إضافة نوعية لعطاء شاكر عبدالحميد الذي يراكم بهدوء وإتقان جهوده حول معني الفن وجمالياته، سواء مؤلفاته أو ما يختاره للترجمة.
بدأ د.شاكر عطاءه ب العملية الإبداعية في فن التصوير 1987 ثم التفصيل الجمالي 2001 و الفكاهة والضحك 2003 و عصر الصورة 2005.
وفي الترجمة العبقرية والإبداع والكتابة 1993، سيكولوجية فنون الأداء 2000.
يبدو شاكر عبدالحميد في كتابه الجديد 'الفنون البصرية وعبقرية الإدراك' مستهدفا شريحة واسعة من محبي الفنون والساعين إلي تذوقها، ويذكرنا بكتب الرواد من أمثال يحيي حقي والحسين فوزي التي تأخذ بيد متلقي الفنون لإدراك أسرارها وبالتالي تعميق متعة وفائدة التلقي، لكن مؤلفات شاكر تختلف بنزعتها العلمية واستخدام المراجع بشكل أكاديمي في مقابل الانطباعات الذاتية لدي الرواد.
ينقسم الكتاب إلي ثمانية فصول، ينهض كل منها بجانب من جوانب الفن وآليات إدراكه ابتداء من تعريف الفن بعامة، ووظيفته، ثم تعريف الفنون البصرية وأنواعها، مرورا بسيكولوجية الإدراك للفن، والتفكير البصري، والخيال، وانتهاء بالثقافة البصرية، والأماكن المثلي لعرض الفن.
فن انتاج الجميل
ونحن نهتم بالفن لأنه وسيلة لاكتشاف الذات والآخرين واكتشاف الحياة من حولنا وتعميق معناها، وهو وسيلة للتواصل بين المبدع والمتلقي فيها التسلية والمعرفة والتكامل بين الخبرات. ويشمل الفن كل الأنظمة الإبداعية، بينما يقسمه بعض النقاد إلي فئات أربع هي: فنون الأداء، فنون الميديا، الفنون البصرية، والفنون الأدبية، كما أن كل فئة من هذه الفئات يمكن تقسيمها مرة أخري إلي فئات فرعية. وبعض تعريفات الفن تصل به في معناه العام باعتباره كل شيء صنعه الإنسان في مقابل كل شيء صنعته الطبيعة، وبهذا المعني فإن السيارات والسفن وصناديق القمامة هي أعمال فنية.
والفنون البصرية هي تلك التي تسعي إلي توصيل رسالتها من خلال حاسة الإبصار، سواء كانت فنونا جميلة (أي تسعي إلي الجمال من دون وظيفة عملية كاللوحة والتمثال) أو تطبيقية تسعي للوظيفة بجمال مثل فنون الديكور.
وهناك علاقات تفاعلية بين أنواع الفنون المختلفة، فالرقص من فنون الأداء ويعتمد علي شعرية الحركة الإنسانية، يحتوي علي تنوعات الكتلة والخصائص النحتية للجسد الإنساني، بالإضافة إلي تعبيرات وإيماءات الراقصين.
الفن مرادف للجمال، سواء ما شاع من قبل من مذاهب تعتبر أن الفن هو إنتاج الجميل، أو المدارس التي تحتفي بجمال الأسلوب، ويدلل الكاتب علي ذلك بروايات إميل زولا المليئة بالعطن والفساد، لكنها احتلت مكانتها الجمالية الفريدة في تاريخ الأدب.
والفنانون أنواع، بينهم المجدد (مخترع الأساليب) والمجود (مستخدم الأساليب ببراعة) ، وهناك العبقري الذي يجمع بين الذكاء والقدرة علي الإبداع. وفي النهاية يحتاج العمل الفني إلي مساهمة مستقبله التي تتمثل في قدرته علي الإدراك، وهي عملية يقوم بموجبها العقل الإنساني بإضفاء المعني وخلعه علي المدركات الحسية مستخدما خبراته السابقة، وتكوينه الخاص.
