه (بتعبير أندريه مالرو) بغضّ النظر عن الجغرافيا والتاريخ، وبغض النظرِ عن الوطنِ والطبقاتِ والهويّاتِ القوميّة الضيقة.
وعلى ذلك، فإن الألمَ، في هذا المنحى، هو ألمٌ كونيٌّ متصلٌ بمأزق الوضع البشريّ كله من المهدِ إلى اللحد، ومن الأزلِ إلى الأبدِ، وليس ألمًا شخصيًّا أو اجتماعيًّا أو وطنيًّا.كما أن هذا المنحى ينفي عن منظورِ الشاعرِ الرؤيةَ العنصريةَ أو التمييزَ العِرقيَّ، فالإنسانُ هو الإنسان مهما كان لونُه أو جنسُه أو دينُه أو وطنُه أو دمُه أو عقيدتُه السياسية.
ومن هنا، فإن هذا الملمحَ الكوزموبوليتانيّ هو ملمحٌ ديمقراطيٌّ عِلمانيٌّ مضادٌ لمذهبِ نقاءِ السُّلالة أو الدم، مناهضٌ للتمييز اللاهوتيّ أو الثيوقراطيّ أو الهيراركيّ بين البشر. وفي هذه المناهضة سمةٌ جوهرية من سماتِ حداثةِ ذلك الشِّعر الكونيّ الإنسانيّ.
ربما تحِفُّ بهذا الملمح الكوزموبوليتانيّ مسحةٌ من الرومانتيكية التي تجعله مهوِّمًا في السماء متعاليًا عن الأرض الملوثَة بالخطيئة والصواب، و ربما نجمَ عن هذا التهويم قدرٌ قليلٌ أو كثيرٌ من التعمية على الصراعاتِ السياسيةِ و الاجتماعيةِ و الوطنيةِ في طين الواقعِ الحافلِ بالقهرِ والاستعمارِ والنفي والقتل. لكن الميزةَ الكبرى المقابلة لهذه المثلبة الكبرى تجعل الحصيلةَ متوازنةً، ونعني التوّجه الثاقبَ إلى " الجوهر المشترك الباقي" بين الإنسانِ والإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان، والمعنى الديمقراطيَّ الكامنَ في عدم التمييز بين الناس بسبب اللونِ أو الدينِ أو الجنسِ أو الوطن، واقتناص البقعة الوجدانية بين الآدميين، ووضع اليد على محنةِ المرءِ من حيث كونه امرءًا مُمتحنًا بالوجود، ولمسةَ المساواة التي يضمرها التوجه الكونيّ، والتعميم الذي ينقذنا من ضلال التخصيص و التجزيء، كلُّ ذلك يمنح هذا الملمحَ الكوزموبوليتانيّ إنسانيةً أرحب ونغمةً لا تزول.
الملمح الثاني هو حضور تيار"الالتزام" الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، لكنه الحضورُ غيرُ الثقيل.من خصائص ذلك الالتزام - في هذا الملمح 0ابتعاده عن "الإلزام" المفروض عنوةً من الخارج، واقترابه من "النزوع "الفطريّ الحرِّ المناقض للنهج الزدانوفي (الذي سيطر على المبدعين في الاتحاد السوفيتيّ في مرحلةٍ سوداءَ من مراحلِ الأدبِ في العالم).
في هذا الملمح لا تتحول الآراءُ إلى "سربٍ من عقائد" بل إلى نسغٍ داخليٍّ دفين و غير مرئيٍّ. ولا يصبحُ المبدعُ مشجوجًا بفأس الأيديولوجيا، بل ملموسًا بهمِّ الآخرين بوصفهم وجهًا من وجوه ذاته.
و في هذا الملمح يخفتُ الضجيجُ ويتلاشى الزعيقُ وتذوبُ التقريراتُ الساخنةُ، ليصيرَ النصُّ لمسةً رقيقةً من الحنين والحنان: أي لمسةً من الشِّعر.
الملمح الثالث هو اصطيادُ الشِّعر مما لا شعرَ فيه. "والذي لا شعر فيه"يتسع ليضمَّ هجرَ الوزن التقليديَّ العتيق إلى شساعةِ النثر ذي الموسيقى الضامرة والمضمرة، ويضمُّ الطابع الأمثوليَّ الناضحَ بشعرية الفكرة وكثافةِ الحكمة، ويضمُّ التقاطَ القيم الكبرى من المداخل الصغرى، ويضمُّ" أنسنة الحيوان " بحيث ينطق بما لا يُنطَق، ويضمُّ الواقع اليوميّ المعيش، حيث يتمُّ التأكيدُ على أن "ريتشارد جير لم يكن شاذًّا ".
في هذا الملمح تتجاور السماتُ الحداثيةُ والسماتُ ما بعد الحداثيةِ في سبيكةٍ غنيّةٍ متآلفةٍ زاخرةٍ بالدروس الباهرة:
من هذه الدروس، أن الحداثةَ وما بعد الحداثةِ طريقٌ واحدٌ طويلٌ تتكاملُ فيه الخطواتُ، ويُفضي بعضُها إلى بعض.
ومن هذه الدروس، أن الشِّعرَ ليس له بابٌ واحدٌ وحيد، فالشعر يأتي من المجرَّد كما يأتي من العيْنيّ، ويأتي من الحكمةِ كما يأتي من الجنون، ويأتي من الوعي كما يأتي من اللا وعي، ويأتي من الخالدِ المقيم كما يأتي من العابر المؤقت.
مبدأ هذا الملمح: الشِّعرُ لا "وصفةَ" جاهزةً مسبقةً له.
لماذا اختارت فاطمة ناعوت هذه القصائدَ بعينها لترجمتِها وتقديمها للقارئ ؟
ندي أن فاطمة ناعوت (الشاعرة) قد وجدتْ في هذه القصائد ذاتَها كمبدعة، ووجدت في الملامح الرئيسية التي تشكّل هذه المختارات ما يشابه سعيَها الشِّعريّ، فطابقت بين ذاتِها الشاعرة وذاتِها المترجِمة.
إن قارئَ دواوين فاطمة ناعوت الثلاثة، يلحظ بجلاء أن الطابعَ الكوزموبوليتانيّ، والالتزامَ غير الصارخ، وقنصَ الشعرَ مما لا شعر فيه، هي الملامحُ العامة التي تسمُ مجملَ سبيلها الإبداعيّ.فكأنها اتخذتْ من شعراء هذه المختارات "أقنعةً" لها، تتكلم بلسانهم عن ذاتِها، أو تتكلم بلسانِها عن ذواتهِم، عساها بذلك تنقل رسالةً إضافيةً فحواها أن الآخرين هم الأنا، و أن الأنا هي الآخرون، مناقضةً بذلك مقولة سارتر الشهيرة "الآخرون هم الجحيم".
