يكتب الشاعر والزميل العراقي فاروق يوسف المقيم في أسوج، في مجموعته "هواء الوشاية" الصادرة حديثا لدى "دار النهضة العربية"، ما يمنحه ويمنح قارئه الكثير من العزاء، حتى لتبدو الكتابة بمثابة علاج. فهو، كما لو انه يشاهد ما يشاهَد وما لا يشاهَد: الطبيعة واللوحات والأضواء والغابات والمدينة بل ورسوم النساء، وتحضر الوالدة والمنفى والحنين. تقول الاشياء نفسها قبل ان تقولها الكلمة، وهذا يدل على قوة الايحاء لديه، فهو اقوى من الكلمة ومن المعنى على حد سواء. تتوالد الاشياء من بعضها او من معانيها، فيسعى الشاعر الى التقاط ما وراءها قولا. فـ"إذا كانت المدينة موجودة فالتمس الطريق الى سوقها... واذا كانت الغابة موجودة فاسع في اتجاه النبع، واذا كان النبع موجودا فسترى عنده صبية تقف في انتظارك". ينتهي توالد الاشياء والحواضر لتصبح حلما: "اذا كانت الكأس موجودة فما عليك سوى ان تعبّ خمرتها، لتنام وحيدا وتحلم كما لو انك لم تجد شيئا". كان كافكا يقول أرجو ان تعتبرني حلما، ولطالما كان الحلم ذروة الاشياء، او الذروة التي نكتب من خلالها عن الاشياء، اذ نراها بعين الحلم قبل ان نشاهدها بعين الواقع، والارجح ان ما نراه بعين الواقع يصبح تافها وخالياً من الحضور والمعنى.
1
يكتب فاروق يوسف احوال الاشياء ومعانيها المحتملة او غواياتها المفترضة، او حنينها العائد، او حكمتها المرجوة، فضاءها وقمرها وحيرتها والنساء اللواتي يقول طيفهن، حتى ليبدو انه اقرب الى الكتابة بحدسه قبل حواسه، او أن ذهنه يسبق حواسه الى التقاط الاشياء وتأويلها. وقد يحسب القارئ ان كلمة "وشاية" هي ايماء الى الاحوال في زمن الديكتاتورية في العراق، او هي شيء من الوشاية التي نقرأ عنها لدى المحبين والعشاق، لكنها ليست على هذا النحو. فهواؤه هو "هواء الغواية" او هواء متاهة الالم والجسد واللون والمشهديات والرواق والام. على ان المنفى بالنسبة اليه "ذريعة حين تكون قطعة من السماء يحملها المرء معه كفيلة باحضار نظرة الام". المنفى ذريعة الكتابة ايضا، وهذا له نظريته ومعانيه. الابتعاد عن الاشياء يولّدها ويجعلها حاضرة وماثلة مثول الاشياء، والكتابة لا تخص المنفى فحسب، فوحدها "تصحبنا الى النسيان"، و"الاطفال وحدهم يدركون المعنى". و"اذا رجوت المعنى فانس الكلمات". مع ان "سوء الفهم معجم"، فإن هواءه يمحو الكلمات التي لا تلين، والشعر يأسه يعرفه، والشجرة التي يمحوها الخريف "تمحوها غابة ذكريات"، والندم "وحده يهدد سيرته" (سيرة الشاعر)، لأنه "وديعته الصامتة" التي يحاول ان يخفيها. في المقابل "الذئب لا يرى ليلى في مرآة ندمه، انه وحيد، وهذا ما يجعل القيامة فرصة للغفران".
2
للهواء وشايته عند الشاعر، كذلك الأنثى التي تفعل دائما ما تراه مناسبا لاخفاء لذتها. ما من شيء حقيقي يقيم في تلافيف زينتها. شهوتها الاقرب هي مدعاة لتسليتها وحجة لدرء كل ألم لاحق. الانثى التي تقيم في المرأة تزيّن الألم، بصفته قدراً لرجل لا يرى مفرا من الذهاب الى فم النمر لان العابر الى جنته يسمي شقاءه عبادة. يعلن الشاعر ان امه وحدها تعرف شقاءه فيما السماء وحدها تجعله مريضا. على ان الله لا يرى في ارتجاله الغامض معنى، هناك وشاية وحيدة تستدعي ترفه: ان يكون إلها ذلك ما يبقيه متوترا. ألمه يشي بنا. فيما الارض تدور، الجنازات تذهب بالقدم التي تدوس على الورقة، تفارق الغابة، تظل اللعنة وحيدة مثل الخريف. والحصان اذ وشى بأحلام الحوذي للعشب فإنها تختبئ لئلا يدوسها الغرباء.
3
يرى فاروق يوسف ان الرسام يرعى كائناته كما لو انها موجودة حقاً، ولن يكون هذا مصدر ألمه الوحيد. فما بين الكلام والصمت تتسلق اللغة فراغا موحشا لتترجم هلعنا. على ان الكلمات تقول الشاعر مثل فضيحة صامتة، وصمت الموتى جثة لكلام مؤجل والحقيقة لها اكاذيبها ايضا. وفي خضم هذه الاشياء يقول: "يا الله حتى الحجر يتشبه بك".