ولكي نصف منتج الفن أو متلقيه بالعبقرية، لايكفي أن يكون مرتفع الذكاء بل يتطلب ما أسماه دانييل جولمان الذكاء العاطفي ذلك الذي يشمل القدرة علي ضبط النفس والمثابرة، والاستعدادات الأخلاقية، والإحساس وهي مهارات يمكن تعليمها للأطفال.
في البدء كانت النقطة
يتعرض شاكر عبدالحميد لأنواع الفنون من رسم وتصوير بالألوان والنحت، والعمارة والفوتوغرافيا، والمذاهب داخل كل فرع من الفنون، التي تعتمد علي هيمنة العين والخبرة البصرية في تذوقها.
علي أن كل عمل، سواء كان لفنان محترف أو لطفل صغير، له تصميمه ونسقه الخاص به، وعلي علاقة بين العناصر المكونة لعمل علي هيئة كل موحد، يحتوي علي عناصر متكررة يتمايز فنان عن فنان بطريقة توظيفها.
في البدء كانت النقطة، في الرسم كما في الكتابة. أصغر وحدة بصرية هي التي تعطي مركز الاهتمام وبؤرة التركيز داخل التكوين. بعد ذلك يأتي الخط (مجموعة من النقاط) وهو أكثر عناصر التصميم مرونة وكشفا، هو مسار النقطة عندما تتحرك بغنائية كما عند ماتيس أو بحدة وتوتر كما عند بيكاسو في الجرنيكا، أو بالعنف والخشونة والاندفاع كما عند فان جوخ.
والعنصر الثالث هو الهيئة أو الشكل الخارجي للعمل الفني، حيث تتحدد الأشكال والأبعاد من خلال الخطوط أو تغييرات اللون والملمس.
وهناك الضوء، الضروري لكل لوحة، بل إن مونيه يري في الضوء الموضوع الحقيقي لكل لوحة. وفي مجال الفنون تستخدم كلمة القيمة للإشارة إلي الضوء في مقابل العتمة. ومن خلال اللعب بتدرجات الضوء في عصر النهضة صار بالإمكان الإيحاء بالموضوعات ثلاثية الأبعاد علي مساحة اللوحة المسطحة.
بعد ذلك يأتي اللون، فالملمس، والحيز المكاني، والزمان، وأخيرا الحركة.
شخبط شخابيط
في فصل شائق يتابع شاكر عبدالحميد رسوم الأطفال باعتبارها تفكيرا بصريا، طارحا لآراء علماء النفس الذين رأوا في الرسم وسيلة ارتقائية وتربوية للأطفال، وعلاجية لذوي الاحتياجات الخاصة منهم.
وتقول إيلين واينر إن الأطفال منذ الثانية لديهم الولع بتحريك أيديهم بقوة، لكن النظر إلي مراحل الشخبطة تقود إلي إدراك أن الطفل، يريد فوق تحريك يده، ترك أثر معين علي السطح، ويمكن قراءة دلالات هذا الأثر إذا ما تابعنا اليد أثناء العمل ولم ننتظر حتي نري الشخبطات والتشابكات النهائية.
لاترمش!
ينقل شاكر عبدالحميد عن فرناندليجيه قوله: إن عين الفنان يجب أن تكون سريعة وحادة، فليس هناك وقت ترمش بعينيك وإلا صار الوقت متأخرا. هذا عن الفنان، فماذا عن متلقي العمل؟
يحتاج المتلقي مثل المدع إلي طاقة فيزيقية، لاتتم الرؤية بدونها، كما لايتم الإدراك من دون الضوء وبنية العين وكيفية الانتقال العصبي للإشارات البصرية إلي المخ، حيث تتم معالجة المعلومات هناك، وحيث يتحقق الفرق بين الرؤية البصرية والفهم البصري وحيث يقوم الفن الحركي بتنشيط بؤر في المخ غير تلك التي تستثيرها الأعمال التجريدية لموندريان، وهذه بدورها تختلف عن استثارات البورتريهات واللوحات التشخيصية.