أما فاطمة ناعوت (المترجمة)، فجليٌّ عندي أنها اختارت الخيانةَ الأعمق، فلم تلتصق بالنصِّ الأصليّ التصاقَ العبيدِ أو التابعين أو الحمَّالين، بل جاوزته إلى التحررِ منه والتحررِ فيه و التحررِ به، لتخلقَ نصًّا أصليًّا مواجهًا للنصِّ و قرينًا له. وجليٌّ عندي أنها انحازتْ إلى "الجريمة الكاملة" التي ذكرتها في مقالتها عن الترجمة، وهي دمجُ ذاتِ المؤلف في ذات المترجم، لينجمَ عن الذاتين ذاتٌ جديدة هي ذاتُ النص الذي وقف على قنطرةٍ خطرةٍ بعد أن هدمَ الشاطئين.
وهنا يمكن أن نفهمَ المغامرةَ الرهيفةَ التي تتولد عن تصدي شاعرٌ مميزٌ لترجمةِ شعراء متميزين من لغةٍ مميزةٍ (كالإنجليزية) إلى لغةٍ مميزةٍ (كالعربية). حينئذٍ سيكونُ الصراعُ صراعًا بين أكفاء، وسيكون السِّجالُ سجالاً بين أنداد.
ساعتَها، سنفهمُ معنى "البقاء بلا أقنعة"، وستزداد الشجوجُ شجًّا جديدًا، هو انقسامُ النصِّ على نفسِه.
أما "الفأس" فهي الحياة: حياة الشاعر و حياة النصِّ، وحياة المترجم، وحياة القارئ، على السواء.
فما أجمل الشجَّ.
وما أجمل الفأس.
يوليو 2003
" ترجمة الشعر إبداع" - فاطمة ناعوت - مجلة "المحيط الثقافي"- العدد 16 فبراير 2003
مدينةٌ تحترق
بعدَ أن هدَّمَ المبشِّرُ الثائرُ
كلَّ شيءٍ
إلاَّ سماءً مقدسة،
كتبتُ الحكايةَ
برفاتِ مدينةٍ تحترقْ،
تحتَ عينِ شمعةٍ
دُخانُها يبكي،
مرثيةَ إيمانٍ مُغتصَب.
وددت أن أحكي
كما لم تفعل الشموع،
عن إيمانٍ اُخْتُطِفَ كبرقٍ.
كلَّ يومٍ أتجولُ عبر حطامِ الحكايات
مصعوقًا من كلِّ جدارٍ
يقفُ كأكذوبةٍ شاخصة
في الطريق،
صارخًا كسماءٍ
أثقلتها طيورٌ ذبيحة
وسحبٌ تئنُّ في صمت،
ممزقةً بالسَّلبِ والخواء،
لاهيًا عن النيرانِ من حولي
هناكْ..
حيثُ خطا المسيحُ
فوق صفحةِ بحرٍ مضَّببٍ بالدخان
خطوةً أولى
تساءلتُ:
كيفَ تتجمد دموعُ الإنسانِ
كشمعٍ
حين يسقطُ عالمُه الخشبيُّ ؟
في المدينةِ تلك
حيث تتحورُ أوراقُ الشجرِ
إلى وثائقَ
والتلالُ إلى سربٍ من عقائدْ،
يأتي الصبيُّ الذي
ظلَّ سائرًا طيلةَ يومِه
بعدما وهبته الأشجارُ
أنفاسَها خضراء.
ليحيي محبةً
ظننتُها خامدةً،
كأظافرَ بلا روح.
المجدُ للموتِ
والتعميد للنار.
***
أغنيةُ زنجيٍّ
كانوا خمسةً أو ستةً
الرجالُ هؤلاء
يتناولونَ عشاءهم في رواقِ البنايةِ
ليلةَ صيفٍ قائظٍ،
الرجالُ الذّين أومأ وا إلىَّ
بطيبةٍ في ملمحِهم،
فأجبتُهم،
بينما الطرقاتُ تومضُ من بعيد
كمهرجانِ صيفٍ
أو
كعيدِ قديس.
مثل كلِّ زنجيٍّ بسيط
خِلْتُ البشرَ سواء
أبيضَ، أسودَ أو أصفرَ،
أمريكيًّا، يهوديًّا، أو عربيًّا
لا يهم،
في رواقِ بنايةٍ،
ماذا تعني القوميّاتُ أو اللون !
خابَ حدسي
عندما أوسعوني ضربًا.
أنا الزنجيُّ التعس
أثخنوني بالجراح.
فكّرتُ في الخنجرِ
- كاقتراحٍ وشيك من أحدِهم -
فخلعتُ معطفي
- الجديدَ -
قذفته بعيدًا
واستسلمتُ لمصيري.
تهشَّمَ وجهي وسالَ دمي
لكنني
أنقذتُ المِعطفْ.
على أربعٍ
تسللتُ واختبأتُ في مصرفٍ
أرقبُ أمًّا تجرُّ طفلَها،
( الطفلَ الذي تشبثُ بالمشهد )
- " هيا جاك،
هؤلاء الرجال
لم يتعلموا الحبَّ بما يكفي!"
هكذا علمته الأمُّ
درسَه الأول.
نعم
لم يقتلوني بالتأكيد
لم تكن سوى دعابةٍ فجّة،
على طريقةِ الأمريكيين.
وهكذا
- برغمِ كلِّ شيء -
فقد تعلمتُ شيئًا عن الحبِّ
من خلالِ
مزحةٍ قاسية.
***
في مكانٍ آخرَ
في مكانٍ ما
يركضُ حصانٌ أبيضُ،
شَعرُه
يتطايرُ عبرَ حقلٍ
مسَّيجٍ بالأشواك،
حيثُ رجالٌ
يفتتونَ الأحجارَ
و يحزّمونَ القشَّ في أكوامْ.
في مكانٍ ما
نساءٌ مجهدات يرقبنَ البحرَ
زرقتُه
تبكي مراكبَ صيدٍ غائبة،
بيضاءَ كالسلام،
نساءٌ
تعبنَ من حكايا العذاب.
في ذاكَ المكانِ
بعضُ أسرى
( حصادٌ صغيرٌ لأجسادٍ رهنَ المقايضة)
فيما الجنودُ
يرقدون في الطرقات
أو يدخنونَ في الغابة.
في مكانٍ ما
تُنتهكُ قوانين،
تُمزَّقُ أوراقٌ كثيرة
فتَتحورُ ورقاتُ الشجرِ إلى أشكالٍ شوهاء.
في مكانٍ ما
كاتبٌ يرقدُ مفتوحَ الحدقاتِ
على فراشٍ واسعٍ
هو الكاتبُ
الذي لن يقرأَ هذا
لم يكتبْ هذا
إذ كيف السبيلُ إلى قلم ؟
و ها نحنُ هنا
أحرارٌ لوهلةٍ.
بينما
في ثلثٍ بعيدٍ من هذا الكوكب
ثمةُ بارودةٌ تفجِّرُ رأسًا
كان يفكرُ بالفردوس.
