لا يحتاج قارئ شوقي بزيع إلى أن تُجمع دواوينه الأحد عشر تحت مسمّى "الأعمال الشعرية"، كي يُسجَّل لهذا الشاعر نقاط العلام التي رسمت ملامح شعريته. هذه النقاط، من منظار نقدي صرف، تتلخص في اثنتين: الاستعارة والتثنية. أيضاً، في وسعنا تسطيرها على الشكل الآتي: الاستعارة - التثنية. في معنى تداخل هاتين النقطتين و"تناصّهما" في السياق الوظيفي لبناء القصيدة: الاستعارة بما هي تثنية الآخر، والتثنية بما هي استعارة الذات. يقول الشاعر:
"أنا اثنان
لا يسمعان سوى الريح تهدر بين حطاميهما
واقفان على ضفتي هذه الحرب
كلٌّ يشير إلى رأس صاحبه في ذهول
ويسأل: من قتلك؟".
إذاً، هو شعر المرايا الذي يحتفي بنفسه. الشعر الذي يستعير ذاته - فقط - ليقولها. في قصيدة "قمصان يوسف" يقول بزيع:
"كان لا بد أن ينقذ الله
صورته فيّ
فلمّا هممتُ
وهمّت
تدلّت مراياه من خشب السقف
حتى حسبتُ بأني أعانق نفسي
وأن زليخة ليست سوى
صرخة الإثم في داخلي".
في هذه القصيدة، على سبيل المثال، تبدو القمصان أشبه بالمرايا، لكنها المرايا المحسوسة التي تُلمس بالأيدي، وبأكثر وأبعد من حاسّة البصر.
"ولكن سرّك في أن تكون
جديراً بسحرك (...)
وسرّك في أن تعود إلى نقطة الصفر
كيما ترى جسدك
نظيفاً كجوهرة في العراء".
الطبع، لا يحق لمن ينعت شعراً بصفة كهذه، تجاوز حضور المرأة في هذا الشعر. فالمرأة لدى شوقي بزيع مرآة من لحم ودم، وتثنية أساسية لتمام المفرد: الذات. وليس لقارئ أعماله إغفال تجلّيها في صورتين. فلنقل إنها صورة بوجهين، لجهة أن المثنى، الذي هو ثمرة المرآة، "يحشر" المرأة بين ضفّتيها. ولا نجد مثالاً "أفدح" من ديوانه الأخير الذي حمل عنوان "سراب المثنى"، لتأكيد ما ذهبنا إليه. يقول شوقي بزيع:
"فلماذا إذاً
وبمن صاح ذاك النهار:
قفا، وهو يجعل من يأسه سيد القافلهْ
من هما ذانك الواقفان
نهاراً وليلاً
على جملة لا تبارح أيامه المائله (...)
أيكونان عينَيْ غزال
شبيه بفاطمَ (...)
كان يكفي المنادى نداء يتيم
ليصبح عين المنادي
وأنثاه في التثنيه (...)
لم يكن أغلب الظن، إلا وحيداً
على طرق الروح
حتى إذا لاح وجه لفاطمه
من بعيد
رأى صورتين لأطيافها
في مرايا تشهّيه
إحداهما ما يريه التراب
وأخرى التي ظلّ في سرّه
يتمنى".
هكذا يؤنّث الشاعر كلّ ما عداه من أجل إتمام مثنّاه، صانعاً الأم ومريم العذراء وفاطمة الزهراء وأوفيليا وشهرزاد... بعد ذلك، لا عجب في أن يأتي إهداء إحدى المجموعات هكذا: "إلى تاء"، أو "إلى س"، في معنى اقتصار المرأة في شعر بزيع على الرمز، الحيّ بالطبع. امرأة نجدها في لحظة تمتحن النهر بساقيها، وفي لحظة أخرى امرأة مفقودة لا تتبنّى السقوط على ركبتها. كأن السرّ في ذلك يكمن في قول الشاعر: "ما أحب ليس امرأة بعينها". هكذا يكون في وسع القارئ الجمع بين استعارتين متناقضتين لمصدر واحد، دونما مشقة: فحيح الأنوثة وخرير الأنوثة، على سبيل المثال.
الإحساس بالخسارة
الاستعارة التي شكّلت، في مجمل أعمال شوقي بزيع، التقنية الأكثر استخداماً، تجاوزت وظيفتها الجاهزة، والمعدّة لها سلفاً، إلى تصيّرها لوناً شعرياً خاصاً. الأرجح أن الفضل في ذلك يعود إلى لغة الشاعر نفسها. هذه اللغة الحسية التي تغتاب منطقها، وتقول الأشياء بيديها. اللغة المشرعة على الحواس، والمضبوطة بإيقاع يرسم خطه البياني بوَحْيها.
"يا ولداً كنتُه قبل ثلاثين عاماً
أما كان في الأرض متسع لي ولك؟
ألست أنا من تعفّر بالوحل بين ذراعيك؟
والزعفران الذي يتنزّه بين شهيق دمي وزفير القرى
أنت أورثتنيه
وأورثتني شُقرة الشعر
جوهرة الشعر
قضم الأظافر
عادة أن أشتهي كل ما ليس لي".
هذا الإحساس بوطأة الزمن ليس مصادفة اقتضاها مَثَل نضربه، لكنه حالة تستدعي الملاحظة في شعر شوقي بزيع. وتكاد الطفولة أن تكون، في أماكن متعددة، مجرد ذريعة للإحساس بثقل الزمن أو خفّته. هذا الإحساس الذي تفتّح باكراً في شعر بزيع مقرون غالباً بإحساس بالغ بالخسارة. في قصيدة تحمل عنوان "الأربعون"، يقول الشاعر:
"أن تتمزّق
ما بين روح تطيع
وجسم يخون
تلك هي الأربعون".
هذا الإحساس بالخسارة الذي طاول أكثر من جانب، والذي لا يبدأ بمسألة العمر، ولا ينتهي بمسألة الأمكنة، هو الذي دفع شاعرنا كي يسأل نفسه سؤال ال"من أنا؟"، مقترحاً أكثر من جواب:
"أتراني صرت والمرآة شيئاً واحداً
أم أن وجهي هوّة
لا تقبل القسمة بين اثنين".
بين "عناوين سريعة لوطن مقتول" (1978)، و"سراب المثنى" (2003)، تمتد تجربة شاعر كتب أعماله الأولى في سنوات الحرب الأولى، منتخباً اللغة التي تقوله، والصورة التي تشبهه. تاركاً لنا استعارة جملته التي قالها ليوسف، كختام لهذه الوقفة:
"دعْ قميصك للذئب
كي تنتهي عارياً مثلما كنتَ
واهبط إلى آخر البئر
كي تستحق جمالك".
النهار
الاربعاء 14 كانون الاول 2005