4
قد لا تكون الوشاية وشاية في الشعر، لكن هناك فائض لا يقتنصه الهواء، فما من غزالة الا وغنجها يطعن سهمه هواء الغابة، ذلك لان اللاشيء وحده ويخيف، فلا البكاء ينفع ولا السخرية، والتفاحة قد لا تقع وقد لا نجد من يدلنا عليها لا الأعشاب تغمر اقدامنا بالنسيان. الى ذلك فالشعراء الذين قابلهم الشاعر يهذون بأسماء، هم حملتها ويزخرفون خطواتهم كخراف وهمية، بدلا من الاحجار صاروا يرمون الغيوم الى قاع البئر. والشاعر يقول ذلك ليقول ايضا، هذا ما نحتاجه من الشعر: "فجر الأم الذاهبة الى صلاتها في دعاء من اجل عودته". ربما لأن "لا نفع للجذور إن كانت الغابة ميتة"، ربما لانه "لا تنبت جذور في السماء"، على ما يقول الروائي الراحل يوسف حبشي الاشقر، ولان "اليأس قد يساوي اعترافا"، او أن هذا "اليأس حجة لسواه"، مقرونا بالاسئلة والافتراضات التي يقولها فاروق يوسف: "لو محيت الغابات أين تذهب الخضرة؟ لو محيت الكلمات بماذا نملأ اكياس الهواء؟ لو محيت النساء هل تجد الارض سبباً للدوران؟". كأن المرأة محور الكون بمفردها وهي سبب وجوده، وعلى هذا يهبنا الشعر ما لا يملكه الشعر، وهو بعد القصيدة يحلمها، والقصيدة قبل أن تكتب كانت تحلمه، مع ان "اليقظة جحيم الحالم".
5
ما يمليه الشاعر علينا ان لا شيء يعوض في الحب كما في الميت، في الفقد كما في النسيان، في الندم وهو الاعمى، في المغفرة وهي الملساء، في المسرة وقد تدمرت في لفتة يتم، في الانوثة وقد لفظت زرقتها، في اليابسة بشظايا حيرتها... لا شيء يعوض حين تسقط دمعة، فان الدمعة التي تنبت محلها لا تشبهها. في معنى آخر، ما يذهب يذهب، المهجور يكفيه الحجر ليعرف ان هناك من يشفق عليه، وللورقة عصفورها، والشاعر يهتدي الى التقنية التي تقيه تبذلات انوثة كاذبة. ليس الكذب وحده على هذا النحو، اذ يحصي اصابعه مرات في اليوم فلربما يفقدها في لحظة لمس.
6
تحضر بعض الشخصيات الشعرية والادبية في مجموعة فاروق يوسف، فشربل داغر موضوع يعرف انه شبيه بمشيئته: تلك القدم التي تستأنفه في الحجر، تلك العين التي ترود به بين الطلاسم، تلك العصا التي تتعثر به مثل ندم الاعمي. وهناك شيء من الحيطة يعينه على نسيان حكايته وهو يمشي. يوسف عبد لكي ماثل أيضاً مثل كأس، خصلة شعره البيضاء تلقي ظلا اسود على المائدة، حيث تلامس اصابعه فنجان القهوة، ومن خلف زجاج المقهى، يبصره المارة وهم يغادرون مرايا شقائهم. ايضا عبد الهواب البياتي "في مقهى الفينيق "يلهو بدخان سيجارته يسلي الهواء بدوائر من رماد/ دوائر ذهب بنفائسه الى بخارى/ هناك لا تزال عائشة واقفة على الشرفة/ فيما ظلها يمتطي حصانه بين فسقيات قرطبة".
7
عاش الشاعر خمسين سنة بأبهة، رمادها بين كفيه فيما نارها لا تزال تستعر في قلبه. خمسون سنة من اليأس الشخصي، كان خلالها عاشقا ومتمردا وعاصفا وكئيبا ومهاجما، وضجرا ومنتصرا على الضجر بل وصديقا له من خلال الشعر، او مقسما له من خلال الشعر انه الساعي دائما نحو الأفضل وهو الذي يعتبر لحظة الخمسين لحظة افتراضية، والله وحده يعرف ما الذي تعنيه في سجل القيامة الشخصي. لذلك كتب، لا من اجل ان يقرأه الاخرون، حيث كان القارئ بالنسبة اليه اشبه بالهبة الالهية التي لا يمكن التدخل في توقيتها. فهو يكتب لكي يقرأ في وقت لاحق ما كتبه ولكي يعود الى ما قد يكون قد نسيه من انفعال. فكل سطر سنة، وكل سطر حياة. المهم بالنسبة اليه ان تكون الكتابة كما هي لحظة كتابتها. لا مرآة لما كانت عليه من قبل. الكتابة كانت ولا تزال تسكنه بصفتها خلاصا من واقعية الحياة التي يعيشها والتي هي اشبه باللغز الذي يسعى الى تفكيكه والتعرف اليه مزيلاً عنه صفة العدو. ومثلما الكتابة تلهو فإنها تسلّي ايضا. ما يحدث لحظة حضورها يحدث له لحظة غيابه. فسنة من العيش يسليه سطر من الكلمات. ولا يصدق الشاعر انه خرج من الخمسين سنة من العيش حياً. ذلك أن فكرة العيش تشكل مزيجاً من الخوف والطمأنينة، من الراحة والهلع.
هواء الوشاية" كتابٌ يُعاش ويُقرأ بلذة
الاثنين 28 كانون الثاني 2008