حيثُ لاشيء حرًّا هناك
سيختنقُ الهواءُ في سلةِ الأوراقِ
و يٌقمعُ كلُّ ما كتبنا
فيما حرفٌ أزرقُ
وحيد
يشقُّ صوتَه سكينُ الورق.
عبر معتقلٍ مظلمٍ كهذا
تشخصُ وجوهٌ مجوَّفةٌ
تتشبثُ أصابعُها
بقضبانِ القصيدة
هنا....
أو في مكانٍ آخرَ.
سوف تخبو نظراتُهم
شيئًا فشيئا
كأرقامٍ بلا ملامح
كتلك التي تثيرُ حَيرتَكَ في دليلِ الهاتف
أو...
كمذبحةِ نهايةِ العامْ.
لا تلوموا العالمَ إذن
فالحماقاتُ المظلمةُ
لها أن تحددَ مسارَ الضمائر
لنشعرَ من خلالِ حواسِنا المجهدة
بصرخاتِ الشتاءِ
الصامتة.
***
توباجو*
.. منتصف ليلة صيف
شواطئٌ واسعةْ،
صخورٌ تلفحها الشمسُ
بحرارةٍ بيضاءْ،
نهرٌ أخضرْ،
يشقُّه جسرٌ من الخشب،
وفي الخلفيةِ
نخلاتٌ صفراءُ محترِقة.
في منزلي البعيد
الذي اعتاد أن ينام في الصيف
أجلس في شرفةٍ
تسبحُ في كسلِ أغسطس.
أحصي الأيام:
أيامٌ
جمدتُها في قبضتي
و أخرى
تسربتْ من أصابعي.
الأيامْ
التي تنمو سريعًا
مثل طفلةٍ تشبُّ بغتةً
وتخرج عن طوق مرفأ ذراعيكْ.
***
ملحقُ وصيّة
مثل مصابٍ بالفُصام
أو مشجوجٍ بفأسٍ،
مثل أجيرٍ مطرودٍ لتوّه،
كافأتُ نفسي
بالمنفى.
على شاطئٍ مصابٍ بفقرِ الدمْ
مشيتُ في ضوء القمرِ
أميالاً،
ببشرةٍ سوداءَ محترِقةٍ
تودُّ لو تنسلِخُ كثعبانٍ ،
في عالمٍ
أحاديِّ الهويّة.
كي تغيّرَ لسانَكَ
عليكَ بتغيير وجودِكْ.
ليس بوسعنا
تصحيحُ الأخطاءِ القديمة،
لأن الأمواجَ التي أجهدَها السفرُ صوب خطِّ الأفق
تفزعُ من صوتٍ النوارس
التي تصرخُ بألسنةِ واهنةْ.
فوق زورقٍ خشبيّ
أفسدته رمالُ الشاطئ،
يرقدُ غمامُ " شارلوت فيل"
بعدما نخرته المناقيرُ السَّامة.
قديما
حسبتُ حُبَّ الأرضِ يكفي،
و الآن
لم يعد في السَّلَّةِ مكانٌ لي.
أرقبُ العقولَ تبلى مثل هياكلِ الكلابِ
حولَ كسرات خبز،
و ها أنا
أقترب وئيدًا من منتصفِ الحياة
ببشرةٍ محترقةْ
تتقشر في يديّ مثل غلاف بصلةٍ
فتطلُّ الأحجيةُ من جديد،
الأحجيةُ التي
لا تُحلّ.
في القلبِ …
لا شيء.
ولا حتى خوفٌ من موت،
عرفتُ موتى كثيرين،
متشابهون جميعهم،
و يشبهونني.
الموتُ
يعدلُ بين الناس،
لأننا
حين نغوصُ في النار
لن ترتعد بشرتنا مجددًا
خوفًا من فوهةِ أرضٍ ساخنة
أو تنّورِ شمسٍ ساديّ
و لا حتى
من هذا القمرِ التعِس
الذي يظهر ويختبئ خلفَ الغمام
ممعنًا في إفسادِ الشاطئِ
ليتركه شاخصًا
متوحّدًا
مثل صفحةٍ بيضاءْ.
انتبهوا،
اللامبالاة تلك،
تحملُ قدرًا
من الغضب.
كهول يجرِّبون الغناء
الكهولُ
الذين اعتادوا أن يغنُّوا،
- بحذرٍ-
رفعوا أخًا لهم
خارجَ البابْ.
أفكِّرُ:
لابدّ أنهم وُلدوا هكذا
مدرَّبين كيف يؤرجحون برفقٍ
تابوتًا،
يجرجرون أقدامَهم ببطءٍ،
ثمَّ يشخصونَ
بحدقاتٍ جافة
نحو البعيد.
الزهورُ تربكُ خيالَهم
أكثرَ مما يفعلُ
نحيبُ الأراملِ
و الثكلاوات.
ها هم
بعدما يوارون الجسدَ الترابَ
ستراهم يقفون
هناك
- في ثيابِهم البُنّيَّة -
في انتظارِ
موتى جُدد.
***
حوارٌ مع الشِّعر
قلتُ للشِّعر:
- " انتهيتُ منكَ !."
وفيما يحتضرْ
و بينما أقاومُ شعاعَ قلقٍ
بدأ يزحفُ داخلي،
أضفتُ:
- " شكرًا أيها الإبداعِ
لم أعدْ بحاجةٍ إلى الإلهام،
سأذهب إلى هناك
حيث شيءٌ من الفرحْ،
حيث عهودٌ لا تعرفُ الألمْ
على الأقل."
رقدَ الشِّعرُ على ظهرِه
وادَّعى الموتَ
حتى الصباح.
لم ينتبني حزنٌ،
سوى قليلُ من الضجرِ.
قال الشعرُ فجأةً:
- " هل تذكرينَ الصحراءَ،
وكم كنتِ فرِحةً أن لكِ عينين تريانها ؟
أتذكرين ذلك ولو لُماماً؟
أجبتُ:
- " لم أعدْ أسمعُك حتى،
ثم إنها الخامسةُ فجرًا
وبالتأكيد
لم أصحُ في الظلام
لأحاورك !"
قال الشَّعرُ:
- " فكرّي وحسب
في الأوقاتِ التي تأملّتِ القمرَ
فوق ذاكَ الوادي الضَّيق،
كم عشقتِه !
وكم أدهشتكِ أشعتُه الخضراءْ،
كم داخلك الفرَحُ
أن عينًا واحدةً مازالت لديكِ،
ترصدين المشهدَ بها،
تذكَّري ذلك وحسب."
- " سألتحقُ بالكنيسةِ."
أجبته بغضبٍ وأدرتُ وجهي صوبَ الحائطِ
- " سأتعلم من جديد
كيف أصلِّي."
- " دعيني أسألُك إذن،
ماذا سترين في الصلاةِ
حسبما تظنين؟"
باغتني السؤالُ
فقلتُ وقد زال عني الهدوء:
- " لا أوراق هنا في الغرفة
فاذهب من هنا !