وكما يعتمد الإبداع علي الاختيار والتنظيم وتجاهل ما هو ثانوي في الحياة، فإن إدراك أنساق المبدع تحتاج من المتلقي إلي الانتباه وذكاء الإدراك والذاكرة، فلابد لإدراك العمل الفني من النظر إليه كله، ولابد من الذاكرة الحسية التي تخزن المعلومات في جزء من الثانية، ثم الذاكرة قصيرة الأمد التي تستقبل المعلومات من الذاكرة الحسية وتحتفظ بها لنحو 30 ثانية، وتساعد هذه الذاكرة علي إدخال المعلومات علي الذاكرة طويلة المدي (مافوق الثلاثين ثانية إلي السنوات والعقود).
الإيهام في الفن
اللوحة ليست الواقع، وليست أصباغا لونية، لكنها إيهام يتم خلقه بواسطة الأصباغ، ويستند إلي احتمالية الصدق الظاهري في العمل الفني التي تقود المشاهد إلي الاعتقاد بأنه يري الموضوع الخارجي.
ولتحقيق هذا الإيهام بالواقع أو الحقيقة يستخدم الفنان تقنيات خاصة بالمنظور واللون تساعد الخيال والتفكير البصري علي إدراك الموضوع. فتتم ترجمة الحيز المكاني ثلاثي الأبعاد إلي صورة ذات بعدين، وباستخدام المنظور الخطي، يجب علي الفنان أن يحدد نقطة تلاش واحدة علي الأقل في عمله، بحيث تبدو الأشياء أصغر كلما ابتعدت في سطح اللوحة، وكان ارتباط عصر النهضة بالمنظور جزءا من اهتمامه بالمنهج العلمي والانضباط الرياضي.
فكرة المنظور نفسها يمكن تطبيقها علي اللون كما الخط، وقد كان ليوناردو دافنشي، أول من طبق المنظور الجوي الذي يرتبط بالتنظيم اللوني الذي يضع الألوان الساخنة في مقدمة اللوحة والألوان الباردة أو المنكمشة كالأزرق والرمادي والأخضر في خلفية اللوحة لتوحي بالبعد. لكن هناك فنانين قلبوا هذه المفاهيم لإعطاء إيحاءات مغايرة.
التفضيل الجمالي
تبدو محاولة تقديم عرض واف لهذا الكتاب مهمة مستحيلة، نظرا لكثرة الموضوعات، وكثرة المدارس الفنية في كل فن من الفنون البصرية التي يتناولها.
ومع هذا الاتساع والتشعب، والاختلاف الذي قد يصل إلي حد التضاد بين مذهب فني وآخر، يوجد ما يمكن أن نسميه التلازم بين مبدع العمل ومتلقيه، حيث لايفرق الكتاب بين عبقرية إدراك الفنان لعناصر الواقع الذي يحاكيه وعبقرية إدراك المتلقي لعناصر العمل الفني ورده إلي ما يوازيه من خبرات الواقع.
وفي الحالتين فإن التفضيل الجمالي والإدراك يقومان علي الخبرات الخاصة بالفرد والخبرات الخاصة بجماعة أو عصر معين، حيث يكون هناك حد أدني من أفق التوقعات.
وهناك العديد من الدراسات السيكولوجية اهتمت بالفروق الفردية للتفضيل الجمالي، حيث يميل البعض إلي إعلاء دور الذكاء الطبيعي والوراثة، بينما يميل البعض الآخر إلي الجانب المكتسب من البيئة، وبناء عليه يطالب هؤلاء بالاهتمام بالتربية الثقافية، وتنمية مهارات الإدراك الفني، من خلال نشر الثقافة البصرية، وهي علم يشمل ما هو أكثر من دراسة الصور، كما تقول إيريت روجوف إذ تتعلق الثقافة البصرية بالبحث عن المعلومات والمعني والمتعة.
وفي ضوء هذا التعريف لن ينظر إلي لوحات جوجان عن نساء تاهيتي وغيرها من المستعمرات الفرنسية بوصفها أعمالا تتسم بالجرأة والجدة في استخدام الألوان فقط، بل بوصفها من جهة أخري خطابا عن العرق والنزعة الاستعمارية، وما رصده إدوارد سعيد من النظرة الاستشراقية التي دمغت الشرق بالثبات في مقابل الحركة والانفعال في مقابل العقل والفوضي في مقابل النظام كانت نسقا من التفكير الغربي ترسخ من خلال عملية تمثيل معرفي واسعة تجلت في اللوحات كما في النصوص.