ثُمَّ إن هذا القلمَ
- الذّي اشتريتُه بالأمسِ -
يصدرُ صريرًا مزعجًا."
- " اللعنة !"
قال الشعرُ
- " اللعنة !"
قلُتها
***
رماديّ
صديقتي
التي تحولَّت للرماديّ فجأةً
ليس لونِ شَعرِها وحسب،
ربما روحها أيضًا!
في الحقيقة
لا أعرف لذلك سببًا.
هل نقصٌ في فيتامين هـ
أو حامض البانتوثينيك أو ب 12
أم
بسببِ الوحدةِ والعذاب ؟
-" كم يلزمُ من الوقتِ كي تحبي ؟"
سألتُها مرةً:
-" فقط … لحظةٌ حميمة."
أجابتْ.
-" و لأيّ مدةٍ يستمرُّ الحبّ ؟ "
-" آهٍ !
ربما شهور."
-"وكم يلزمكِ لتتغلّبي على هذا الحبِّ؟"
-"أسابيعُ ثلاثة."
يا لكِ من امرأةٍ فريدة !
هل أخبرتكم
أنّي بدأتُ التحَّولَ
إلى الرماديَّ أيضًا ؟
أغلبُ الظَّنِ
لأنني عشقتُ تلك المرأةَ
التي بمثل هذه الطريقةِ
تعتنقُ الحبّ.
***
قصائدُ أخرى
(1)
بوسعِنا جميعًا
أن نهزمَ الذَّهبْ
إذا لم نعبأ بصعودِ أو هبوطِ قيمتِه
في سوقِ المال.
حيثما كانَ الذَّهبُ
كانت السلاسلُ،
وكلما كانت سلاسلُكَ من الذَّهبِ الخالصِ
كلما ازددتَ فقرًا.
ريشةُ الطائرِ،
المحارةُ،
الأصدافُ البحريةُ
كلُّها على نفسِ النُّدرةْ.
هكذا تكونُ ثورتُنا
أن نحبَّ ما لدينا
كما تعودنا عشقَ
ما لا نملك.
(2)
الحُّبُّ لا يعنيه
مع من صليّتَ صلاة المساء
أو أين نِمتَ
ليلةَ فررتَ من بيتِك
الحبُّ يعنيه
ألا تقتلَ دقاتُ قلبِكَ
إنسانًا.
(3)
وقتَ خرجتُ من قلبِك
لم يعدْ جسدُكَ،
حضورُكَ،
حديثُك الرقيقُ حتى،
يغريني.
سأذهب إلى بلدٍ بعيد
حيثُ بحرٌ بيننا
كيلا أمشيَ إليكَ
بل
سأمزقُ الرسائلَ التي
تحكي عن ألمي.
(4)
لدينا أمُّ رائعة
وثيرٌ.. حِجْرُها الأخضر
أبديٌّ .. حضنُها البُنّيُّ
زرقةُ الجسدِ
هي كلُّ ما نعرفْ.
مبدأُ التَّخفِّي
ماذا لو أُمسِكَ بكَ في العلَنِ
وحيدًا
في مكانٍ مكشوفٍ
أعزلَ
و موقنًا من كونِكَ
مستهدفًا في كلِّ لحظة ؟
هل تصالحُ بين نزاعاتِكَ
والأكاذيبِ الكثيرةِ من حولك ؟
ترتِّبُ ذاتَكَ بين الصخورِ والأشجار
بين العشبِ المتوحشِ والخيول
بين الأبقارِ والغنمِ
أو حتى
بين الركام والنفايات،
من أجل أن تجدَ لنفسِكَ هويةً ؟
لماذا لم تعدْ تودُّ أن ترى ذاتَكَ
كما اعتدتَ أن تراها
تريدَ شيئًا مسالمًا جدًا
حميمًا،
مثلما تَهبُ الطبيعةُ الخضراءُ نفسَها
لبرودةٍ باهتةٍ
تداعبُ عُشبةً
تنمو في صخرةْ.
البقاءُ بلا أقنعةٍ
أكثرُ مما تطمحُ إليه الآن،
شيءٌ يفوقُ طاقاتِك
عرفتْهُ الأوراقُ الخضراءُ الرهيفةُ
فأعلنتْ بجلاءٍ عن ألوانِها
لتظهرَ كمَّ دنسِكَ وتعاستِك.
هو القصاصُ إذن !
أن يهزمَكَ عدوٌّ
تدرَّبَ على القنصِ عن بُعد.
خادعكَ تكوينُكَ يا صديقي
أحرى بكَ أن تتعلَّمَ كيف تمزقه
ليراكَ عدوُّكَ مشتتًا:
رأسُا بلا جزعٍ
أذرعًا وسيقان،
عندئذٍ
يتجاهلُكَ لتعيشَ لحظتَك
كفكرةٍ مجردةٍ تبعثرُها الشمسُ
كسطحٍ
فتته أشعةُ نورٍ غامضة
أو
كإنسانٍ مُعطَّلٍ
تعلمَّ العيشَ في الظلِّ.
لكن تذكَّرْ
سوف تبوء جهودُك بالخيبةِ جميعُها
إذا أتيتَ بإيماءةٍ واحدةٍ
تشدُّ إليكَ العيونَ.
إذا وقفتَ
فابقَ ساكنًا
أو اجلسْ بلا حركة
أو ارقد صامتًا كما أنت الآن،
هكذا
محضُ حيلٍ بسيطةٍ
ضد حقائقِ حياةٍ جامدةْ،
و كأنك بلا عدوٍ يتربصُك
كلُّ مخاوفِكَ ستغدو بلا سبب
جمِّدْ يقظتَكَ التي كان حريًّا بها
أن تفوزَ بالغنائم.
إذا تيقنت من كلِّ هذا العبثِ
وأخذت مكانَكَ في المشهدِ
بين الأمامِ والخلفية،
يجب أن تشعرَ
- منذ خطوتِكَ الأولى
خارج شقِّ التابوتِ -
بارتطامتِكَ القاتلة
التي تلفحُكَ برياحِ الخسارةِ
لتدعكَ وحيدًا
بلا ضوءِ نهار
أو سكنةِ ليل
بلا وطنٍ..
منتميًا
إلى حضارةٍ أخرى
تنثرُ عبقَها في هوائك،
هي الدنيا.
***
صفٌّ من شجيراتِ الغار
لن تكونَ سياجًا
أو حائطًا حولَ حياتِكَ
أو مصدًّا
يحمي أملاكَكَ من تحديقةِ الكلابِ الجوعى،
والغرباء،
ترفضُ أن تخلقَ من أجلكَ
مِنطقةً آمنةً
تدفنُ فيها خوفَك
واغترابك.
أشجارُ الغارِ التي
تأبى أن تحسمَ معاركَك القديمة
داخل حدودِ ساحتِك
أو خارجها.
النبتةُ الصغيرةُ
ذات البرعمِ الثلاثيّ
تعلو في الهواء سامقةً
عند بدايةِ نيسان،
أو تميلُ بنصفِ انحناءةٍ
على نحوٍ فوضويّ
كي تستكشفَ مدىً بريًّا،
موغلاً في التوحش.
الشكلُ الهندسيُّ المؤَّطرُ
الذي يجعلُ منها أشباهَ مربعاتٍ
يبدو لها عجيبًا
لهذا
تتمردُ على مقصِّ الحدائقيّ
الذي يحاولُ أن يشذِّبَ أطرافَها الناتئةَ
و تقاومُ الماكينةَ ذات الأسنانِ الكهربائية
التي تقترح لها اصطفافًا منتظمًا
من أجل ألا تخسر
رِهانَ وجودِها.
تسخرُ من فكرةِ أن تكونَ
شجيراتٍ لطيفةً
طيّبةَ الجوار،
مع هذا
ثمةَ فرعٌ عجوزٌ صعبُ المراسْ
يقبعُ عند الأسفل
تحتَ الأوراقِ البادية والسيقانِ
يراوغُ
ربيعًا بعد ربيع
يقهرُ الصعابَ
ويقاومُ
كي تنموَ الأفرعُ الوليدةُ متَّسِقَةً حتى النهاية،
و متحدّةً.
النبتةُ القديمة
التي لم تعرفْ نصالَ التشذيب
لا تكونُ سياجًا ولا حواجزَ
تشبُّ بغير نتوءاتٍ،
فيما أشجار الآن
معذّبةً بآلاتِ الحرث
تنمو حاملةً
كلَّ الزوايا المطروحة
و انحناءاتِ الهامةِ.
انظرْ إلى الأرض هناك:
أوراقٌ ساقطةٌ
بنيَّةٌ وسميكةٌ كالجلد
تشبه الألسنَ الرافضة،
ترقدُ في سكون
بطيئةَ التحللِ في مواتِها
لتغدو طعامًا عصيًّا للتربةِ
تحت أقدامِ أبيها؛
الشجرِ
دائم الخضرةْ،
وفي تحولِّها الوجودي
تتذكرُ مجدَها القديم
وقتَ كانت
ورقاتٍ زاهيةً في تيجانِ غارٍ
تزيّنُ
جباهَ الشعراءْ.
ماركٌ ألمانيٌّ
يأتي أولاً
ثم شجرةُ ليمونٍ
أوراقُها مصقولةٌ، ثمارُها صفراء.
كأنهُ الحُلمُ !
في أُمسياتِ الصَّيفِ الباردةِ
أكلنا الجبنَ الدانمركيَّ
وشربنا خمورًا فرنسيةً
فيما القِطَّةُ في قِلادةٍ فِضِّيةٍ
مطعَّمةٍ بالماسِ والعقيقِ
تأكلُ الكافيارَ والسلمون.
لابدَ أننا أغرقنا في النوم
حتى الثالثة
على ملاءاتٍ حريريةٍ ناعمةٍ
بينما الليموزينُ ينتظرُ.
الأوبرا ليلاً،
و النهارُ
حولَ النافوراتِ.
كم هي دافئةٌ أصوافُنا الكشميريةُ !
ستائرُنا المخمليةُ التي
تشاغبُ الظلامَ.
كأنهُ الحُلمُ !
لم نصدِّق أسماعَنا
حين باغتتنا صرخاتُ الطاووسِ
القادمِ من بلادٍ بعيدةٍ
صرخاتُه التي
تؤرِّخُ حالَنا
" نحن الآن في عالمٍ جديدٍ
نحن في أرضِ الثروةِ !"
عبر دموعي سمعتُني:
أين أنتَ يا شجرَ الليمون؟"
حتمًا
لم أكن على ما يرام،
ولم أكتبْ قصيدةً واحدةً،
هل أصبحتُ ثريةً ؟
لكن
الماركُ الذي بدا خفيفًا في البدءِ
صارَ ثقيلاً!
كم أتوقُ إلى زهراتِ الثالوثِ الشتوية
و بَنفسجاتي الصغيرةِ التي
تتحدى العواصفَ،
أتوقُ إلى ستائري الشفافةِ
قططي التي أعرفُها - بلا قلائد
هكذا أنا…
قبل وصولِ رسالتِكَ من " جارتن ستراس ".
رسالتُكَ التي
أعقبَها الصمتُ.
نشبهُ الأطفالَ الحمقى
نبحثُ عن أسماءٍ لأشيائِنا.
هذا ضفدعٌ
في بِركةٍ ماءٍ
كمثريةِ الشكل،
و هذه قلعةٌ،
و هذه فراشةٌ.
هل كان يبحثُ في المجْهَر
عن عصواتٍ بكتيريّةٍ ؟
ثم تلك النقطةُ الحمراء
ماذا تفعلُ هناك
فوق حافّةِ العالمِ الخارجيةْ ؟
أحدهم
سوف يقولُ:
" إنها عظْمةُ الساق".
كن جادًا من فضلك
إنه الفنُّ،
مهنةُ حياته الأولى،
ثم إننا
نبدو بالفعل عتيقي الطراز
حين نحاولُ أن نشاهدَ الرَّحِمَ
مثلَ ثقبٍ في الجدارْ
أو …..
نعم ؛
مثل بيضةٍ مسلوقة ربما.
لو كنّا صغارًا
ربما ضربَ على أيدينا
لأننا نثرثرُ طوال الوقتْ
في الصفِّ الأخير،
لكنّه حين يمضي
سيبدو لنا
شاردَ الذهنِ قليلا
و حزينًا.
الدُميَّةُ الخشبية
حِصانٌ
ألوانُهُ لامعةٌ،
له وجهُ طفلٍ
وأربعُ عجلاتٍ صغيرة
تحت أقدامِه،
و حبلٌ طويل لتجذبَه
هنا وهناك
على أرضيةِ الغرفة
كيفما أردتَ.
ينزلقُ الحبل بعيدًا
و يروا
بين كلِّ محاولةٍ وأخرى.
"اطرقْ البابَ وسوف يجيبون !"
هكذا قالت أمي ،
فتسلقتُ الدرجاتِ الأربع
ودخلتُ خلسةً
وجدتُ لُعبةً خشبيةً صغيرة
أخذتُها
فنشأ مكانَها فراغٌ
سبَّبَ مع ضوءِ النهارِ الخافتِ
رجفةً في جسدي.
مضيتُ صامتًا
وكأنني أحملُ مِفتاحَ قُدْسِ الأقداسِ
في كفي.
أين أمكنتنا المسلوبةُ والممنوحةُ،
تلصصُنا الحَذِر،
ذاكرتُنا القديمة،
ولحظاتٌ صافية
مرَّتْ بحياتِنا الرماديّة ؟
أين قطرةُ الدمِ
ومسمارٌ صغيرٌ
ثقَبَ إصبعي
بينما أنحني لأمسَّ اللُعبةَ
وانتزعَ عينَها ؟
ضوءُ المساءِ
يستدعي الآحادَ الطَّيبةَ
موعدي الأبديّ مع ظلالِ لُعبتي.
تذكاراتي الحبيبةُ
و الدَّرَجُ المنحدرُ
في البنايةِ القديمة،
وأزقةٌ ضيقةٌ
كنتُ أكلِّمُ جدرانَها وأبوابَها المُغلَّقةَ
و تكلمني.
الدُميةُ الخشبيةُ
تجلسُ صامتةً،
كصوتِ اختلاجةِ عينٍ
في مشهدٍ صامتٍ
" بسست !"
قالها أحدُهم خلفَ ظهري،
ومضى.
***
القَتلة
حتى في الآحاد
كنَّا نترقَّبُهم.
يلبسونَ الرماديَّ أو الأسودَ
وأحذيتُهم
لامعةٌ دومًا
وثقيلةْ.
لا يعبأونَ بالأسماءِ،
يطرقونَ الأبوابَ وحسبْ.
في أرشيفِ الصورِ
رأيتُ أحدَهم،
مسدسُه
صَوبَ رأسِ الطفلِ الذي لا يتكلم.
الطفل
النائم جوارَ بركةِ الماء
بعيونٍ مفتوحةٍ
كعينيّ.
في النهارِ
التقطتُ عينَ بقرةٍ
من بينِ شرائحَ خشبيةٍ
لعربةِ ماشية،
فيما أعبرُ الطريقَ مسرعًا
في شيكاغو،
فجأةً، وعلى نحوٍ غامضٍ،
توقفَّ القطارُ
وخرجت من النافذةِ ذراعٌ
تلَّوِحُ غاضبةً.
: " كيف أمكنني أن أفعلَ ما فعلتُ !"
قلتُها، طاويًا أرشيفَ آخرَ،
وفي آخرِ الليل
لم أجرؤ على فتحِ المزيدْ.
كما أنني
لو أطرقتُ أُذني فقط
سأسمعُ طلقةَ بندقيةٍ هنا أو هناك
قال صاحبي:
"سمعُكَ حادٌ."
وقال آخرُ:
"خيالُكَ خصبٌ ".
القطَّةُ والكلبُ يتجولانَ هناكَ
حول الغرفةِ
لابدَ يسمعانِ شيئًا.
كأن أمطارَ الصقيعِ سجنتكَ
عاريًا تمامًا
و بلا مِظلَّةٍ
لكنَّكَ يا رفيقي
ستعتادُ الأمرَ بعد برهةٍ
أمَّا أنا
فلم أعتدْهُ أبدًا
ولذلك
أنا صاحٍ.
وجهُ كاهنٍ يتأملُني
لن أتحدث إليكَ,
شفاهي منصهرةٌ
حيث ملاكٌ قبَّلني لتوّه,
لا أبالغ !
فقط أعلمُ
أن الفضاءَ مسَّني مرةً
فرأيتُ المجرَّات تتدافعُ
عبرَ شرخِ الكونِ.
يا ربُّ
سوف أتعلَّم السّيْرَ ثانيةً
بلا كللٍ
حتى أسقطَ في الظلام.
لي حاجبٌ واحدٌ
وعتيق،
تكمنُ خلفَه حياتي ،
حيث يقبعُ عند جِذْرِ كلِّ شعيرةٍ
ملاكٌ
ليرفعَها.
يا مسيحُ
أسمعُ الخطايا تفورُ من وراءِ العشبِ
أحدُهمُ ينتظر هناك.
لو أمكنني لعقُ هذا الزجاج
لأدعَهُ نظيفًا
وشفافًا
ربما رأيتها من هذه الناحية
مع أنها
تحملُ نظرةً
كم ودتْ روحي أن تجرِّبَها.
أقفُ هكذا
متكئةً على سطح مكتبي
في وضعيةٍ جاهدتُ من أجل الحفاظِ عليها
فقط لأتأملَ الحياةَ الطَّيبةَ.
من المهم
أن يبقى هذا الدُّرجُ مغلقًا
حتى لا ينزلقَ قلبي
ويطير بعيدًا.
***
أغنيةُ حبٍّ لقطيعِ أغنام
" اِربحْ قطيعَ أغنامٍ !"
هكذا قال الإعلانُ
" فرصةٌ للفوزِ مع كلِّ قنينةٍ من الشَّعيرِ النَّقيِّ ".
سأدخلُ المسابقةَ إذن
أربحُ قطيعًا
ثمَّ أهبكَ إياه.
اِبقِ القطيعَ بالبيتِ
دعْه يرعى بأرجائِه،
مطمئنًا.
سيأكلون السِّجادَ أولاً
ورقَ الحائطِ
ثمَّ يشرعونَ في الأمتعةِ الصلبةِ.
سيدبرونَ طريقَهم عبرَ الستائرِ
فتتطايرُ كلُّ الأشياءِ
كتبُكَ... مخطوطاتك
داخلَ أفواهِهم الرطبة.
أعرفُكَ جيدًّا
لا تحبُّ أن ترى أثاثَكَ مجترًّا هكذا،
في أفواههم،
تفضِّلُ الحياةَ زغبيةً
مُمَشَّطةً و مغزولةً.
ها هو القطيعُ قد اكتشفَ مَكْمَنَك:
سيبدأون بالعصفِ داخل أذنيكَ
يمسحون أنوفَهم بشَعرِكَ،
غالبًا ستكونُ البدايةُ بالمطبخ
يدغدغونَ ركبتيكَ بفرشاةٍ ناعمةٍ
يحاصرونك حولَ الأريكةِ
ثمَّ يشربونَ ماءَ مغطسِك
ثم
تتفرقُ ملابسُكَ بين البطون.
في الظلام...
سيعرفُ الخرافُ طريقَهم لأظافرِكَ
يمتصونَ أصابعَ قدميِك
يرعونَ فوقَ ساقيكَ
ينزعونَ كل شعيرةٍ بأسنانٍ رقيقةٍ وحانية
ربما تشعرُ برذاذِ أنفاسٍ وشفاه
تتماوجُ كسحابةٍ داخلَ صدرِك
وجهِكَ ثم لِحيتك،
يحرثونَ العُشْبَ الناعمَ فوق صدرِك،
عندئذٍ
ستجدُ نفسَكَ مستسلمًا مثل حَمَلٍ عجوز
سعيدًا ومتآلفًا مع القطيع تمامًا
و حينَ أصلُ إليكَ في زيِّ "Po-Beeb "* راعيةِ الغنم
سأتأملُ المشهدَ طويلاُ
لكنَّكَ
بمِنْجَلٍ معقوفٍ
ستتركُ القطيعَ مجزوزًا
و تتركني
محرومةً من الحبِّ
وحيدة.
****
نَبْضُ ثمرةٍ
وددتُ أن أقولَ
" ثلاجةٌ نظيفةٌ ! "
لكن انظرْ خيوطَ الصدأِ في الخلفِ،
و بقعةَ الغُبارِ البُنْيَّةِ أسفلَ طبقِ السَّلَطَةِ.
ها هنا..
حيثُ أحيا منذ أسبوعين،
منذ اِنتُزِعتُ من غابةِ الخُضَر هناك.
كنتُ جامحةً في الأملِ،
حين طمِعتُ في بقائي هشةً دومًا
لأستثيرَ حلْقَه القاسي ولسانَه،
و كلَّ جزءٍ من فَمه.
الآنَ
أحسُّ بأوراقي الخارجيةِ تفقدُ مقاومتَها،
يتسربُ الأوكسجينُ القاتلُ إلى عُمقي،
بينما يتسللُ الماءُ بعيدًا.
والخَدَرْ
الخَدَرُ يزحفُ شيئًا فشيئًا
نحو قلبي.
هنا، في قاعِ الثلاجةِ
حيثُ الصمتْ.
فقط أنا..
مع خَسَّةٍ مُتَعَرِّجةٍ و نِصْفِ بَصَلةٍ،
ينفتحُ بابُ الثلاجةِ مراتٍ عديدةً خلال اليوم
لكنَّه..
أبدًا لا يَفتحُ دُرْجَ الخُضَرِ هنا..
حيث أقبعُ في ركني
منكمشةً على عزلتي.
في الأعلى
قطعٌ غريبةٌ من اللحومِ البشعة؛
ضلعٌ كاملٌ بشعيراتِه القبيحة؛
أجنحةٌ وأشياءُ تخصُّ طائرًا ضخمًا؛
حوافرُ ومناقيرُ؛
و عصارةٌ عطِنةٌ
تسيلُ عبر أرففِ الثلاجةِ
ثمَّ تقطرُ
فوق رؤوسِنا الخابيةِ.
منظمُ الرطوبةِ يُبقي البرودةَ ثابتةً
حتى في الطَقسِ الحار
فتبدأُ الكائناتُ البائسةُ بالقاعِ في التجمدِ
و العبوسْ،
ثلاثُ مراتٍ عَضَّنا الصقيعُ،
وشعرتُ بآلامٍ مروعَّة
عندما تكاثفتْ بلوراتُ الجليدِ
حول أهدابي.
عازلٌ حراريٌّ متقاعسٌ عن العمل،
لا مهربَ من الاسترخاءِ في البرودةِ إذن
لأن ذلك يوافقَ فكرةَ حفظِ الأطعمةِ
فندعُ الصقيعَ
يخترقُ مسامَّنا.
لكن
سرعان ما أشعرُ بالدِّفءِ من جديد
حينَ أفكرُّ فيه،
أذوبُ في لُعابِه
أمرُّ على حلقِه
ثمَّ
تهضِمُي خلاياه.
حينئذٍ
أتعلَّمُ خلالَ ذوباني
صيغةً جديدةً للحياة،
أتغضَّنُ …. أذبلُ و أموتُ
ثمَّ
أتفتحُ من جديدٍ
للحُّبِّ.
***
عَنْزَةٌ
الغسقُ
و طريقٌ صحراويٌّ.
فجأةً
غدوتُ عَنزةً.
للأمانةِ.. استغرقَ الأمرُ دقيقتين
لينبثقَ القرنانِ من جُمْجُمَتي،
يتمردَ عموديَّ الِفقَريُّ
ويستقرَّ
على نحوٍ أفقي،
ثم تلتصقَ أصابعي هكذا
وتتخذَ أظافري طريقَها نحوَ التطَّورِ
فتغدو حوافرَ.
ما عادَ الطريقُ صحراويًّا إذن
بل صارَ حَشْدَ ماعزٍ.
كمْ يعجبُني هذا المشهد !
غير أني،
أكرهُ تصادمَنا داخلَ النُفُق.
والآن
أجرِّبُ الثُغاءَ في آذانِهم
لعْقَ خاصرةٍ أو اثنتين،
أثغوُ وألعقُ هنا، وهنا.
روحي
تحرِّكُها الآنَ
عضلةُ وعظامُ عَنزة،
رائحتُها وفراؤها.
وكذا
سأرتكبُ الحُبَّ على طريقتِها.
انتهى بيَ الأمرُ
على رأسِ القطيع
عند التقاءِ الطريقِ و سياجِ الشَّجر،
رائحةُ الأرضِ
العشبِ
أوراقِ النباتِ
و رؤوسِ الأزهارِ
واختلاطِ نكهاتِ عصارةِ المطاطِ
بالتوابل.
سوف آكلَ كلَّ شيءٍ إذن
ربما أغْمِضتُ عيني و التهمتُ العالَمَ
أمضغُ الأوراقَ الشهيَّةَ تحت الأشعةِ الدافئة.
ثمَّ
أتذوقُ الشمسَ الآفلةَ تلك
قليلاً من السحبِ الداكنةِ أيضًا
و بعدها
بعضَ المباني الشاهقةَ هناك
بعيدًا في المدينةِ المجاورة.
لابدَ أني ابتلعتُ توًّا
مبنى الإدارةِ الرئيسيَّ
لأن عمليةَ الهضمِ الهائلة
تشي بتفتتِ ممرٍّ طويلٍ مفتوحِ النهايات.
ربما كان هذا الممرُّ
إصبعًا صغيرًا
لرجلٍ ما.
القمر البعيد
(1)
في المستشفى
مرّةً أخرى،
نوبةُ الرئةِ التي عاودته في يناير
كادت تقتله،
وقتها
أقسمَ أن يموتَ في البيت.
خبزَ لنا
- كعادتِه -
قطعَ الكعكِ
- التي لا يأكلها الصغارُ أبدًا -
و قبل أن يمضي في الخامسةِ صباحًا
تركَ المطبخَ
- الذي بدا صغيرًا جدًّا -
نظيفًا و مرتّبًا.
راح يحكي:
" ريتشارد جير" لم يكن شاذًّا
أما الكلامُ عن الإيدز
والنومِ مع صديق
فمؤامرةٌ محكمةٌ
دبّرتها الحكومة.
مكثَ شهورًا أربعة
ثم فقدَ بصرَه
على مرأى من الأطباء.
(2)
في أحد الأيام
بينما كنت أسحبُ من دمِه بالمحقَن
قال ضاحكًا:
أنتِ الآن صديقتي
أختي في الدم.
ثم صاحَ
" مصاصةُ دماء !"
هكذا صرخ.
"أنتَ تجعلني أحيا إلى الأبد "
كان هذا ردّي الوحيد
ثم قطَّبتُ جبيني.
أعلم أني أغرقُ في دمائِه،
دمائِه القرمزية.
ملأتُ أنابيبي السبعةَ؛
كان الدفءُ أبطأَ من أن يغادرها
فضغطتُ بكفيّ عليها.
كنت حزينةً لأنه لا يرى وجهي
و لأنني
لم أستطع أن أحتويه.
أكره حقيقة كونه يمضي
و كونه يتقاطع مع بشرتي،
أخي في الدمِ
رفيقي.
(3)
قال إني جميلةٌ جدًا
ومع هذا
لو كانت " جودي فورستر" مثليةً،
لكان الأطباءُ جميعًا شواذًّا.
بقايا الخطايا توخزُ
تحت عمودي الفقريّ
" حسنًا، قد انتهيت."
قلتها فيما أسحب المِحْقَن من ظهره
و أضغطُ بإصبعي تلك البقعة.
"العينةُ صافيةٌ !"
لم أجبْ،
البقعةُ
كانت معقّمةً ومغطاةً بالقطن.
كان يقتربُ من الموت بسرعة
و إخباره بالأمرِ
يبدو عقيمًا.
ثم ماتَ
مجهولا من الجميع
سواي.
مضى
تاركًا إبرتي مغروسةً بعمقٍ في قلبه الضاحك.
و تمَّ التشريح.
(4)
كنتُ أقرأ له في الليل.
"نيو يورك تايمز، "الأفوكيت"،
قراءةُ الأبراج،
و سطورٍ من ريتشارد هوارد
كانت تشحننا بالأمل.
المستشفى الهادئ شديدُ الاتساع
الأرضُ المصقولةُ ثلجيةُ البياض،
الطرقاتُ القاتمة،
التي تؤدي إلى كل الأمكنةِ تقريبا:
إلى الموتِ مثلاً
أو
إلى ماكيناتِ الكوكاكولا التي تضئ
كالأشباحْ.
حلمتُ بأنفاسِه تملأُ رئتيّ
بشفتيه تلامسانِ شفتيّ.
شعرتُ وكأنني ألمسُ القبرَ
و في لحظةٍ
تعطّل ذهني.
في المرآة
كان يلمعُ هناك
- مثل كل يوم -
القمرُ البعيد.
رماد
نحتاجُ إلى النارِ
كي نصنعَ المِلقطَ،
و المِلقطِ
كي يحمينا من اللهبْ.
نحتاجُ إلى الرمادِ
كي ننظفَ النسيجَ
والنسيجِ
كي ننظِّفَ بقعةَ الرمادْ.
نحتاجُ إلى النجومِ
كي نجدَ طريقَنا
و نصنعَ النورَ الذي أظلمَ النجومْ.
نحتاجُ إلى الموتِ
كي نحدِّدَ النهايةَ،
نهايةً
قد تُصلحُ فسادَ الزمنْ.
نولدُ في الحبِّ
نحتاجُ إلى الميلادِ في الحُبِّ
خبّرْني أيها المغنّي التَعِسْ
كيف يحملُ الرمادُ المطفأُ
بذرةً حيَّةً.؟
***
من دروس التلفزيون
اضحكْ.
الموسيقى
تجعلُ المشاعرَ تتضخم ؛
الموسيقى
وُجدتْ فقط
من أجلِ تنظيمِ الرؤية،
و هكذا تغدو المشاعرُ
علاماتِ ترقيمْ.
شروطُ الحريّةِ
لونٌ من الإذلال،
و الإذلالُ
لا متناهٍ مثل الرغبةْ.
يجب أن تضحكَ من نفسِكَ
تضحكَ وتضحكْ.
المسالمون
قديسون ولابدّ،
أمّا أنتَ
فلا قديسٌ
ولا مسالم.
النساءُ
أصغرُ حجمًا من الرجالِ عادةً
لكنّ الوجوهَ
- في لقطات الزووم -
تبدو مجهدةً.
الشَّعرُ والأسنانُ
ينبئانِ على الطبقة الاجتماعيّة.
لهذا
يجبُ أن تضحكَ من نفسك،
تضحكَ
ثم تضحكْ.
الأسرَّةُ مواقعُ الإذلالْ.
الأخبارُ
تحكي عن الأخبارِ.
النساءُ
يطلبن شيئًا دائمًا.
و أنتَ
إمّا نائمٌ
أو تستعدُّ للنوم.
الأزياءُ
تتبدّلُ طوالَ الوقت
و التبديلُ في ذاتِه
نكتةٌ مضحكة.
الأسبابُ
لا يمكن تحديدُها،
لكنّ النتائجَ
تأتي في الموعدْ
دائمًا.
الأطفالُ
يعيشون خارجَ أعمارِهم
إذا لم يغنّوا في الكورال.
الأمهاتُ
لا يستطعن شيئًا
مع إن هناك دائمًا
مكانًا للفرَح.
القديسون
ينقلبون إلى الأسوأ،
أما المسالمون يموتون
إن وجدوا.
النسيان
المرآةُ تلك,
التي تعكسُ خريطةَ بشرتي
بغير دلالاتٍ،
بالتأكيدِ رأتْ بشرًا كثيرين قبلي.
أما الندبةُ الخابيةُ في صَدغي
فلا تعني شيئًا !
ضوءٌ في خلفيةِ المشهدِ
نقيٌ كالمستقبلِ
وغامضْ،
فيما يتشظى الماضي كمرآةٍ مهشَّمة،
فأشبهُ طفلاً وُلِدَ لتوِّه،
بغيرِ همومٍ،
بغير عارٍ ولا ندمٍ
و بلا خجلٍ من آثام.
هكذا علمتني من أحببتُها
أن أبدأَ من جديد،
علمتني كيف لا أبلِّلُ وسادتي
كلَّ مساءٍ
بدموعٍ مريرةٍ.
بالأمسِ
فتشتُ في أنحاءِ جسدي
لم أجد وشمًا أو علاماتِ ميلاد
فقط رجلاً يناهزُ الخمسين
تشي رئتاه بأنه لم يدخِّن أبدًا
ودقاتُ قلبِه
منتظمةٌ كساعةْ.
حدقَّتُ في كفي،
علّه ينبئُني عمّا لامسَ بالماضي
عمّا أصلحَ أو حطَّمَ
كمْ وثيقةٍ ذُيِّلَت بتوقيعي،
كم من مذكراتٍ،
معاهداتٍ بين أمم !
نعم
لي أن أحملَ قلمي الآن
أخطُّ على ورقةٍ بيضاء
أسماءَ من آذيتهم... واحدًا فواحدًا.
يا أصدقائي
أراكم تبحثونَ عنيّ
حيث لا مكان،
ابحثوا
ربما وجدنا ما فقدناه يومًا
لكنني
- فيما أبصرُ
هذا الرجلَ في قفصِ الاتهام
يحاولُ أن يقبضَ على اسمهِ الضائع
يحاولُ أن يسترجعَ موسيقى قداسِ جنازتِه
فيما ترجفُ الوجوهُ الشاحبةُ في الأغلال
وشهودٌ يدينونَه عبر أربعين عامًا-
سأطوي ورقتي
أودعُها في مظروفٍ أنيق
ثمَّ أرسلُها
بلا عنوان.